القوة

لا تفرح إن رزقت قوة ومنعة، فهابك الأعداء، وجثا بين يديك الأصدقاء.
لا تفرح، فالفرح بالقوة والمنعة والتسلط هو أحد أنواع الفرح المذموم في القرآن الكريم، كما تشير إلى ذلك النصوص الكثيرة تصريحا وإيماء.
لماذا؟
أليست القوة هي التي تحمي المستضعفين، وتنشر الأمن، وتبني الحضارة، وتعمر الأرض؟
أليس البقاء للأقوى قاعدة من القواعد التي يفسر بها التاريخ كما تفسر بها الطبيعة والأشياء؟
لكن الفرح بالقوة غير القوة، كما أن الاستمتاع بالتفرج على المباريات الرياضية غير ممارسة الرياضة، وذم الفرح بالقوة لا يعني ذما للقوة، بل يعني ذما لجانب من جوانبها وأثر من آثارها.
أثر قد ينشأ عنه الظلم والاستعمار واستغلال الخلق وتسخيرهم واستعبادهم، وقد ألغي الاستعباد في جميع قوانين العالم، ولكن لا يزال الخلق إلى الآن عبيدا تحت سلطة ما يسمى بالقوى العظمى، القوى التي تأمر بما تشاء وتنهى عما تشاء، وتكيل بكل المكاييل، ثم تطلب من المستضعفين أن يمجدوها ويحترموها ويسبحوا بحمدها لسبب وحيد هو أنها قوة عظمى.
والحروب العالمية لا تعدو كونها غليانا لنار القوة، ونشوة الفرح بها في الروح الغربية باختراعها لأنواع الأسلحة وفنون الدمار الشامل.
ومن الفوراق الكبرى أن الدول التي تسعى للحد من هذه الأنواع من الأسلحة وتتغنى بالسلام هي التي تملك أكبر رصيد منها، بل تملك ما يدمر الأرض، ويمحي الأطلال التي يتركها دماره مرات كثيرة.
وقد ذكر الله تعالى أن عصرنا هذا ليس بدعا في ذلك، وإنما هذا الفرح هو الذي حال بين كل قوة عظمى أو صغرى، بين الحضارات الكبرى أو القبائل البدوية البدائية البسيطة، وبين قبول الحق، قال تعالى ضاربا المثل بعاد: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (فصلت:15)
وهو الذي حال بين أكثر القرى وبين طاعة أنبيائها والإسلام لله، فكان فرحهم حائلا بينهم وبين كل خير، قال تعالى:{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} (التوبة:69)
والقرآن الكريم يشير هنا إلى الدورات التاريخية التي تختلف فيها أسماء الدول والحضارات والشعوب والقوى ولكنها تتفق في مبادئها ونظرتها للحياة وتصورها للوجود ووظائفها فيه، فكلا من تلك الدورات يستمتع بنصيبه من القوة والأموال، ويخوض فيه خوضا باطلا، والنتيجة النهائية التي تختم بها كل دورة هي الإحباط بكل معانيه الدنيوي والأخروي، والنفسي والاجتماعي.
والقوة الغربية ـ بهذا المفهوم ـ لم تصدر في نزعتها التسلطية التي استعمرت بها العالم وانتهبت بها خيراته وعقوله أجيالا طويلة بالسلاح أو بالديموقراطية أو بالصناديق الكثيرة أو بالمساعدات إلا من روح رومانية لا تزال تجثم على عقولها ومصادر تفكيرها.
وفي الآية بشارة عظمى للذين تلظوا بنار هذه القوى، فمصير الذين استعبدوهم هو الإحباط الذي لا يقتصر على الدنيا، وإنما يشمل الآخرة، وأصل الإحباط الحبط، وهو أن تكثر الدابة أكلا حتى ينتفخ بطنها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم)([1])، وكأن هذا اللفظ يشير بذلك إلى أن هذه القوى ستنتفخ وتمتلئ زهوا وتعاظما وتسلطا ثم تدمر نفسها بذلك التعاظم، كما تموت الماشية من كثرة أكلها.
وكلما ازداد تعاظمها، وازدادت ثقتها بنفسها قرب موعد هلاكها كما قال تعالى:{ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(يونس:24)
والحصيد هنا، وإن كان يراد به في ظاهر اللفظ هو النبات الذي حصد وقطع، إلا أنه يشير إشارة صريحة إلى العمران والتكنولوجيا والثقافة وكل ما يزهو ويتصور أثناء زهوه أنه لا يموت، وموته وحصاده لا يحتاج إلى تدبير طويل بحسب ما تنص الآية، بل مجرد إتيان أمر الله في ليل أو نهار يكفي لذلك، وأمر الله لا يتكرر، وهو أسرع من لمح البصر: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (القمر:50)
وقد عالج القرآن الكريم هذا الفرح ووجهه وقوم اعوجاجه ببيان أن القوة لله وحده، فلا يستطيل أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد، لأن الله هو وحده القوي وكل من عداه ضعيف مهما استطال بقوته، ولذلك فإن الذي يتسلط على المستضعفين بقوته لا يواجه المستضعفين وإنما يبارز الله تعالى بالمحاربة، وهو آخذه لا محالة، قال تعالى:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُم} (محمد:13)
والقرآن الكريم يضرب الأمثلة الواقعية الكثيرة على ذوبان تلك القوى أمام أمر الله، قال تعالى:{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَاب} (الأنفال:52)
بل هو يأمر بالسير في الأرض والبحث في الآثار، لا للتمتع بمناظرها أو التعجب من محاسنها، وإنما للاعتبار من مصير الظلمة الذين يدل عمرانهم على مبلغ قوتهم لتأخذ من ذلك العبر، قال تعالى {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(الروم:9)
وهذا هو موقف القرآن من البحث في الآثار والتنقيب عنها ودراسة أحوال أهلها وأحوال التاريخ جميعا، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الدخول إلى ديار الظلمة إلا بصحبة البكاء والخشوع، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم)([2])
بل ورد النهي عن الاستقاء بمائهم أو استعماله، فعندما نزل صلى الله عليه وآله وسلم بالحجر في غزوة تبوك وقد كان منازل لثمود، أمرهم أن لا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها، فقالوا:قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء.
وليس هذا النهي من باب التحذير من التلوث الذي قد يضر الصحة، بدليل إجازته أن يعلفوا الإبل ذلك العجين، ولكن أنواع التلوث لا تقتصر على التلوث الظاهر الذي يؤذي الجسد، فهناك التلوث الذي يخرب الروح ويكدر الصفاء، والذي لا يراه إلا مجهر النبوة.
والقرآن الكريم يخبر أن الظالمين جميعا، من أمهل منهم ومن أخذ بذنوبه في الدنيا، سيكتشف هذه الحقيقة يوم القيامة، حقيقة أن القوي الوحيد هو الله تعالى، ويترك بيان حالهم للنفس لتتصوره كما تشاء، كيف يستقبلون تلك المعرفة وذلك الإدراك، لأن التعابير لا يمكن أن تفي بتصوير هذه الحقيقة العظمى التي كانوا ينازلونها الحرب،قال تعالى:{ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَاب}(البقرة:165)
وبعد أن يزرع القرآن الكريم في النفس هذه الحقائق، ويملؤها بالتواضع يعود ليؤسس فيها القوة الحقيقية، القوة التي هي نعمة من الله، فيفرح بها على أساس ذلك، قال تعالى مانا على عباده عند بيانه لأطوار خلقهم:{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ }(الروم:54)
فهذه القوى التي تنص عليها الآية نعم من الله، وحق النعم أن تشكر ويحافظ عليها ولا يعصى بها ربها ولا يتسلط بها على الغير، أو بالاصطلاح القرآني أن يحافظ عليها باعتبارها أمانة ووديعة من الله، قال تعالى في الآية التي شملت كل أنواع ودائع فضل الله:{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب:72)
ولهذا من كمال المؤمن أن يجمع بين القوة والأمانة ليستعين بقوته على أداء الأمانة، ويستعين بأمانته على حفظ القوة، قال تعالى:{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (القصص:26)
فالقوة وحدها بدون أمانة ظلم وعتو، كما أن القوة بدون رأي وحكمة عجز وخور، قال تعالى مخبرا عن المجلس الاستشاري لبلقيس مبينا أن القوة الجسمية وحدها لا تكفي بدون قوة الرأي والتدبير:{قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}(النمل:33)
ولذلك فإن القوة الحقيقية في المفهوم الشرعي تتكامل مع الأمانة والرأي والحكمة لتخدم الحق وحده، وبذلك تصبح من الأوامر الشرعية والتكاليف التي لا مناص للمؤمن من القيام بها، قال تعالى:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ }(لأنفال: 60)
لأن أي عمل يستدعي نوعا من القوة مناسبا لأدائه حتى أن ذا القرنين طلب عند بنائه السد أن يمدوه بقوة، تعالى:{ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} (الكهف:95)
وهنا نرى أدب ذي القرنين حين قدم فضل ربه على طلب المعونة، فالقرآن الكريم ضرب المثل بذي القرنين عن المؤمن القائد القوي.
والله تعالى أمر بتوجيه قوانا نحو الأخذ بالتكاليف والتقيد بها والتمسك بحبلها لأنها علامة القوة الحقيقية، ولا يمكن أن تؤدى أداء مثاليا إلا بالقوة، قال تعالى عن موسى عليه السلام عندما أعطاه ألواح التوراة: { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}(الأعراف:145)
وأمر يحي عليه السلام بنفس الأمر،قال تعالى:{ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ }(مريم:12)
ولعل في تخصيص موسى ويحي ـ عليهما السلام ـ بالأمر بأخذ الكتاب بقوة وشدة وحزم يشير إلى أسلوب تعامل بني إسرائيل مع أنبيائهم وأوامر ربهم، وهو أسلوب الاستهزاء والهزل والتلاعب ومحاولة الاحتيال على أحكام الله، وهو أسلوب صادر عن تصورهم لله الذي يمتزج فيه الدين بالعنصرية والذهب والأهواء، ولذلك وردت الآيات الكثيرة تخبر عن أمر الله تعالى لهم بالأخذ بالكتاب بقوة حتى أن الجبل رفع فوقهم كأنه ظلة، قال تعالى:{ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأعراف:171)
ولكنهم مع ذلك لم يرتدعوا ولم ينزجروا لأن شراب العجل الذي يسري في قلوبهم ويغذيهم بحب الذهب يحول بينهم وبين الطاعة ولو أرادوا الطاعة،قال تعالى:{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}(البقرة:93)
وليس أمر أخذ الكتاب بقوة خاصا ببني إسرائيل بل هو عام في كل نفس استهانت بأمر ربها وتسلطت نفسها على عقلها، وتلاعبت أهواؤها بحقيقتها، لأن الجذور التي تنمو من استحلاء المعاصي تحتاج إلى طاقة كبيرة لتقلعها، ولهذا وضع الإصر على بني إسرائيل وشدد عليهم رحمة بهم، وإصلاحا لهم، كما شدد على منتهك الحرمات بأنواع الكفارات المشددة ليعيد لنفسه توازنها ويعيد لعقله سلطته على نفسه.
ولهذا فإن المؤمن يزداد قوة بإيمانه وبتسليمه لله وطاعته له واحتمائه بكنفه، وإيمانه لا يحول بينه وبين ما ينعم به من قوة، وإنما يوجهها ويزيدها ويرقيها، قال تعالى في خطاب نوح لقومه: { وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (هود:52)
وهذه القوة التأييدية هي التي تجعل المستضعفين في الأرض قوى يحسب لها ألف حساب لأنها قوى لا تقهر، قال تعالى مخبرا عن الثلة المستضعفة التي كانت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف كانت، وكيف صارت في كنف الله:{ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال:26)
ويوم بدر كان المؤمنون فئة قليلة، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يراهم أمامه حفاة عراة جياعا فلا يرسل بطلب التموين، ولا يحزن لذلك، بل يرفع يديه يجأر إلى الله بقوله:(اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم)([3])
يقول الراوي مخبرا عن أثر هذا الدعاء العظيم:(ففتح الله له يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين واكتسوا وشبعوا)
وقد ذكر الله ذلك المشهد، وأمر بأخذ العبرة منه، فليس هو بالمشهد الخاص بأهل بدر، قال تعالى:{ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَار} (آل عمران:13)
وقبل ذلك قال الله تعالى لموسى عليه السلام وهو في بلاط الحاكم الذي تصور نفسه إلها وخضع له الكل سجودا: { لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى}(طه:68)
والقاعدة التي يغرسها القرآن الكريم في القلوب المؤمنة به بصيغة المتكلم من الله تعالى هي الوعد الذي يزرع في المؤمن القوة التي لا تقهر قوة الله تعالى،قال تعالى:{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}(غافر:51)
ولهذا ينهانا الله أن نحزن لأننا مستضعفون أو لأننا منهزمون أو لأن غيرنا أقوى منا، لأن المؤمن مادام مع الله فهو الأقوى دائما، قال تعالى:{ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }(آل عمران:139)
ولهذا فإن الله تعالى ينهانا عن الفرح البسيط الساذج بقوانا الضعيفة المحدودة، والتي ستنقلب أحزانا عند زوالها كأحزان الملاكم العجوز الذي يبكي كلما مسه أحد بسوء لأن يديه اللتين كانتا شعاره ورمزه وحقيقته قد زال عنهما تأثيرهما كما تطاير عن شمشون شعره، ومع شعره تطايرت قوته.
وهو يأمرنا بدل ذلك الفرح
البسيط الزائل بفرح دائم كامل ممتد هو الفرح بقوة الله، نستمد منها كل قوة وكل
عزيمة وكل إرادة، ولا نستشعر معها أي ضعف.
([1]) الحميدي (740) وأحمد 3/7 (11049) قال: حدثنا سفيان، عن ابن عجلان. ومسلم 3/100 (2385)
([2]) رواه مالك الموطأ (2119) و (الحميدي) 653 وأحمد 2/9 (4561).
([3]) رواه أبو داود (2747)