رفع المصاحف

رفع المصاحف

لا أخفي عليكم – معشر القراء الأعزاء – أني مع كوني مسلما، ولا أقدس في حياتي شيئا كما أقدس القرآن الكريم، والسنة المطهرة:

ذلك أن الأول هو كلمة الله الأخيرة للبشرية، وهو الكلمة التي تسمع الصم، وتحيي الموات، وتخاطب النفس من أعمق أعماقها.

وأما الثاني فهو هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي اختاره ربه ليكون أنموذجا مثاليا يقتدي به الخلائق جميعا، وهو الواسطة الإلهية لكل الكمالات الإنسانية وغير الإنسانية.

ولكني مع هذا التقديس أكره المتاجرة بهذا الكتاب العظيم، كما أكره المتاجرة بالسنة المطهرة.

وكان أول من زرع هذه الكراهية في نفسي ذلك الجيش الذي عندما أحس بالهزيمة رفع المصاحف، ليستخدمها وسيلة لتحقيق مآربه الخسيسة.

وبقيت المصاحف ترفع في كل الأجيال، وبيد كل المنافقين والكذابين والدجالين إلى أن جاء عصرنا الحديث، فأصبحت تجارة رفع المصاحف تجارة رائجة يلجأ إليها كل حزب أو حركة أو توجه لم يجد له من الناس من يقف بجانبه، لكنه ما إن يرفع المصاحف، ويقول: (أيها الناس تعالوا لنتحاكم إلى هذا المصحف)، تجد الناس خلفه يسيرون.. شعروا أو لم يشعروا.

لن أطيل عليكم.. بل سأقص عليكم قصة حوار جديد حول هذا الموضوع، وهو يتعلق بصديق لي، ولذلك لن أسميه خوفا على نفسي من جهة، وخوفا على أن تنصرف تلك الجماهير الكثيرة التي وثقت به، ورفعته إلى أعلى المناصب، مع أن المسكين ليس له أي برنامج.. بل ليس له أي كفاءة علمية ولا عملية إلا كفاءة الكنس والطبخ والحراسة.

وقد جاءني قبل أن يفكر هذا التفكير يطلب مني أن أتوسط له لدى مدير الجامعة التي أعمل فيها ليعمل أي عمل.. كناسا.. أو طباخا.. أو حارسا ليليا.. أو نهاريا..  المهم أن يعمل، ويتخلص من البطالة التي طال عليه أمدها.

لكني أخبرته أني أقل شأنا من أن أكون واسطة، لأني إن تقدمت بأي طلب للمدير فإنه سيعتبر ذلك مني جسارة، وتعد لحدودي، ولذلك فإن علي أن أتقدم بالطلب أولا إلى من هم دونه إلى أن يصل الطلب إليه أخيرا بعد أن أكون قد استغنيت عنه أو فات أوانه.

نظر إلي صديقي بأسف، وقال: واحسرتاه فيك، كنت أظن أنك تستطيع أن تخدمني.. ولكن لا بأس.. سأعرف كيف أتصرف مع هذا المدير وأمثاله..

ضحكت في نفسي من غير أن أسمعه، وقلت له: وما الذي تستطيع أن تفعل أيها المسكين؟

ابتسم، وقال: سأفعل ما فعله الجميع.. ابتداء من ذلك الجيش المنهزم الذي استطاع أن يحول هزيمته إلى نصر، أو ما يشبه النصر.. وانتهاء بكل الأجيال التي استطاعت أن تضحك على من تشاء كيف تشاء.

قلت: لم أفهم مرادك.

قال: أليس لديك بعض المصاحف لتعيرها لي.. لا تقل: إن هذا أيضا ليس في إمكانك.

قلت: بلى.. هذا في إمكاني.. بل يسرني كثيرا أن تهتم بقراءة القرآن الكريم، وتنشره، اذهب إلى أي مكتبة، واشتر أي عدد شئت من المصاحف، وسأدفع ثمنه.. ألا تعلم أني سأنال أجر كل من قرأ من هذه المصاحف؟

ابتسم، وقال: لا بأس.. سأفعل.. ولكن أريد – بحكم الصداقة التي بيننا – أن أخبرك بأنني لا أريد بهذه المصاحف ما تريد.

قلت: وما الذي تريد منها إذن؟

قال: أرفعها كما رفعها سلفي.. أليس اتباع السلف سنة؟

قلت: السلف الصالح.. لا السلف الطالح.. فأي سلف تقصد؟

قال: لقد اجتمع سلفنا في يوم من الأيام في صفين.. وأنا أريد أن أقتدي بالسلف الذين رفعوا المصاحف.

قلت: ويلك.. تلك الفئة الباغية الظالمة.. إنها رفعت المصاحف زورا وبهتانا.. وهي في حقيقة حالها لم تكن ترفع المصاحف، وإنما كانت تهينها وتدنسها.

قال: ولكنها استطاعت أن تحقق مآربها.

قلت: أي مآرب خسيسة حققت إنها لا تعدو حطاما قليلا من الدنيا.. أما في الآخرة فإن جزاءها عند الله عظيم.. ألم تقرأ ما ورد في الحديث: (قراء القرآن ثلاثة: رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة فاستحرمه الملوك واستمال به الناس، ورجل قرأ القرآن فأقام حروفه وضيع حدوده، كثر هؤلاء من قراء القرآن لا كثرهم الله تعالى، ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله وأظمأ به نهاره وقاموا في مساجدهم وحبوا به تحت برانسهم، فهؤلاء يدفع الله بهم البلاء ويزيل من الأعداء وينزل غيث السماء، فو الله لهؤلاء من القراء أعز من الكبريت الأحمر)

وفي حديث آخر: (من قرأ القرآن يريد به السمعة والتماس شئ لقي الله عزوجل يوم القيامة ووجهه عظم ليس عليه لحم… ومن قرأ القرآن ولم يعمل به حشره الله يوم القيامة أعمى فيقول: ﴿ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)﴾ [سورة طه:125-126]

وورد في الأثر: (إن من الناس من يتعلم القرآن ليقال فلان قارئ، ومنهم من يتعلمه فيطلب به الصوت فيقال فلان حسن الصوت، وليس في ذلك خير، ومنهم من يتعلمه فيقوم به في ليله ونهاره، لا يبالي من علم ذلك ومن لم يعلمه)

بعد أن أوردت هذه النصوص المقدسة بطريقتي الخاصة حتى أؤثر فيه، نظر إلي بابتسامة سخرية، ثم قال: كلامك جميل.. ولكنه عاطفي جدا..

ثم انصرف عني، وهو يقول: لقد ظللت أقول لكل من ألتقي به بأنك لن تفهم الحياة، ولذلك لن تصل لشيء.. ومع ذلك إن أساء إليك هذا المدير فأخبرني حتى أقيله من منصبه، وإن شئت أن أضعك بدله فعلت.. لكن بشرط أن تحمل مصحفا وتسير معي.

لم أجد ما أقوله له، فقد كنت أتصور أن الأمر مجرد سخرية، لكني ولغبائي، ولعدم فقهي بالحياة كما ذكر، قلت له: لا بأس إن استطعت أن تقيله من منصبه، فلا تنس أن تقيلني معه أنا الآخر.

حرك رأسه بالموافقة، ثم قال: أجل.. لن يكون لك إلا ما تريد.. لكن إياك أن تتوسل إلي لأعيدك لمنصبك.. فإني لا أحب أن أتعامل مع الآخرين بما تقتضيه العاطفة.. فالعمل عمل، والصداقة صداقة.

قال لي ذلك، ثم انصرف، ولم ألقه بعدها فترة طويلة.. لكني ذات يوم، وفي أثناء الحملة الانتخابية المسعورة رأيته.. لا أمامي وإنما على شاشة التلفاز، كان يحمل مصحفا في يده، يرفعه ويخفضه بقوة، وهو يقول: هذا هو الحل.. وهذا هو البرنامج.. وهذا هو المشروع.. وهذا هو الدستور.. ومن رغب عنه فلن يفلح لا في الدنيا ولا في الآخرة.. ومن أقبل إليه وقبله أقبل كل خير إليه..

بقي يقول هذا، ويردده، ويمسح كل حين لحيته التي أطالها كثيرا، لتملأ الفراغ الكبير الذي يسكن دماغه.

لا أخفيكم أن كلامه كان مؤثرا جدا حتى بالنسبة لي، ولذلك عندما ذهبت لأشارك في الانتخابات، ووجدت الأحزاب المختلفة، لم أستطع أن أشطب عليه لأني كلما هممت بفعل ذلك تصورت أني أشطب على القرآن الكريم نفسه..

مرت الانتخابات، وفاز بأغلبية ساحقة، ثم تشكلت لجان مختلفة، وكان دائما هو الرئيس أو نائب الرئيس إلى أن نال منصبا حساسا جدا، وفي الوزارة المكلفة بالجامعات.

لم يمض على تعيينه أيام معدودة حتى سمعت بأن مدير الجامعة التي أعمل فيها قد أقيل من منصبه.. أصابني الهلع من أن أقال أنا الآخر، لكني كنت أطمئن نفسي بأن هذا صديقي، وأنه لن يفعل بي شيئا.. لكني فوجئت في اليوم الموالي بإقالتي أنا الآخر بحجج لست أدري أي شيطان رجيم لفقها علي.

كانت في بعض عزة النفس، فلم أذهب إليه لأتوسل أو أستجدي، لكن أهلي وبعد أن ذاقوا بعض مرارات البطالة ألحوا علي في أن أذهب وأقبل يديه ورجليه حتى يعفو عني.

لم أجد إلا أن أفعل.. ذهبت إليه، فوجدته ينتظرني، وهو يقول: لم لم تأت كل هذه المدة؟.. ألا تزال تجهل الحياة؟.. ألا تزال تسير بحسب العواطف؟

كانت له هيبة منعتني من الحديث إليه، والجدل معه، خشية أن يحصل لي مثلما حصل لي في المرة السابقة.

فهم ما أريد، فقال: لا بأس.. سأعيدك إلى منصبك.. ولكن بشرط واحد هو أن تكنس جميع أقسام الكلية التي كنت تعمل بها.. وتعمل في المطبخ أسبوعا.. وتحرس شهرا.. إن قبلت هذه الشروط عدت إلى عملك.. وإلا فلن أفعل لك شيئا.

بعد أخذ ورد شديدين معه، خفف الشروط المتعلقة بالحراسة، فلم يكلفني إلا بحراسة أسبوع واحد.

عندما خرجت من مكتبه الفاخر، راقبته لأنظر كيف هي حياته الجديدة، وكان عجبي شديدا لا أستطيع أن أصوره.. لقد لاقاه السائق بمجرد خروجه، وفتح له باب السيارة.. ثم أوصله إلى قصر فخم لم يكن يراه حتى في الأحلام.. وقد رأيت في حديقة قصره كل تماثيل النسور والفهود والغزلان، ولكني لم أر صورة واحدة للمصحف.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *