جريمة إحياء الخلافة

لست أدري ما الذي يعجبهم في خلافة بني عثمان حتى يتباكون عليها، ويختصرون كل حياتهم في إعادة إحيائها، ويختصرون كل جهودهم في إرسال صدى أصواتهم إلى العالم ليصوروا له أنه لن تقوم للإسلام قائمة ما دامت الخلافة مكفنة في نعشها، أو مدفونة في قبرها.
وكأنهم يتناسون الجرائم الكبرى التي صليت بها شعوب العالم بسبب تلك الخلافة المشؤومة، والتي جعلت المسلمين يتخلفون آلاف السنين عن ركب البشرية الحضاري.
ويتناسون مع ذلك تلك التحريفات والتضليلات والخرافات التي لبست الإسلام بسبب أولئك الخلفاء وسدنتهم الذين سدلوا آلاف الحجب على سماحة الإسلام وسلامه ورقيه وتحضره، وكانوا سدا منيعا حال بين البشرية وبين تلقي الهداية الإلهية الأخيرة.
أما فتوحاتهم التي يشيدون بها، ويتباكون عليها، فلم تكن سوى نزعة استعمارية بغيضة، لم تفعل سوى أن شوهت صورة الإسلام الجميلة في عيون العالم.. فالإسلام لا ينشر بالغزو الإرهابي المسلح، وإنما ينشر بالقلب الطيب، والكلمة الحلوة، والحجة القوية، والبرهان الساطع، وإعطاء النموذج المثالي للإنسان المتحضر، والمجتمع المتآلف.
لكن كل ذلك كان يمكن أن يغتفر لو ظل مجرد أحلام ينامون بها، ويستيقظون عليها، أو كان مجرد كلمات يبعثرونها حسبما شاءوا.. فكل إنسان حر في أن يقول ما يشاء متى يشاء.
لكن الخطر أن تصبح تلك الأحلام واقعا يطغى على كل واقع.. فذلك هو الخطر الأكبر.
والحوار الحصري الذي سأنقله لكم اليوم دليل على هذا.. وقد كان المتحدث فيه هو داعية من دعاة الخلافة نذر حياته للدفاع عن الظلمة في كل زمان ومكان.. وحجته الوحيدة التي يتذرع بها تتشكل من مغالطة ترى بأن الخلفاء الأمويين والعباسيين والعثمانيين مسلمون، والإسلام يحرم الظلم، والنتيجة هي أن هؤلاء يحرمون الظلم.. وما داموا يحرمونه قولا واعتقادا، فهم لا يمارسونه فعلا وسلوكا.
أما ما يذكره المؤرخون وتدل عليه الوثائق فهي إما أراجيف مكذوبة، أو حقائق لم يفهم القصد منها.. لأن العالم كله يتآمر على الإسلام وعلى الخلافة الإسلامية وعلى الجماعة التي نذرت حياتها للدعوة لإحياء الخلافة.
عندما التقيت به كان يحمل صحيفة فيها رسالة السلطان سليمان القانوني إلى ملك فرنسا فرانسوا الأول، كان يرددها بقوة، وكأنه يستشعر أنه هو نفسه ذلك السلطان بأبهته وقوته وجبروته.. كان يجول في أركان القاعة، وهو يردد: (أنا سلطان السلاطين وبرهان الخواقين.. أنا متوج الملوك ظلّ الله في الأرضين.. أنا سلطان البحر الأبيض والبحر الأسود والبحر الأحمر والأناضول والروملّي وقرمان الروم، وولاية ذي القدرية، وديار بكر وكردستان وأذربيجان والعجم والشام ومصر ومكة والمدينة والقدس وجميع ديار العرب والعجم وبلاد المجر والقيصر وبلاد أخرى كثيرة افتتحتها يد جلالتي بسيف الظفر ولله الحمد والله أكبر.. أنا السلطان سليمان بن السلطان سليم بن السلطان بايزيد..)([1])
عندما وصل إلى هذا المحل من الرسالة، قاطعته قائلا: ما أعجبك في هذه الرسالة الممتلئة بالزهو والفخر والكبرياء.
قال: بل هي ممتلئة بالعزة والاستعلاء الإيماني.. إنهما ثمرة الجهاد في سبيل الله.. لقد كان ملوك العالم كلهم يخافون من المسلمين، وترتجف أوصالهم هيبة لهم..
أخذ ينظر في الرسالة، ويقول: لقد وضح الخليفة العظيم سليمان القانوني سر ذلك في رسالته إلى ملك فرنسا، فقال: (فإننا فاتحون البلاد الصعبة والقلاع المحصنّة وهازمون أعدائنا، وإن خيولنا ليلا ونهارا مسروجة، وسيوفنا مسلولة)
قلت: ألا ترى أن تلك الخيول المسروجة والسيوف المسلولة قد ملأت قلوب العالم أحقادا على المسلمين وعلى خلافتهم المشوهة.. ولهذا انقضوا عليهم بمجرد أن أتيحت لهم الفرصة.. ألم يكن الأجدر بهم كما كان الأجدر بمن قبلهم من الخلفاء أن يتألفوا العالم وأن يحسنوا عرض الإسلام.. فالإسلام هو دين الرحمة والتآلف والسلام، لا دين السيف والسنان؟
قهقه بصوت عال، وقال: ماذا تقول يا رجل.. هل يمكن أن تقوم الخلافة بغير سيف.. وبغير شوكة.. وبغير رهبة تملأ قلوب العالم؟
ألا تعلم ما فعل العثمانيون بالإرمن حين بدا منهم عدم الانصياع للخلافة ولما تتطلبه الخلافة من رهبة..
قلت: أجل.. وقلبي ممتلئ غيظا من تلك الخلافة المشؤومة بسبب ذلك.. لقد ذكر المؤرخون أنه خلال الحرب العالمية الأولى قام العثمانيون بإبادة مئات القرى الأرمنية شرقي البلاد في محاولة لتغيير ديموغرافية تلك المناطق لاعتقادهم أن هؤلاء قد يتعاونون مع الروس والثوار الأرمن. كما أجبروا القرويين على العمل كحمالين في الجيش العثماني ومن ثم قاموا بإعدامهم بعد انهاكهم.
وفي 24 نيسان 1915 قام العثمانيون بجمع المئات من أهم الشخصيات الأرمنية في إسطنبول وتم اعدامهم في ساحات المدينة.. وبعدها أمرت جميع العوائل الأرمنية في الأناضول بترك ممتلكاتها والانضمام إلى القوافل التي تكونت من مئات الالآف من النساء والأطفال في طرق جبلية وعرة وصحراوية قاحلة.. وغالبا ما تم حرمان هؤلاء من المأكل والملبس. فمات خلال حملات التهجير هذه حوالي 75% ممن شارك بها وترك الباقون في صحاري بادية الشام.. وقد روى أحد المرسلين الأمريكيين إلى مدينة الرها، فقال: (خلال ستة أسابيع شاهدنا أبشع الفظائع تقترف بحق الآلاف… الذين جاؤوا من المدن الشمالية ليعبروا من مدينتنا. وجميعهم يروون نفس الرواية: قتل جميع رجالهم في اليوم الأول من المسيرة، بعدها تم الاعتداء على النسوة والفتيات بالضرب و السرقة وخطف بعضهن حراسهم… كانوا من أسوأ العناصر كما سمحوا لأي من كان من القرى التي عبروها باختطاف النسوة والاعتداء عليهن. لم تكن هذه مجرد روايات بل شاهدنا بأم أعيننا هذا الشيء يحدث علنا في الشوارع)([2])
بعد أن أوردت له هذه الأخبار المشؤومة، وقد كنت أعتقد أنها ستلين موقفه، وستحد من حماسته للخلافة، لكنه لم يأبه لذلك.. بل راح يكبر بصوت عال، ويقول: ما شاء الله.. لقد كان درسا قاسيا لكل من يقف في وجه الخلافة..
قلت، وقد امتلأ قلبي حزنا عليه: لقد وصف الله تعالى الخلافة بكونها الحكم العادل، لا بكونها الحكم الغالب.. قال تعالى مخاطبا عبده داود عليه السلام: ﴿يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص: 26]
قال: أليست هذه الآية متوجهة لداود؟.. وداود من أنبياء بني إسرائيل.. وهي شرع من قبلنا لا شرعنا.. فشرعنا هو ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: 60]
ألا تعلم الدرس الذي لقنه هارون الرشد لملك الروم.. لقد أرسل يقول له: (من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه، والسلام)، ثم خرج هارون بنفسه حتى وصل هرقلة وهي مدينة بالقرب من القسطنطينية، واضطر نقفور إلى الصلح والموادعة، وحمل مال الجزية إلى الخليفة.
قلت: ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل خلاف ذلك مع ملك الروم، لقد أرسل يقول له: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64]([3])
انظر اللغة التي خاطب بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ملك الروم، إنها تمتلئ أدبا ولطفا.. لقد سماه عظيم الروم، ولم يسمه كلبهم.. وانظر إلى هذه الألفاظ الجميلة الممتلئة بعطر السلام (سلام، الإسلام، أسلم، تسلم، وأسلم، مسلمون) التي ملئت بها الرسالة..
ثم انظر إلى الغرض من الرسالة.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعاه إلى دين الله وإلى الهداية.. ولم يدعه إلى أن يسلم مالا أو جباية.. فالإسلام دين هداية، لا دين جباية.
قال: دعك من كل ذلك.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعمل تلك اللغة لأن الوضع لم يكن يسمح له بغيرها.. ولكن في وقت هارون الرشيد ذلك الخليفة العظيم تبدل حال المسلمين.. فصارت ذلتهم إلى عزة، وضعفهم إلى قوة.
قلت: فقد نسخ هارون الرشيد بقولك هذا سماحة رسول الله وسماحة الإسلام، وصار القدوة لنا هو هارون لا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: ماذا علي أن أفعل لأقنعك.. أنت تحمل الكثير من المفاهيم الخاطئة حول الإسلام لأنك تختصر الإسلام في شخص واحد هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وتنسى كل الرجال العظام الذين مثلوا أمجاد الإسلام وقوته بأحسن صورة.. الإسلام أعظم من أن يمثله شخص واحد.. إنه دين الله..
قلت: ولكن الله تعالى اختصر لنا القدوة فيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21]
قال: لو طبقنا هذه الآية حسب فهمك لها فلن يبقى شيء في تاريخ الأمة نعتز به.
قلت: لمَ نعتز فقط بالسيوف والسيطرة والاستعلاء؟.. ألا يمكن أن نستعلي بالعلم والتحضر والسلام؟.. ألا ترى أن الدولة العثمانية قد انشغلت بالسلاح عن القلم.. وبالتوسع عن التعلم.. وقد مكن ذلك أعداءها من التغلب عليها بفعل التقدم العلمي الذي حصل لهم.
لم يجد صاحبي ما يجيبني به.. بل راح يفتش أوراقا بين يديه.. ثم راح يجول في القاعة يردد رسائل الخلفاء إلى الملوك.
ولم
ألتق به بعد ذلك، إلا أني رأيته مرة على شاشات التلفزيون، وهو يسوق بعضا من
إخواننا الأقباط.. ثم يذبحهم بدم بارد.. ويهدي دمهم البريء إلى جميع العالم.
([1]) اخترنا هذه الرسالة لأن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان والذي يحلم بإعادة الخلافة العثمانية قدم للرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى خلال استقباله له فى أنقرة هذه الرسالة كهدية تذكارية له، وقالت وسائل الإعلام: (إن أردوغان أراد من وراء هذه الهدية أن يلقن ساركوزى درسا في كيفية التعامل مع الأمم الكبيرة بعد أن رفض أن يقوم بزيارة رسمية لتركيا كرئيس لفرنسا، واختار أن يزورها كرئيس لمجموعة العشرين وأن تكون مدة الزيارة قصيرة جدا لا تتجاوز 6 ساعات مما أثار استياء تركيا فضلا عن استيائها أصلا من موقفه الرافض لانضمامها إلى عضوية الاتحاد الأوروبي) انظر: (http://www.khalidyat.net/news-action-show-id-8793.htm)
([2]) انظر: مقالا بعنوان: مئوية المذبحة الأرمنية…هل ينسى التاريخ ؟؟، هشام الهبيشان، موقع الماسة السورية بتاريخ 2015/04/18، على الرابط: (http://www.syrianmasah.net/arabic/pid53035.html)
([3]) رواه مسلم.