الغماري.. والعارفون

بعد أن انتهى ربيع من حديثه الطويل، نظر السائق إلى الساعة في يده، ثم قال: لم يبق لنا إلا وقت قليل للانطلاق.. ولم يبق في حقيبتي إلا شريط واحد.. فإن شئتم وضعته لكم لتسمعوه.. وإن شئتم سرنا في صمت مطبق.
قال ربيع: ويلك أتريد أن تضعنا في موقف حرج.. أم تريد أن تقول لنا مقالة ابن زياد: البحر من أمامكم والعدو من ورائكم.. لا يمكننا أن نسمع شيئا يأباه ديننا وربنا.. فما الذي تريد أن تسمعنا إياه؟
قال السائق: هذا الشريط لشيخ من أهل التقوى والصلاح.. وهو مثال العارف الصادق المخلص الزاهد.. فهو بين كتبه ومصحفه ومسبحته..لا تشغله الدنيا ولهوها.. ولا يحجبه عن ربه اقتراب الناس منه أو ابتعادهم، فهو منشغل بربه عن كل شيء.
قال ربيع: لا يهمنا إن كان من أهل التقوى أو لم يكن منهم.. ولا يهمنا إن كان زاهدا أو مخلصا.. لا يهمنا إلا أن يكون سنيا.. فلأن نسمع لسكير عربيد خير من أن نسمع لمبتدع.
قال السائق: لا تخف يا بني.. فهذا الرجل حشي تقوى وإخلاصا وعلما وهو مرتبط بالشريعة ارتباطا شديدا.. وشغفه كله بكلام ربه.. فهو يقرؤه ويتدبره ويعيشه.
قال ربيع: فهو من القرآنيين المبتدعين إذن؟
قال السائق: هو يجمع بين القرآن والحديث والورثة..
قال ربيع: أي ورثة؟
قال السائق: ورثة القرآن الكريم وورثة النبوة.
قال ربيع: لم يرث القرآن ولا النبوة إلا أهل الحديث.
قال السائق: أهل الحديث أهل رواية.. والورثة أهل دراية.
قال ربيع: ويلك يا دعي.. كيف تتجرأ على لحوم أهل الحديث المسمومة.. إن لم يكن أهل الحديث هم أهل الدراية، فمن هم أهل الدراية؟
ألم يصلك ما وصف به الخطيب البغدادي أهل الحديث، لقد ذكر أنهم (حفظة الدين وخزنته، وأوعية العلم وحملته… ومنهم كل عالم وفقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد في قبيلة، ومخصوص بفضيلة، وقارئ متقن، وخطيب محسن، وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم السبيل المستقيم، وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر، وعلى الإفصاح بغير مذاهبهم لا يتجاسر)
قال السائق: أهل الحديث على عيني وعلى رأسي.. ولكني أرى أن كل الأمة أهل حديث.. فمن بلغه حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفهمه وحاول أن يعيش معناه، فإن ذلك كاف لجعله من أهل الحديث..
قال ربيع: لا.. ذلك ليس بكاف.. لابد أن يعرف الأسانيد.. وإلا وقع في الضلالة.
قال السائق: فإن كان الأمر كذلك، وأنت تعلم أننا أقل من أن نشتغل بهذه الصناعة، فيكفينا إذن القرآن الكريم الذي نقل إلينا متواترا.
قال ربيع: كيف أفهمك أيها المجادل العنيد.. أنا لم أكلفك أن تدرس الأسانيد.. ولكني كلفتك أن ترجع فيها لأهلها من المحدثين.. فهم أدرى الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لا من تزعم له ذلك من مشايخك.
قال السائق: أنا مسلم لك في هذا.. وإن احتجت إلى التعرف على صحة حديث أو ضعفه فسألجأ للمحدثين الذي تصفهم.. لكني الآن أريد أن أسمع لهذا الشيخ الذي ذكرته لك.. إنه يعلمنا فيه كيف نسمع القرآن من ربنا.
قال ربيع: ويلك وويله.. أيدعي شيخك استمرار النبوة.. أهو قادياني مبتدع ضال مضل..
قال السائق: لا تقل ذلك.. فأنا لم أقصد ما فهمته.. لعلي لم أعرف كيف أشرح لك.. ولذلك سأدعك مع هذا الشريط ليشرح لك فهم أهل الله وورثة النبوة للقرآن، والحقائق التي تتنزل عليهم من خلال قراءتهم له.
قال ربيع: لقد عودنا سلفنا على الإسناد.. ونحن لن نقبل أن نسمع العلم إلا من أهله.. فمن هذا النكرة الذي تريد أن تفرض علينا أن نسمعه؟
قال السائق: إنه الشيخ العارف أحمد بن الصديق الغماري ([1])..
ما نطق السائق بهذا حتى ثارت ثائرة ربيع، وقال: ويلك أتريد أن تسمعنا صوت ذلك الدعي الأفاك الذي ذلك الذي طعن في شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال عنه: (..فإن كل مبتدع وضال بعد المقلدة إنما ضل حتى كفر بقراءة كتب ابن تيمية)([2])
وقال عنه: (أما مثل ابن تيمية فهو عدو الله ورسوله، مجرم خبيث ضال مضل، لم يقتصر عدو الله على بغض الصوفية، بل أبغض إلى قلبه الفاجر منهم آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأولهم وأشدهم ثقلا على قلبه علي بن أبي طالب عليه السلام، فثبت نفاقه بنص الحديث الصحيح..فمن سماه بعد شيخ الإسلام فهو منافق ضال مثله قبحه الله)([3])
وقال عن ابن عبد الوهاب: (.. ويكفي أن قرن الشيطان النجدي وأذنابه من أولاد أفكار ابن تيمية، ولا يخفى شرهم وعظيم ضررهم على الإسلام وأهله)([4])
قال السائق: تلك آراء رآها، قد يكون مخطئا فيها، وقد يكون مصيبا.. وابن تيمية وابن عبد الوهاب أيضا لهما آراؤهما في رجال كثيرين.. وأنا إنسان بسيط لا يهمني هذا ولا هذا، فالله تعالى هو الذي يحكم بين عباده فيما يختلفون فيه.. ما يهمني الآن هو ما وجدته في كتبه من العلم والعرفان والحكمة.. فقد فتح الله عليه أسرار المعارف، وكشف له أغوارها.. فهو يبسط المعقد منها، ويحل المشكل، وكأن مفاتيح الغيب قد فتحت له، فهو يفسر عن رؤية لا عن تقليد، ويحكي عن عيان لا عن خبر.. وليس الخبر كالعيان.
قال ربيع: ويلك.. أرى أن ضلالاته قد انطلت عليك.. أنسيت أنه يقول بقول بوحدة الوجود؟
قال السائق: لقد يسر الله، فقرأت ما كتبه حولها، فرأيت من الحقائق حولها ما ذكره القرآن.. وليس فيها ما يدعيه أصحابك.. لأنهم ينكرون ما لا يعرفون.. ويخوضون فيما لا يعلمون.
قال ربيع: وحدة الوجود واحدة.. وكل من قال بها ملحد وضال وكافر وزنديق.. ألا تعلم ما قال فيها شيخ الإسلام ابن تيمية؟
قال السائق: لقد كنت في يوم من الأيام أقول بأقوالهم، لكني عندما قرأت كتب الشيخ فتح الله علي فهمها ما أزال عني تلك الكدورات التي وضعها ابن تيمية في عقلي وقلبي.
قال ربيع: اتق الله.. ويلك.. لقد تجاوزت حدودك.. ألا تعلم أن لحم شيخ الإسلام ابن تيمية من اللحوم المسمومة.. ثم إياك أن تنطق باسمه من من دون أن تذكر (شيخ الإسلام)، فنحن نفرق بين السني والمبتدع بذلك.
راح السائق يواصل حديثه بنشوة، وكأنه لم يسمع تعليقات ربيع: لقد قرأت فيما قرأت مما كتبه عنها قوله: (إذا تخلى العبد وتحلى.. ولازم عبادة ربه.. واتخذ الذكر شعاره وهجيراه.. فإن الله بفضله وكرمه يوصله إلى مقام يفنى فيه عن وجوده بوجود ربه.. ولا يصبح لوجوده الوهمي بقية)
قال ربيع: أتقصد أنه يصبح إلها.. أو يتحد في الإله.. أو يحل فيه.. ذاك هو الكفر بعينه.
قال السائق: بل أقصد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)([5])
قال ربيع: أرى أنك شيخك قد أضلك.. فالحديث لا يفيد ما فهمته منه إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقصد أنه: (إذا أدى المسلم ما فرض عليه ثم اجتهد في التقرب إلى الله تعالى بنوافل الطاعات، واستمر على ذلك وسعه – بشرط أن يكون من أهل الحديث والسنة – أحبه الله تعالى – فالله تعالى لا يحب إلا سنيا- وإذا أحبه كان عونا له في كل ما يأتي ويذر.. حيث يصبح سمعه مسدداً من الله.. فلا يستمع إلا الخير ولا يقبل إلا الحق وينزاح عنه الباطل الذي وقع فيه المبتدعة.. وإذا أبصر بعينه أو قلبه أبصر بنور من الله.. فكان في ذلك على هدى من الله وبصيرة يفرق بها بين السني والجهمي.. والمثبت والمعطل.. وإذا بطش بصاحب بدعة أو ضربه أو قتله أو ذبحه.. كان ذلك بقوة من الله.. وهكذا.
قال السائق: أي أن الله يصبح عبدا لأوليائكم.. يبطش بمن يريد أن يبطشوا به.. ويقتل من يريدون قتله.. ويدخل النار من لا يرضون عنه.
قال ربيع: أرى أنك تجاوزت حدك.. ولا ينفع معك إلا المباهلة..
قال السائق: لم يا بني تستعجل اللعنة علي أو عليك؟.. نحن نتحاور.. لقد ذكرت لي ما فهمته من الحديث.. وذكرت لك ما شرحه لنا شيخنا.. وأي حرج في ذلك.. فلك فهمك ولي فهمي.. والله يوم القيامة يحكم بيننا.
وأظن أنك لم تفهم فقط ما أراده الشيخ.. وقد كنت مثلك في يوم من الأيام إلى أن عرفت أن هذه المعاني الرفيعة لا يمكن إدراكها بالعبارة أو الألفاظ.. بل هذا مقام لايدرك إلا بالذوق.. والعبارة لا تزيده إلا تعقيدا كما قال ابن عربي في مقدمة الفتوحات: (كل علم إذا بسطته العبارة حسن وفهم معناه أو قارب وعذب عند السامع الفهم فهو علم العقل النظري لأنه تحت ادراكه ومما يستقل به لو نظر الا علم الأسرار، فإنه أخذته العبارة سمج واعتاص على الأفهام دركه وخشن وربما مجته العقول الضعيفة المتعصبة التي لم تتوفر لتصريف حقيقتها التي جعل الله فيها من النظر والبحث ولهذا صاحب هذا العلم كثيرا ما يوصله إلى الأفهام بضرب الأمثلة والمخاطبات الشعرية)([6])
وقبله قال الغزالي عن الصوفية بعد أن طالع كتبهم: (فظهر لي أن أخص خواصهم، ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات. وكم من الفرق أن تعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما، وبين أن تكون صحيحاً وشبعان؟ وبين أن تعرف حد السكر، وأنه عبارة عن حالة تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر، وبين أن تكون سكران! بل السكران لا يعرف حد السكر، وعلمه وهو سكران وما معه من علمه شيء. الطبيب في حالة المرض يعرف حد الصحة وأسبابها وأدويتها، وهو فاقد الصحة. فكذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسبابه، وبين أن تكون حالك الزهد، وعزوف النفس عن الدنيا!. فعلمت يقيناً أنهم أرباب الأحوال، لا أصحاب الأقوال. وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم، بل بالذوق والسلوك)([7])
قال ربيع: أتريد أن أمارس الرياضة حتى أقع في الحلول والاتحاد.. إن هؤلاء هم أولياء الشيطان لا أولياء الرحمن كما قال ذلك شيخ الإسلام.
قال السائق: وهل رأيت الصوفية يقولون بالحلول والاتحاد.. إن أبعد الناس عنهما الصوفية.. فالاتحاد معناه اتحاد شيء بشيء آخر.. أي أن هناك شيئين اتحدا.. وكذلك الحلول معناه حلول شيء في آخر وتخلله به.. والواصلون إلى مقام الوحدة لا يرون وجودهم مطلقا، ولا يثبتون حقيقتهم المفروضة أبدا حتى يلزمهم القول بالاتحاد أو الحلول.. بل لا يكون عندهم الوجود إلا واحدا لا تعدد فيه، ولا ثاني له.
قال ربيع: ولكنك نسيت قول الملحد الضال المضل ابن الفارض:
وهامت بها روحي بحيث تمازجا اتحادا ولا جُرمٌ تخلله جُرْمُ
قال السائق: إنه يعبر عن مشاعره الوجدانية بلغة الشعراء.. ثم ألا تراه ينفي اتحاد جرم بجرم.. إن معنى كلامه أنه لما هام عشقا، وعمل على ترك الشواغل الصارفة عن الوصول وجد نفسه أنه كان في الحضرة وهو لا يشعر، لأن الحق سبحانه أقرب إلينا من حبل الوريد {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 85]
قال ربيع: أرى
أن شيخك هذا قد طمس بصيرتك.. ولا أمل فيك.. ولا أرى إلا أنك وشيخك.. وكل المشايخ
الذين تتعلق بهم ستصلون نار جهنم وبئس المهاد.. وسيشفى الله غليلنا منكم هناك حين
نراكم تعذبون..
([1]) عرفه ابن الحاج السلمي بقوله: (فقيه، علامة، صاحب مشاركة في كثير من العلوم الإسلامية، وضروب الثقافة العربية الرصينة الأصيلة، إلا أن لَه تخصصا وتبريزا وتفوقا في حلبة علوم الحديث على طريقة الحفاظ الأقدمين، متنا وسندا، ومعرفة تراجم الرواة، وطرق الجرح والتعديل، وقد كون فيها نفسه بنفسه، دون أن يتتلمذ لأحد)(إسعاف الإخوان الراغبين، ص:38)
([2]) جؤنة العطار: 1/5. .
([3]) البحر العميق: 1/51..
([4]) جؤنة العطار: 1/5..
([5]) رواه البخاري.
([6]) الفتوحات المكية – طبعة الميمنية الأولى (1/ 33)
([7]) المنقذ من الضلال (ص: 172).