فلكيون.. بدون مراصد

فلكيون.. بدون مراصد
في اليوم الرابع، دخلت على صاحبي الوهابي الهارب غرفته التي استضفته فيها، وبقيت معه لحظات ألاطفه وأخفف عنه بعض ما يعانيه من أعباء الماضي، وقد عجبت إذ رأيته على غير عهدي به هادئا ممتلئا صفاء وسلاما..
وكان من قولي له – وأنا أجتهد في التخفيف عنه -: انظر إلى السماء وما حوت من مجرات ونجوم وكواكب وسدم وما نرى وما لا نرى.. لترى أن الواسع العليم الذي اتسعت قدرته لكل هذا لن تضيق مغفرته بما سبق لك من خطأ لم تكن تقصده.
بمجرد أن قلت هذا رأيت ملامحه تتبدل، وجبينه يتقطب، وسحنته يكسوها غضب شديد لم أدر سببه، ثم رأيته يقوم بقوة جهة الباب، وهو يقول: تكذبون.. تكذبون.. أنتم أجهل الناس.. أنتم أحقر الناس.. أنتم لا تتقنون إلا الدعاوى.. أنتم أصحاب الجهل المركب.. تجهلون، وتجهلون أنكم تجهلون..
اقتربت منه، وحاولت أن أخفف ما به، فرماني بيده، وهو يقول: دعني.. دعني.. فإن كوابيس أولئك المدعين لا تزال تطاردني كل حين.. ولو لم أقم لأرميهم بجمرات سبابي لانفجرت.
قلت: روديك.. ما الذي حصل؟.. ما الذي جعلك تفعل هذا؟
أخذ نفسا عميقا، ثم قال: ما أشد الظلمات التي كان عقلي يسكن فيها!!
قلت: العقل لا يسجن.. لا يسجن في هذه الدنيا إلا الجسد.. أما العقل، فلصاحبه مطلق الحرية فيه.. وكم رأينا من العلماء سجنوا، فلم يزدهم سجنهم إلا ذكاء ونشاطا ونبوغا.
قال: ولذلك قلت لك: إن سجون الوهابية لا تعادلها جميع سجون الدنيا.. ذلك لأن المسجون فيها ليس الجسد، وإنما العقل والروح والقلب.. وجميع اللطائف الكريمة.. المتحرر الوحيد في سجون الوهابية هو هذا الطين.. هذا الحمأ المسنون الذي لا يختلف عن كل حمأ تراه.
قلت: أنى لهم أن يسجنوا العقل.. العقل بيد صاحبه.. لا يستطيع أحد في الدنيا مهما كان أن يسلبه من صاحبه.
قال: إلا الوهابيون، ومن كان على شاكلتهم.. إن لهم القدرة على أن يقوموا بغسيل للعقل.. لا يعرف بعده معروفا ولا ينكر منكرا.. وهم يستغلون في ذلك أقدس كلام، وأعظم هدي.
قلت: ما تعني؟
قال: الوهابيون يستعملون النصوص المقدسة التي جبلت القلوب والبصائر على تعظيمها والتسليم لها ليقوموا بمهمتهم الخطرة.
قلت: للنصوص المقدسة من العصمة والقداسة ما يستحيل معه أن تمس طهارتها.. ألم تسمع قوله تعالى: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)(الواقعة)، وقوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)(فصلت)؟
قال: أجل.. هي كذلك.. ولكن ألم تسمع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان) ([1])
قلت: أجل.. وما في هذا مما نحن فيه؟
قال: إن هذا الحديث يتحدث عن عين ما نحن فيه.. إن هؤلاء لا يتقنون إلا هذا الفن من العلم.. إنهم يعمدون إلى أقدس كلام لينجسوه بأفهامهم المدنسة.
قلت: لم أفهم ما تقول.. أو لعلي لم أقتنع بما تقول.
قال: سأقص عليك قصة ربما تجعلك تعي ما أقول.
قلت: هلم بها.. فما أحلى قصصك.
نظر من نافذة البيت إلى الأفق البعيد، ثم قال: في تلك الأيام المظلمة زار بيتي صديق قديم لي، كان يسكن أمريكا، وكان عالما كبيرا من علماء الفلك.. وكان مسيحيا من المسيحيين العرب.. وقد جمعتني به صداقة قديمة، ولكنه أتاني في تلك الأيام لأمر خاص.. خاص جدا.. طلب مني أن أكتمه عن الكل..
لقد كان يبحث حينها عن الحقيقة.. وقد ذكر لي أنه ظهر له من جمال الإسلام وقوته وروحانيته ما لم يظهر له في المسيحية، ولا في أي دين آخر.
وكان من جملة ما قال لي: انظر.. الإسلام هو الدين الوحيد المنسجم مع العلم.. وهو الدين الوحيد الذي لم يقع فيما وقعت فيه سائر الديانات وخصوصا المسيحية من الصراع مع العلم([2]).
فلم يحدث في الإسلام ما حدث ل (ويكلف) الذي نبش قبره وأحرقت جثته.. ولا لــ (جون هيس) عميد جامعة براج الذي أحرق حيا.. ولا لــ (لوثر كنج) الذي عانى الكثير منهم.. ولا لـ (كلفن).. ولا لـ (نيكولاي كوبرنيكوس) الفلكي البولندي – رائد الانقلاب الذي حدث في علم الفلك، وحلت فيه الشمس في مركز النظام الشمسي – الذي أحرقته الكنيسة.
لم يحدث في الإسلام أن أحضر رجل بعظمة (جاليليو جاليلي) الفلكي المشهور إلى قاعة للتحقيق للإجابة على أسئلة المحقق للرد على الاتهامات التي وجهت إليه حول قوله بدوران الأرض ــ وهو قول مخالف لاعتقاد الكنيسة التي كانت تعتبر الأرض ثابتة وهي مركز الكون ــ حيث حوكم أمام عشرة من الكرادلة، وهي المحاكمة التي دفعته إلى التراجع عن رأيه، فكتب بخط يده: (أنا جاليلو جاليلي قد اعترفت بأخطائي علانية كما في أعلاه ودونتها بيدي)
لم يحدث في الإسلام أن اعتبر علم الكون هرطقة.. ولا محاولة فهم كتابكم المقدس لرجل غير رجال الدين هرطقة، كما حصل لنا.
بعد أن ذكر لي – متأسفا – هذا وغيره.. طلب مني أن أسير به لعالم من علماء الدين، ليسأله عن الإسلام، وليزداد معرفة به، ووعدني بأنه سيعتنق الإسلام إن زالت بعض الشبهات التي لا تزال تلاحقه.
عندما قال لي هذا، لم أجد إلا أن أسير به إلى عالم من علمائنا المعتقلين معنا في سجوننا المظلمة التي لم نكن نرى فيها سماء ولا نجوما.. كان يدعي المعرفة بكل شيء.. وكان أجهل الناس بكل شيء.. كان اسمه الذي يحرص أن ينادى به دائما رغم طوله هو (يحيى بن علي بن أحمد بن علي بن يعقوب الحجوري)([3])، وقد كان من أعمدة الوهابية في اليمن، وقد خلف الوهابي الكبير (مقبل بن هادي الوادعي) في التدريس في دار الحديث.
عندما دخلنا عليه مجلسه المكتظ بالمعتقلين، بادرنا مرحبا بي، ومغضيا في نفس الوقت عن صديقي الذي حضر معي، حتى أنه لم يمد يده إليه مصافحا، وقد فطنت إلى ذلك، فقد كان صاحبي حليقا.. والشيخ (يحي بن علي) كان يرى حرمة مصافحة حليقي اللحية قياسا على حرمة مصافحة المرأة.
لم أهتم بذلك، بل رحت أقدم صاحبي، قائلا: هذا صديق يبحث عن الحقيقة.. ليعتنقها.
قال يحي: فقد ولج الأمر من بابه.. فليس للحقيقة باب إلا بابنا.. وليس للسماء معراج إلا معراجنا.
قلت: ولذلك أتيت به إليك عساه ينتفع بكلامك.. فقد ذكر أن لديه شبهات يريد طرحها عليك لتجيبه عنها.
قال يحي: أجبني أولا.. ما وظيفته.. فلا يمكن أن يعالج المرض قبل أن يعرف المريض.
قلت: هو يعمل في (ناسا).
قال يحي: وما ناسا؟
قلت: هي وكالة الفضاء الأمريكية..
قال يحي: وكالة الفضاء!!.. وما وكالة الفضاء؟
قلت: هي المركز الذي يبحث فيه الفلكيون عن الكون وأجرامه وظواهره.. وهي تقوم في الأساس على: (الأرصاد الفلكية) و (الملاحظات التي يلاحظها العلماء الفلكيون) إما بالعين المجردة، أو بمعاونة الأجهزة العلمية المعروفة.
قال يحي: الفلكيون!!.. إنهم كذابون مخادعون سحرة.. لقد قال فيهم شيخنا شيخ الإسلام الناطق باسم الإسلام كلاما عظيما.. الآن عرفت مرضه.. فلا حاجة لأن يذكره لي.. وعرفت شبهته فلا حاجة أن يسردها علي.. بل أنا الذي سأتولى سردها عليه، وسأتولى فوق ذلك بما آتاني الله من علم أن أجيبه عنها.
احتار صاحبي في هذه القدرات العجيبة للشيخ يحي.. ولم يجد المسكين أي فرصة للحديث.. فقد أخذ الشيخ يحي بأزمة الكلام جميعا سؤاله وجوابه.
جلسنا بعد أن طلب منا الشيخ يحي الجلوس.. ثم أخذ المكبر، وراح يخاطب الجمع قائلا: اسمعوا.. سنرد اليوم بمعاول الهدم على شبهات خطيرة تنتشر في واقعنا انتشار النار في الهشيم.. سأرد عليها جميعا كالصبح الشارق الماحق لكل ظلام.. فاكتبوا جميع ما أمليه عليكم من حديثي مع هذا الرجل المارق..
قال بعض الحاضرين: فبماذا نعنون درسنا هذا.. نرجو أن يكون عنوانا جميلا كسابقيه.
قال يحي: العنوان بسيط وجميل كسائر العناوين التي أمليها عليكم.. اكتبوا (الصبح الشارق في الرد على الفلكي المارق)
ابتلع صاحبي المسكين غصته بعد أن تحول من مستفت إلى مارق.. لكنه كان صبورا حليما، فلم يتصرف أي تصرف قد يجر عليه الويلات.
بعد أن اعتدل الشيخ يحي في جلسته، نظر إلى الجمع، ثم قال: أول شبهة ننسفها هي شبهة (صعود الإنسان إلى القمر)
ضحك الحاضرون جميعا، وقالوا: الإنسان صعد إلى القمر!!.. في أي قصة هذا.. أو في أي أساطير.. وبأي أجنحة؟
قال يحي: اسمعوا.. (إن الكفار يدعون كذبا وزورا أنهم صعدوا إلى القمر، وهذه كذبة عظيمة بلغت الآفاق يستحق صاحبها أن يشرشر شدقه على قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه، ولا يزال يفعل به ذلك)([4])
التفت إلى صاحبي، فوجدته قد اصفر وجهه، وامتلأ رعبا.. واصل الشيخ يحي يقول: (وهذه الكذبة صنعها أعداء الإسلام لاحتقار من سواهم من المسلمين حيث لم يستطيعوا صعود القمر، ولغير ذلك من المقاصد الخبيثة، ونشرها الببغاوات.. وقد أنكرها ذلك السيف الصارم على البدع والمحدثات الشيخ حمود التويجري في كتابه (الصواعق الشديدة على أهل الهيئة الجديدة)، ومثله علامة اليمن شيخنا مقبل الوادعي حفظه الله برعايته، وجعله تحت بالغ لطفه وعنايته)
(وقد ظهرت هذه الكذبة منذ أكثر من أربعين سنة وإلى الآن فلم تتكرر ولم يأتوا لها بثانية، وحيث ظهر كذبُهم سكتوا إلا من لا يستحيي من هؤلاء.. ثم لماذا عِلْمهم هذا لم يتطور حتى يكون صعود القمر كصعود الطائرة الآن)
كبر الحضور معجبين بتلك الأدلة التي أوردها.. فانتفخ صاحبنا على كرسيه، ثم نظر إلي، وإلى من حوله، دون أن ينظر إلى صاحبي تورعا، ثم قال: أما الشبهة الثانية التي يريد هذا الرجل الحليق أن يطرحها علينا، والتي سننسفها بصبحنا الشارق، فهي قول الفلكيين السحرة الكذبة بوجوب أن يعتقد بأن (المجرة هي مجموعة كبيرة من النجوم)، وأن (الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة.. وأن هناك من النجوم ما هو أصغر من الشمس ومنها ما هو أعظم من حجم شمسنا)
وهذا كلام باطل من وجهين: أولهما أن هؤلاء الكذبة يريدون أن يوجبوا على الناس ما لم يوجبه الله ولا رسوله ومن المعلوم عند الفقهاء والأصوليين أن الواجب يثاب فاعله ويستحق العقاب تاركه، وعليه فإن من لم يعلم الواجب فهو آثم فبالله عليكم أي دليل من كتاب الله وسنة رسوله اعتمد هؤلاء على إيجاب أن يعلم الناس أن الشمس أكبر من الأرض، وأن بعض النجوم أكبر من الشمس حتى يصير من لم يعلم ذلك آثمًا؟ أليس هذا من التشدد في الباطل وفيما العلم به لا ينقذ من نار ولا يدخل جنة، والجهل به لا يضر في دنيا ولا أخرى؟
أما الوجه الثاني، وهو الطامة الكبرى، فهو قول الفلكيين السحرة الكذبة (إن من النجوم ما هو أكبر من الشمس)، وأنا أشهد بالله أن هذا كذب لا دليل عليه من كتاب ولا سنة.. لقد أمدنا الله عز وجل بأبصار ناظره، وبصائر مدركة مميزة واعية نفرق بِها بين الصغير والكبير من المشاهدات.. وهذا يعتبر علمًا اضطراريًا عند كل بشر من المبصرين.. فمن الذي صعد إلى الشمس الملتهبة والنجوم الغابرة في الأفق ووزنَها بِهذا الميزان الدقيق، ورجح له في الميزان أن بعض النجوم أكبر من الشمس؟
ثم إن هؤلاء الجهلة غفلوا عما قاله أبو الخطاب قتادة بن دعامة، فقد قال قولا فصلا في هذا الباب.. قال: (خلق الله النجوم لثلاث علامات يهتدى بِها وزينة للسماء ورجومًا للشياطين فمن تأول فيها غير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف مالا علم له به)
وغفلوا قبل ذلك عن القرآن.. كلام الله.. فقد رتب الله عز وجل المخلوقات على عظمها في كتابه فقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) (الحج)، ولا يليق ببلاغة القرآن أن يأتي بالمفضول قبل ما هو أعظم منه.
كبر الحاضرون، فازداد انتفاخ الرجل، ثم نظر إلي، وإلى من حوله، دون أن ينظر إلى صاحبي، ثم قال: أما الشبهة الثالثة التي يريد هذا الرجل الحليق أن يطرحها علينا، والتي سننسفها بصبحنا الشارق، فهي قول الفلكيين السحرة الكذبة بوجوب أن يعتقد بأنه (يمكن تحديد المسافة بيننا وبين الشمس)، بل إنهم زادو طين كذبهم بلة، فزعموا أن المسافة بيننا وبين الشمس هي (93) مليون ميل يقطعها الضوء في ثمان دقائق..
وهذه المسألة كسابقتها مبنية على التهوكات والتهويلات.. وإلا فإنكم تلاحظون ما إن يخرج قرص الشمس من المشرق إلا وتمتلئ الدنيا بالضوء دون أقل من دقيقة واحدة، ولو أن الشمس كانت تحت السحاب ثم تجلى عنها لرأيت أن الدنيا سرعان ما تضيء بدون تحديد أقصر زمن، وكذلك القمر فمن التخرص الذي لا يصدقه ذو عقل وبصر وفطرة سليمة أن يقال (إن الشمس حين تطلع جلية من المشرق أو في السماء لا يصل الضوء إلى الأرض إلا بعد ثمان دقائق وتبقى السماء صافية والشمس مضيئة مدة سبع دقائق والناس يشاهدون ذلك بين ظلمة الأرض وفي الدقيقة الثامنة يصل إليهم الضوء فتشرق الأرض)
فانظروا إخواني أعزكم الله إلى هذا الكلام السامج الذي يقوله الملاحدة يحاولون به إدخال الشكوك في قلوب جهال المسلمين وإضاعة أعمارهم في دراسة مثل هذا الهذيان الفارغ، بل الطعن في عقائد المسلمين وعلومهم والحط من قدر علماء الشريعة الإسلامية حيث لم يعلموا المسافة بين الشمس والأرض، ومن حسن حظهم أن تحصلوا على مجموعة خاوية من الحمقى والمغفلين يثبتون لهم هذه الأطروحات على أنَّها حقائق ويتعاونون معهم على الإثم والعدوان باسم الدين.. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وإن أرادوا أن الشمس لا تطلع والأرض مظلمة لكن عرفوا ذلك فيما يزعمون بسرعة الضوء ونحوه قلنا: كيف عرفوا ذلك وأنى لهم أن يعرفوا المسافة بسرعة الضوء في الأرض وأي ضوء وصل إلى الشمس وأضاء عليها على ذلك البعد الهائل من الأرض، فأفٍ لمن رضي بالكذب وأفٍ للكذابين.
عندما قال هذا كبر الحاضرون من فرط إعجابهم، فازداد انتفاخ الرجل، ثم نظر إلي، وإلى من حوله، دون أن ينظر إلى صاحبي، ثم قال: أما الشبهة الرابعة فهو زعمهم أن الكون في تمدد مستمر.. وهذا جهل عظيم..
قال بعض الحاضرين: ولكن الله تعالى يقول في القرآن: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) (الذاريات)
نظر إليه الشيخ يحي بشزر، ثم قال: هذا من التلاعب بالقرآن وليِّ أعناق النصوص لتبرير أفكار اليهود ونظرياتِهم.
ويدل على هذا أن جميع المفسرين الموجودة تفاسيرهم في مكتبة شيخنا العامرة يفسرون قوله تعالى: (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)، أي قد أوسعناها، أو بنحو هذا التفسير الدال على أن الله عز وجل قد خلق السموات وفرضها وأوسعها وفرغ منها حتى جاء هؤلاء المارقين يذكرون يفسرها بتفسير محدث يقتضي أن الله عز وجل لا يزال يزيد في السماء قليلاً قليلاً كحال من يعجز عن إيجاد الشيء دفعة واحدة تعالى الله عن ذلك.
كبر الحاضرون، فازداد انتفاخ الرجل، ثم نظر إلي، وإلى من حوله، دون أن ينظر إلى صاحبي، ثم قال: أما الشبهة الرابعة التي يريد هذا الرجل الحليق أن يطرحها علينا، والتي سننسفها بصبحنا الشارق، فهي قول الفلكيين السحرة الكذبة بـأن (الليل يحيط بالأرض من كل مكان، وأن الجزء الذي تتكون فيه حالة النهار هو الهواء الذي يحيط بالأرض ويمثل قشرة رقيقة تشبه الجلد وإذا دارت الأرض سلخت حالة النهار الرقيقة)
وللجواب على هذه الشبهة نقول: كيف استطاع هؤلاء أن يعرفوا سمك النهار، وأنه قشرة رقيقة تشبه الجلد فإن المعلوم يقينا أن الليل والنهار ليست له سماكة محسوسة بحاسة اللمس.. ثم إن المفسرين من سلفنا الصالح لم يفهموا هذا الفهم الذي فهمه اليهود والنصارى ونشره عنهم تلاميذهم.
كبر الحاضرون، فازداد انتفاخ الرجل، ثم نظر إلي، وإلى من حوله، دون أن ينظر إلى صاحبي، ثم قال: أما الشبهة الخامسة التي يريد هذا الحليق أن يطرحها علينا، والتي سننسفها بصبحنا الشارق، فهي زعمه أن (السحاب ماء يطير في الهواء فإذا كان كثيرًا تكونت منه السيول العظيمة)
قال بعض الحاضرين: ألا يمكن أن يستدل لهذا بقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (الزمر:21)
نظر الشيخ يحي بشزر إلى السائل، ثم قال: لا أزال أرى في عقلك لوثة لا يزيلها إلا فصل رأسك..
ثم التفت إلى الحضور، وقال: ليس في الآية دليل على هذا الباطل.. فالآية تدل على أن الله ينْزل من السماء ماءً، ثم إن هذا الماء ينتفع به أهل الأرض فيكون فيها ينابيع وتحصل منه الثمار ونحو ذلك ولا يعود إلى السماء، بل يبقى في الأرض كما هو ظاهر الآية.
ثم التفت إلى السائل، وقال: لم يذهب أحد من مفسري السلف الصالح إلى ما ذكرت، فهنيئًا لك تقليد المستشرقين الملاحدة الذين يطالبون بتجديد الدين فيما يزعمون فيريدون توحيدًا جديدًا وتفسيرًا جديدًا وفقهًا جديدًا كل ذلك على غير نَهج الأنبياء والمرسلين والسلف الصالح رضوان الله عليهم.. وتالله إن هذا لم يقله كبار المنافقين في القرون المفضلة. فينبغي لكل مسلم عنده محبة لدين الإسلام أن يحذر هذا الخطر الداهم ويحذِّر غيره منه.
كبر الحاضرون، فازداد انتفاخ الرجل، ثم قال: أما الشبهة السادسة التي يريد هذا الحليق أن يطرحها علينا، والتي سننسفها بصبحنا الشارق، فهي زعمه أنه (يمكن حساب الأشعة الشمسية التي ننتفع بِها في أرضنا)
وهذا مروق من القول.. فمن قدر ذلك فهو من الكاذبين لأن الله يقول: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)(إبراهيم).. ومن الذي استطاع أن يزن ضوء الشمس المتفرق في جميع أرض الله الواسعة فيحصره بِهذا العدد المحدود! وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: (إِذَا لَم تَستَحِ فَاصنَع مَا شِئتَ)([5])
كبر الحاضرون، فازداد انتفاخ الرجل، ثم قال: أما الشبهة السابعة التي يريد هذا الحليق أن يطرحها علينا، فهي زعمه أن (الأرض واحدة من الكواكب السيارة حول الشمس)، بل جاوز حده فاعتبر الأرض كوكبا، فقال – لا هداه الله- (الكوكب الأرضي)
انظروا ما يقول أصحاب العقول السخيفة.. ولكن حراس الحدود من أصحابنا وقفوا في وجه هؤلاء المدعين منذ زمان طويل:
فقد رد على هذا الادعاء أبلغ رد شيخنا الكبير محمد بن يوسف الكافي، فقد قال رادًا على بعض أشياع محمد عبده المصري: (قوله: (هي كوكب) كذب وافتراء على الله تعالى من سماها كوكبًا لأن الله تعالى الذي خلقها سماها أرضًا، والكوكب هو النجم ومحله العلو ومن صفاته الإضاءة والإشراق والأفول والطلوع والأرض بخلاف ذلك)([6])
ونقل عنه هذا الرد البليغ الشيخ الكبير (حمود التويجري) في كتابه (الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة)
بل رد على هؤلاء جميعا ابن كثير، فقد ذكر في تفسيره([7]) عدم الخلاف في أن الأرض خلقت قبل السماء بما في السماء من نجوم وغيرها، وذكر عند قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَا في الأَرضِ جَمِيعًا ثُمَّ استَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبعَ سَمَوَاتٍ، وغيرها، ثم قال: ففي هذه دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولاً ثم خلق السموات سبعًا وهذا شأن البناء يبدأ بعمارة أسافله ثم عاليه.
كبر الحاضرون، فازداد انتفاخ الرجل، ثم قال: أما الشبهة الثامنة التي يريد هذا الحليق أن يطرحها علينا، فهي زعمه أن (المجموعة الشمسية هي الشمس وما يدور حولها من كواكب كعطارد والزهراء والأرض والمريخ وغيرها، وأن كلا منها يدور في فلك محدود وطريق مرسوم)
وهذا كذب وافتراء، فأين الدليل على تسمية الأرض والنجوم شمسًا، ثم إن هذا تناقض مفضوح كيف يقول هذا الرجل وشاكلته أن الأرض كوكب واحد من الكواكب، ثم يقول إن الأرض هي واحد من مجموعة الشمس، فهذا القول فيه أن الكون كله متحد بعضه ببعض فالنجوم عندهم يقال لها أرض، والأرض من النجوم، والشمس يقال لها أرض، والأرض من الشمس، والنجوم من الشمس، والشمس من النجوم.. وهلم جرًا، فما أقرب هذا القول من قول ابن عربي الحلولي الكافر الذي يقول إن الله حال ومتحد في مخلوقاته، فيقول في شعره:
أنا الله والله أنا وإذا أبصرته أبصرتنا
فإذا أبصرتني أبصرته كلانا روحان حللنا بدنا
كبر الحاضرون، فازداد انتفاخ الرجل، ثم قال: أما الشبهة التاسعة التي يريد هذا الحليق أن يطرحها علينا، فهي زعمه أن (المجرة هي مجموعة كبيرة جدًا من النجوم.. وأن علماء الفلك يعتقدون أن في مجرتنا حوالي مائة مليون نجم في مدينتنا النجمية)
وقد رد الله على هذه السخافات، فقال: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11)(الذاريات).. فكل ما يقوله هؤلاء مبني على الهوس والوساوس الإبليسية والتقليد والثقة بأعداء رب البرية من ذوي الملل والنحل اليهودية والنصرانية ليزاحموا بِهذه التخرصات علوم الكتاب والسنة النبوية فيشغلوا بذلك السذج من أبناء المسلمين والذين لا يهمهم أمر هذا الدين فيبقون على هذه التراهات عاكفين وبِها معجبين ومفتخرين، فيقتلون فيها الأوقات ويضلون بِها العامة وأشباههم من ذوي الجهالات فيغضبون بذلك رب الأرض والسموات.. فتبًا لمن أعرض عن ذكر الله وسنة رسوله وأقبل على دعم كيد الماكرين من أهل الشرق والغرب واليونان.
***
عندما بلغ الحديث بالشيخ يحي إلى هذا الموضع أذن المؤذن.. فقطع حديثه.. ثم قمنا إلى الصلاة.. وبعد الخروج من المسجد اجتهدت في البحث عن صاحبي المسيحي العربي.. لكني لم أجده.. ومنذ ذلك الحين لم أجده..
لقد فر المسكين
بجسده خشية أن يحصل له ما حصل لــ (ويكلف) أو (جون هيس) أو (لوثر كنج) أو (نيكولاي
كوبرنيكوس) أو (جاليليو جاليلي) ممن أخبرني عن أحاديثهم متأسفا.
([1]) الطبراني في معجمه الكبير 18/237.
([2]) تحدثنا بتفصيل عن هذا في (ثمار من شجرة النبوة)، و(معجزات علمية)
([3]) انظر ترجمته لنفسه على هذا الموقع: (http://www.sh-yahia.net/show_news_10.html)، وننبه هنا إلى أن القصة التي نوردها هنا ليست حقيقية، وإنما هي رمز لما يفعله هؤلاء لأتباعهم.. بدليل أن الأفكار التي يطرحونها لا ندعيها عليهم، بل نقتبسها من كتبهم، وقد اقتبسنا النصوص الواردة هنا من كتاب (الصبح الشارق على ضلالات عبد المجيد الزنداني في كتابه توحيد الخالق ) للشيخ يحي بطل هذه القصة.
([4]) الكلام المنقول بين قوسين من كتاب (الصبح الشارق على ضلالات عبد المجيد الزنداني في كتابه توحيد الخالق ) للشيخ المذكور، يمكن تصفحه وتحميله من خلال هذا الرابط: (http://www.sh-yahia.net/show_books_12.html)
([5]) رواه البخاري.
([6]) انظر: (الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة) ص (117)
([7]) تفسير ابن كثير (ج1 ص69)