فضل الله.. والحواريون

لم يجد السائق بعد أن قرأ ربيع نص المباهلة سوى أن ابتسم ابتسامة ساخرة، ثم قال: لا بأس.. لن أفرض عليك أن تستمع شيئا يخالف معتقدك.. ولكن بما أنك ذكرت أن هناك من كتب كتابا في مناقشة حسن بن فرحان سماه (حوار مع المالكي)، فقد ذكرني ذلك بشريط لي يتحدث عن ضوابط الحوار في القرآن الكريم وآدابه.. وهو مفيد جدا لأن للحوار آدابه الشرعية التي تجعله يؤتي ثماره لا محالة.
قال ربيع: من صاحب الشريط؟
قال السائق: دعنا من هذا.. لأن الأسماء تجعلنا نختلف.. فلنأكل المبقلة، ودعنا من اسم البقال.. ولنأكل اللحم، ودعنا من اسم الجزار.
قال ربيع: ويلك.. وما أدراني، فقد يكون الجزار مجوسيا أو مشركا.. أتريدني أن آكل اللحم الحرام.
قال السائق: المتحدث رجل ملئ إيمانا وعلما ووقارا وأدبا وحبا للوحدة الإسلامية وحرصا عليها.. وهو ينطلق في كل ما ذكرت من القرآن الكريم.. وقد كتب في ذلك كتابا حول (الحوار في القرآن الكريم)
قال ربيع: لم يكتب هذا الكتاب إلا رجل ملئ ضلالة وجهلا وبغيا..
قال السائق: لا تقل هذا.. لعل شخصا آخر كتب بنفس العنوان.
قال ربيع: أتقصد الهالك محمد حسين فضل الله؟
قال السائق: أجل يا بني أنا أقصده.. ولكنه ليس كما وصفت، فقد كان رجلا صالحا، بل كان رائد الوحدة والحوار.. لا يضيق صدره بأي مخالف له، بل يجلس معه، ويحادثه بكل لطف وأدب.. لقد دعا إلى إذابة الجليد بين المتناحرين المتقاتلين ليحل اللسان بدل السنان، والحجة بدل الدبابة، والبرهان بدل الدماء التي تسيل من كل جانب.. لقد سمعته يصرخ في كل ناد: (إن الله علمنا أن نحاور كل الناس، ولا توجد مقدسات في الحوار، فقد حاور الله تعالى إبليس، فهل هناك من الناس من هو مثل إبليس؟ كما أن القرآن هو كتاب حوار مع المشركين في توحيد الله، ومع الكافرين في وجود الله وفي نبوة النبي، كما حاور المنافقين، لذلك نعتبر أن عظمة القرآن في أنه كتاب الحوار المقدس الذي يقول لك إن مسألة أن تؤمن هي أن تفكر وتقتنع، وبالتالي أن تحاور..)([1])
قال ربيع: هذا ديدين المبتدعة في كل عصر.. إنهم يدعون إلى الحوار لينفذوا بشبههم إلى عقائدنا المصونة.. عقائد أهل السنة والسلف الصالح.. لقد حذرنا السلف من الحوار مع المبتدعة أو الجلوس إليهم حتى لا تسري إلينا سمومهم.. لقد قال الإمام اللالكائي مبيناً خطر مناظرة أهل البدع، وما تؤدي إليه: (فما جنى على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجماعة يموتون من الغيظ، كمداً ودرداً، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلاً)([2])
وقال أبو إسماعيل الصابوني عن أهل السنة: ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم، ولا يصحبونهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين، ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان وقرت في القلوب ضرت وجرت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرت.
وقال أبو المظفر السمعاني: واعلم أنك متى تدبرت سيرة الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح، وجدتهم ينهون عن جدال أهل البدعة بأبلغ النهي.
وقال البربهاري: وإذا أردت الاستقامة على الحق وطريق أهل السنة قبلك، فاحذر الكلام وأصحاب الكلام، والجدال والمراء والقياس والمناظرة في الدين، فإن استماعك منهم – وإن لم تقبل منهم – يقدح الشك في القلب.
وقال الآجري بعد كلامه على هجر أهل البدع: فإن قلت: فلم لا أناظره وأجادله وأرد عليه قوله؟ قيل له: لا يُؤمن عليك أن تناظره وتسمع منه كلاماً يفسد عليك قلبك، ويخدعك بباطله الذي زين له الشيطان، فتهلك أنت.
وقال ربيع بن هادي المدخلي..
قاطعه السائق، وقال: ولكن الله تعالى ذكر عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنهم حاوروا أقوامهم، وذكر عن أتباع الأنبياء أنهم كانوا يحاورون بهدوء وأدب المخالفين لهم.. ولعلك قرأت سورة الكهف، وقرأت فيها حوار الصاحبين.. ولعلك قرأت سورة يس، وقرأت فيها حوار المؤمن مع أهل قريته.. ولعلك قرأت سورة غافر، وقرأت فيها حوار الذي يكتم إيمانه.
قال ربيع: أأنت أفقه أم سلفنا الصالح الذي خبروا القرآن وأحاطوا بمعانيه.. نحن لا نفهم القرآن إلا بمرآة السلف.. فهم أطهر الناس قلوبا، وأكثرهم عقلا، وأكثرهم تدينا.
قال السائق: ولكن القرآن الكريم ذكر عن الأنبياء وأتباعهم ما ذكرت لك.
قال ربيع: تلك شرائع من قبلنا.. ونحن لسنا ملزمين بها.
قال السائق: ولكن الله تعالى قال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [العنكبوت: 46] أليس في هذا دعوة للحوار مع المخالفين.. بل علمنا الله كيف نبحث عن المشتركات لننطلق منها لعلاج المختلف فيه.
قال ربيع: ويلك.. أنت مثل الذي قال عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن).. ألا تعلم أن القرآن حمال وجوه.. ولا يقينا من سوء الفهم له إلا سلفنا الصالح.
قال السائق: ولكني قرأت أن سلفك الصالح كانوا يناظرون المخالفين.. وقد ذكرت لي بعض ذلك سابقا.. فالإمام أحمد ناظر الجهمية..كما ناظر عثمان بن سعيد الدارمي بشرًا المريسي..
قال ربيع: وهل
يوجد في الدنيا أحد يشبه الإمام أحمد حتى يحل له أن يناظر أو يحاور.. ألا تعلم أن
النساء عقمت أن تلد مثله.. أم تحسب أن هذا الصعلولك الدعي الرويبضة يريد أن ينزل
نفسه منزلة ابن حنبل ذلك الذي هابه كل شيء حتى العفاريت والمردة.
([1]) حوارات في الفكر والسياسة والإجتماع ص248.
([2]) هذ النص وما يليه من النصوص من كتاب (مناظرة أهل البدع دراسة منهجية و رؤية تأصيلية) للشيخ سليم الهلالي.