لا تأخذ دينك من الأعلم

لا تأخذ دينك من الأعلم

أيها الرفيق العزيز.. رأيتك تتحدث مع بعضهم عن فضل ذلك الشيخ الذي توهمت أنه أعلم الناس، مع ما تراه عليه من حدة وشدة.. وكنت تتحدث مثله بغضب شديد، وكأنك لا تدعو لعالم قد يصيب ويخطئ، وإنما تدعو لنبي معصوم.

وأنا لا أريد أن أصرفك عن ذلك الشيخ أو غيره، ولكني أريد أن أذكر لك أنك مهما أعملت عقلك وأجهدته، فلن تتعرف على الأعلم.. ذلك أن العلم سر بين العبد وربه.. والعلم ليس ألفاظا تردد، ولا مصطلحات معجمة تلاك، والعالم ليس ذلك الذي يقسم الشعرة بذكائه.. وإنما العالم ذلك الذي تنكشف له الحقائق، فيراها رأي العين، وينكشف له نور مصباح الهداية؛ فيكون أول السائرين على هديه.

والأعلم قد يكون مثل أولئك الفقهاء الذين كان يجلبهم الخلفاء والملوك أنصاف الليالي، ليحللوا لهم الحرام الواضح بما يطيقونه من حيل، وليخلصوهم من المآزق التي توقعهم فيها شهواتهم.

والأعلم قد يكون مثل ذلك الفقيه الذي كان يستعمل كل أصناف الدهاء والحيلة ليخلص جمهوره من أثقال التكاليف الشرعية بأبسط أنواع الحيل، ويتصور أنه قد ألغى ما ارتبط بهم من آثام، وكأن له القدرة على تغيير أحكام الله بحيله وخدعه التي لا تختلف عن حيل وخدع علماء أهل السبت.

والأعلم قد يكون مثل ذلك المحامي الشاطر الذكي الذي يحفظ القوانين عن ظهر قلب، ثم يتلاعب في الاحتيال عليها، ومزج بعضها ببعض ليخلص من يدفع له أكثر، وليورط العاجز عن الدفع.

والأعلم قد يكون صاحب ذاكرة قوية، يحفظ الكتب الكثيرة، ويرددها أمام الملأ، لا ليملأهم بالحقائق، وإنما ليملأهم بالانبهار، لا بالحقائق، وإنما بذاكرته وذكائه وقدراته، لتمتلئ عقولهم به، لا بالحقيقة.

والأعلم قد يكون صاحب لسان فصيح، وكلمات شاعرية عذبة، ولكنها لا تختلف عن ذلك الذئب الماكر أو الثعلب المخادع أو الصياد الذي ينصب الشباك لمن يريد أن يصطاده.

والأعلم قد يكون صاحب ذكاء حاد، يقسم الشعرة بذكائه، ويتكلم في جميع الفنون، وعن جميع الفرق، ولكنه لن يعلم أتباعه إلا الغباوة والغفلة، لأنه لا يدلهم على الحقيقة المطلقة، وإنما يدلهم على شخصه المقيد؛ فلا يرون الوجود إلا من خلال مرآته المحدودة والممتلئة بكل ألوان الكدورة والتشويه.

لذلك بدل أن تتوجه لمن تراه الأعلم، أو لمن يدعي لك أنه الأعلم، أو لمن تقوم كل وسائل البهرجة الإعلامية بتزيينه لك بكونه الأعلم.. اذهب إلى ذلك المنزوي في قعر بيته، أو في قعر سجن مظلم، فلعلك تجد عنده من التقوى الممزوجة بالعلم النافع ما يغنيك عن كل تلك الأنداد التي تريد أن تستعبدك من دون الله.

أيها الرفيق العزيز، بدل أن تبحث عن الأعلم ابحث عن الأتقى ذلك الذي يخشى الله، ويمتلئ له محبة وعشقا.. ذلك الذي فني عن ذاته في ذات رسوله وأوليائه، فلم يعد له ظل ولا رسم.. لعل حاله ينتقل إليك؛ فتشرب من بحار الحب المقدس ما يغنيك عن حانات الحب المدنس التي أوقعها فيكم من يدعي أنه الأعلم.

بدل أن تبحث عن الأعلم ابحث عن ذلك الورع الذي وزن حركاته بميزان الشريعة؛ فلا يتحرك إلا بما تملي عليه، لا يدخل عقله ولا أهواءه ولا آراءه ولا اجتهاداته معها، بل هو يسلم لها مثلما سلم إبراهيم لرؤيا ربه، فلم يذكر أنها أضغاث أحلام، ليتهرب من مسؤولية الأمر الإلهي.

بدل أن تبحث عن الأعلم الذي يلتمس لك الرخص، ويعين أهواءك عليك، التمس الأورع الذي يبحث لك عن مواضع رضا الله، ومحال هداه؛ فأنت لم تأت لهذه الدنيا لتتثاقل إليها، وإنما أتيت إليها لتتزود منها.

واحذر، فقد يكون ذلك الأعلم الذي تقبل عليه هو كعب الأحبار، وذلك الأتقى الذي تفر منه هو أبو ذر؛ وأنت تعلم أنه لما وقع الخلاف بين كعب الأحبار وأبي ذر في شأن الكنز، آثر الناس كعبا لكونه صاحب ذاكرة قوية، جعلته لا يكتفي بالقرآن، وإنما يضم إليه كل الكتب المقدسة والمدنسة، ولذلك لما وازن الناس بين علمي الرجلين، وجدوا كعبا أكثر علما؛ فآثروه، وسقطوا في شباك الصياد الذي لم يكن سوى الشيطان.

قد لا يكون كلامي مجديا.. فلذلك اسمع ما قال نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يعلمنا كيف نجتذب ترددات قناة الهداية التي تبث إلى عقولنا وقلوبنا، بدل قنوات الفتنة التي أدمنا عليها؛ فقد قال: (لا تجلسوا عند كل عالم؛ إلا إلى عالم يدعوكم من خمس إلى خمس: من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الرغبة إلى الزهد، ومن الكبر إلى التواضع، ومن العداوة إلى النصيحة)([1])

وقال: (من تعلم علما ليماري به السفهاء أوليباهي به العلماء، أو يصرف به الناس إلى نفسه يقول: أنا رئيسكم فليتبوأ مقعده من النار، إن الرئاسة لاتصلح إلا لأهلها؛ فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظرالله إليه يوم القيامة)([2])

وقال: (يظهرالدين حتى يجاوز البحار، ويخاض في سبيل الله ثم يأتي من بعد كم أقوام يقرؤون القرآن يقولون: قرأنا القرآن، من أقرأ منا؟ ومن أفقه منا؟ ومن أعلم منا؟. ثم التفت إلى أصحابه فقال: هل في أولئك من خير؟ قالوا: لا. قال: اولئك منكم من هذه الآية: {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} [آل عمران: 10])([3])

وقال: (إني لا أتخوف على أمتي مؤمنا ولا مشركا، فأما المؤمن فيحجزه إيمانه، وأما المشرك فيقمعه كفره؛ ولكن أتخوف عليكم منافقا عليم اللسان يقول ماتعرفون ويعمل ما تنكرون)([4])

هذه وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي ولك ولكل الناس.. لتكون معيارا نزن به العلماء الحقيقيين، ونميزهم عن الكذابين والدجالين والمضلين.. فلا يمكن أن نصل إلى الله، ونحن نهتدي بهدي المضلين.


([1])  رواه أبو نعيم في الحلية، تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (1/ 184)

([2])  بحار الأنوار:  2 : 110.

([3])  رواه ابن المبارك في الزهد (152)، وأخرجه أبو يعلى (12/56)، والبزار (1/99)

([4])  رواه الطبراني في الأوسط والصغير، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (1/ 187)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *