المقدمة

تحاول هذه السلسلة المعنونة بـ [الدين .. والدجل] تحقيق هدف كبير تسعى إليه بكل الوسائل، وهو مواجهة التشويهات العظيمة التي تعرض لها الإسلام في عصرنا الحديث، والتي صارت عائقا وحجابا بين الأمة والتحقق بما يطلبه دينها الأقوم الذي أمرها الله أن تتمسك به، وأن تخرج به للناس، وأن تكون لها من خلال ذلك الريادة والشهادة على سائر الأمم.
فالإسلام صار – بسبب تلك التشويهات الخطيرة – رمزا للعنف والإرهاب والتطرف وإلغاء الآخر، بل صار كل من يتمسك بهذا الدين مرتعا للكثير من العقد النفسية، والأمراض التي لا تؤذيه فقط، بل تؤذي العالم أجمع .. العالم الذي يتطلع إلى الخلاص من خلال رسالة الله التي تفنن الشياطين في تشويهها.
وقد رأيت – من خلال أدلة كثيرة – أنه لا يمكن مواجهة هذه التشويهات بالصمت والحياد، والذي طالبنا به الكثير حرصا علينا وعلى أن يشوه علماء الأمة أو تراثها أو تاريخها أو جماعاتها وحركاتها.
لكن الصمت أو الحياد لا يجدي شيئا.. فهو قد يصلح مع الخطايا التي أسرها صاحبها، ولم يعلنها، ولا يصح لأحد من الناس أن يفضحه بسببها.. ولكن عندما تفوح روائح الخطايا، فتصيب العالم أجمع بالزكام.. حينها لا يصح لنا أن نسكت.. ولا يحق لنا أن نفر من الحقيقة.. ولا يحق لنا أن نتذرع بتلك الذرائع الواهية التي تجعل الأمر كله مؤامرة علينا من العالم.
نحن حينها بين أمرين:
إما أن نقول للعالم: إن ما تشاهدونه من تصرفات مجنونة هي تصرفاتنا نحن بسبب سوء فهمنا لرسالة ربنا.. فنحن المتخلفون، وديننا دين حضارة.. ونحن إرهابيون، وديننا دين سلام.. ونحن متعصبون، وديننا دين سماحة.
وبين أن نقول لهم – حفاظا على سمعتنا وسمعة مشايخنا الذين نقدسهم-: لا .. نحن الصواب.. وما نفعله هو دين الله .. اقبلوه أو اضربوا رؤوسكم عرض الحائط.
لقد رأيت من خلال الواقع الفكري أن الكثير من أصحاب السمعة الطيبة، الذين يطبل لهم الإعلام، وتصفق لهم الأيادي، قد اختار الخيار الثاني، لست أدري هل كان ذلك بقناعة، أم كان لحرصة على سمعته ومنصبه وثروته بل وحياته، لأن الخيار الثاني لن يجني منه إلا الهجر والتكفير والتضليل وربما القتل..
لكن بالعودة إلى القرآن الكريم رسالة الله إلى عباده، نجده يدعونا إلى الخيار الأول.. بل يحذرنا من الخيار الثاني أعظم تحذير.. وقد ضرب لنا المثل على ذلك بمن سبقنا من الأمم.
فالله تعالى يقول مبينا اختيار علماء بني إسرائيل للخيار الثاني: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78، 79]
لكن هذه الآية للأسف أولت تأويلا خطيرا حيث انصرف النهي عن المنكر فيها إلى المنكرات التي يقع فيها عوام الناس وبسطاؤهم.. أما المنكرات التي يقع فيها العلماء والمفتون والجماعات والحركات.. والتي بسببها يقع الخراب والتشويه.. فقد وضعنا لهم من الحصانة ما يحميهم من كل تجريح أو نقد، بل صرنا نقول لكل من خولت له نفسه بالإنكار عليهم: (لحوم العلماء مسمومة، من شمها مرض، ومن أكلها مات) ليصدق علينا بذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)([1])
وهكذا فعلنا، فقد رحنا بسب تلك الفتاوى الضالة نحول المعروف منكرا، والمنكر معروفا، فقتلنا روح الإنسان فينا، وخنقنا الفطرة التي فطرنا الله عليها.
لقد حولت تلك الفتاوى والكتب التي تناصرها، والخطباء الذين يدعون لها، والجماعات التي تتحرك في سبيل تحقيقها: القسوة والكبرياء والطغيان والاستبداد والتخلف دينا ندين الله به، ثم نقول للعالم أجمع: هذا هو الإسلام.
فهل يصح لأحد بعد هذا أن يسكت.. وهل يصح له أن يقف موقف الحياد.. وهل يصح له أن يضع الطلاء على هذه الصورة المشوهة ليكذب على نفسه وعلى الناس وعلى العالم أجمع.
أم أن الواجب هو أن يسمي الأشياء بأسمائها، وينتقد بقوة وصراحة وصدق وجرأة.. لأن ذلك هو الواجب الذي لا يحق له أن يفر منه.
نحن اخترنا هذا.. ولمن شاء أن يختار غيره فليفعل.
وبناء على هذا كانت هذه السلسلة التي تعرضنا بسببها للكثير من الأذى الذي نحتسب عند الله أجره.. ونحن نحمد الله تعالى على أن من علينا أن نتعرض لبعض ريح الأذى الذي تعرض له أنبياؤه وأولياؤه والقائمون بالقسط من الناس.
ونحن – كما أننا نزعم أننا ننهى عن المنكر بفعلنا هذا – ندعو كذلك كل صادق ومخلص أن ينكر علينا، وأن يصحح أخطاءنا.. لكن بصدق وإخلاص وعلم.. وله بعد ذلك أن يرمينا بما شاء.. ويحكم علينا بما شاء.. فلا تهمنا أحكام الناس، بل المهم الذي نتطلع إليه هو حكم الله، فهم أرحم الراحمين، وهو أعلم بنياتنا ومقاصدنا.
مقدمة الكتاب
كاتب هذه الاعترافات رجل كتب له في فترة من حياته أن يتبنى الفكر الوهابي، ويدعو إليه، ويستميت في دعوته، ولكن الله بفضله ومنه وكرمه قيض له من يخرجه من كل تلك السجون التي وقع فيها، وقد تعرض لكثير من الأذى بسبب خروجه.
وهو – إذ يحمد الله على فضله- يسعى من خلال هذه السلسلة، كما يسعى من خلال غيرها من السلاسل أن ينبه إخوانه من الوهابيين إلى استعمال عقولهم والرجوع إلى الحقيقة، فلا شيء أجمل من الحقيقة.
وهو لذلك لا ينطلق من أي حقد أو ضغينة أو مرض من الأمراض النفسية، وإنما ينطلق من الحب والسلام.. فهو يعلم أن الكثير من أتباع الوهابية عوام مساكين لم يتح لهم أن يسمعوا أو يقرؤوا أو يطلعوا.. ولو أن الفرصة أتيحت لهم لحطموا الأغلال والقيود كما حطمتها، وكما حطمها الكثير ممن عرف الحقيقة، فأناب وتاب وتراجع.
وبناء على هذا، فأنا ومن وحي المناهل العذبة التي رزقني الله الشرب منها على يد أوليائه أعتذر لكل من تأذى من الوهابية بهذه الكلمات، فيعلم الله مدى محبتي لهم، ومدى حرصي عليهم.. وإني وإن شددت في بعض المحال لم يكن ذلك إلا كشدة الطبيب مع مريضه المقصر، أو مع الجراثيم التي تريد أن تفتك بمريضه المقصر.
وإني – مع هذا – مستعد للتراجع عن أي خطأ أنبه إليه، فالهدف هو الحق، وليس إلا الحق.
([1]) رواه البخاري.