بوش

تركنا لينين منشغلا بآلامه.. ولم نسر إلا قليلا حتى رأيت رجلا أعرفه كل المعرفة.. لقد كانت صورته على شاشات التلفاز تتصدر كل الأحداث.. وكان يليها مباشرة صور طائراته الضخمة، وهي تمطر المستضعفين بالموت الزعاف.. لم يكن يحب من الحياة إلا قهر الحياة..
ولكنه كان في وكر المستكبرين مقيدا بقيود كثيرة.. كم تمنى المستضعفون أن يروه مقيدا بواحد منها.. لقد شعرت بسعادة عظيمة وأنا أراه مغلولا في تلك القيود، وكم تمنيت لو كنت أحمل معي آلة تصوير لأزف بصورته مع قيوده إلى الثكالى والأيتام.. ولم يكن ذلك حقدا.. فيعلم الله أني لا أبغض شيئا مثل امتلاء النفس بالحقد.. ولكني كنت سعيدا لأني أرى الكبر والظلم وجميع الجرائم الإنسانية مقيدة معه في تلك القيود.
سهوت عن معلمي.. واقتربت من ذلك الذي ملأ الأرض لهيبا.. فصحت فيه بنبرة تنبئ عن نشوة المنتصرين.. قلت له: وأخيرا.. ها أنت تقيد بالقيود التي قيدت بها أمم الأرض.. ويكال لك من العذاب ما كنت تكيله لهم.
نظر إلى قيوده باحتقار، ثم قال: ليتني امتلأت من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي قيودا.. ونزع ـ في مقابل ذلك ـ من ذاكرتي ما يعذبها من أنواع الذكريات..
ثم أمسك ببعض قيوده، وقال: إن ما تراه من قيود وأغلال شيء بسيط، بل لا يكاد يساوي شيئا أمام الآلام التي يضيق بها صدري، وتختنق بها أنفاسي.
إن كل طفل شوهته.. وكل امرأة رملتها.. وكل رجل لعبت بكرامته.. وكل حياة خنقتها يقفون الآن وقبل الآن.. ولست أدري إلى متى.. يخنقونني ويصبون الآلام على نفسي.. ليتهم يقتلونني.. ليتهم يذيقوني من الموت ما أذقتهم..
قلت: حدثني عن سرك الذي قيدك بهذه القيود.. وأخبرني عن أعماقك التي زجت بك إلى هذه الأوكار.
قال: حديثي طويل.. فأنا من أمة لم تكن ترى إلا نفسها.. كنت سليل عائلة ملكية تبدأ من الذين أبادو الهنود الحمر.. وخطفوا العبيد من أركان الأرض.. وتنتهي إلي.. أنا الذي حافظت على سننهم، فأبدت أمما من أمم الأرض.. وخطفت جميع شعوب العالم..
قلت: عرفت قومك..
قال: ومن لا يعرفهم.. كلهم يعرفونهم.. هم الذين زجوا بي في هذه الأوكار.. كانت بطونهم لا تشبع.. ولم يكن يرضيهم إلا أن أختطف لهم خبز الفقراء، وأسقيهم دماءهم.. لقد كانوا يحبونني حبا جما.. وكانت شعبيتي تزداد كلما أرقت لهم المزيد من الدماء.. وقدمت لهم بكثير من الخبز.
قلت: فمن أنت؟
قال: لن تعرفني حتى تعرف سلفي.. فقد كنت شر خلف لشر سلف.
قلت: عرفت أنهم الذين أبادوا الهنود الحمر وخطفوا الأحرار وحولوهم عبيدا..
قال: لا أقصد هذا..
قلت: فما تقصد؟
قال: سلفي الذين كانوا يسكنون البيت الذي كنا نسميه البيت الأبيض.. ولم يكن بياضه إلا ستارا حائلا للسواد الذي تمتلئ به قلوبنا.
قلت: أتريد أن تحدثني عن جميع رؤساء قومك؟
قال: لا أريد أن أحدثك عن التاريخ.. ولكني أريد أن أحدثك عن المبادئ.. فجذور أعماقي تبدأ من تلك المبادئ ([1])..
قلت: فحدثني.. وبسط ما استطعت، فإني لا أكاد أفهم لغتكم التي تتداولونها ويتداولها سدنتكم.
قال: عمدا نفعل ذلك.. لقد كنا نتلاعب بالألفاظ والمبادئ والقوانين كما نتلاعب بالبشر وبالتاريخ وبالجغرافية.. لقد كنا لا عبين ماهرين نجيد كل صنوف اللهو التي تقتل الحياة، وتدمر الإنسان.
قلت: فحدثني حديث سلفك.
قال: كان لنا سلف اسمه مونرو James Monroe، وقد نشر حينها مبدأ، كتلك المبادئ التي تسمعونها كل حين.. وقد عرف هذا المبدأ باسمه ([2])، وكان يقضي بأن الولايات المتحدة لا تتدخل في شؤون الدول الأخرى، كما أنه لا يحق لأي دولة أن تتدخل في شؤون العالم الأميركي.
قلت: هذا مبدأ جيد.. ولا أرى سلفك هذا إلا سلفا صالحا.
ضحك بشدة، وقال: أتقول عن سلفي هذا : إنه سلف صالح.. انظر تحت قدمي..
نظرت فرأيت رؤوسا كثيرة يدوسها بقدمه، وكانت تصيح بصياح حيل بيني وبين سماعه.
قال: أترى هذه الرؤوس؟
قلت: أعمى أنا إن لم أرها.. ما بالها.. وما بالك تطأ عليها؟
قال: إن رأس سلفي الصالح الذي ذكرته أحد هذه الرؤوس، فإن شئت أن يحدثك عن مبدئه، وما ينطوي عليه من خيرية حدثك.
قلت: لا بأس.. فقد علمني معلمي أن لا أتعلم العلم إلا من أهله.
ركله بضربة قاسية، ثم قال: كلمه يا عزيزي مونرو.. هو يريد أن يعرف مبادئك.. مبادئ العالم الحر الذي استعبدنا العالم لأجله.
رفع مونرو رأسه بشدة، وقال: إن مبدئي كمبادئ غيري يجسد النفاق الذي ورثناه أبا عن جد.
قلت: وضح ذلك..
قال: لقد أصبح مبدئي ـ الذي سمي باسمي ـ مرتكزاً ثابتاً في التبريرات التي تحتاجها دبلوماسيتنا عندما تريد أن ترفض طلبات المساعدة القادمة من الخارج، أو عندما تريد أن تتدخل بعيداً عن الأضواء.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لقد كان هذا المبدأ يشكل الواجهة التي نظهرها.. أما الحقيقة، فكانت غير ذلك تماما.. لقد كان السلوك الفعلي لنا يخرج عن دائرة هذا المبدأ.
وكمثال على ذلك أنه عندما تزايدت الدعوات بضرورة دعم اليونانيين في طلبهم الفصل عن الدولة العثمانية، ووصلت الى درجة المطالبة بالاعتراف الرسمي بالحكومة اليونانية لم نتخذ قراراً رسمياً لصالح اليونان في المساعدة والدعم، لكننا ـ مع ذلك ـ كنا نرسل المساعدات المالية والقوات العسكرية تحت ستار مساعدات الشعب الأميركي والمتطوعين الأميركيين.
وقد ساهمت هذه المساعدات في نجاح الثورة اليونانية، وتحويل اليونان الى دولة منفصلة عن الدولة العثمانية.. ولولا المساعدات الأميركية لما تمكن اليونانيون من الفوز في معركة الانفصال.
وقد تكرر نفس الموقف مع جزيرة كريت، حيث قدمنا مساعداتنا للثوار بصورة غير رسمية، في الوقت الذي كنا نعلن فيه رسمياً انه لا تستطيع دعم الثوار، لان ذلك يتعارض مع مبدأ مونرو.. مبدئي الذي عرف باسمي مع أنه مبدأ كل المنافقين والمستبدين.
ونفس الأمر حصل في بلغاريا، فقد أعلنا التزامنا بمدأ مونرو، ولكن المبشرين الأميركان كانوا هم الذين يتحملون أعباء كبيرة في ثورة البلغار ضد العثمانيين.
قلت: فقد كنتم تمارسون سياسة مزدوجة إذن..
قال: سم الأمور بأسمائها.. إنه النفاق..
قلت: ولم لا تسميه الحكمة؟
قال: هو حكمة في حالة نصرة المستضعفين.. أما في حالتنا فهو النفاق لأننا كنا نخون من يستنجد بنا أحوج ما يكون إلينا متذرعين بمبدئي..
وسأضرب لك على ذلك مثلا.. عندما تعرضت الدولة العثمانية قبيل الحرب العالمية الأولى إلى اعتداءات عسكرية من قبل إيطاليا ودول البلقان، قدمت طلباتها إلينا بالتدخل السلمي واستخدام وساطتنا لانهاء هذه الاعتداءات.. لكنا رفضنا ذلك..
قلت: لم؟
قال: لقد تذرعنا بعبارتنا التي نضعها في المحل الذي نراه مناسبا..
قلت: ما هي؟
قال: ما بالك.. إنها سياسة عدم التدخل التي حددها مبدأ مونرو.
قلت: فلم خصصتم الدولة العثمانية بالخذلان؟
قال: أراك أميا في سياستنا.. نحن صليبيون من الجذور..
قلت: لكني لم أسمع أنكم ـ على الأقل في ذلك الحين ـ كنتم قد غزوتم ديارنا.
قال: نحن نغزو بكل الوسائل.. وفي الميدان الذي تتحدث عنه، حصل ـ مع بداية القرن التاسع عشر ـ أول استخدام عسكري لنا ضد العالم الاسلامي.. وقد كان ـ من باب الصدفة أو التخطيط ـ أول تجربة للبحرية الأميركية خارج مياهها الاقليمية.
قلت: حدثني عن هذا.. فلم أسمع به.. ولعل أكثر قومي يجهلونه.
قال: في نهايات القرن الثامن عشر قرر سدنة سياستنا ـ بضغط من بطوننا التي لا تشبع، وبتشجيع من رجال الحملات التبشيرية ـ أن نقتحم أسواق الشرق، وأن تقيم علاقات تجارية متينة مع البلدان الاسلامية في حوض البحر المتوسط، فدخلنا في مفاوضات سريعة مع طرابلس وتونس والجزائر والمغرب، من أجل الحصول على تسهيلات اقتصادية كبيرة تجعل بلادنا متقدمة على سواها من الدول الغربية.
قلت: لا حرج عليكم في طلب ذلك، فكل تاجر يحب أن يستأثر بأفضل المواقع.
قال: لكنا خرجنا عن أسلوب التاجر المسالم، فمارسنا أسلوب التاجر المصارع.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لم تسفر المفاوضات عن نتيجة مرضية لنا مما جعلنا نلجأ إلى أسلوبنا الذي مارسناه كل حين.
قلت: إلام لجأتم؟
قال: إلى القوة العسكرية.. ألا تعلم أنا لا نتقن شيئا كما نتقن القوة.. لقد هيأنا أسطولنا الحربي للتدخل العسكري البعيد.. وبذلك بدأنا مرحلة التوسع الطويلة التي لا نزال نسلك طريقها.
وقد كانت الحملة ناجحة الى حد كبير، فقد استطاعت بحريتنا أن تحقق أغراض دبلوماسيتنا في توقيع الاتفاقيات الاقتصادية مع دول شمال إفريقيا، والتي أصبحنا ـ بموجبها ـ الدولة الأفضل في التعامل التجاري والمتمتعة بأكبر قدر من التسهيلات.
وقد علمنا ذلك أن نقتلع خبزنا بسلاحنا.. وقد تبلور ـ حينها ـ مفهوم المصالح القومية للأمة الأميركية، واصبح أحد المرتكزات الاساسية في السياسة الخارجية، كما ارتبط استراتيجياً بالخيار العسكري الأميركي.
***
سكت مونرو تاركا المجال لرأس آخر من تلك الرؤوس، قال: لعلك لا تعرفني.. أنا روزفلت.. أنا Franklin D. Roosevelt
قلت: ماذا فعلت أنت؟
قال: أنا الكل.. لقد كان مونرو ضعيفا، فلذلك لجأ إلى أسلوب النفاق الذي لا نزال نستخدمه.
قلت: وأنت!؟
قال: أنا وضعت البذور التي خرج بها قومي إلى ممارسة الدور البوليسي الذي يحكمون به العالم.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لا مناص لك أن تعرف بعض التاريخ.. فمبادئنا لا تنشئها القيم.. بل تنشئها الأحداث والفرص.
قلت: فحدثني عن التاريخ.
قال: بعد نهاية الحرب العالمية الاولى، وما نشأ عنها من تحولات أساسية في الخارطة الدولية وجدنا أن التطورات الجديدة لا تنسجم مع التمسك الظاهري بمبدأ مونرو، وانه لا بد من تحديد خط جديد للسياسة الخارجية.
قلت: لا بأس بهذا.. فالسكوت عن نصرة المستضعفين سلبية.
قال: عن أي مستضعفين تتحدث.. نحن لا نتحدث إلا عن مصالح الأمة الأمريكية.
قلت: فماذا فعلتم؟
قال: رأينا أنه من أجل أن نمارس دورنا في قيادة العالم، لا بد أن تنتهج خطأ عسكرياً مؤثراً على الاحداث الدولية، بالشكل الذي يؤهلنا لمواجهة أية مشلكة تهدد الامن القومي، وتقف بوجه المصالح الأميركية، اعتماداً على الامكانات الهائلة التي نمتلكها.
قلت: لقد قررتم إذن دخول الحرب مع أنها كانت بعيدة عنكم.
قال: أجل.. لقد حاولنا من خلال القوة العسكرية ان نطبق سياستنا الجديدة التي تقضي بأن ( على الولايات المتحدة ان تمارس دوراً بوليسياً لحفظ النظام الدولي، يستند إلى قوة عسكرية تستطيع ان توفر مستلزمات هذا الدور)
قلت: فهذا هو مبدؤك إذن؟
قال: أجل.. وهو مبدأ كل من جاء بعدي.. وبقدر ما تتوفر له القوة يعظم هذا الدور.
قلت: فكيف طبقته؟
قال: أنا في الحقيقة صاحب الفكرة.. وقد سعيت بكل الطرق لتحقيقها لكني لم أستطع.. فالأوضاع لم تكن في صالحي تماما.
لذلك اقترحت على بريطانيا في فترة الحرب إنشاء قوة بوليسية مكونة من الولايات المتحدة وبريطانيا.. لكن هذا الاقتراح لم ينجح لان ظروف الحرب لم تعط بريطانيا فرصة التفكير في مرحلة ما بعد الحرب.
وبعد الحرب، فكرت في الاعتماد على الاتحاد السوفيتي في مساعدتنا على تكوين القوة البوليسية العالمية.. لكن هذا الامل كان بعيداً عن الواقعية، حيث عارض الاتحاد السوفيتي بشدة فكرة روزفلت.
قلت: فلم تنجح في تحقيق ما أردته إذن؟
قال: لم أنجح لأن الظروف كانت مختلفة.. ومع ذلك نجحت في إقناع الأمريكيين بمبدئي.. لقد تحولت أسس هذه السياسة ـ والمتمثلة في القوة الأميركية العالمية ـ الى مرتكز ثابت في التفكير الأميركي، وقد تعامل معها الرؤساء الذين خلفوني بحسب ما أتيح لهم من فرص.
***
نطق رأس آخر قائلا: لقد واتتني فرص عظيمة جعلتني أخرج مبدأ صاحبي من النظرية إلى الواقع..
قلت: من أنت؟
قال: أنا Harry Truman.. لقد شكلت سياستي البداية الفعلية لسياسة بلادي الخارجية، ونقطة الانطلاق في استراتيجيتها العامة لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تمثل مرحلة جديدة في السياسة الدولية.. لقد أتقنت انتهاز فرص التدخل باسم العدالة والإنسانية.
قلت: فما الشعار الذي حملته، والذي سمح لك بالتدخل؟
قال: أنا صاحب شعار 🙁 الروس قادمون).. لقد ملأت قلوب العالم رعبا من الشبح الروسي لأستغلهم وأستعمرهم وأضمهم ـ شاءوا أم أبوا ـ إلي.. وأجني من وراء كل ذلك خبزا كثيرا، ودماء كثيرة.
قلت: لقد بدأت الحرب الباردة إذن؟
قال: هم يسمونها كذلك.. ولكن الحقيقة المبطنة التي لا يعرفها الكل هي خلاف ذلك تماما.
قلت: لقد كان أهم ما يشغل صانعي القرار الأميركي في تلك الفترة منع انتشار الفكر الشيوعي في العالم.
قال: هذا في الظاهر.. أما في الحقيقة، فنحن لا يهمنا الفكر الشيوعي أو غير الشيوعي.. إن ما يهمنا شيء واحد هو مصالحنا القومية التي خرجنا نغزو العالم في سبيلها.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لقد كان غول الاستبداد الذي تمتلئ به نفوسنا يدعونا إلى قمع وصراع كل من يخالفنا.. كان يمكن أن يحصل حوار بيننا وبين الشيوعيين نجنب فيه العالم ويلات الصراع.. بل كان يمكن أن نلتقي معهم على أشياء كثيرة نستفيد منها جميعا، وتستفيد البشرية.. وينتشر السلام.
قلت: فلم لم تفعلوا؟
قال: لأن عدونا الأول هو السلام.. عندما يعم العالم السلام لا نستطيع أن نسلب وننهب ونمارس دور الشرطي الذي يخافه الكل ويسترحمه الكل.. أخبرني.. أيهما أحب للصوص: الفوضى، أم الهدوء والسلام؟
قلت: لا شك أنها الفوضى.. فبالفوضى يستطيع أن يمد يده من غير أن يلتفت له أحد.
قال: ولذلك نشرنا.. ولا زلنا ننشر الفوضى في العالم.. فلا يؤذينا شيء.. ولا يحد من مطامعنا شيء مثل السكون والسلام.. أضف إلى هذا.. نحن شرطة.. كل أمير منا شرطي.. والشرطة لا بد أن توجد لصوصا..
قلت: فمن اللصوص الذين أوجدتموهم لتصارعوهم، وتخلصوا العالم منهم..
قال: لقد كان اللصوص ـ الذين سميناهم لصوصا ـ لصوصا حقيقيين.. فلذلك كنا نتفق معهم في الباطن، ونختلف معهم في الظاهر.. فاللص لا يمكن أن يكره أصحاب حرفته.. ولكنه قد يتصارع معهم من أجل بعض المواقع.
قلت: فهل تصارعتم على بعض المواقع؟
قال: تصارعنا على كل المواقع.. وجررنا الشعوب كلها إلى الصراع.. حتى شعوبكم البسيطة التي لا ناقة لها في صراعنا ولا جمل.
قلت: فحدثني عن شعوبكم التي لا تزال تصلى بنيران سياطكم.
قال: أولها إيران.. فقد كانت نقطة البداية.. وقد استغلت إدارتي اتفاقية التحالف الثلاثي في النفوذ إلى ايران، ومزاحمة القوة السوفيتية.
فقد نصت هذه الاتفاقية أن تسحب كل من بريطانيا وأميركا والاتحاد السوفيتي، قواتها العسكرية من إيران خلال فترة اقصاها ستة اشهر بعد نهاية الحرب العالمية.
ولأضعك أمام الأحداث بدقة أذكر لك أنه في صيف 1945 اندلعت أحداث هامة في شمال ايران، حيث شكل الاكراد (جمهورية مهاباد)، وسعى (حزب تودة) الى تأسيس جمهورية مستقلة في أذربيجان بمساعدة الجيش الاحمر الذي احبط محاولات السلطة المركزية في انهاء حركات الانفصال.
وقد أثارت هذه الاحداث مخاوفنا على مصالحنا في المنطقة، فلذلك طلبت إدراتي في تشرين الثاني 1945 من بريطانيا والاتحاد السوفيتي سحب قواتهما العسكرية بكاملها من ايران.
واستناداً الى موقف حكومتي، فان إيران قدمت الى مجلس الامن احتجاجاً اتهمت فيه السوفيت بانتهاك سيادة اراضيها، كما واصلت واشنطن احتجاجاً على موسكو لسحب قواتها من اذربيجان.
وافق السوفيت على سحب قواتهم، ولكنهم ضغطوا على الايرانيين لقبول انشاء شركة نفط مشتركة، يحصل فيها الاتحاد السوفيتي على 51% من قيمة العقد، على ان تصل مدة العقد الى خمسين عاماً، حيث تحصل الشركة على امتيازات التنقيب في خمس مناطق شمالية من ايران.
قلت: يا لهؤلاء اللصوص..
قال: لقد كنا جميعا نمارس هذا الدور.. فاجتماعاتنا المغلقة كانت لا تختلف عن اجتماعات المرابين والسماسرة.
