لا تبحث عن الأضواء

أيها الرفيق العزيز.. لا تبحث عن الأضواء، فإن فيها أشعة مسمومة، تقتل كل حقائق الجمال في روحك، وتجعلك عبدا لمن تتصور أنك سيدهم.. وأنك تجلس على عروش قلوبهم، بينما أنت لست سوى خادم ذليل لأهوائهم.
أنت تتصور أنك تعلو عندما يتحدثون عنك، ويشيرون إليك بالبنان، وينتشرون ذكرك في مجالسهم وصحفهم، بينما الحقيقة أنك ـ بطلبك ذلك، وحبك له، وحرصك عليه ـ تسقط في أتون الاستعلاء الذي أشار إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بحسب المرء من الشر إلا من عصمه الله من السوء أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه، إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم)([1])
أترى هذه الإشارة الصريحة منه صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن الناس لا يرون منا إلا صورنا، وما ظهر منا، أما حقائقنا، فخفية عليهم.. لذلك لا يصح أن نركن إليهم، ولا إلى ثنائهم، ولا إلى أضوائهم، ولا أن نبحث عن ذلك، بل علينا أن نستعيذ بالله من كل ذلك، حتى لا تأسرنا تلك الأصابع التي تشير إلينا؛ فنصبح عبيدا لأوامرها ورغباتها، حتى لا ترتد علينا، أو حتى لا نفقدها.
لذلك أخبرنا صلى الله عليه وآله وسلم أن الكمال ليس في أن نكون تحت الأضواء، ولا أن يشار إلينا بالبنان، ولا أن نُعرف بين الخلق.. وإنما الكمال في أن نعرف بين أهل السماء، لأنا جئنا من السماء، والسعيد من عاد إليها من غير أن يتلطخ بمستنقعات الأرض، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره)([2])
ويقول حاكيا عن ربه عز وجل: (إن أغبط أوليائي عبد مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر والعلانية، وكان غامضا في الناس، لا يشار إليه بالأصابع، وصبر على ذلك)، ثم نقر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده، وقال: (عجلت منيته، وقل تراثه، وقلت بواكيه)([3])
وصور صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر هذا الجندي المجهول الصادق، وقيمته عند أهل الأرض، وقيمته عند أهل السماء، فقال: (إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا، وإذا قالوا لم ينصت لقولهم، حوائج أحدهم تتلجلج في صدره، لو قُسم نوره يوم القيامة على الناس لوسعهم)([4]).
و قال يصفهم: (إن من أمتي من لو أتى أحدكم يسأله دينارا لم يعطه إياه، ولو سأله درهما لم يعطه إياه، ولو سأله فلسا لم يعطه إياه، ولو سأل الله تعالى الجنة لأعطاها إياه، ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها، وما منعها إياه إلا لهوانها عليه، ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره)([5])
وقيمة هؤلاء ـ أيها الرفيق العزيز ـ ليس فقط في خفائهم، أو جهل الناس بهم، أو في صدقهم، وإنما في نجاتهم من الفتن؛ فالفتن لا يقع فيها إلا أولئك الذين يحبون الأضواء والشهرة والرئاسة، ويتصارعون عليها، ويقعون في كل أنواع الفتن بسببها.
لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم مشيرا إلى هذه الهدية الكبيرة التي يتلقاها الهاربون من الأضواء: (إن اليسير من الرياء شرك، وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، ينجون من كل غبراء مظلمة)([6])
وأشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك الحنظل المملوء بالنفاق، والذي ينبت في صدور عاشقي السمعة والجاه والشهرة، فقال: (ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر فسادا من حب الجاه والمال والشرف في دين الرجل المسلم)([7])
وهكذا تحدث كل ورثة النبوة عن هذا السم الزعاف القاتل الذي يجعل من الإنسان عبدا لهواه، وهوى الخلق، فهو لا يتحرك إلا لإرضائهم، وجلب انتباههم، فقد قال الإمام علي: (تبذل ولا تشهر، ووار شخصك لا تذكر، وتعلّم فاعمل،واسكت تسلم، تسرّ الأبرار، وتغيظ الفجار، ولا عليك.إذا عرّفك الله دينه أن لا تعرف الناس ولا يعرفونك)([8])
وقال بعده حفيده وتلميذه الإمام الصادق: (إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون، فو الله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك)([9])، وقال: (من أراد الرئاسة هلك)([10])
وقال لبعض أصحابه، وقد رآه يمارس ما يكسب به الجاه عند الخلق: (ويحك.. لا تطلبن الرئاسة، ولا تكن ذئبا، ولا تأكل بنا الناس فيفقرك الله، ولا تقل فينا ما لا نقول في أنفسنا، فإنك موقوف ومسئول لا محالة، فإن كنت صادقا صدقناك، وإن كنت كاذبا كذبناك)([11]).
وقال مخاطبا بعض أنصاره محذرا لهم من طلب السمعة والجاه والرئاسة: (أ تراني لا أعرف خياركم من شراركم؟ بلى والله وإن شراركم من أحب أن يوطأ عقبه، إنه لا بد من كذاب أو عاجز الرأي)
وهكذا أجمع جميع الأولياء والعارفين والصالحين الذين حذروا كل مريديهم من أن يكون مطلوبهم المكانة بين الخلق؛ فالمريد الصادق لا يريد إلا الله، ولا يعيش إلا لله.. وقد قال ابن مسعود الصحابي الجليل: (كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض)، وقال آخر: (ما صدق الله من أحب الشهرة)، وقال آخر: (والله ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يُشعر بمكانه)
وبين آخر أثر الشهرة في جلب الفتن إلى القلوب، فقال: (إن خفق النعال حول الرجال قلما تلبث عليه قلوب الحمقى)
وقال آخر يوصي مريدا له جاء ليتأدب على يديه: (إن استطعت أن تعرف ولا تعرف وتمشي ولا يمشي إليك وتسأل ولا تسأل فافعل)
وأشار آخر في بعض مواعظه إلى قيمة أولئك الأتقياء الأخفياء الذين أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال مصورا لمشهد من مشاهد صدقهم: (قحط أهل المدينة وكان بها رجل صالح لا يؤبه له، لازم لمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبينا هم في دعائهم إذ جاءهم رجل عليه طمران خلقان، فصلى ركعتين أوجز فيهما ثم بسط يديه فقال: يا رب أقسمت عليك إلا أمطرت علينا الساعة؛ فلم يرد يديه، ولم يقطع دعاءه حتى تغشت السماء بالغيم، وأمطروا حتى صاح أهل المدينة من خوف الغرق، فقال: يا رب إن كنت تعلم أنهم قد اكتفوا فارفع عنهم، فسكن، وتبع محمد بن سويد صاحب المطر حتى عرف منزله، ثم بكر عليه فخرج إليه فقال: إني أتيتك في حاجة، فقال: ما هي؟ قال: تخصني بدعوة، قال: سبحان الله أنت أنت، وتسألني أن أخصك بدعوة، ثم قال: ما الذي بلغك ما رأيت قال: أطعت الله فيما أمرني، ونهاني فسألت الله فأعطاني)
هذه أيها ـ الرفيق العزيز ـ كلمات الأولياء والصالحين، وقبلها كلمات الأئمة الطاهرين، وقبلها كلمات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنصح الخلق أجمعين.. وفوق هذه جميعا يقول الله تعالى لي ولك، ولكل الخلق: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16]
فلا تحسب أن الزينة في المال وحده، بل أخطر الزينة حب الجاه والشهرة والذكر بين الخلق.. فهي سم زعاف لا يختلف عن ذلك السم الذي يجلبه حب المال.
وخطره ليس في نفسه فقط، وإنما في ذلك الاستعلاء الذي يملأ به القلوب؛ فتصبح شامخة بأنفها متكبرة على التراب الذي خلقت منه، وقد قال تعالى: { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]
أقول لك ـ أيها الرفيق العزيز ـ هذه النصيحة، وأعلم أنك ستجيبني بأن الله تعالى قال عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، وقال عن الأنبياء والصالحين: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: 50]
بل ذكر دعاء إبراهيم عليه السلام بأن يكسبه الله جاها وسمعة، فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]
وأنا لا أخالفك في هذا، ولا أجادلك فيه.. ومعاذ الله أن أرد كلام ربي.. ولكني تمنيت لو أنك نظرت إلى أولئك الذين ذكر الله تعالى عنهم ذلك.. فهم ليسوا مثلي ولا مثلك ولا مثل سائر الناس.. إنهم رسل الله الذين لا يمكن أن يؤدوا وظائفهم دون أن يعرفهم الناس..
لذلك هم لم يطلبوا الجاه لأنفسهم، وإنما الجاه هو الذي طلبهم.. فهم قد فنوا عن أنفسهم، فصاروا عبيدا لله، لا عبيدا لأهوائهم، وإذا وصلت إلى تلك المرتبة، فسلم أمرك لله، وردد ما قال ذلك الصالح: (من أحب الظهور فهو عبد الظهور، ومن أحب الخفاء فهو عبد الخفاء، وعبد اللّه سواء عليه أظهره الله أم أخفاه)
أما في المرحلة التي أنا وأنت فيها؛ فعلينا أن نردد
مع ذلك الحكيم قوله: (ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يُدفن لا يتم
نتاجه)
([1]) رواه الطبراني في الأوسط، والبيهقي في الشعب، مجمع الزوائد ج 10 ص 296..
([2]) رواه مسلم ج 8 ص 36 و154.
([3]) رواه ابن ماجه رقم 4117. والكليني في الكافي ج 2 ص 141 رقم 6 باختلاف فيه.
([4]) رواه الترمذي (3854)
([5]) رواه الطبراني في الأوسط، مجمع الزوائد ج 10 ص 264.
([6]) رواه الطبراني و الحاكم و اللفظ له و قال: صحيح الاسناد، ابن ماجه رقم 3989.
([7]) رواه الكليني في الكافي ج 2 ص 297.
([8]) بحار الأنوار (2/ 37)
([9]) الكافي، ج 2 ص 297.
([10]) الكافي، ج 2 ص 298.
([11]) الكافي، ج 2 ص 298.