انشقاقات باسم الإسلام

انشقاقات باسم الإسلام

من الأمور المفزعة التي كنت أحتار فيها دائما، ولا أعلم لها سببا معقولا كثرة الانشقاقات في صفوف الحركات الإسلامية بأنواعها المختلفة: السياسية والجهادية والسلفية، وغيرها([1]) .

لقد ظللت أقول لنفسي: لم يتصدعون كل هذه التصدعات، ودعوتهم واحدة، ومصدرهم الذي يقدسونه واحد، وهيئة صلاتهم وصومهم وحجهم واحدة.. وفوق ذلك كله هم يرددون كل حين قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال: 46]

ويذكرون الناس بأن ﴿ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [الأنبياء: 92]

ويصرخون على المنابر مخاطبين الجماهير العريضة كل حين بأن من أكبر العقوبات الإلهية الاختلاف والتنازع والعداوة، ويذكرون لهم في ذلك قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: 14]

ويضربون لهم مثلا على ذلك بما حصل في غزوة أحد، والتي نزل فيها قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 152]

ويرددون مع هذا كله ما ورد من الأحاديث الشريفة الكثيرة الناهية عن الفرقة والاختلاف.

ولكن مع ذلك كله كانت تلك الآيات وتلك الأحاديث لا تتجاوز حناجرهم.. فالواقع واقع عداوة وبغضاء وشحناء لا بداية لها ولا نهاية.

وقد ظللت زمنا طويلا أتأسف لهذا وأتألم له، وخاصة عندما أرى غير المسلمين ينظرون ساخرين إلى دعاة الإسلام، وهم يتصدعون كما يتصدع الصخر، بل كما تتصدع التربة التي لا تسقى أمدا طويلا.

ولم يكن ألمي بسبب أولئك الدعاة، فهم بشر، ولا شيء فيهم يجعل المرء يحزن عليهم، ولكن ألمي هو بسبب الإسلام نفسه، ذلك الدين العظيم الذي يوحد الخلائق جميعا، ويوجهها نحو ربها توجيها مليئا بالجمال والمحبة والسلام، والذي جعله هؤلاء وسيلة للفرقة والتنافر والتناحر.

لقد كنت أصيح من حيث لا يسمعني أحد: (أيها المنشقون.. اتركوا الإسلام الذي تتاجرون به، وتصدعوا كما يحلوا لكم.. لا تجعلوا الناس ينظرون إلى الدين وكأنه سبب ما يحصل لكم من خلاف.. لا تجعلوا الناس يضحكون على الإسلام.. البسوا كل عباءة، واتركوا عباءة الإسلام التي تتباهون بها.. مارسوا شهوة التصدع التي تلتذون بها تحت عباءة الشيوعية أو الليبرالية أو الجمهورية.. أو أي اسم من الأسماء التي يتداولها الساسة، واتركوا الإسلام الجميل في حاله ولأهله، ولا تحجبوا الناس عنه بلعبكم الصبيانية)

كنت أقول هذا متألما، ولم يكن يسمعني أحد، لأن الإعلام كان غاصا بأخبار المنشقين على أنفسهم، وبالصراعات الكثيرة التي تجعلهم ينشرون غسيلهم كل حين بأبشع عبارات البذاءة والفحش.

ذات يوم.. والألم لا يزال يسري في نفسي على أشد ما يكون، قرأت خبرا جميلا نشرته صحيفة أتصور أنها محترمة، لأنها الوحيدة التي نشرت هذا الخبر، أما سائر الجرائد فاكتفت بنشر غسيل المتصارعين.

كان الخبر قصيرا، ولكنه مهم جدا، لقد ذكرت أن ممثلين من جميع الأحزاب المنشقة على بعضها، سيجتمعون، ليزيلوا الخلافات بينهم، ويعودوا إلى العمل في المتفق عليه.. وذكرت كذلك أن جمعا من كبار العلماء سيحضرون أيضا ليذكروا المنشقين بضرورة رأب الصدع، وتوحيد الصف.

لم أكن حينها بحاجة إلى طاقية إخفاء، ولا إلى ترديد أي أسماء، ولا إلى حرق البخور، لأن الاجتماع كان عاما، وكان يمكنني أن أحضره بسهولة كمتفرج طبعا.

حملت قلم رصاصي وأوراقي القليلة، وذهبت إلى الاجتماع، وحضر الجميع، وجلسوا على المنصة، وعلى أرائك متجاورة، وكان الكل يبتسم للكل، وكانت الأيدي تسارع إلى المصافحة.. وكان المنظر من أجمل المناظر.. فها هو الصدع الذي أرقني كثيرا يزول، وهاهو الشقاق يتحول إلى وفاق، وها هو التنكر والصراع يتحول إلى ألفة وسلام.

لكن الأمر لم يدم طويلا.. فسرعان ما بدأ الباطن يرشح بما فيه ليزيل كل تلك المساحيق التجميلية عن الوجوه الممتلئة بالتصنع الكاذب.

وقد بدأ الشقاق أول ما بدأ بسبب تقدم أحدهم ليكون أول من يتكلم.. حينها غضب أحد الحاضرين، وقال بكل قوة، غير مراع لحشود المتفرجين: ما هذا يا جماعة؟.. منذ متى صار هذا الرويبضة الإمعة يتصدر المجالس، وتستهل به الأحاديث.. إنه فاسق بن فاسق وفاجر بن فاجر ذلك الذي يضيع وقته بالاستماع له.. فاهنئوا بالاستماع.. ولن أبقى هنا لحظة واحدة.

خرج الرجل، وخرج معه مناصروه يلعنون الحاضرين جميعا، ولا يستثنون أحدا.. حتى أنا البسيط الذي لا علاقة له بطرف من الأطراف أمطروا علي من وابل لعناتهم ما بلل جميع ثيابي.

قلت في نفسي: لا بأس.. الخير فيما بقي.. وفيمن بقي..

ثم التفت لمجاوري، وقلت له، وكأنني أسري عنه: الحمد لله.. ذهب واحد فقط، وبقي عشرة..

قال لي مجاوري: ولكن ذلك الواحد هو أكبر الأحزاب، وأكثرها شهرة.

قلت له: لا بأس.. سيعوض الله بالتسعة الباقين، فعندما يتوحدون سيصبحون كائنا ضخما لا يمكن لأحد أن ينافسه.

بعد ربع ساعة أخرى، وبعد انتهاء حديث الأول، نظر المنظم إلى الحاضرين ليطلب منهم أن يعينوا هم من يتكلم ثانيا.. وهنا حصل خلاف ثان خرج بسببه اثنان وبقي سبعة.. وحمدت الله على السبعة، وتفاءلت بها.

لكن السبعة لم تبق سبعة إلا قليلا، فقد حصل الخلاف بينها، وكان السبب بسيطا جدا هذه المرة، وهو الخلاف حول اسم الائتلاف الجديد، فقد رأى ثلاثة من الحاضرين أن يسمى بـ (ائتلاف المودة)، ورأى ثلاثة آخرون أن يسمى بـ (ائتلاف السلام)،  ورأى السابع أن يسمى بـ (ائتلاف العدالة)

وعندما رأى السابع أنه بقي وحده، وليس معه أحد انصرف هو الآخر، يصب لعناته على الحاضرين والمحضرين..

بقي الفريقان، فحمدت الله، وقلت في نفسي ولمجاوري: لا بأس.. لقد كانوا عشرة أحزاب، والآن سيتحولون فقط إلى ستة أحزاب، والستة خير من العشرة.

قال لي مجاوري: لا تحلم كثيرا.. فما زال هناك الكثير حتى تفرح.

بدأ الفريق الثلاثي الأول، والذي اختار لنفسه اسم (ائتلاف المودة)، اجتماعاته الخاصة لتوحيد صفه، وكان أول ما طرح اسم القائد الجديد لذلك الائتلاف، وهنا حصل الخلاف الشديد بين الأعضاء، فالكل يريد أن يكون القائد من فريقه، ويبرر ذلك بكل المبررات، وهنا انشق الثلاثة عن ثلاثة، ولم يبق من الجماعة غير (ائتلاف السلام)،  فتفاءلت باسم السلام، وزاد من تفاؤلي أن هذا الفريق لم يصعب عليه توحيد القيادة، فسرعان ما اختار قائده.. لكن خلافا بسيطا حصل حول تحديد المقر الذي تقع فيه الاجتماعات والمؤتمرات رأب الصدع من جديد، فخرج كل طرف من (ائتلاف السلام) يلعن الحاضرين والمحضرين.

عدت إلى بيتي خاوي الوفاض من كل تلك الآمال التي حملتها معي، ولكني عرفت الكثير من أسرار الانشقاقات والتصدعات.

في الصباح رحت أقرأ في الجرائد التي تنشر الغسيل، فكدت يغمى علي.

لقد رأيت أن العشرة تحولت إلى عشرين..

وذلك بسبب انشطار بسيط حصل في كل حزب من الأحزاب، فقد حمَّل الراغبون من كل حزب في الائتلاف ما حصل من الانشقاق لرئيس حزبهم، ثم انشقوا عليه ليشكلوا حزبا جديدا.


([1])  وهي من الظواهر المعروفة في صفوف الحركات الإسلامية بأنواعها المختلفة، ففي لبنان مثلا استقل المؤسس للعمل الإسلامي في لبنان الدكتور فتحي يكن، بتنظيم جديد أسماه جبهة العمل الإسلامي، كذلك الأمر في العراق، حيث انقسم الإسلاميون إلى فصيلين، بل إلى عدة جبهات، الحزب الإسلامي بزعامة الدكتور محسن عبد الحميد، وحارث الضاري رئيس هيئة علماء لمسلمين، ولكل من التنظيمين برنامج سياسي وإعلامي مستقل.. وفي السودان نرى الخلاف المشهور بين الترابي والرئيس البشير.

   أما في الجزائر، فحدث ولا حرج، فالمتابع لمسيرة الإسلاميين الجزائريين بمختلف أحزابهم وحركاتهم، يرى بوضوح ظاهرة الانشقاقات المتكررة في صفوفهم، بحيث انقسمت الحركة إلى حركتين أو ثلاث، وانشطر الحزب إلى شطرين أو أكثر، بحجج مختلفة مثل تصحيح المسار، والفرار بالمنهج، وانحراف المسيرة، واستهلاك الرصيد، وتجديد النضال بوسيلة مختلفة شكلا ومضمونا.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *