رسول نجد

في اليوم التاسع من زيارته لي، خرجت مع صاحبي الوهابي إلى قريتنا الهادئة نتجول، ولست أدري كيف قدر الله أن يزورنا في ذلك اليوم رجل يزعم الناس له الولاية والصلاح، ولذلك كانوا بمجرد أن يسمعوا بحضوره يلتفون حوله، ويقدمون له ما تعودوا عليه من قرابين الولاء والمحبة.. وقد كان منها ما يقبله الذوق السليم، ومنها ما لا يقبله.
وقد خشيت على صاحبي أن يحدث له ما رآه من تلك القرابين ردة تعيده إلى السجون التي خرج منها، خاصة وأنه كان في قوم يعتقدون أن أي تعظيم لغير الله شرك أعظم يخرج صاحبه من الملة، ويخلده في جهنم.
لكني لم ألحظ على أسارير وجهه أي تغير، بل على العكس من ذلك، وجدته ينظر إليهم بحنان ومحبه، فسألته متعجبا: كيف لم تغضب لله في هذا الموقف؟
قال: وهل ترى في هذا محلا للغضب؟
قلت: أجل.. ألا تراهم كيف يعظمون غير الله؟
قال: بل أراهم في موقفهم هذا لا يعظمون إلا الله.. ولذلك تراني أحسدهم على هذه الفطرة النقية التي حرمني الوهابيون منها.
قلت: ماذا تقول؟.. أراني أخالفك في هذا.. فأصحابك، وإن أخطأوا في أشياء كثيرة، فقد أحسنوا في هذه.. فلا ينبغي أن يعظم غير الله.
قال: ألم تسأل نفسك لم يحترم هؤلاء هذا الرجل؟
قلت: إنهم يعتقدون فيه الولاية.
قال: وما معنى الولاية؟
قلت: هي في تصورهم تعني القرب من الله.. فهؤلاء الجموع التي تراها تعتقد أن هذا الرجل أقرب منها إلى الله، فلذلك تراها تتزلف إليه عساها تظفر منه ببركة أو دعاء.
قال: ألا يدلك هذا على حب هؤلاء للقرب من الله؟
قلت: أجل.. ما داموا يحبون القريب من الله بحسب اعتقادهم، فهم يحبون القرب من الله.
قال: ألا ترى في هذا قمة الإيمان؟
قلت: ولكنهم يحبون القرب دون أن يسعوا لتحصيله بالطرق الصحيحة.
قال: وما يفعلونه هو طريق من هذه الطرق.. فمن ملأ قلبه بحب القريب من الله، فلا شك أن الله يقربه.. ألا تعلم أن أعظم شعائر الدين حب أولياء الله؟
قلت: بلى.. صدقت في هذا.. لكن ما أدراهم أن هذا ولي لله؟
قال: لا يهم ذلك.. فالعبرة بالحقيقة التي انطلقوا منها.. لا بالواقع.. ألا تعرف قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)([1])؟
قلت: بلى.. وقد فهمت قصدك.
بمجرد أن وصلنا إلى هذا الحديث أخذ الرجل يلقن الملتفين حوله بعض الصلوات على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطريقة إنشادية جميلة اهتزت لها الأرواح والأجساد، وقد حصل لصاحبي من الوجد ما لم أكن أتصوره فيه، وقد دعاني ذلك إلى سؤاله عن سره، فقال: لقد كنت طيلة فترة اعتقالي في سجون الوهابية لا أعرف (محمد بن عبد الله) بقدر ما كنت أعرف محمد بن عبد الوهاب.. لقد كان أول درس لقنوه لي هو (محمد بن عبد الوهاب)
في تلك الأيام ذهبت، وليس في قلبي إلا محمد رسول الله.. كنت أتحدث عنه كل حين.. فقد كانت حرارة أشواقي إليه لا تعدلها أي حرارة..
لكني بمجرد أن جلست إلى حلقة ذلك النجدي الذي قيل لي إن بيده مفاتيح الجنة، كما أن بيده مفاتيح النار بدأ (محمد بن عبد الله) ينزل من عرش قلبي ليحل بدله (محمد بن عبد الوهاب)
في بداية تلك الحلقة تذكرت في نفسي ذلك العصر المظلم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي بلغ فيه فساد العقائد والعادات والأخلاق مبلغاً عظيماً.. فالأصنام كانت تعبد من دون الله في المسجد الحرام عند الكعبة وغيرها.. وكانت العرب قد انحطت إلى أسفل الدركات من الوثنية والعادات السافلة الرذيلة.
بمجرد أن حدثت نفسي بهذا نظر إلي النجدي بسخرية، وقال: وهكذا كان عصر محمد بن عبد الوهاب إن لم يكن أشد جاهلية منه، فقد كانوا في جاهلية مطلقة، كما كانوا غارقين في أودية الجهالة والرذيلة والوثنية المسبوكة في قالب حب الصالحين.
قلت في نفسي: لقد بعث الله محمد بن عبد الله بعد فترة من الرسل، وكانت الإنسانية بما أصابها في مقاتلها تنتظر وتتعطش إلى هذه البعثة الكريمة، لعلها تهتدي بعد الضلال البعيد، وتنتقل من فوضى الأخلاق والطباع إلى نظام وطمأنينة وراحة.
قاطع النجدي حديثي لنفسي، وقال وهو ينظر إلي بسخرية: لقد جاء محمد بن عبد الوهاب في وقت كانت جزيرة العرب في أمس الحاجة إلى مصلح يعالجها من أمراضها القاتلة، وينقذها مما وقعت فيه ويأخذ بيدها من تلك الهوة السحيقة التي ارتطمت فيها، لكي تسير في سبيل مستقيم، حيث تصفو العقائد، وتشفى العقول.
قلت في نفسي: لقد وفق الله نبينا محمد بن عبد الله في الدعوة إلى الله وتوحيده ونبذ الشرك وتهجينه.
نظر إلي ساخرا، وقال: وقد وفق الله أيضا محمد بن عبد الوهاب في تجديد الدعوة التي بليت والسير على المنهاج الأقوم الذي اعوج وجعله نقياً خالصاً من كل شائبة وباطل.
قلت في نفسي: لم يطب المقام لمحمد بن عبد الله بمكة التي ولد فيها بإيذاء قريش له، وتسلطهم عليه بالسوء والأذى حتى أجمعوا أخيراً على قتله، فهاجر إلى المدينة، ووجد من الأنصار عوناً وحباً ثم تبعه صحابته فانتقلوا إليها مستخفين، خشية من الأذى والفتك..
نظر إلي ساخرا، وقال: وكذلك محمد بن عبد الوهاب، فقد تآمر عليه مماليك بلده الذي ولد فيه على قتله، وتسوروا عليه الجدار، ولقي من أهله الأذى والتنكيل، ما جعل الإقامة به أمراً مستحيلاً.. ففر بدينه وعقيدته إلى الدرعية، ولقي فيها محبين كانوا عوناً له، وهناك استطاع أن يهنأ بالعبادة والدين، وانتقل مريدوه وأتباعه إليها هرباً بمعتقداتهم وأرواحهم.
قلت في نفسي: لقد حدث لمحمد بن عبد الله في طريقه للمدينة وهو مهاجر، أن تبعه سراقة بن مالك ،طمعاً في جعل قريش ولما أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساخت قوائم فرسه في الأرض، فإذا هو في وثاق، لا يستطيع منه فكاكا، حتى يستنجد بالرسول فينطلق.
نظر إلي ساخرا، وقال: كذلك قد جرى للشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقد وكل به أمير العيينة عثمان بن معمر عندما أمر بمغادرة الشيخ البلاد فارساً والشيخ كان راجلاً حافي القدم، حاسر الرأس، إلا من مروحة يتقي بها لظى القفر حتى إذا رام أن يقتله، واستل سيفه، إذا بيده القوية تتهالك ،فيسقط منها.
قلت في نفسي: كان محمد بن عبد الله يعرض نفسه على القبائل، ويستقبلها في المواسم والأسواق فينصره بعضها، ويخذله بعضها، ويهزأ به بعضها، ويناله بعضها بما يكره، ولكنه صابر يقول في ابتسامته الحلوة الرائعة: (اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون)
نظر إلي ساخرا، وقال: وكان ابن عبد الوهاب يعرض نفسه على القبائل والبطون فمن ناصرة ومجيرة، إلى خاذلة وصادفة عنه، إلى قبائل لا تتورع عن إيذائه والكيد له كما كان يكيد له الكبراء والزعماء، فلا تلين له قناة.
قلت في نفسي: لقد تعرض محمد بن عبد الله إلى كثير من المخاطر.
نظر إلي ساخرا، وقال: وهكذا محمد بن عبد الوهاب.. لقد تعرض لكثير من الويلات والكوارث.. فكان يستدبر كارثة ليستقبل أُخرى بنفس مطمئنة وقلب مفعم بالإيمان.
قلت في نفسي: كان محمد بن عبد الله يغزو بنفسه، ويزج بها في المعارك والميدان، وإذا احتدم القتال يقوي قلوب صحابته الكرام، ويعززهم ويذكرهم، ويدعو الله لهم.
نظر إلي ساخرا، وقال: وكان محمد بن عبد الوهاب، يغزو بنفسه مع محمد بن سعود، ولا يبخل بالرأي السديد وكان من أبرز رجال القيادة العليا حتى إذا اختلف في الرأي بينه وبين غيره، قدم رأيه لأنه يسير بهدي الله ونوره.
قلت في نفسي: لقد كان محمد بن عبد الله يرسل الرسل للملوك، يدعوهم إلى الهدى ودين التوحيد، ويرسل السرايا للغزو، إن أعلنوا الحرب على الدعوة.
نظر إلي ساخرا، وقال: وكان ابن عبد الوهاب يفعل ذلك.. بل أكثر من ذلك.
قلت في نفسي: ابتلى الرسول بأعداء أقوياء لدد في الخصومة، ينفسون عليه ويتهمونه بالسحر والكذب، حتى إن أقرب ذوي قرباه كانوا في حيرة من أمره وحتى إن عمه أبا لهب، كان لا يرضى عنه وخاصمه وسفه حلمه، ولم يألو جهداً في تأليب الناس عليه.
نظر إلي ساخرا، وقال: وقد ابتلى ابن عبد الوهاب أيضاً بخصوم أشداء، نصبوا له الحبائل. ورشقوه بالسهام، ولكنها كانت تطيش وكان ينجو، بفضل الله، حتى أخوه سليمان كان عدواً لدوداً، طعنه طعنات وانظم إلى صفوف المناوئين لا يتورع عن شتمه ونقد آرائه ودعوته وطريقة نقداً لاذعا.
قلت في نفسي: لقد انتصر محمد بن عبد الله على أعدائه وخضعوا له وأصبحوا من خيرة أنصاره.
نظر إلي ساخرا، وقال: وكذلك انتصر المخلص الأواه محمد بن عبد الوهاب على مناوئيه وأتوا إليه معتذرين. فإذا به يعفوا كرماً، ويرتاح إليهم، ويصفح عنهم وإذا بهم يعودون إخوة وأنصاراً مخلصين.
بعد أن انتهى من
حديثه، وبعد أن سدت علي نفسي، فلم أجد ما أقول لها، ولم تجد ما تقوله لي، سأله
بعضنا عن الاستشفاع برسول الله لقضاء الحوائج، فغضب غضبا شديدا، وقال: من هذا الذي
يستطيع أن يشفع لك.. أترى عصاي هذه.. (عصاي هذه خير من محمد، لأنها ينتفع بها في
قتل الحية ونحوها، ومحمد قد مات ولم يبق فيه نفع أصلاً!!)([2])
([1]) رواه البخاري ومسلم، معنى يؤيد: ينصر، والرجل الفاجر يشمل من كان كافرا ومن كان فاسقاً، ولا يعارضه قوله a: إنا لا نستعين بمشرك لأنه محمول على من كان يظهر الكفر، أو هو منسوخ بما ثبت من الاستعانة بصفوان بن أمية في حنين، كذا قال ابن حجر في الفتح، وتابعه المناوي في الفيض.
([2]) نقل هذه المقولة الشيخ أحمد زيني دحلان مفتي مكة في أواخر السلطنة العثمانية حيث قال في الدرر السنية:1/42، في حديثه عن محمد بن عبد الوهاب: (حتى أن بعض أتباعه كان يقول:عصاي هذه خير من محمد، لأنها ينتفع بها في قتل الحية ونحوها، ومحمد قد مات ولم يبق فيه نفع أصلاً!!)
.