كلهم في النار

بعد أن أخذ صاحبي حظه من الراحة، دخلت إليه في أول اليوم الثاني غرفته، وأنا أحمل قلمي ودفتري لأكتب ما يمليه علي.. فعجبت لما رأيت منه.. بل أصابني نوع من الرعب الذي يصيبنا عند رؤية المجانين وغريبي الأطوار.
لقد رأيته يضع أمامه قصاصات كثيرة.. يصنفها ويخاطبها كما يخاطب الأستاذ تلاميذه.. لا.. بل كما يخاطب السجان مساجينه..
وكان مما سمعته منه مما أدخل في نفسي الرعب قوله، وهو يحمل بعض تلك القصاصات، ويخاطبها بغلظة: أما أنت يا إليزابيث فصوفية.. أعلم ذلك منك.. فإشاراتك توحي بذلك.. ولذلك ليس لك إلا أن تدخلي جهنم مع الداخلين.
أخذ قصاصة أخرى، وراح يخاطبها بقوله: أما أنت يا شافيز فجميع خطبك ومواقفك تشير إلى أنك رافضي أو إخواني.. لا يهم.. كلاهما سواء.. فلذلك اذهب إلى جهنم.
ثم أخذ قصاصة أخرى، وراح يخاطبها بقوله: وأنت يا هتلر.. أعرفك جيدا.. أنت تبليغي قح.. لقد رآك بعضهم تخرج مع جماعة التبليغ.. اذهب إلى السعير لتلتهمك لظى.
ثم أخذ قصاصة أخرى، وراح يقول لها بكل قوة: وأنت يا رامسفيلد.. أنت.. أنت.. نعم أنت (سروري).. اذهب إلى جهنم..
واذهب معه يا حافظ الأسد فأنت (رافضي)..
وهكذا يا مارادونا فأنت (مذبذب).. لا تزال منذ فترة مذبذبا.. لا.. بل ربما أنت رافضي تتقن التقية، فقد علمنا من مصادرنا أنك عازم على زيارة إيران.. ولا يزور إيران إلا الرافضة.. هيا.. أسرع، فجهنم تنتظرك!!
بعد أن رمى الكثير من القصاصات في قعر جهنم التفت إلي، فرآني مبهوتا محتارا، فابتسم، وقال: اقترب مني.
قلت: ماذا تريد أن تفعل بي؟.. أنا في عرضك.
قال: لا تخف.. فلن أفعل لك شيئا.
قلت: أخاف أن تقذفني في جهنم كما قذفت شافيز ورامسفيلد ومارادونا.
قال: لا تخف.. فأنت ترى أني لا أملك جنة ولا سعيرا.. بل لا يملك الجنة والسعير إلا بارئهما.
قلت: فما كنت تفعل بأوراقك هذه؟
ابتسم، وقال: هذه لعبة كنا نتسلى بها في سجون الوهابية.. لقد كنا نكتب قصاصات مثل هذه القصاصات.. ثم نصنفها أصنافا كثيرة.. ثم نشعل حطبا كثيرا ونرميها فيه لتشعر قلوبنا الباردة ببعض الحرارة.
قلت: أكنتم تكتبون فيها أسماء رامسفيلد وشافيز ومارادونا؟
قال: لا.. معاذ الله.. فلم نكتب فيها إلا أسماء مسلمين.. بل علماء وربانيين.. بل مصلحين ومجددين.
قلت: ولكن منزل هؤلاء الجنة.
قال: لقد كنا نستعمل كل وسائل الاستقصاء لنخرجهم من الجنة، ونرسل بهم إلى حظيظ جهنم.
قلت: وما يضركم أن يدخلوا الجنة.. وما يضركم أن تتركوا أمرهم لله ليفعل بهم ما يشاء.. فالله هو رب الجنة والنار، وهو يدخل من يشاء فيهما، ويخرج من يشاء.. لقد قال علي في ذلك – بعد أن ذكر دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ووصف ذلك أحسن صفة -:(ويفعل الله بعد ذلك في خلقه ما يشاء)، وقال عبدالله بن عباس:(لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارا)، وقال أبو سعيد الخدري:(انتهى القرآن كله الى هذه الآية: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)(هود: من الآية107)
قهقه بصوت عال، وقال: أنت ترجع إلى القرآن الكريم، وإلى آل البيت الطاهرين، وإلى الصحابة المنتجبين..
قلت: إذا لم أرجع لهؤلاء، فلمن أرجع؟
قال: لأئمة السلف.. فلا يمكن أن تفهم القرآن إلا على ضوء ما يقرره أئمة السلف.
قلت: فآل البيت والصحابة هم أئمة السلف.
قال: لا.. أول أئمة السلف وآخرهم وشيخهم هو محمد بن عبد الوهاب وشيخه (شيخ الإسلام ابن تيمية !!).. ألا ترى أنهم يطلقون عليه لقب (شيخ الإسلام).. وهو لقب لم يطلق حتى على علي ذلك الذي كان بابا لمدينة العلم والحكمة.
قلت: لكن هؤلاء من الخلف.. فكيف يكونون سلفا؟
قال: هم سلف السلف.. وهم الذين يقررون ما ينبغي أن يقول السلف، وما لا ينبغي أن يقولوه.
قلت: لا أزال محتارا.. كيف يكون المتأخر سلفا؟
قال: هكذا هو منطق الوهابيين.. إن لهم منطقا خاصا.. ألم تعلم أن شيخهم ابن تيمية قد نقض منطق أرسطو ليبني على أساسه هذا المنطق؟
قلت: ولكن هذا المنطق يتنافى مع الفطرة السوية والقلب السليم والعقل السليم..
قهقه بصوت عال، وقال: عن أي شيء تتحدث.. إن ما تتحدث عنه هو أول ما ينزع من صدور من يدخل سجون الوهابية.. فلا يمكن لصاحب الفطرة السوية والقلب السليم والعقل السليم أن يبقى محتفظا بسلامة فطرته، ولا سلامة قلبه وعقله.
قلت: لم؟
قال: لأنه لا يسمع في مجالسهم إلا الغيبة والنميمة والأحقاد والضغائن.. وأنت تعرف ما تفعله هذه في القلوب والعقول والفطر.
قلت: الغيبة والنميمة والأحقاد والضغائن حرام باتفاق الأمة.
ابتسم وقال: كل حرام يضع عليه محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه ومشايخه يده عليه يصير حلالا.. ألا تعلم أن الله أحل لهم الحرام، ووضع عنهم إصرارهم والأغلال التي كانت عليهم، بل وضع في يدهم الجنة والنار يدخلون من يشاءون ويخرجون من يشاءون.. فإياك أن تغضبهم فيرمونك في الدرك الأسفل من النار.
قلت: أنت تملؤني بالعجب.. لقد صرح القرآن الكريم بحرمة الغيبة والنميمة، وقد توعد أهلها وعيدا شديدا، وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن عقوبة من تصور نفسه موكلا بخزائن الرحمة والمغفرة يصرفها لمن يشاء، ويحرم منها من يشاء، فذكر أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ فاني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك)([1])
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أحدثكم حديث رجلين من بني إسرائيل؟ كان أحدهما يسرف على نفسه، وكان الآخر يراه بنو إسرائيل أنه أفضلهم في الدين والعلم والخلق، فذكر عنده صاحبه، فقال: لن يغفر الله له، فقال الله لملائكته: (ألم يعلم أني أرحم الراحمين؟ ألم يعلم أن رحمتي سبقت غضبي؟ فاني أوجبت لهذا الرحمة، وأوجبت على هذا العذاب، فذا تتألوا على الله)([2])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (قال رجل لا يغفر الله لفلان، فأوحى الله إلى نبي من الانبياء أنها خطيئة، فليستقبل العمل )([3])
وفي حديث آخر ورد ما هو أعظم من ذلك، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كان رجل يصلي، فلما سجد أتاه رجل فوطئ على رقبته، فقال الذي تحته: والله لا يغفر لك الله أبدا، فقال الله عزوجل: تألى عبدي أن لا أغفر لعبدي، فاني قد غفرت له)([4])
وقد سمى صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء الذين زعموا لأنفسهم امتلاك خزائن الجنان (المتألين)([5])، فقال: (ويل للمتألين من أمتي، الذين يقولون: فلان في الجنة، وفلان في النار)([6])
بل أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن هلاك هذا النوع من الناس، فقال: (إذا سمعت الرجل يقول: هلك الناس فهو أهلكهم)([7])، وقال: (إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم)([8])
قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد كان تأملي في هذه النصوص المقدسة نورا من أنوار الهداية، وبابا من أبواب الرحمة.. لقد قيض الله لي في ذلك الحين بعض الصالحين، وقد سألني حينها: (من أي فرقة أنت؟)، فأجبته بكل كبرياء: (أنا من الفرقة الناجية)، فابتسم، وقال: (وهل عندك صك بأنك منها)، فقلت: (لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن أوصافها، فذكر أنها ما عليه صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه)، فقال: (وهل تطيق أن تنسب لنفسك هذا… إن الذين كانوا معه صلى الله عليه وآله وسلم كانوا أعظم تواضعا من أن ينسبوا لأنفسهم ما تنسبونه لأنفسكم… بل كانوا يتخوفون على أنفسهم من النفاق… ألم تسمع ما ورد عن السلف الصالح y في ذلك؟.. لقد قال أحدهم: (أدركت ثلاثين ومائة – وفي رواية خمسين ومائة – من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يخافون النفاق)
***
قال ذلك، ثم انفجر باكيا، فأردت أن أخفف عنه، فقلت: دعنا من هذا، فالله يقبل توبة عباده.. عد بنا إلى قصاصاتك.
ابتسم، وقال: هي أمامك.. خذ منها ما تشاء.. وسأذكر لك ما علمني أصحابي من وجوه استحقاقه لجهنم.
أخذت القصاصات.. فقرأت أسماء كثيرة.. تكاد تجمع جميع علماء المسلمين وصالحيهم.. وكان من عجبي أن رأيت اسما امتلأت له حبا وتقديرا هو اسم (مولانا محمد علاء الدين ماضى أبو العزائم) شيخ عموم الطريقة العزمية.
فقلت: ما لهذا الرجل قد وضع في هذه القصاصات.. أنا أحسب أنه من أولياء الله فهو يمتلئ محبة لله وحرصا على هذه الأمة.
قال: لقد أقمنا في سجوننا نفيرا بسبب تصريحات له أبدى استعجابه فيها ممن يطلقون على معاوية، و يزيد ابنه، وأبي سفيان، لقب سيدنا، قائلا: متى كانوا أسيادنا؟ فهل قتلة سيدنا الحسين هم أسياد لنا؟ مشيرا إلى أن بنى أمية موجودون إلى وقتنا هذا ويجب أن تفيق الأمة من غفوتها.
وهو فوق ذلك يرى أن الأمة الإسلامية مغيبة عن حاضرها، وأصبحت الآن في حالة من الفرقة التي تحتاج إلى تكاتف الجميع لكى تعود إلى مجدها، وأن ما حدث فى معركة كربلاء يدل على أن الأمة غابت عن منهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان يجب بعد مقتل سبط الرسول سيدنا الحسين، أن تقوم الأمة وتنتفض، ولكن للأسف بدل أن تقوم وتنتفض نامت في سبات عميق لم تفق منه حتى وقتنا الحالي.
قلت: هذا كلام طيب، وهو دليل على وعي الرجل وفقهه وحرصه على الأمة.
قال: أنت تقول
ذلك.. لكننا في سجوننا لا نقوله.. لقد عقدنا في ذلك المساء اجتماعا عاما دعي له
جميع المعتقلين في سجوننا، وقد حكمنا فيه عليه بأحكام يربأ لساني عن ذكرها.. ثم
رمينا قصاصته في جهنم، وتلذذنا بنارها الموقدة أياما.
([1]) رواه مسلم.
([2]) رواه أبو نعيم في الحلية وابن عساكر.
([3]) رواه الطبراني في الكبير.
([4]) رواه الطبراني في الكبير.
([5]) معنى يتألى: يحلف والالية اليمين.
([6]) رواه البخاري في التاريخ.
([7]) رواه مالك وأحمد ومسلم وأبو داود.
([8]) رواه أحمد ومسلم وأبو داود.