كنائس مستباحة

كنائس مستباحة

في اليوم الخامس، كنت جالسا في بيتي أصغي إلى بعض البرامج، وفجأة رأيت صاحبي الوهابي يدخل علي، ثم يجلس بجانبي من دون استئذان، ثم يقول بحماسة: لقد قررت أن أفعل اليوم كل ما تفعله.. فقد اقتنعت بأني لن أخرج من جلابيب أولئك المجرمين إلا بعد أن ألبس ما تلبسه من ملابس الأبرياء.

قلت: مرحبا بك.. ولو أني لست أهلا لذلك.. فأنا عبد ضعيف حقير ممتلئ بالتقصير.

قال: أعلم ذلك.. ولكن التقصير الذي تقع فيه لا يصل إلى حد الجريمة.. فذنوبك على الأقل بينك وبين ربك، وما أسرع مثلها للغفران.

ما قال هذا حتى انقطع البرنامج الذي كنت أصغي إليه باهتمام، ثم جاءت الأخبار العاجلة تعلن أن الأيادي الآثمة امتدت إلى كنيسة القديسين في الإسكندرية، كما امتدت قبلها إلى رهائن في كنيسة سيدة النجاة بحي الكرادة العراقي أثناء تجمع نحو 100 شخص في قداس مسائي([1]).

ثم جاءت التصريحات والتحاليل تؤكد أن الواقفين وراء الحادث لهم علاقة بالفكر الوهابي المتطرف.. فقد جاء في التصريحات([2]) أن تنظيم القاعدة أصدر من خلال ما يسمى (دولة العراق الإسلامية) أمراً باستهداف عدد من الكنائس القبطية في مصر وأوروبا خلال رأس السنة.

عندما سمعت هذا شعرت بألم كبير يعتصرني، فصحت من حيث لا أشعر: ويل للآثمين.. ما بالهم يمتدون إلى الذين عهد إلينا بحمايتهم.. ألم تكفهم تلك الدماء التي أسالوها من أجسادنا حتى راحوا إلى أجساد إخواننا وجيراننا يسيلونها ليؤلبونا عليهم، أو يؤلبوهم علينا؟

ألم يقرؤوا قوله تعالى:{  وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: من الآية40)؟

ألم يسمعوا قوله r: (لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما)([3])، وقوله: (يأتي القاتل متعلقا رأسه بأحدى يديه متلببا قاتله بيده الاخرى تشخب أوداجه دما حتى يأتي به تحت العرش فيقول المقتول لله: رب هذا قتلني! فيقول الله للقاتل: تعست! ويذهب به إلى النار)([4]

ما بال هؤلاء، وقد تحولت أرواح بني آدم عندهم كأرواح الثيران والدجاج لا يبالون بها، ولا يهتمون لها؟

ويلهم ليتهم – إن حن بهم الطبع إلى سفك الدماء المحرمة – سفكوا من دمائنا ما تعودوا أن يسفكوا، ولم يمدوا أيديهم الآثمة إلى هؤلاء.. إنهم بهذه الدماء يشوهون تلك التعاليم الجميلة التي جاء الإسلام للدعوة إليها وتربية الناس عليها..

ويلهم.. إنهم يزعمون أنهم يقرؤون القرآن.. ألم يقرؤوا فيه قوله تعالى: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)}(الممتحنة)؟

ويلهم.. ألم يقرأوا وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأهل مصر، فقد ورد في الحديث عن أبى ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنكم ستفتحون مصر وهى أرض يسمى فيها القيراط فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها فإن لهم ذمة ورحما)([5])

ألم يقرؤوا ما كتبه الفقيه الأصولي المحقق شهاب الدين القرافي وهو يشرح معنى البر المذكور في القرآن، فذكر منه: (الرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم، ولين القول لهم ـ على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة ـ واحتمال إذايتهم في الجوار ـ مع القدرة على إزالته ـ لطفًا منا بهم، لا خوفًا ولا طمعًا، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم، في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم، إذا تعرض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم إلى جميع حقوقهم..)([6]

لست أدري كيف تغير صاحبي بعد أن ذكرت قول القرافي، ثم صاح في منفعلا: اسكت يا رجل.. فمن منهم يسمع بالقرافي.. بل من منهم من يسمع من رسول الله.. بل من منهم من يسمع من الله نفسه؟

قلت: ويلهم.. فلمن يسمعوا إن لم يسمعوا من هؤلاء؟

قال: إن صنمهم الذي يسمعون إليه واحد..

قلت: من هو؟.. ألم يحرم الإسلام عبادة الأصنام؟

قال: ابن تيمية.. إنه الصنم الذي يشرع لهم.. فيخضعون له.. ويعبدونه من دون الله.

قلت: رويدك يا رجل.. ما دخل ابن تيمية المسكين في هذا.. ألم تعلم في أي عصر عاش؟.. كف عن هذا، فإن لحوم العلماء مسمومة؟

قال: دعني من حديثك.. فإني لا أذكر لك إلا ما رأيت، وما سمعت.. ولو أن الله لم يمن علي بالتوبة لكنت الآن من الساجدين شكرا له على ما حصل.

قلت: أكنت رجلا من القاعدة؟

قال: وهل القاعدة بجحافلها سوى تلاميذ بسطاء لابن تيمية وابن عبد الوهاب؟.. أليس هؤلاء هم المنظرون، وهم الأساتذة، وهم السند الفكري الذي يتغذى منه أولئك السفاحون؟

قلت: أنت تعلم أني لا أقبل تهمة من غير دليل يدل عليها.. إني أخاف أن ينطبق علي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} (المائدة)، أو قوله تعالى: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} (الإسراء)

قال: وما كان لي بعد أن من الله علي بالتوبة أن أتقول على خلقه بغير علم.. سأقص عليك قصة من ماضي المؤلم لتعلم بأني لم أتهم أحدا.. فما أقوله هو ما يقولونه في مجالسهم وكتبهم وفضائياتهم..

***

اعتدل صاحبي في جلسته، وسرح بطرفه، ثم قال: كان لنا في تلك الأيام الغبراء شيخ نرجع إليه في كل شيء من ديننا ودنيانا.. لست أدري هل سحرنا ببيانه، وبما نتوهمه من علمه وحجته؟.. أم سحرنا بتلك السيوف التكفيرية والتضليلية التي يتوجه بها لمن يخالفه؟

لم نكن نعرف اسمه بالضبط، ولكنه من كثرة ما كان يردد اسم (ابن تيمية) صرنا نطلق عليه (ابن تيمية)

في ذلك اليوم المشؤوم كان معنا شباب ممتلئ بالقوة والنشاط، وكان مستعدا من فرط حماسته لكل شيء.. لست أدري ربما كان من أولئك الشباب الذين كانوا معنا من نسف نفسه في هذه الكنيسة.. ولست أدري كم من الشباب ممن لا يزال يعد نفسه لمثل تلك الفعلة.

في ذلك اليوم.. وبعد أن دخلنا عليه مجلسه رأيناه يضع أمامه خارطة تشمل بلادا كثيرة كالشام والعراق ومصر وغيرها.. ويضع على محال كثيرة من تلك الخارطة علامات حمراء..

بعد أن جلسنا بين يديه، وبعد أن قدم المقدمات الكثيرة التي شحن بها عواطفنا البريئة، قال: لقد جئتكم اليوم برسالة من شيخنا شيخ الإسلام العظيم ابن تيمية يمكن أن يطلق عليها (مسألة في الكنائس).. وهي رسالة تستحق منا الدراسة.. بل تستحق منا أن نسعى لتنفيذنا بكل ما أوتينا من وسائل.. إنها رسالة معطلة..

لقد طبقنا رسائل ابن تيمية في القبور.. فهدمناها.. وطبقنا رسائله في تكفير الصوفية والشيعة والخواص والعوام، فشننا حروبنا عليهم.. ولكنا للأسف لازلنا مقصرين مع هذه السورة من مصحف ابن تيمية.

أخرج لنا الرسالة، ثم قال: انظروا إنها مطبوعة في بلاد التوحيد.. وهي بتحقيق الحجة ناصر السنة (علي بن عبدالعزيز الشبل) اسمعوا إلى ما تحمله هذه الرسالة من العلم.. وما ينبغي علينا بعده من العمل.

تبدأ الرسالة كعادة رسائل ابن تيمية بسؤال يقول صاحبه: (ما تقول السادة العلماء أئمة الدين، وهداة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين، وأعانهم على إظهار الحق المبين، وإخمال الكفار والمنافقين، في الكنائس التي بالقاهرة وغيرها التي أغلقت بأمر ولاة الأمور، إذا ادعى أهل الذمة: أنها غلِّقت ظلماً، وأنهم يستحقون فتحها، وطلبوا ذلك من ولي الأمر أيده الله تعالى ونصره.. فهل تقبل دعواهم؟ وهل تجب إجابتهم أم لا؟!)([7])

قرأ السؤال بطوله، ثم التفت إلينا، وقال: أتدرون بما أجاب شيخنا، بل شيخ الإسلام ابن تيمية..

لقد قال في قوته التي واجه بها التتر والصوفية والشيعة والأشاعرة والمعتزلة وغيرهم: (الحمد لله رب العالمين، أما دعواهم أن المسلمين ظلموهم في إغلاقها فهذا كذبٌ مخالفٌ لأهل العلم.. فإنهم.. أي علماؤنا.. وسلفنا الصالح.. متفقون على أن الإمام لو هدم كل كنيسةٍ بأرض العنوة كأرض مصر والسواد([8]) بالعراق، وبر الشام ونحو ذلك، مجتهدًا في ذلك، ومتبعًا في ذلك لمن يرى ذلك، لم يكن ذلك ظلماً منه؛ بل تجب طاعته في ذلك.. وإن امتنعوا عن حكم المسلمين لهم، كانوا ناقضين العهد، وحلت بذلك دماؤهم وأموالهم)([9])

قال شاب منا ممتلئ حيوية ونشاطا: أيحل لنا بهذه الفتوى هدم جميع ما نراه من كنائس في بلادنا.. أنا من سكان القاهرة.. وفيها كنائس كثيرة.. أيجيز لي شيخ الإسلام أن أسعى لهدمها؟

قال الشيخ: أجل.. ولك أجر عظيم على ذلك.. انظر ما يقول ابن تيمية في خصوص كنائس القاهرة تحت عنوان (تكذيب دعوى وجود الكنائس بالقاهرة منذ عهد الخلفاء الراشدين).. إنه يقول: (وأما قولهم إن هذه الكنائس من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأن الخلفاء الراشدين أقروهم عليها، فهذا أيضًا من الكذب. فإن من المعلوم المتواتر أن القاهرة بنيت بعد عمر بثلاثمائة سنة، بنيت بعد بغداد، وبعد البصرة والكوفة وواسط.. وقد اتفق المسلمون على أن ما بناه المسلمون من المدائن لم يكن لأهل الذمة أن يحدثوا فيها كنيسة، مثل ما فتحه المسلمون صلحاً، وأبقوا لهم كنائسهم القديمة، بعد أن شرط عليهم فيه عمر بن الخطاب أن لا يحدثوا كنيسة في أرض الصلح، فكيف في بلاد المسلمين؟!)([10])

قال الشاب: ولكن كيف بقيت كنائس القاهرة كل هذه المدة لم تمتد إليها يد المسلمين؟.. أليس في هذا ما ينقض قول ابن تيمية من اتفاق السلف والخلف؟

قال الشيخ: اسمع.. لقد أجاب ابن تيمية عن هذه الشبهة.. إنه يقول في هذه الرسالة العظيمة: (فإن القاهرة بقي ولاة أمورها نحو مائتي سنةٍ، على غير شريعة الإسلام، فقد كانوا يظهرون أنهم رافضة.. واتفق طوائف المسلمين: علماؤهم، وملوكهم،  على أنهم كانوا خارجين عن شريعة الإسلام، وأن قتالهم كان جائزاً، بل نصّوا على أن نسبهم كان باطلاً.. وهؤلاء من أعظم الناس عداوة للمسلمين وملوكهم، ثم الرافضة بعدهم فالرافضة يوالون من يعادي أهلَ السنة والجماعة، يوالون التتار، ويوالون النصارى)([11])

التفت إلى الشاب، وقال: أرأيت السر في انتشار الكنائس وبقائها.. إنهم أولئك الكفار الذين تسلطوا على مصر فحكموها قرونا من الزمان.. إنهم الشيعة الرافضة أعداء الصحابة.. إنهم وحدهم الملاذ الأمين الذي يأمن في ظله النصارى.

قال الشاب: فما قال شيخ الإسلام في الكنائس القديمة في بر مصر؟

قال الشيخ: انظر.. إن شيخنا، بل شيخ الإسلام كان يقرأ ما في باطنك.. فقد أجابك من ذلك الزمن البعيد..

لقد صدق ابن القيم حين وصف فراسته، فقال:(ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمورا عجيبة وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة وأن جيوش المسلمين تكسر وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام وأن كلب الجيش وحدته في الأموال: وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة  ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام: أن الدائرة والهزيمة عليهم وأن الظفر والنصر للمسلمين وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا فيقال له: قل إن شاء الله فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا

 وسمعته يقول ذلك قال: فلما أكثروا علي قلت: لا تكثروا كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ: أنهم مهزومون في هذه الكرة وأن النصر لجيوش الإسلام)([12])

التفت بعضنا إلى بعض منبهرين، ثم لم نشعر إلا ونحن نكبر تعظيما لهذا الرجل الذي ما ترك كتابا إلا اطلع عليه حتى اللوح المحفوظ.

عندما رأى الشيخ منا هذا قال: اسمعوا ما أجاب به ابن تيمية هذا الشاب حول كنائس مصر القديمة: (وقد كان في بر مصر كنائس قديمة، لكن تلك الكنائس أقرهم المسلمون عليها حين فتحوا البلاد؛ لأن الفلاحين كلهم كانوا نصارى، ولم يكونوا مسلمين، وإنما كان المسلمون الجندَ خاصة، فأقرهم كما أقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم اليهود على خيبر لما فتحها؛ لأن اليهود كانوا فلاحين، وكان المسلمون مشتغلين بالجهاد. ثم إنه بعد هذا في خلافة عمر لما كثر المسلمون واستغنوا عن اليهود، أجلاهم عن خيبر، حتى لم يبق في خيبر يهودي. وهكذا القرية التي يكون أهلها نصارى وليس عندهم مسلمون، ولا مسجدٌ للمسلمين، فإذا أقرهم المسلمون على كنائسهم التي فيها، جاز ذلك، كما فعله المسلمون)([13])

قال الشاب: فهل لنا أن نفعل ذلك؟

صاح الشيخ بشدة: لا.. لا ينبغي أن تبقى كنيسة في بلاد العرب.. إن كل أرض دخلها مسلم لا يجوز أن يبقى فيها غير الإسلام.

قال ذلك، ثم راح يقرأ لنا من الرسالة ما ملأنا قناعة بما يقول..

فلما رأى ذلك منا، أرانا الخارطة، ثم قال: انظروا.. ألا ترون هذه العلامات الحمراء؟

قلنا: أجل.. هل هي مدن أم مصانع؟

قال: لقد وضعت على هذه الخارطة كل الكنائس التي أفتى ابن تيمية بوجوب هدمها.. فرحم الله من بلغ ابن تيمية منيته.

قال رجل منا: لكن الوضع الآن يختلف.. فنحن نعيش في عالم غير الذي عاش فيه ابن تيمية.

قال الشيخ: اسكت ويلك.. لا يصح أن تقول هذا في شيخ الإسلام.. إن ما قاله من فتاوى يصلح لكل زمان ومكان.

قال الرجل: ولكن ذلك قد يثير الناس علينا.

قال الشيخ: إن من يعبد الله.. ومن يسير خلف ابن تيمية لا يبالي بالناس.. ألم تسمع ابن تيمية وهو يردد: (ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة)؟

ألم تعلم أن ابن تيمية قد أجمع الكل على سجنه، فلم يبال بهم..

وقد نصره الله أخيرا على يدي أهل التوحيد.. فرحم الله من أكمل مسير ابن عبد الوهاب الذي أحيا سنة الهدم والتدمير.

قال الرجل: ولكن ابن عبد الوهاب لم يهدم الكنائس.

قال الشيخ: لأنه لم تكن بين يديه كنائس.. ولو كانت بين يديه كنائس لهدمها.. فليست الكنائس أعظم حرمة من تلك المباني التي هدمها.

قال الرجل: فما تنصحنا؟

قال الشيخ: احملوا هذه الخارطة، وبشروا بها.. فكل من مات في هذه السبيل سار إلى الجنة دون أن يعترضه أحد.

***

التفت صاحبي إلي، ثم قال: أتراني تجنيت عليهم حين اتهمتهم بما اتهتمهم به؟.. اذهب إلى أي مكتبة في الإسكندرية أو في القاهرة.. وستجد هذه الرسالة.. وتجد معها من يقنعك بأن كل ما يقوله ابن تيمة منزل من اللوح المحفوظ..

قلت: أنت تدعو بهذا إلى منع كتب هذا الرجل الذي يتتلمذ عليه الملايين؟

قال: لا أدعو إلى منع كتبه فقط.. بل أدعو إلى منع كتب كل متأثر به أو متتلمذ عليه أو مصاب بعدواه.

قلت: إنك بذلك ستمنع كتب ذلك الرجل الصالح (ابن القيم) الذي تتلمذ على ابن تيمية وكتب كتابه في (مدارج السالكين)

قال: وكتب معه كتابه (أحكام أهل الذمة) الذي حشاه بشتى أنواع القذائف المسلطة على إخواننا المسيحيين، وأولها ذلك الكم من الروايات التي ينسبها زورا وبهتانا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها: (لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة)

ومنها ما نسبه لابن عباس من قوله: (أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه ولا يضربوا فيه ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا ولا يتخذوا فيه خنزير، وأيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوا فيه فإن للعجم ما في عهدهم وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم)

قلت: فهل ترى أن نمنع هذا الكتاب أيضا؟

قال: ألا تمنعون الكتب التي تحث على الإجرام والرذيلة؟

قلت: أجل..

قال: فهذه الكتب أخطر من تلك الكتب.. إن كتب الرذيلة تصنف في كتب الرذيلة.. وكتب الإجرام تصنف في كتب الإجرام.. بينما كتب هؤلاء تصنف ضمن كتب الدين.. وما أخطر أن يتحول الإجرام إلى دين.

قلت: ولكن ذلك قد يرمينا بقمع حرية الفكر.

قال: لا بأس.. انشروها كما تشاءون.. ولكن اكتبوا عليها كما تكتبون على علب السجائر.

قلت: أنكتب (كتب مضرة بالصحة)؟

قال: بل اكتبوا (كتب مدمرة للإنسانية والحضارة والقيم).. إنها كتب الدجال التي ينشرها ليملأ الأرض ظلما وجورا وصراعا.


([1])   وقد أسفرت عملية كنيسة سيدة النجاة عن مصرع 52 شخصاً على الأقل، من بينهم 25 رهينة وسبعة من رجال الأمن العراقيين وخمسة من الانتحاريين.

([2])    وردت هذه التصريحات في موقع يحمل اسم (شبكة شموخ الإسلام)، ففيه هذه النداءات: (قم ودع عنك الرقاد مهم بخصوص تفجير الكنائس أثناء الاحتفال بعيد الكريسماس)

وقد تضمن البيان تحريضا صريحا على الإرهاب واستهداف الأقباط في مصر، حيث جاء به التالي (أتوجه بندائي هذا إلى نفسي وإلى كل مسلم غيور على عرض أخواته بتفجير دور الكنائس أثناء الاحتفال بعيد الكريسماس، أي في الوقت الذي تكون فيه الكنائس مكتظة)

وحوى البيان بالتفصيل أسماء وعناوين بعض الكنائس في مصر. بالإضافة إلى بعض الكنائس القبطية في أوروبا، ومن ضمن هذه الكنائس كنيسة القديسين في الإسكندرية التي استهدفها التفجير الأخير.

ويتضمن البيان تفاصيل تصنيع عبوة ناسفة قائلاً: (الآن نذهب إلى الإعداد وحتى يكون الهجوم مباغتاً وفتاكاً يحصيهم ويأخذهم اخترنا العبوة اليدوية الناسفة من إنتاج دولة العراق الإسلامية)

ويعرض الموقع صوراً لعبوات يدوية مختلفة، منها ما هو على شكل قنينة ومنها على شكل علب (بيبسي كولا) يتم إدخال المواد المتفجرة داخلها.

ويتضمن الموقع إشارات بتنفيذ عملية الاسكندرية منها رسالة مضى عليها يوم واحد فقط كتبها الكاتب نفسه (أيمن) يقول فيها: (اللهم لك الحمد والمنة سيأتيكم ما يسوؤكم بإذن الله)

وتحته رسالة كتبها شخص يلقب نفسه بـ(أبو القعقاع مجاهد) وفيها أسماء أربع كنائس في مدينة الإسكندرية بينها بخط عريض وبارز اسم كنيسة القديسين، بما يوحي أن هذه الكنائس كانت مستهدفة في ذلك التوقيت وأن التنفيذ تم فقط في تلك الكنيسة.

([3])   رواه البخاري.

([4])    رواه الطبراني في الكبير.

([5])   صحيح مسلم (7/ 190).

([6])    الفروق: 3 /15.

([7])    تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، مسألة في الكنائس، تحقيق: علي بن عبدالعزيز الشبل، مكتبة العبيكان – الرياض، الطبعة: الأولى 1416هـ، ص1.

([8])  المقصود بأرض السواد الأرياف وأماكن الزراعة , وصارت علماً على ما حول دجلة والفرات من أراضي الزراعة.

([9])    مسألة في الكنائس (ص: 102)

([10])    مسألة في الكنائس (ص: 102)

([11])    مسألة في الكنائس (ص: 104)

([12])    مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 489)

([13])    مسألة في الكنائس (ص: 118)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *