المال

المال

الفرح بالمال هو من أكثر مجالات الفرح شيوعا، وهو في نفس الوقت السرطان الذي إذا سرى حبه للقلب انتقل لجميع الجوارح فعراها الفساد، وإذا انتقل عشقه للأمة ارتفعت عنها جميع الفضائل، ودب إليها الهلاك الذي قد لا يرفع جثمانها عن الأرض ولكن يرفع حقيقتها، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)([1])

وهذا الربط بين الشح الذي يمثل المبالغة في حب المال وبين الظلم بأوسع معانيه دليل على العلاقة الوطيدة بينهما، الظلم الذي يأتي به المال والذي شكا منه الشعراء بكل عبارات السخرية، كما قال بعضهم ساخرا:

‏المال يستر كل عيب في الفتى

  والمال يرفع كل وغد ساقط

فعليك بالأموال فاقصد جمعها و

  اضرب بكتب العلم بطن الحائط

وقال يحي بن أكثم:

‏إذا قل مال المرء قل بهاؤه

   وضاقت عليه أرضه وسماؤه

وأصبح لا يدري وإن كان حازما

  أقدامه خير له أم وراؤه

ولم يمض في وجه من الأرض واسع

  من الناس إلا ضاق عنه فضاؤه

وحديثا قال معروف الرصافي:

‏وقد يفتري المال الفضائل للورى

  وليس لهم مما افتراه نصيب

 وللفقر بين الناس وجه تبينت به

  حسنات المرء وهي ذنوب

 لقد أحجم المثري فسموه حازما

  وأحجم ذو فقر فقيل هيوب

 وإن يتواضع معدم فهو صاغر

  وإن يتواضع ذو الغنى فنجيب

 وذو العدم ثرثار بكثر كلامه

  وذو الوجد منطيق به ولبيب

والفرح بالمال هو الفرح الوحيد الذي جاء ذمه صريحا في القرآن الكريم مشفوعا باللازمة الخطيرة { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ }، قال تعالى حكاية عن قارون وعن الصالحين من بني إسرائيل الذين لم يغرهم ماله: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (القصص:76)

والفرح بالمال هو الحائل بين العقول الغافلة وقبول الحق وطاعة أنبيائها مع توفر جميع دواعي صدقهم، قال تعالى:{ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا } (نوح:21)

وأخبر تعالى أن ذلك هو شأن جميع الأقوام الذين كذبوا رسلهم، ولهذا يقف أول من يقف في وجوههم المترفون عبيد الأموال، قال تعالى عن هذه السنة الاجتماعية:{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}(سبأ:34،35) قال قتادة:مترفوها: أي أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها.

ولهذا تعفف جميع الأنبياء عن أخذ الأموال من أقوامهم وصاحوا فيهم كما صاح هود عليه السلام:{ يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (هود:51)، وكما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لقومه:{ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (الأنعام:90)، وأخبر أن الرسل لو طلبوا أموالا من قومهم لكان ذلك مبررا كافيا لهم لبعدهم عن الحق لثقل إنفاق الأموال عليهم، قال تعالى:{ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} (الطور:40)

والفرح بالمال هو الذي يحول بين الأسماع واستماع النصح،قال تعالى:{ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}(الكهف:34)

والفرح بالمال والركون إليه هو أحد الأسباب الكبرى في تحريف الأديان، لأن رجال الدين الذين يفرحون بالمال ينسون الله والقيم والكتب أمام بريقه، قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم} (التوبة:34)

وهذا الربط العجيبب بين الأحبار وهم العلماء، وبين الرهبان وهم العباد، وبين الذين يكنزون الأموال، يلخص الحقائق التاريخية الكثيرة عن الأديان التي أصبحت مراكز جباية سواء ما كان منها دور علم أو دور عبادة.

وفي التعبير بالكنز دون التجارة دليل على أن الموارد التي لا تنضب لتلك الدور جعلتهم يكتفون بالكنز دون الاستثمار، لأنه لا يستثمر إلا من يخاف على رأس المال، ورأس مال أولئك هو ألواحهم وصلبانهم، وفي الاقتصار على ذكر الذهب والفضة دون غيرها من صنوف الأموال دليل على الثراء الفاحش لتلك الدور، وهذه الحقائق القرآنية كلها تطفح بتفاصيلها كتب التاريخ.

والقرآن الكريم يعتبر كل ذلك سحتا، ولكنه يبين أن ذلك هو دأب الأكثرية، لأن في كل دين زهاده وأهل الإخلاص فيه، وهو من أساليب القرآن في حديثه عن المذاهب والملل فلا يعمم حين لا يقتضي المقام التعميم:{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (المائدة:62)

والمال هو أحد الفتن الكبرى التي يختبر الله بها عباده، ‏وأصل الفتنة إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، ولذلك جعل الله الأموال محكا لاختبار أصل معدن كل إنسان، هل هو ذهب أم شوائب؟ قال تعالى:{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (الأنفال:28)

وضرورة الاختبار تقتضي التزيين والتحبيب إلى القلوب، تزيين أمور كثيرة يختلط فيها الحق والباطل، ليظهر من يختار الحق ومن يختار الباطل ليتميز بذلك معدن كل إنسان، قال تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}(آل عمران:14)، وقد اختلف العلماء في المزين الذي لم يصرح بذكره في الآية كما لم يصرح بذكر مثله في أكثر المواضع التي ورد فيها هذا اللفظ:

فذهب بعضهم في ظاهر قوله إلى أن المزين هو الله تعالى كما قال تعالى:{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(الكهف:7)، فالله تعالى أخبر في هذه الآية أنه هو الذي جعل كل ما في الأرض زينة ليقع الاختبار.

وذهب آخرون إلى أن المزين هو الشيطان مستدلين بذم القرآن للدنيا، ويشير إليه قوله تعالى في خطابه للشيطان عندما رفض السجود لآدم:{ وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا}(الإسراء:64)

ويمكن الجمع بين القولين جميعا وإضافة أقوال أخرى كثيرة فالفعل المبني للمجهول يحتمل كل ذلك.

فتزيين الله تعالى إنما هو بالإيجاد والتهيئة للانتفاع وإنشاء الجبلة على الميل إلى هذه الأشياء، وتزيين الشيطان إنما هو بالوسوسة والخديعة وتحـسين أخذها من غير وجوهها، وتزيين وسائل الإعلام بأنواع الإشهارات التي تقلب الطبيعة وتغير الجبلة، وتزيين رفاق السوء.. والدراسات العلمية.. والبحوث الميدانية.. ومصممي الأزياء.. والشركات الكبرى..كلها مما تحتمله الآية ولا تضيق به.

ولأجل هذا التزيين وردت الأحاديث الكثيرة تبين مخاطر هذا الاختبار الذي غرست زينته في القلوب غرسا ثم سقيت بوساوس الشيطان ووسائل الإعلام وقرناء السوء، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره)([2])، وقال: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)([3])

ولكن النص القرآني أخبر بعد ذلك بما هو خير من تلك الزينة المؤقتة، فقال تعالى:{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد} (آل عمران:15)

ونلا حظ في هذا النص القرآني الجليل أنه قدم الزينة الحسية من الجنات والأزواج والأنهار على النعيم المعنوي الأكبر رضوان الله، وذلك لميل الطبيعة الإنسانية الشديد لتلك الشهوات.

والقرآن في خطابه للنفس لا يقمع صفاتها، وإنما يوجهها بحسب ما تقتضيه طبيعتها، وطبيعتها كما تنص النصوص الشرعية هو الحب الشديد للمال، قال تعالى: { وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر:20)، وقال تعالى:{ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات:8)

ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)([4])

ولكنه مع إقراره هذا لا يذهب مذاهب الواقعيين الذين لم يفهموا الطبيعة البشرية، ولم يفهموا سنة التدافع فيها لتسير الحياة سيرا مستقيما كما يسير الكون جميعا، فلذلك نزعوا القيم من المال جلبا وإنفاقا، واستغرقوا في حب المال، وفسروا به حركة الكون والتاريخ.

والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يصف هؤلاء بعدم العقل وإن حازوا النياشين وشيدت لهم التماثيل،قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له)([5])

والقرآن الكريم يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا تغره تلك الأموال الكثيرة والأرصدة الضخمة المودعة في كل البنوك، بل ينهاه عن مجرد الإعجاب بها، قال تعالى:{ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}(التوبة:55)

والقرآن الكريم ينبه هنا إلى حقيقة ضخمة تغيب عن الذين تسكر أرواحهم بحب المال، وهي أن ذلك المال نوع من العذاب الذي يسلط عليهم في الدنيا قبل الآخرة كما قال تعالى:{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} (المؤمنون:56)

والمتأمل لأنواع العذاب التي يعانيها أرباب الأموال حين جمعها، أو عند المحافظة عليها، أو عندما ينبأ أحدهم بخسارة ما، أو عندما يسمع بنجاح منافسه يرى من ذلك الشيء الكثير.

وقد صور القرآن الكريم صورة كاريكاتورية لمثل هذا الإنسان اللاهث وراء الأموال يجمعها ويعدها كل حين في سورة خاصة، قال تعالى:{ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَه كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ } (سورة الهمزة)

فهي تصور إنسانا دأبه في حياته أن يسخر من غيره ويستهزئ بهم، ويستعين على ذلك بعد أمواله، لأنها الوحيدة التي تبث في نفسه الثقة، وترفع من معنوياته، وتجعل غيره صغارا أمام عينيه، يحل له أن يهمزهم ويلمزهم كما يشاء.

ولكن السورة التي ترسم هذه الصورة تختم ببيان العذاب الذي يلقاه هذا الصنف من الناس، ولكل طبع خارج عن الفطرة عذابه الخاص به، وإن كان ذلك العذاب في الآخرة إلا أنه يتناسب تماما مع عذابه في الدنيا كما يتناسب مع نوع جرمه، فالمتهالك في جمع المال وحبه يحطم طبعه ويهشم خصائصه وينكس صفاته، فبدل أن يجعل المال خادما جعله مخدوما، ووضع نفسه عبدا مسخرا له كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (تعس عبد الدينار)

وهو لذلك يتلظى طول حياته بنار الحسرات والخوف والأمل، لا يهدأ أبدا ولا يطمئن ولا يهنأ بمأكل ولا مشرب، والنار تلتهم قلبه وطبعه، وهو في قيوده الممددة داخل سجن المال، وقد اختصرت الحياة في عينيه في بريق الذهب ولمعان الفضة.

ولأجل هذا الانتكاس الذي يولده الفرح بالمال في النفس البشرية شبه صلى الله عليه وآله وسلم مايفعله حب المال بدين المؤمن بالذئاب الجائعة المرسلة على زريبة غنم، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم أفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)([6])

ولهذا فإن أول ما يخفف غلواء سكرة الفرح بالمال، والتي هي السبب في كل الانتكاسات الفردية والأممية هو اعتقاد المنفعة المحدودة له، لأن أساس الخطر هو المبالغة في تضخيم دور المال إلى درجة وزن الناس والمجتمعات والتاريخ من خلاله، فالمجتمعات اليوم تصنف بحسب دخل أفرادها لا بحسب القيم المنتشرة بينها، وقد صور تعالى ذلك الهمزة اللمزة أنه { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَه}(الهمزة:3)

وهذه المحدودية عبر عنها القرآن الكريم بهذه الحقيقة العظمى:{ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ}(الشعراء:88)، وبقوله تعالى إخبار اعن الإنسان الغافل عن ربه بسبب ماله: { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}(الليل:11) وبإخبار الله تعالى عن الإنسان الغافل يوم يكتشف تلك الحقيقة فيصيح بندم عظيم لا تقله الجبال:{ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِي هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِي} (الحاقة:29)

وضرب لها المثل بعم النبيصلى الله عليه وآله وسلم الذي دأب على عداوته مع كونه ابن أخيه، وتشير السورة إلى سبب من الأسباب الكبرى لتلك العداوة، قال تعالى:{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَب} (المسد:3)

فتلك الأموال التي شغلته عن الحق لم تغن عنه شيئا ولن تغني عنه شيئا.

وعبر عنها صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (يقول العبد مالي ومالي وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو أعطى فأقنى، ما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس)([7])

ثم بينت النصوص أن المال ليس هو المقياس على تطور المجتمعات وتحضرها، بل المقياس هو القيم، ولذلك لم يفرح المؤمنون بمال قارون، ولم تغرهم زينته كما قال تعالى يصور موقفهم: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(القصص:77)

وذلك هو ما أدب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمته حيث حرم عليها استعمال الذهب والفضة والتحلي بها، لأنه يعلم أنه ستفتح لهم الأرض، ولن يستطيع المثقل بالأساور والخلاخل أن يخوض القفار ويقتحم البحار ليبلغ دين الله.

 كان حذيفة بالمدائن فاستسقى فأتاه دهقان بماء في إناء من فضة فرماه به، وقال: إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)([8])

وأخبر أن الذلة تحيق بالأمة عندما يصبح همها جمع المال، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)([9])

ولكن كل هذا الذم للمال والفرح به مرتبط بتصور صاحب المال للمال، وقد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة مثالا عن كيفية تولد الشر من المال، وهو يتضمن كيفية تجنب شره، حيث جلس ذات يوم على المنبر وجلس الصحابة حوله فقال: إني مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها فقال رجل: يا رسول الله أويأتي الخير بالشر؟ فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل له: ما شأنك تكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يكلمك، فرأينا أنه ينزل عليه، فمسح عنه الرحضاء فقال: أين السائل؟،وكأنه حمده فقال: (إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم إلا آكلة الخضراء أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ورتعت، وإن هذا المال خضرة حلوة فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل، وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع ويكون شهيدا عليه يوم القيامة)([10])

فالفرح بالمال في هذا الحديث كالفرح بكل نعمة تتحول شرا محضا إن عظمت لذاتها، واحترمت لذاتها، وفرح بها لذاتها، أما إن استغلت فيما خلقت له، وغذت طبيعة الإنسان الخيرة، ولم تنتكس بها الطبيعة القويمة، ولم تنزل إلى أسفل سافلين، فإنها من الخير الذي يفرح به، يفرح به بالله ولله، وبهذا يصبح جمع المال وبذل العرق في ذلك عملا من أعمال الخير التي يمارسها المؤمن، بل جهادا في سبيل الله.

وعلامة ذلك هو هذا الخيار الذي يضعه الله تعالى أمام عباده، وهو خيار خطير ينبئ عن الغنى المطلق لله والفقر المطلق للعباد، قال تعالى:{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(التوبة:24)

ومما يعين على النجاح في هذا الاختبار معرفة النفس لمقدار ربحها مع الله ومقدار خسارتها مع غيره، الخسارة التي نص عليها القرآن الكريم في قوله تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} (المنافقون:9)، والربح الذي نص عليه في قوله تعالى:{ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التغابن:15)

والمقارنة التي تضع كلا من المال الفاني والبنين الهالكين بجانب الباقيات الصالحات، فإذا بهم يتلاشون في أول كلمة الباقيات، ثم يتلاشون أكثر في الخيرية المطلقة، ثم يفنون ويزولون عند ربك لأنه لا يبقى مع الله شيء:{ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الكهف:46)

وبعد أن تقرر جميع هذه الحقائق يأتي الإخبار بأن هذا المال الذي وضع لنا موضع زينة واختبار ليس ملكا لنا يحق لنا أن نفتخر ونتيه به، بل هو في كل حال مال الله، قال تعالى:{ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ }(النور: 33)

وما الإنسان إلا أجير بسيط في هذا المال، أو وكيل عن ربه فيه، أو بالتعبير القرآني مستخلف فيه، قال تعالى:{ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}(الحديد:7)

فلذلك لا يحل له أن يفسده أو يضعه في أيدي السفهاء ينفقونه في شهواتهم، قال تعالى:{ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا واكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا }(النساء:5)، بل ينفق في المواضع التي حددها صاحب المال المالك الأصلي، قال تعالى في وصف عباده الصالحين وعلاقتهم بمالهم: { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم} (الذاريات:19)

وقد جاء النص على ذلك الإنفاق التطوعي بصيغة الحق الواجب لأن ذلك الصالح الذي ورد وصفه لا يعطيه منة لأنه يملكه، بل يرده إلى أصحابه الذين أمر بتسليمه لهم.

وفي نفس الوقت لا يحل أن يكسب ذلك المال إلا بالطرق التي حددها صاحب المال، قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (النساء:29)

وقد قرنت هذه الآية الكريمة بين قتل النفس وبين سلب الأموال بغير حق لتبين أن سالب المال كالقاتل، فالثاني يقتل الجسد، والأول يسلب ما يقوم به الجسد، ولهذا اعتبر شهيدا من دافع عن ماله ومات في سبيله.


([1])  رواه أحمد 3/323 (14515) وعبد بن حميد 1143 والبخاري، في (الأدب المفرد) 483 ومسلم 8/18 (6668)

([2])  رواه أحمد 2/260 (7521) والبخاري 8/127 (6487).

([3])  رواه أحمد 2/197 (6855) وعبد بن حميد 346.

([4])  رواه أحمد 5/131 (21521) والترمذي 3793 و3898.

([5])  رواه أحمد 6/71.

([6])  رواه أحمد 3/456 (15876) وفي 3/460 (15887) والدارمي 2730.

([7])  رواه أحمد 368/2 وفي 412/2 ومسلم 211/8.

([8])  رواه البخاري 7/99 (5426) وفي 7/146 (5632) ومسلم 6/136 (5445)

([9])  رواه أبو داود (3462)

([10])  رواه البخاري 2/12 (921) 2/149 (1465) وفي 4/32 (2842) ومسلم 3/101 (2386)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *