المقدمة

(القرآن الكريم هو حبل الله المتين.. وهو الذكر الحكيم، والصراط المستقيم.. وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه.. من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم..)
هذه العبارات وغيرها نسمعها كثيرا.. ونرددها كثيرا.. ولكنا عند التأمل في حياتنا بجوانبها المختلفة نجد الهوة السحيقة بين تلك الأوصاف العظيمة، وبين واقعنا الممتلئ بالمآسي.
ولذلك فإنا في هذه المقالات نحاول أن نتلمس بكل هدوء تلك الانحرافات التي جعلت المسلمين ينحرفون عن هدي كتابهم، بل يشوهونه.. فيحولونه من كتاب هداية وتبصرة وذكرى وموعظة إلى كتاب تاريخ وأسطورة وخرافة وشعوذة وإرهاب.. أو يعطلون معانيه.. أو يحرفونها تحريفا شديد.
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن هذا الانحراف سيقع في هذه الأمة كما وقع في غيرها من الأمم.. قال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } [آل عمران: 7]
فقد وجد في تاريخنا وتراثنا الكثير ممن يتتبع المتشابه، ويفسر الدين على أساسه.. بل يؤول المحكم لينسجم مع هواه.. تاركا الراسخين في العلم الذين أخبر الله أنهم يدركون المحكم، ويفقهون المتشابه.
ولذلك تحول القرآن الكريم بواسطة تلك الأيدي الآثمة إلى كتاب يحض على الكراهية، ويدعو إلى الأسطورة، وينشر الخرافة، ويحرض على الإرهاب، ويفرق بين الناس على أسس عنصرية مقيتة.
وهذا نفس ما حصل في الأمم السابقة التي هجرت كتابها أو حرفت معانيه.. كما قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [آل عمران: 187]، وقال: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [البقرة: 101]
ومما ورد في تفسير هذه الآيات قول الإمام الجواد: (وكل أمة قد رفع الله عنهم علم الكتاب حين نبذوه وولاهم عدوهم حين تولوه، وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية)([1])
وقد أشار أبو حامد الغزالي إلى النبذ الخطير لجواهر القرآن وحقائقه العظيمة، فقال: (إني أنبهك على رقدتك، أيها المسترسل في تلاوتك، المتخذ دراسة القرآن عملا، المتلقف من معانيه ظواهر وجملا، إلى كم تطوف على ساحل البحر مغمضا عينيك عن غرائبها؟ أوما كان لك أن تركب متن لجتها لتبصر عجائبها؟ وتسافر إلى جزائرها لآجتناء أطايبها؟ وتغوص في عمقها فتستغني بنيل جواهرها؟ أوما تعير نفسك في الحرمان عن دررها وجواهرها بإدمان النظر إلى سواحلها وظواهرها؟ أوما بلغك أن القرآن هو البحر المحيط؟ ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين كما يتشعب عن سواحل البحر المحيط أنهارها وجداولها؟ أوما تغبط أقواما خاضوا في غمرة أمواجها فظفروا بالكبريت الأحمر؟ وغاصوا في أعماقها فاستخرجوا الياقوت الأحمر، والدر الأزهر، والزبرجد الأخضر؟)([2])
وقد أشار قبل ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين ذكر الفئة الباغية التي تنحرف بالأمة انحرافا شديدا، فجعل من أهم أوصافها إقامتها لحروف القرآن، وإعراضها عن معانيه وحقائقه ومقاصده، ففي الحديث عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن بعدى من أمتى ( أو سيكون بعدى من أمتى ) قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرّميّة، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة)([3])
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (سيكون في أمتي اختلاف وفرقه؛ قوم يحسنونَ القيلَ، ويسيئون الفعلَ، يقرءونَ القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرّميّة، لا يرجعون حتى يرتد على فُوقِهِ؛ هم شر الخلق والخليقةِ، طُوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم)([4])
وبناء على هذه الدعوة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمواجهتهم وحربهم كانت هذه المقالات..
فنحن لا ننقدهم أو نحذر منهم لشهوة في نفوسنا، وإنما لأنه لا يمكن أن يعرف الناس دين الله، ولا أن يعيشوا في صحبة كتاب الله، وهم يرون المنحرفين عنه هم الذين يمثلونه في الإعلام والمنابر وكل المنصات..
وقد بدأ التحذير من هذه الأيدي الملوثة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، وفي القرآن الكريم..
فعندما يقول الله سبحانه وتعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } [لقمان: 6] فإنه يشير إلى أولئك الأسطوريين الذين حولوا الحقائق القرآنية الجميلة إلى حكايات لا تختلف عن حكايات ألف ليلة وليلة، أو حكايات رستم واسفنديار التي كان يحكيها النضر بن الحارث ليشغل بها الناس عن حقائق القرآن الكريم المتضمنة في قصصه.
وعندما يذكر القرآن الكريم آلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يشكو إلى ربه قومه قائلا: { يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } [الفرقان: 30]، فإنه يشير إلى ذلك التعطيل لحقائق القرآن الكريم المرتبطة بالأنفس والآفاق، والدنيا والآخرة، والانشغال عنها بعلوم كثيرة، وتوافه كثيرة.
وعندما يدعو القرآن الكريم إلى الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق، كما في قوله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } [آل عمران: 103]، فإنه يشير إلى أولئك { الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [الأنعام: 159]
وهكذا نجد القرآن الكريم نفسه ينبهنا إلى أن الأمة ستعطل كتاب ربها في كل شؤون حياتها..
وبناء على هذا حاولنا في هذه المقالات أن نرسم صورة لتلك التشويهات التي طالت القرآن الكريم.. وذلك لغرضين:
الأول: هو التنبيه إلى خطورتها وضلالها وانحرافها، وأن القرآن الكريم أسمى من أن تعبر عنه تلك الأيادي الملوثة، وتلك العقول المشوهة.
الثاني: هو الدعوة لإعادة قراءة قرآن الكريم غضا طريا كما أنزله الله، وكما فهمه
أولياء الله الذين هم الصراط المستقيم الذي أوصانا الله بالتمسك به، والاهتداء
بهديه.. وسنكتشف حينها فقط حقيقة مقولة الإمام علي كرم الله وجهه: (فتجلّى لهم
سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه)([5])
([1]) الكافي: 8 / 53 / 16..
([2]) جواهر القرآن (ص: 21)
([3]) رواه مسلم.
([4]) رواه أبو داود (4765)
([5]) نهج البلاغة: الخطبة 147.