قلت: فهل رضخ الإيرانيون؟
قال: لقد وقفنا بجانبهم ليرفضوا هذا العرض.. فما كان للص أن يعين لصا.. لقد أعلن السفير الأميركي في طهران، أن الحكومة الأميركية تعتقد أن إيران حرة في قبول او رفض الاتفاقية، وانها اذا ما قررت الرفض فان أميركا ستقدم لها دعمها للوقوف ضد الابتزازات السوفيتية.. وقد شجع هذا الحكومة الايرانية على رفض اتفاقية النفط في تشرين اول عام 1947.
قلت: لقد قدمتم خدمة للإيرانيين بهذا؟
قال: ليست هناك خدمة بلا مقابل.. وقد نلنا مصالح كثيرة بموقفنا هذا.. أقلها وقوفنا مع المستكبرين في إيران من الشاه وحاشيته في وجه المستضعفين فترة ليست بالقصيرة.
قلت: أهذا هو دوركم الوحيد في المنطقة؟
قال: لا.. لقد أقدمت إدارتي على خطوة ثانية أعظم خطرا.. وهو الدور الذي لا يزال قومك يعانون منه.. إنه الدور المؤثر الذي قاد الى اعلان قيام الكيان الإسرائيلي.
لقد كنا على قناعة تامة بأهمية ايجاد دولة يهودية في فلسطين، باعتبار أن هذه الدولة ستكون ركيزة متقدمة للوجود الأميركي في الشرق الاوسط.. لذلك أقدمنا على سلسلة من الاجراءات والمواقف كانت تقود نحو قيام الدولة اليهودية.
ففي نهاية آب 1945 طلبت من الحكومة البريطانية أن تسمح بالهجرة اليهودية الى فلسطين، تمهيداً لقيام الدولة.
نعم.. لقد ووجهت بمعارضة من قبل مسؤولين كبار في حكومتي، اعتبروا ان قيام دولة يهودية في فلسطين، سيحفز الاتحاد السوفيتي على إيجاد مركز نفوذ في البلاد العربية.
قلت: لقد حصل هذا بالفعل.
قال: أغيباء.. كلكم أغبياء.. لقد كنا نمثل أدوارنا بدقة.. إن السوفيتيين كانوا أكثر اهتماما بإنشاء تلك الدولة منا.. ألم تسمع لينين.. لقد كنا نتقاسم الأدوار، فينهب كل منا ما أطاق من النهب.
إن دورنا لا يختلف عن دور الشطار الذين يحرضون اللصوص، ثم يقبضون الأموال من الناس ليحموهم من اللصوص.
نعم.. لقد حاولت بعض الاوساط ان تقنعني بانشاء دولة مشتركة في فلسطين، غير اني ـ لعقيدتي الصهيونية التي أحملها، وبتأثير من الصهاينة ـ رفضت الاقتراح، كما رفضت اقتراحاً آخر باقامة اتحاد فدرالي يضم دولتين إحداهما عربية والاخرى يهودية، مع انشاء حكومة مركزية تشرف عليها بريطانيا.
وبدل ذلك كله ضغطت على البريطانيين وعلى الامم المتحدة للموافقة على قرار التقسيم، وقد نجح بهذا المسعى، حيث صدر قرار الامم المتحدة في تشرين الثاني 1947 بتقسيم فلسطين.
ولم أقف عند هذا الحد، بل اعلنت انني سأرسل قوات عسكرية أميركية الى فلسطين ما لم يتم تنفيذ قرار التقسيم، لكنني اضطررت الى التخلي عن قراري هذا بعد ان اقنعني مستشاري بان مثل هذه الخطوة تؤثر على المصالح النفطية الأميركية في الشرق الاوسط.
وعندما لم يعد بامكاني فرض التقسيم وافقت على اقتراح فرض وصاية الامم المتحدة على فلسطين، لكني تراجعت عن رأيي عندما ادركت ان موافقتي هذه سوف تكون سبب هزيمتي في انتخابات عام 1948، مما جعلني أرفض اقتراح الوصاية، وأؤيد قيام الدولة اليهودية.
وفي منتصف مارس 1948 اعلن عن قيام دولة اسرائيل، فاعترفت بها إدراتنا فوراً، وقبل ان تطلع ممثلها في الامم المتحدة.
قلت: هذا مع أممنا المستضعفة.. فما فعلتم مع أبناء عمكم من المستكبرين الذين خرجوا مرهقين من الحرب العالمية؟
قال: لقد ورث أبناء عمنا من الأوروبيين أزمتين خطيرتين، احتاجا فيها إلينا أيما حاجة.. فاستغللناهما أبشع استغلال.
قلت: ألستم ترحمون أبناء عمومتكم؟
قال: لا أخفيك أننا نرحمهم، ونفرق في تعاملنا بينكم وبينهم.. ولكنا ـ في أثناء رحمتنا لهم ـ لا ننسى مصالحنا.. فمصالحنا فوق كل اعتبار.. إننا من أمة لا تعرف الإيثار والرحمة التي تعرفونها.
لقد نشرت في ذلك الحين شعارا يقول 🙁 نخدم أنفسنا بخدمتنا للآخرين)
قلت: فما هي الأزمتان اللتنان مر بهما أبناء عمومتكم، وكيف وقفتم بجانبهم؟
قال: هما كابوسان ثقيلان ورثتهما أوروبا من الحرب.. ازمة اقتصادية خانقة، وخطر رابض على حدودها الشرقية، لا تمتلك لدرئه القوة الكافية.
ولم يكن أمام أوروبا خيار سوى اللجوء إلينا لأننا خرجنا من الحرب لا نحمل الجراج التي يحملونها، بل نفضنا غبار الحرب، وأخذنا نبحث عن مكاسب لا تنتهي.
قلت: فماذا فعلتم مع الكابوس الأول؟
قال: قدمنا مشروع مارشال عام 1947 لإنعاش الاقتصاد الأوروبي المنهار.. وقد ساهم هذا المشروع في إنقاذ اقتصاد الدول الغربية من مشاكله الخطيرة، الا انه في مقابل ذلك جعله تحت هيمنة اقتصادنا.
قلت: وعسكريا؟
قال: أعلنا عن استعدادنا لدعم الدول الأوروبية التي تتعرض لتهديد السوفيت، كما اعتبرنا أنفسنا مسؤولين عن امن وسلامة هذه الدول، وهذا ما أتاح لنا تمثيل دور الشرطي خير تمثيل.
وقد استفدنا لتدعيم هذا الدور من سلاحين مهمين لا نزال نستخدمهما:
أما الأول.. فهو السلاح النووي.. السلاح الذي اخترعته الشياطين لقهر المستضعفين.. وقد كنا مطمئنين إلى تفوقنا النووي على الاتحاد السوفيتي، وكنا نرى في هذا التفوق ما يسمح لنا بممارسة دور الشرطي خير ممارسة.. وقد كان هذا السلاح رادعاً لأي تحرك سوفيتي نحو الغرب، لان الحرب المقبلة فيما لو فكر السوفيت بشنها على أوروبا، لا بد ان تكون شاملة في نظرنا.. وهذا يعني تدمير الاتحاد السوفيتي بالسلاح النووي.
وانطلاقاً من هذا اعتبرنا السلاح النووي أساس المواجهة الفاعل مع السوفيت، والعنصر الاكبر الذي يتوقف عليه نجاح استراتيجية الحصر..
ولكن هذا لم يستمر طويلا.. ففي بداية الخمسينات امتلك السوفيت السلاح النووي.. وحينذاك تراجعت قيمة العنصر الاساس في استراتيجية الحصر، الا أننا ـ مع ذلك ـ لم نتراجع عن نظرتنا للسلاح النووي، اذ بقينا ننظر اليه على انه اداة الحسم في الحرب المقبلة.
قلت: أي حرب؟
قال: أي حرب..
قلت: هذا السلاح الأول.. فما السلاح الثاني؟
قال: هو ما مارسه اليهود والمشركين مع نبيكم في غزوة الخندق..
قلت: الأحلاف العسكرية..
قال: نعم.. فهي السلاح الذي يفعل ما لا يستطيع السلاح النووي القيام به.
قلت: فمع من تحالفتم؟
قال: مع كل الشياطين.. لقد أقمنا حزاما قويا من التحالفات والقواعد العسكرية التي تقف بوجه أي محاولة توسع شيوعي نحو البلدان الاخرى.
لقد كانت الظروف التي رافقت حكوماتنا على تبني استراتيجية الحصر، مشجعة على هذا الاتجاه، حتى أنه في بعض الحالات جاءت بمبادرة من الدول الغربية، ثم استجبنا لها وادخلناها في برامجنا الاستراتيجية.
قلت: لا زلنا نسمع عن الحلف الأطلسي.. وهو لا يزال يمارس دوره في سحق المستضعفين.. فهل كان من تنظيركم وتأسيسكم؟
قال: لقد كانت فكرة إنشاء مثل هذا الحلف تدور في ذهني، لكني لا أزعم لنفسي جرم تأسيسه، فإنشاؤه لم يكن بمبادرة أميركية، انما جاء بمبادرة الدول الأوروبية.
لقد كانت بريطانيا وفرنسا في طليعة الدول الغربية المتخوفة من الخطر السوفيتي، وقد عرضت هاتان الدولتان على دول بلجيكا وهولندا واللكسمبورغ فكرة عقد معاهدة سياسة فيما بينها.. وقد تم ذلك في بروكسل في 17 آذار 1948، حيث عقد مؤتمر لهذه الدول ادخل التحالف العسكري ضمن المعاهدة باعتباره ضرورة ملحة لتحقيق اهدافه.
ثم بدأت هذه الدول مفاوضاتها معنا بغية اشراكها في المعاهدة لتنظيم دفاعات عسكرية قوية لأوروبا الغربية، فوافقت إدراتي على الدخول في صيغة المعاهدة.. فقد كانت متلهفة لمثل هذه التحالفات.
بعد موافقتنا بدأت الدول الخمس تسعى لايجاد ميثاق عسكري يتولى مهمة حماية امن شمال الاطلسي، وقد عرضت هذه الفكرة على الدول الغربية الاخرى، فوافقت كندا والنرويج والدنمارك وآيسلنده والبرتغال وايطاليا، ثم انضم إلى الحلف تركيا واليونان.. ثم انضمت ألمانيا الغربية، ليصبح عدد دول الحلف 14 دولة.
قلت: فلم تكونوا إلا طرفا واحدا في هذا الحلف؟
قال: نحن لا نرضى في أي طرف نكون فيه بغير الزعامة والاستبداد.. ألا تسمع بحق الفيتو؟
قلت: بلى.. وهو ما تستعملونه دائما في صفع وجوه المستضعفين لتختموا به كل ما يبذولونه من جهود.
ضحك، وقال: نعم.. لقد كنا نضحك على جهودهم وأموالهم التي يرشون بها كل الناس.. مع أن في انتظارهم صخرة الفيتو التي تفقدهم صوابهم.
قلت: فهل مارستم هذا الدور مع هذا الحلف؟
قال: أجل.. لقد أصبحت سياسة الحلف العامة وطبيعة المهام الموكلة اليه تسير حسب وجهات نظرنا.. وذلك من خلال آلية ادارة شؤون الحلف العسكرية والسياسية، فقد جعلت إدارتنا قيادة الاسلحة النووية والتقليدية من اختصاصنا لوحدنا، فصار قرار الاستخدام الفعلي لقدرات الحلف بيدنا.. كما أننا وزعنا الاسلحة النووية والتقليدية على مناطق الحلف بالشكل الذي يتناسب مع استراتيجيتنا في كل مواجهة.
قلت: ألم يثر تسلطكم هذا نخوة المنتمين لهذا الحلف؟
قال: أجل.. وذلك شيء طبيعي.. فليس هناك من استمر على صداقتنا ومحبتنا.. فأنانيتنا تجعلنا هدفا لكل الأحقاد.. لقد اتخذ بعض أعضاء الحلف مواقف متصلبة منا بشكل خاص ومن الحلف بشكل عام، فقد انسحبت فرنسا من الحلف عام 1966، وازدادت بعد ذلك مطالبة الدنمارك والنرويج بالانسحاب ايضاً، ورفضت اسبانيا الانضمام للحلف لنفس الدوافع.
ولكن بالرغم من ذلك إلا انه ظل اقوى الاحلاف التي اسسناها او ساهمنا في تأسيسها، فقد حقق الاطلسي الى حد كبير العديد من المهام الموكلة اليه، حيث ساهم في إمداد دور الشرطي الذي أردنا فرضه على العالم.
بعد أن امتلأ قلبي غثاء من ذلك النفاق الذي تحكم في السياسة الأمريكية، سألت معلمي عن سره، وسر النفوس التي طفحت به، فأشار لي إلى مرآة تشبه التلفزيون، وقد ارتسمت فيها الكثير من الدماء والمآسي والآلام، فقلت له: ما هذه المرآة؟
قال: هذه المرآة هي أكبر ألوان العذاب التي يتعذب بها هؤلاء الطغاة.. إنها تريهم جرائمهم ونفوسهم وقلوبهم القاسية..
فجأة رأيت رجلا يشبه الهنود الحمر يتوسط تلك المرآة، وكان يحمل عصا غليظة يقرع بها بعض الرؤوس، وهو يقول: اسمعني جيدا يا [وليم برادفورد].. لقد كنت حينها حاكم مستعمرة بليتموت، وكنت تقول عن الأوبئة التي توزعونها علينا، وتقتلوننا بها: (إن نشر هذه الأوبئة بين الهنود عمل يدخل السرور والبهجة على قلب الله، ويفرحه أن تزور هؤلاء الهنود وأنت تحمل إليهم الأمراض والموت، وهكذا يموت 950 هندي من كل ألف، وينتن بعضهم فوق الأرض دون أن يجد من يدفنه إنه على المؤمنين أن يشكروا الله على فضله هذا ونعمته)
ثم راح يقرع رأسا أخرى، ويقول: أنت الذي أنشأت نظام السخرة لبني قومي.. هل تذكر عام 1846م حين احتلت جيوشك كاليفورنيا، وتمكنت من إبادة 80 في المائة من هنود كاليفورنيا بالسخرة حيث نشط بجانب ذلك التجارة بالأطفال والنساء.
راح يقرع رأسا أخرى، ويقول: أنت أيها المستكبر .. أتذكر ما فعلت سنة 1830م.. لقد سننت قانون ترحيل الهنود قسراً، فأصبح من حق المستعمر الأمريكي أن يطرد الهندي من أرضه ويقتله إذا أراد، ويومها حصدت قوات الجيش الأمريكي من لم يمت من 5 شعوبٍ هندية كاملة (الشيروكي – والشوكتو – والشيسكومسو – والكريك – والسيميتول) بعد تهجيرهم قسراً إلى مناطق موبوءة بالكوليرا.
راح يقرع رأسا أخرى، ويقول: أنت أيها المستكبر .. أنت يا جورج واشنطن .. يا والد الولايات المتحدة الأمريكية.. أنت الذي أطلق عليك هنود السينيكا اسم [هدام المدن].. وصدقوا في ذلك، فبموجب أوامرك تم تدمير 28 مدينة من أصل 30 مدينة كاملة لهنود السينيكا وحدهم من البحيرات الكبرى شمالاً وحتى نهر الموهوك، وفي فترة قياسية لا تزيد عن خمس سنوات، وهذا ما تم أيضاً بمدن الموهوك، والأنونداغا، والكايوغا، حتى أن أحد زعماء الأروكوا قال لك عام 1792م (عندما يذكر اسمك تلتفت نساؤنا وراءهن مذعورات وتشحب وجوههن، أما أطفالنا فإنهم يتلببون بأعناق أمهاتهم من الخوف)
راح يقرع رأسا أخرى، ويقول: أنت أيها المستكبر .. أنت يا [توماس جيفرسون]، يا من يلقبونك كذبا وزورا [رسول الحرية الأمريكية وكاتب وثيقة استقلالها].. هل تذكر ذلك اليوم الذي أمرت فيه وزير دفاعك بأن يواجه الهنود الذين يواجهون التوسع الأمريكي بالبلطة، وأن لا يضع هذه البلطة حتى يفنيهم، وقلت له: (نعم إنهم قد يقتلون أفراداً منَّا، ولكننا سنفنيهم ونمحو آثارهم من الأرض)
راح يقرع رأسا أخرى، ويقول: أنت أيها المستكبر .. أنت يا […].. أتذكر عام 1636م حين استخدمت السلاح الجرثومي ضد بني قومي.. لقد كتبت تطلب من قوادك أن يجروا مفاوضات مع الهنود، ويقدموا لهم بطانيات مسمومة بالجدري، فأجابك أحدهم بقوله: (سأحاول جاهداً أن أسمهم ببعض الأغطية الملوثة التي سأهديهم بها، وسآخذ الاحتياطات اللازمة حتى لا أصاب بالمرض).
وببطاطين ومناديل تم تلويثها في مستشفى الجدري انتشر الوباء بين أربعة شعوب هندية (الأوتاوا – ينيغو – والمايامى الينى – وناييه) وأتى على أكثر من مائة ألف طفل وشيخ وامرأة وشاب.
وبعد حوالي 15 سنة كنتم تتساءلون عن أفضل وسيلة للقضاء على هنود كاليفورنيا، وقد كتبت حينها إحدى صحف سان فرانسيسكو تقول: (إن الهنود هنا جاهزون للذبح وللقتل بالبنادق أو بالجدري … وهذا ما يتم الآن فعلاً)
راح يقرع رأسا أخرى، ويقول: أنت أيها المستكبر .. أنت يا […].. لقد كنت طبيبا.. وكنت مستبدا مستكبرا .. أتذكر مقولتك عام 1855م .. دعني أذكرك بها.. لقد قلت: (إن إبادة الهنود الحمر هي الحل الضروري للحيلولة دون تلوث العرق الأبيض.. وإن اصطيادهم اصطياد الوحوش في الغابات مهمة أخلاقية لازمة لكي يبقى الإنسان الأبيض فعلاً على صورة الله)
راح يقرع رأسا أخرى، ويقول: أنت أيها المستكبر .. أنت يا [فرانسيس ياركين].. لقد كنت مؤرخا.. وكنت مستبدا مستكبرا .. أتذكر مقولتك: (إن الهندي نفسه في الواقع هو المسئول عن الدمار الذي لحق به لأنه لم يتعلم الحضارة ولابد له من الزوال … والأمر يستأهل)
راح يقرع رأسا أخرى، ويقول: أنت أيها المستكبر .. أنت يا [..].. لقد كنت قاضيا في المحكمة العامة في مستعمرة ماسوسيتش.. وكنت من هواة التمثيل بالأحياء والتلاعب بهم.. هل نسيت هوايتك في سلخ فروة الرأس .. هل نسيت كم رصدت من مكافآت لمن يقتل هندياً، ويأتي برأسه إليك، ثم اكتفت بعد ذلك بسلخ فروة الرأس..
ومنذ ذلك الحين.. وبدءاً من [وتزل] صار قطع رأس الهندي وسلخ فروة رأسه من الرياضات المحببة في أمريكا، بل إن كثيراً منهم كان يتباهى بأن ملابسه وأحذيته مصنوعة من جلود الهنود .. وكانت تنظم حفلات خاصة يدعى إليها علية القوم لمشاهدة هذا العمل المثير – سلخ فروة رأس الهندي –
راح يقرع رأسا أخرى، ويقول: أنت أيها المستكبر المدعو [الكولونيل جورج روجرز كلارك] هل تذكر حفلة أقمتها لسلخ فروة رأس 16 هندي.. حينها طلبت من الجزارين أن يتمهلوا في الأداء، وأن يعطوا كل تفصيل تشريحي حقه لتستمتع الحامية بالمشاهد.. ومع ذلك كله ظللت فترة طويلة رمزاً وطنياً أمريكياً وبطلاً تاريخاً..
راح
يقرع رأسا أخرى، ويقول: أنت أيها المستكبر المدعو [أندره جاكسون].. لقد كنت رئيسا
من رؤساء أمريكا الكبار.. وقد ظلت صورتك في ورقة العشرين دولار فترة طويلة.. ألا
أتزال تذكر أنك كنت من عشاق التمثيل بالجثث وكان يأمر بحساب عدد قتلاك بإحصاء
أنوفهم المجدوعة وآذانهم المصلومة، وقد رعيت بنفسك حفلة التمثيل بالجثث لـ 800
هندي يتقدمهم الزعيم [مسكوجي]
([1]) استفدت الكثير من التوثيقات المرتبطة بهذا من كتاب: مبادئ الرؤساء الامريكان، تأليف: سليم الحسني.
([2])صدر هذا المبدأ رسمياً في كانون الأول سنة 1823.