المقدمة

المقدمة

من الإشكالات الكبرى التي يقع فيها من يحاول أن يحاور التيارات السلفية المتشددة هو صعوبة البحث عن المنطق الذي يفكرون به..

ذلك أنه يتصور أنهم – كسائر الناس- يخضعون لمنطق واحد، مع أنهم ليسوا كذلك.. لأن لهم منطقهم الخاص، المختلف تماما عن منطق أرسطو الذي انتقده شيخهم – بل شيخ الإسلام السلفي – ابن تيمية.. ولهم منهج تفكير مختلف كثيرا عن سائر المناهج التي عهدها الناس.

وليس من السهل شرح هذا المنهج أكاديميا، ذلك أن اللغة الأكاديمية تتوقف عنده، فلا تستطيع أن تصفه، ولا أن تحده، ولا أن تضبطه.. فلذلك كان الحل هو الوصف الواقعي الفني لهذا المنطق.

وبناء على هذا كانت هذه الرواية الحوارية البسيطة، والتي تحاول أن تعبر عن البنية العقلية والفكرية لهذه التيارات من خلال مصادرها التي تعتمدها، ورجالاتها الذين تثق فيهم.

ونحن لم نفعل شيئا سوى أن أضفنا بعدا فنيا يقرب لنا الصورة.. أما ما عدا ذلك فهي بضاعتهم التي يعرضونها في كتبهم ومواقعهم وقنواتهم وكل ما لديهم من إمكانات إعلامية ضخمة.

والرواية تنقسم إلى قسمين:

في القسم الأول، والذي خصصناه بهذا الجزء نرى مواقف الاتجاه السلفي من كل ما أفرزته الأمة من تيارات ومدارس وتوجهات صوفية وكلامية وعلمية وغيرها.

وقد اخترنا نماذج متفرقة عن كل ذلك.. وحرصنا على أن تكون نماذج متنوعة([1]) لتشمل أكبر عدد من التوجهات الفكرية الموجودة على الساحة الإسلامية في القديم والحديث.

وفي القسم الثاني، والذي خصصناه بالجزء الثاني، نرى البديل الذي يضعه الاتجاه السلفي لتلك التيارات، أو الصورة التي يريد أن يصور بها هذا الدين.

ونحب أن ننبه فقط كما نبهنا في الأجزاء السابقة من سلسة (اعترافات هارب من سجون الوهابية) أننا انطلقنا في كتابة هذه النصوص – التي كنا فيها واصفين أكثر منا محللين – من منطلقات السلام والمحبة التي جاء بها ديننا وعلمنا إياها نبينا.. فنحن لا نكفر هذه التيارات، ولا نبدعها تبديعا عاما، ولا ندخلها جهنم، ولا نحرمها من الجنة، مثلما تفعل هي مع مخالفيها.. لاعتقادنا أن كل ذلك لله.. وإنما ننكر عليها فقط مواقفها من المخالفين، وكبرها في التعامل معهم.

حتى أنني – شخصيا – أعتقد أن الكثير مما يرونه من آراء فقهية أو عقدية أو في مجالات أخرى من الدين لا مبرر للإنكار عليهم فيها، لأنها آراء نابعة من اجتهاد صادق.. بل إنني شخصيا آخذ ببعضها، وأوافقهم فيها، لأني أراها من صميم الدين، وقد رجحتها في بعض كتبي الفقهية أو العقدية..

لكن الإنكار الكبير المتوجه لهم هو تعاملهم بجفاء وسلبية مع المدارس المختلفة للأمة، وعدم احترامهم للخلاف، وعدم احترامهم للتنوع الذي شاء الله أن يطبع عباده عليه.. وتصورهم أن البت في الخلاف بين الخلق سيكون في الدنيا مع أن الله أخبر أن محل ذلك في الآخرة، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113]

فنحن في واقعنا المشحون بداء الطائفية نردد نفس ما ردده اليهود والنصارى، فكل فئة تزعم أنها على الحق المطلق.. ولذلك كان الحل – كما تصف الآية الكريمة – هو أن نترك حكم ذلك لله، وفي الآخرة، أما في الدنيا فليس إلا التحاور والتعايش والتقارب والسلام بين كل المدارس والمذاهب والطوائف والأديان.. ولا يحق لأي جهة أن تكره الأخرى على معتقدها.

وبناء على هذا – أقول كما قلت سابقا – بأنني، ومن وحي المناهل العذبة التي رزقني الله الشرب منها على يد أوليائه أعتذر لكل من تأذى من السلفية بهذه الكلمات، فيعلم الله مدى محبتي لهم وحرصي عليهم.. وإني وإن شددت في بعض المحال لم يكن ذلك إلا كشدة الطبيب مع مريضه المقصر، أو مع الجراثيم التي تريد أن تفتك بمريضه المقصر.

وإني – مع هذا – مستعد للتراجع عن أي خطأ أنبه إليه، فالهدف هو الحق، وليس إلا الحق.


([1])     اختيارنا لهذه الشخصيات لا يعني أننا نتفق معها تماما، وفي كل شيء، لأنها في أصلها ذات رؤى مختلفة.. ولكن خلافنا معها في بعض المواقف والآراء لا يدعونا إلى تكفيرها أو تضليلها أو تبديعها كما يفعل التيار السلفي المتشدد.. وهذه هي النقطة الفارقة الخطيرة بيننا وبينه.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *