بداية الحكاية

بداية الحكاية

كنت في المستشفى مع صديقي الوهابي التائب، بسبب سهام الحقد التي أصابتنا من القحطاني ونونيته([1])، وبعد أن ارتفع عنا الخطر، وطلبنا العودة إلى بيوتنا، لم يؤذن لنا حتى يتأكد الأطباء من سلامتنا تماما.

وبينما نحن كذلك، وقد غلب علينا الصمت والألم إذا بالممرضين يدخلون علينا جمعا من الشباب يتألمون آلاما شديدة، فسألنا عن سر ما حصل لهم، فذكروا لنا أنهم أكلوا لحوما مسمومة في الحي الجامعي الذي يسكنون فيه.

وهنا أصابت صاحبنا الوهابي التائب نوبة من النوبات التي كانت تعتريه أحيانا، فراح يتنقل بينهم، ويقول: ما الذي حصل؟.. أي لحم أكلتم؟.. أي جيف سرطتم؟.. أي سم بلعتم؟

ثم اقترب من أحدهم، وقال: لاشك أنك أكلت لحم الوادعي.. أعرفه.. إن لحمه مسموم جدا.. لقد كان الجميع يتحدث عن ذلك.

واقترب من آخر، وقال: أما أنت.. فلا أظن إلا أنك أكلت لحم الحجوري.. إن لحمه قد خزن كل أنواع السموم.. لا أظن إلا أنك لن تخرج من هذا المستشفى.

واقترب من آخر، وقال: أما أنت.. فلا أظن إلا أنك أكلت لحم المدخلي أو الحربي أو التويجري أو الهلالي.. إن جميع لحومهم متشابهة.. إنها وسم الأفاعي والعقارب والحيات سواء.

وبقي يفعل ذلك إلى أن أمسكه الممرضون، وحقنوه بحقنة مهدئة، عادت إليه نفسه بعدها.

التفت إلي وإلى الجميع، وقال: اعذروني.. لم أدر ما أفعل، ولا ما أقول..

قلت: ما الذي حصل؟ هل تذكرت حدثا حصل لك فيما مضى من عمرك؟

قال: أجل.. لم أتذكر حادثا واحدا، بل تذكرت أحداثا كثيرة مؤلمة، كنت فيها ممتلئا حماقة وغفلة.. كان فيها (غياب المنطق).. و(المكاييل المزدوجة).. و(التطفيف في الميزان).. وغيرها من الجرائم صفات لي لقنتها كما يلقن الحمقى والمغفلون.. لقد كان مشايخي حينها يتلاعبون بعقلي كما شاءت لهم أهواؤهم.. فلهم لكل حادث حديث.. ولكل قضية ميزان خاص بها إلى أن طاش عقلي، وغادرني لبي.

قلت: فما علاقة ذلك باللحوم المسمومة؟

ابتسم، وقال: لقد كانت (اللحوم المسمومة) من جملة العبارات التي كنا نسمعها كثيرا في مجالسنا مع السلفيين، وكانوا يستخدمونها متى شاءت لهم أهواؤهم، ويتركونها متى شاءت، من غير منطق ولا موازين.. لا يريدون بذلك إلا إلجام خصومهم وإفحامهم.

قلت: فما الذي يقصدونه منها؟

قال: لقد كانوا يقصدون منها حرمة غيبة العلماء، أو انتقادهم، أو الحديث عنهم بغير ما تسمح به أهواؤهم.

قلت: أعرف العبارة جيدا، إنها متداولة مشهورة حتى اعتقد البعض أنها حديث مع أنها ليست سوى مقولة للحافظ ابن عساكر، فقد قال في مقدمة كتابه (تبيين كذب المفتري): (اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، فمن أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب)([2])

وبعضهم يروي عن أحمد أنه قال: (لحوم العلماء مسمومة، من شمها مرض، ومن أكلها مات)([3])

وبعضهم نظم ذلك شعرا، فقال:

لحوم أهل العلم مسمومة ومن يعاديهم سريع الهلاك

فكن لأهل العلم عونا،وإن عاديتهم يوما فخذ ما أتاك

قال: أجل.. تلك عبارته مع أن النصوص المقدسة تبين أن جميع اللحوم محرمة ومسمومة سواء كانت لحوم علماء أو غيرهم، بل سواء كانت لحوم مسلمين أو غير مسلمين.. فلكل إنسان حرمته التي لا يجوز انتهاكها بغير حق.

قلت: لقد شوقتني إلى أحاديثك.. فهلا حدثتني ببعضها اليوم عسانا ننسى بعض ما نعانيه من آلام.

قال: أجل.. سأحدثك عن مكاييلهم المزدوجة مع تلك العبارة.. ولعلك بعدها تعذرني في موقفي الذي وقفته اليوم.

اعتدل في جلسته، ثم قال: قبل سنوات طويلة، وفي ريعان شبابي، أردت السفر عبر الحافلة إلى الجنوب لضرورة من الضرورات، وكنت حينها رفيقا لصديق لي سجن قبلي في سجون الوهابية، ولهذا كنت – وبحكم سابقيته للإسلام في تصوري في ذلك الحين – أتبعه تبعية مطلقة.. بل أراعي كل تصرف من تصرفاتي أو موقف من مواقفي خشية على نفسي من أن يحكم علي في أي لحظة بكفر أو بدعة أو ضلالة، أو يودعني من غير أن أشعر سردابا من سراديب جهنم.

كان اسمه ربيع، وكان يحب هذا الاسم حبا شديدا، لأنه يتفق مع اسم معشوقه (ربيع بن هادي المدخلي) الذي فنى فيه، فصار لا يتحدث إلا عنه، ولا يسبح إلا بحمده، وكان يعظمه تعظيما عجيبا، وكان يقول لي كل حين: إنه أستاذ التجريح في هذا العصر بلا منازع.. ولا يمكن أن تكون هناك سنة بدون أن يصحبها التجريح..

وكان يقول لي: لو أن ابن تيمية رأى ربيعا لفرح به.. ولو أن ابن عبد الوهاب شاهد قوته في الحق لأصبح من تلاميذه.

وهكذا إلى أن جعلني مثله أقدم كل قرابين الخضوع والخشوع والركوع لربيع المدخلي.

كانت حافلات الجنوب عندنا – بسبب بعد المسافة – مزودة بكل وسائل الترفيه والراحة حتى لا يمل المسافرون من الطريق الطويل.. وكان من أهم تلك الوسائل التلفزيون المركب في مقدمة الحافلة، ويشرف عليه وعلى وضع أشرطة الفيديو السائق نفسه.

وقد كان السائق في كل حافلة هو مدير التلفزيون، والمشرف على البرامج التي تعرض فيه، وكان الركاب بحكم كثرة الحافلات ينتقون من الحافلات ما يتناسب مع مزاجهم.

وقد شاء الله أن نمر في رحلتنا تلك بحافلتين مختلفتين تماما.. وستكون قصتي كلها حول هاتين الحافلتين، وما يعرض على شاشتها التلفزيونية.

قال ذلك، ثم التفت للحضور من المرضى والممرضين، وقال: الحياة كلها رحلة.. ونحن إنما ننتقي في حياتنا المراكب التي نصل بها إلى المحطة النهائية.. فمنا من يركب حافلات مقدسة، ومنا من يركب حافلات مدنسة.. وبقدر قداسة الحافلات التي نركبها بقدر جمال المحطات التي نصل إليها.

قلت: أنا في شوق شديد لحديثك.. فهيا حدثنا.

صمت قليلا، وكأنه يتذكر الحادثة بدقة، ثم قال: عندما امتلأت مقاعد الحافلة بالمسافرين، وحان وقت الانطلاق، وقف السائق مخاطبا لنا بكل أدب، وقال: أيها المسافرون الأعزاء يسرني أن أكون في خدمتكم هذه الليلة.. وأنتم تعلمون بعد المسافة وطول الطريق.. ولهذا فقد أتيت لكم ببعض الأشرطة العلمية النافعة حتى لا يضيع وقتكم في لغو المسلسلات والأفلام.. فإن لم يرقكم هذا، فأخبروني، فأنا في خدمتكم.


([1])     حسبما ذكر في آخر كتاب (اعترافات هارب من سجون الوهابية)

([2])     تبيين كذب المفتري، ص: 28.

([3])     المعيد في أدب المفيد والمستفيد، ص: 71.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *