فرعون

فرعون

شد سمعي صوت قبيح يفوح بكل ألوان الألم، فرفعت بصري لأرى من يخاطبني، فرأيت منظرا لا يمكنني ـ مهما حاولت ـ وصفه.

قلت: من أنت؟.. فإن لك من القبح ما يصرف الأبصار عنك.

قال: هذا جزاء موافق لجرائمي.. فقد كنت ظالما مستبدا، ولم أكتف بذلك، بل رحت أزاحم الله ألوهيته.

قلت: من أنت أولا؟..

قال: أنا فرعون.. عدو السلام الأول.. أنا المستبد الذي حارب الله، واستهزأ به، وأراد أن يطلع عليه.. أنا الذي صحت بملء في :{ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (النازعـات:24)

وليتني اكتفيت بذلك، بل رحت أسوم عباد الله الخسف، وأذيقهم الهوان.. لقد حاربت رسل الله الممثلين في موسى وأخيه بكل صنوف المحاربة.

ولم أكتف بذلك، بل رحت أحارب أقرب الناس إلي، زوجتي التي أرسلها الله وزيرا صالحا يعينني، لكنني أبيت إلا أن أسيمها الخسف الذي لا أزال أتجرع آلامه.

قلت: وليتك اكتفيت بذلك.. بل رحت تحارب علماء قومك الذين عرفوا الحق فاهتدوا به.

قال: أجل.. أذكر ذلك، وأتألم له، لقد قلت حينها بكبريائي الذي لم يكن يعرف الحدود: { آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } (طـه: 71)

لقد كنت أتصور أنه لا ينبغي لأحد أن يفكر أي تفكير قبل أن آذن له، ولم أكن آذن للتفكير أن يخرج عن إطار التفكير في مصالحي التي لا تنتهي.

قلت: وأنت قد حاربت اللاجئين إلى أرضك، والأقلية المستضعفة في بلدك.

قال: أجل.. ذلك صحيح، وقد سجله ربي في القرآن الكريم، لقد قال عند ذكره لبعض جرائمي، وهو يمن على المستضعفين الذين أخطأوا في التعامل مع فضل الله :{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (البقرة:49)

قلت: وأنت قد حاربت رعيتك بعد ذلك كله، فاستعبدتهم، وحلت بينهم وبين عبادة الله.

قال: أجل.. لا أزال أذكر الخطبة التي قلت فيها :{ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} (الزخرف:51 ـ 53)

قلت: لا أزال متعجبا من طاعة قومك لك.. أكانوا يملكون عقول عصافير.. ألم يكن ضعفك واضحا لديهم؟

قال: دعني منهم.. فلولاهم ما ادعيت ما ادعيت.. إن ضعف الرعية وذلتها وهوانها هي سبب ما ينزل بها المستبد من ألوان الهوان.. إنهم شركاء في كل الجرائم التي وقعت فيها.. ألم تسمع قوله تعالى:{ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} (الزخرف:54)

سمعت أصواتا كثيرة قبيحة ـ كقبح صوت فرعون ـ ترتفع، وكأنها تحتج..صحت: ما هذا الصياح الذي يصخ الآذان؟

قال الصوت: ألا ترى ما يقول هذا المستبد الذي لم يكتف بما أذاقنا من ألوان الهوان في الدنيا، حتى راح يحملنا أوزاره..

قال فرعون: ولكنكم كنتم تزينون لي ما أنا فيه.. لقد كان شعراؤكم هم الذين أوحوا إلى نفسي فكرة ادعاء الألوهية.. وقد نشرت في أغانيكم التي ترسلونها في مدحي من النشوة ما جعلني أصيح في وجه مستشاري :{ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (القصص:38)

قلت: من هؤلاء الذين يخاصمونك وتخاصمهم؟

قال: ألا تقرأ كتاب ربك؟

قلت: بلى.. أقرؤه، ولكني لم أسألك عنه.

قال: فهؤلاء هم الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى:{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سـبأ:31 ـ 33)

قلت: بلى.. لقد ورد مثل هذا في مواضع من القرآن الكريم.

قال: فأخبر قومك من المستضعفين أن ضعفهم لن ينفعهم، ولن يكون لهم حجة عند الله تعالى، فموازين الله من العدالة بحيث لن يضيع فيه إجرام مجرم، ولا عدل عادل.

قلت: أراك تتقن الوعظ والنصيحة.

قال: وما لي لا أكون كذلك، وقد عاينت الحقائق التي كنت محجوبا عنها بكبريائي وغطرستي.

قلت: لقد ذكرك الله في القرآن الكريم، وملأ قلوب المستضعفين لك كراهية.

قال: أنتم تقرأون كلام ربكم، ولا تسمعونه، إن القرآن الكريم لم يقصد شخصي، فأنا أقل شأنا من أن يتكلم الله عني في وحيه المنزل لهداية عباده.. ولكن الله تعالى ذكرني ليبين سنة الاستبداد وكيفية مواجهتها..

قلت: أهناك غيرك ممن هم مثلك؟

قال: بل هناك الكثير ممن هم أعظم إجراما مني.. وأنا لست سوى مجرد قزم صغير بينهم.

قلت: متى حصل هذا؟

قال: في كل فترات التاريخ.

قلت: وفي عصرنا؟

قال: كما في كل العصور.. إن فرعون الذي أمامك لا يمثل شخصا قد غمرته مياه البحار ذات يوم، وانتهى أمره، وانتهت قصته، بل فرعون موجود في كل مكان، وفي كل محل تتخذ فيه القرارات السهلة أو القرارات الصعبة.

هو في مجلس الأمن يجثم على صدر كل من يصوت للحروب، ويدعو للحروب بأسمائها المختلفة.

وهو في مجالس الحكم يقمع المظاهرات التي تطالب بالحقوق البسيطة والمعقدة.

وهو في صدر المعلم والأستاذ الذي يتكبر على تلاميذه وطلبته، ويبث فيهم روح الكبرياء.

وهو في صدر ر ب الأسرة الذي يأمر وينهى، وكأنه إله من دون الله.

كلهم يقولون :{ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (النازعـات: 24) من حيث يشعرون، ومن حيث لا يشعرون.

قلت: ألهذا يقص القرآن الكريم علينا قصتك، ويكررها كل حين، بل يجمع بين رسالتي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وموسى عليه السلام، ويخبر أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم مرسل إلينا كما أرسل موسى إلى فرعون، كما قال تعالى:{ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} (المزمل:15)

قال: أجل.. والحرب التي ينشئها فرعون المختبئ في كل هذه النفوس تبدأ من الحروب الكبرى التي تقتل الآلاف والملايين، وتنتهي بالحروب النفسية وأشكال الصراع التي تدمر الحياة، أو لا تبقي من الحياة غير الأطلال.

قلت: فما النهاية التي ينتهي إليها كل هؤلاء الفراعنة؟

قال: ما تراه الآن.. هذه الأغلال والقيود.. وهذه الحيات والعقارب.. وهذا العذاب النفسي المرير الذي نعانيه كلما تذكرنا الفرص العظيمة التي وهبناها، والغفلة العظيمة التي طوقتنا..

قلت: أخبرني بصدق.. ألم تبهرك كل تلك الحجج التي جاء بها موسى عليه السلام.. والتي آمن السحرة بمجرد رؤيتهم لها؟

قال: بلى .. لقد بهرتني .. وعرفت من خلالها صدق موسى .. وأن هناك إلها حقيقيا.. وأنني لم أكن سوى إلها مزيفا..

قلت: فلم لم تسلم له كما سلم السحرة؟

قال: ولم لم يسجد إبليس لآدم؟ ألم يكن يعلم أن الآمر بالسجود هو الله؟

قلت: بلى.. ولكن كبرياءه وحسده منعاه من ذلك.

قال: وكذلك كبريائي وحسدي منعاني من ذلك .. لقد كنت أرى نفسي ضخما بحيث لا يمكن لأحد أن يتجاهل مكاني ومكانتي حتى الله نفسه .. ولذلك رحت أقول لقومي المغرمين بي: { يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) } [الزخرف: 51 – 54]

قلت: أجل .. لقد ذكر الله تعالى كبرياءك وكبرياء الملأ من حولك، فقال: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُّجْرِمِينَ. فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ. قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [يونس:75-77]

قال: صدق ربي .. لقد وصفت الآيات التي تلوتها حقيقتي وحقيقه ما كنت أفعله من حيل لأصرف قومي عن اتباع نبي الله، والخضوع لآيات الله.. لقد كنت أصورها لهم كما صورها كل المشاغبين على الرسل بأنها من السحر.

قلت: أجل .. لقد أخبر الله تعالى أن سنة الملأ من المستبدين والمستكبرين رمي الأنبياء بالسحر.. فقد قال تعالى يصف موقف الملأ من قريش من الآيات التي جاءهم بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } [يونس: 2]

وقال معمما هذه السنة على جميع أنواع الملأ: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52]

قال: ولكن الله مع ذلك.. ومع كبريائي وتعنتي .. أعطاني الفرصة تلو الفرصة، لعلي أعود إلى وعيي .. وكانت أعظم فرصة فوتها ولم أحسن التصرف معها موقف السحرة.. أولئك الذين كانوا مقربين لدي .. وكنت أثق فيهم.. بل كنت أجعلهم واسطة بيني وبين قومي.. وعلى يديهم كنت أنفذ الكثير من مخططاتي.

لقد آمن هؤلاء السحرة بمجرد أن رأوا الآيات.. وكان في إمكان أن أؤمن بعد إيمانهم، وبسبب إيمانهم.. لكن كبريائي واستبدادي وقفا حجابا بيني وبين ذلك.

قلت: لقد قص الله تعالى علينا ذلك، فقال: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) } [طه: 70 – 76]

أخذ يصيح بصوت عال ممتلئ بكل ألوان الآلام، ثم راح يقول: لا أزال أتذكر جيدا تلك الطريقة الرهيبة التي عذبتهم بها.. ومع ذلك لم يخضعوا، ولم يلينوا، بل راحوا يسخرون من عذابي لهم.. وصدقوا .. فأنا الآن أتجرع في كل لحظة ومنذ آلاف السنين ملايين أضعاف العذاب الذي أذقته لهم.

قلت: لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: { فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) } [غافر: 45 – 47]

قال: لقد ذكرتني بذلك المؤمن الذي كان من أصحابي، ومن أتباعي في ظاهر الأمر، لكن قلبه كان مع الله.. كنت أشعر بذلك.. لكن يداي لم تكن تستطيعان النيل منه.. لست أدري لم.. لقد كنت أشعر كأنه يسكن في برج عاج لا يمكن لي ولا لجنودي أن يرقوا إليه، أو ينالوا منه.

قلت: لقد ذكره الله تعالى، وذكر خطبته البليغة، فقال: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا } [غافر: 28، 29]

قاطعني فرعون، وقال: لقد امتلأت غيظا حين قال هذا الكلام، ولذلك رحت أصيح بكل قوة فيه، وفي الملأ من حولي: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]

قلت: لكن صياحك لم يرهبك، ولم ينل من عزيمته، بل راح يعقب عليك بقوله: {يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)} [غافر: 30 – 35]

قال: في ذلك الحين.. وبعد أن بلغ الغضب مني كل مبلغ، وخشيت على الملأ من حولي أن يتأثروا لقوله، أو يصيبهم ما أصاب السحرة، رحت أستنجد بوزيري المخلص هامان.. وحينها تذكرت حيلتي الشيطانية التي لا يزال كل المستكبرين والملاحدة يرددونها.. لقد قلت له: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } [غافر: 36، 37]

قلت: لكن الرجل المؤمن لم يتأثر لكلماتك.. بل راح يصيح هو الآخر مخاطبا عقلك وعقول الملأ من حولك: { يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) } [غافر: 38 – 40]

قال: حين قال هذا رحت أستعمل كل أساليب في الترغيب والترهيب عساها تنزله من برجه العاجي.. لكنه لم يتلفت لذلك بل راح يخاطبني ويخاطب الملأ حولي بقوله: {وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)} [غافر: 41 – 44]

قلت: أرى أن هذا الرجل المؤمن ومثله السحرة حدثوك عن الجنة والنار.. وعن النعيم والعذاب..

قال: أجل.. كانوا يذكرونني هذا الموقف الذي أعيش فيه.. وكانوا يصورونه لي بكل دقة.. لكني ـ لكبريائي وغروري ـ لم ألتفت لتلك المشاهد الجميلة والمؤلمة التي يصورونها لي.. لأن بصيرتي كانت لا ترى إلا ذاتي، وقلبي لم يمكن يسكن فيه غيري.. ولذلك حجبت عن الحقيقة، وأنا الآن أدفع فاتورة ذلك الحجاب.

قلت: لقد ذكر الله تعالى أنه ابتلاك وقومك بأنواع من البلاء لعلكم تبصرون، فقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } [الأعراف: 133]

قال: أجل.. فقد حصل لنا ما ذكره القرآن بدقة .. وتعذبنا بذلك عذابا أليما.. واضطررت حينها إلى أن أستنجد بموسى عن طريق بعض أتباعي المخلصين.. عساه يخلصنا مما حصل لنا.

قلت: لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال:{ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 134]

قال: وقد استجاب موسى المؤمن الطيب الصادق لاستنجادنا، فراح يدعو الله بكل صدق أن يخلصنا مما حصل لنا.. لكننا وبعد أن كشف عنا البلاء رحنا ننكث العهود.

قلت: لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف: 135]

قال: وحينها حلت بنا سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير ولا تحابي أحدا من الناس.

قلت: لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } [الأعراف: 136]

قال: صدق ربي فيما قال.. فقد أقام علينا الحجة، وأرسل لنا الرسل، لكن الشياطين التي كانت مستوية على عروش قلوبنا حالت بيننا وبين التسليم للحق أو الإذعان له.. وهذه هي العاقبة التي ينالها كل مستكبر طاغية ظالم.

***

بينما كنا كذلك إذا بمرآة تتنزل من السماء.. ثم يظهر على صفحتها الجميلة الصافية مناظر ممتلئة بالجمال.. وكأنها الجنة بعينها قد تنزلت في تلك الكهوف المظلمة..

تصورت في البداية أنها نوع من النعيم يساق للمعذبين في تلك الكهوف كنوع من الراحة لهم.. لكني وجدت فرعون يصيح بكل أنواع الألم.. ويغمض عينيه حتى لا يرى تلك المرآة الجميلة.

فجأة ظهرت على سطح المرآة الصقيلة صورة امرأة في منتهى الجمال، كانت تقول بصوت جميل فصيح: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11]

التفت لفرعون، وقلت: هل هذه امرأتك؟

قال: أجل.. كانت في يوم من الأيام امرأتي.. ولكن شتان بيني وبينها اليوم.. فأنا في كل يوم أعذب بالنظر إليها، وبسماع مناجاتها ودعائها.. لقد كانت آية من آيات الله التي أرسلها الله لي.. والتي لا تقل عن آية العصا واليد البيضاء.. لكني أعرضت عنها.. بل رحت أعذبها عذابا شديد.. وها أنذا، ومنذ آلاف السنين أتعذب لتعذيبي لها.. وأتعذب فوق ذلك لإعراضي عنها.

راح يعض على أصابعه، حتى يسيل الدم منها، ثم يقول: ليتني سمعت لكلماتك.. ليتني سمعت لتضرعاتك.. ليتني تخليت عن كبريائي واتبعتك.. ليت أمي لم تلدني.. { يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا } [الفرقان: 27 – 29]

قلت: لقد أكرمها الله بأن ذكرها في القرآن الكريم.. بل أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنها إحدى سيدات الجنة الأربع، ففي الحديث عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خط أربعة خطوط، فقال: ( تدرون ما هذا؟) فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : (أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم ابنة عمران)([1]

قال: وحق لها ذلك.. فقد ابتلاها الله بأن تعيش في قصري لترى فيه كل ألوان النعيم.. لكنها تعرض عنها جميعا لتختار جوار الله.. وتختار ما عند الله.. لقد كان لها من القوة ما قهر كل كبريائي وجبروتي.

قلت: لقد روى المفسرون([2]) عن بعضهم، قال: (كانت امرأة فرعون تعذّب بالشمس، فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة)، ورووا عن آخر قوله: (كانت امرأة فرعون تسأل من غلب؟ فيقال: غلب موسى وهارون. فتقول: آمنت بربّ موسى وهارون؛ فأرسل إليها فرعون، فقال: انظروا أعظم صخرة تجدونها، فإن مضت على قولها فألقوها عليها، وإن رجعت عن قولها فهي امرأته؛ فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء، فأبصرت بيتها في السماء، فمضت على قولها، فانتزع الله روحها، وألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح)

قال: دعك من هذا.. فما حصل لها كان أعظم من أن يصوروه.. وسل نفسك عن سر ذكر الله تعالى لها في كتابكم.

قلت: لقد ذكر ذلك بعضهم، فقال: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ) وكان أعتى أهل الأرض على الله، وأبعده من الله، فو الله ما ضرّ امرأته كُفر زوجها حين أطاعت ربها، لتعلموا أن الله حكم عدل، لا يؤاخذ عبده إلا بذنبه)([3]

قال: وذكرها ليبين لكم أن مواجهة المستكبرين من أمثالي لا تحتاج إلا إلى الإيمان القوي.. فقد كانت امرأة مستضعفة.. وكانت في قصري.. وكانت ترى بعينها ما أفعل بأعدائي.. ومع ذلك واجهتني ولم تركن لظلمي.. فأي حجة لمن يدعي الاستضعاف بعدها.

قلت: صدقت.. فقد جمع لها كل ألوان الاستضعاف، ومع ذلك كان لها من القوة ما واجهت به أعتى الطغاة.

***

انصرفت امرأة فرعون ليظهر بعدها شباب ممتلئين قوة وجمالا ونورا.. فراح فرعون يغض طرفه عن النظر إليهم.. ويصيح بكل ألوان الألم..

سألته عنهم، فقال: هؤلاء هم سحرتي .. هؤلاء هم الذين كنت أتعزز بهم، وأسيطر بهم على قلوب الرعية.. لكنهم ومع كل الجرائم التي شاركوني فيها، استطاعوا أن يتخلصوا منها في طرفة عين.. لقد عرفوا أن الله غفور رحيم.. فلذلك طرقوا أبواب مغفرته ورحمته، وسقوا من بحارها العذبة ما نقلهم من زمر الأشقياء إلى مصاف الأولياء.

قلت: لقد ذكر المفسرون أنك تفننت في تعذيبهم.

قال: وهم الآن يتفنون في تعذيني .. إن كل لحظة أراهم فيها، وأرى ما هم فيه من النعيم الذي كان يمكنني أن أشاركهم فيه يجعلني أتعذب بأعظم من عذاب النار نفسها.. إن نار رؤيتي لهم تمتد لفؤادي لتحرقه، وتغمره بكل ألوان الأسى.

فجأة اختفت المرآة.. ثم جاءت كلاليب كثيرة.. وأخذت بقدمي فرعون وعنقه وكل أعضائه.. وراحت تجرها على الجمر الملتهب.. فأسرعت مبتعدا عنها..


([1])  رواه أحمد والحاكم.

([2])  انظر: تفسير الطبري  (23/ 500)

([3])  تفسير الطبري (23/ 500)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *