العقل

الفرح بالعقل فرح متطور عما قبله، لأنه يكون في فترة النضج للأفراد أو للأمم، بخلاف الفرح بالهيئة أو القوة فإنه يكون في فترة الطيش والمراهقة.
والقرآن الكريم يعبر بالعقل عن القوة المتهيئة لقبول العلم، أو للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة، ومن ذلك قول الإمام علي:
رأيت العقل عقلين |
فمطبوع ومسموع | |
ولا ينفع مسموع |
إذا لم يك مطبوع | |
كما لا ينفع الشمس |
وضوء العين ممنوع |
وهو الميزة التي ميز الله بها الإنسان عن كثير من خلقه، ولهذا مجده الإنسان شعرا ونثرا، يقول المتنبي:
لولا العقولُ لكان أدنى ضيعُمٍ |
أدنى إِلى شرفٍ من الإِنسانِ |
ولكن البشر مع ذلك التمجيد المعنوي للعقل لم يعطوه حقه من التقدير المادي الواقعي، وكأن الشعراء المعبرين عن هذا الواقع المتأسفين عليه متفقون على ذلك البخس لحق العقل، يقول المتنبي:
وذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلهِ |
وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ |
ويقول الشافعي:
لو كنتَ بالعقلِ تعطى ما يريد به |
لما ظفرتَ من الدنيا بمسوقِ | |
رزقتَ مالاً على جهلٍ فعشتَ به |
فلستَ أولَ مجنونٍ بمرزوقِ |
ويقول الآخر:
سبحانً من أنزلَ الدنيا منازلَها |
وميزَ الناسَ مشنوءاً وموموقا | |
فعاقلٌ فَطِنٌ أعيتْ مذاهبُهُ |
وجاهلٌ خَرِقٌ
تلقاهُ مَرْزوقا | |
كأنه من خليج العرب مُغْتَرِفٌ |
ولم يكنْ بارتزاقِ القوتِ محقوقا |
ويقول المعري:
في هذهِ الدنيا عجائبُ جمةٌ |
والعاقلُ المسرورُ فيها أعجبُ |
وينحى الأبيوردي باللائمة على العقل باعتباره سبب هموم الإنسان فيقول:
إِذا قَلَّ عقلُ المرءِ قلتْ همومُهُ |
ومن لم يكن ذا مُقْلةٍ كيف يرمدُ؟ |
والعقل الذي يتحدث عنه هؤلاء الشعراء، والذي قد يتألم صاحبه ويشقى ويلاقي العنت من الخلق هو العقل الذي يعقل صاحبه عن تصور ما لا يحق أو فعل مالا يليق مراعاة للخير، وحرصا على الحق، أما العقل الذي هو مجرد وسيلة وآلة، والذي يأخذ حكم الوسائل والآلات، فيستخدم للخير والشر، وينصر الحق والباطل، ويستخدم أحبولة لأغراض النفس، وشباكا لصيد الشهوات فهو العقل المصرح بذمه في القرآن الكريم، والمصرح بذم الفرح به.
ومن أخطار هذا الفرح الاستبداد بالرأي وعدم الإذعان للحق، واستغلال طاقة العقل في الكيد والخديعة وإنشاء أفكار الضرار التي تزاحم الدين الحق، قال تعالى:{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}(غافر:83)
ويخبر تعالى عن سليمان عليه السلام أنه لم يقبل الهدية التي أرسلت له لأنها كانت من إرسال عقل مخادع يريد أن يشتري نبيا ببضاعة مزجاة، فلذلك اشتد غضب سليمان من ذلك العقل ومن تدبيره، قال تعالى:{ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} (النمل:36)، لأن قوم سبأ أرادوا أن يظهروا بعض ما أوتوا لسليمان ليرشوه به، ولكنه نظر إلى ما أنعم الله عليه، فلم يجد هديتهم تساوي شيئا أمامه.
وهذا العقل الذي يفرح به صاحبه عقل مذموم، وصاحبه مخادع قبل أن يكون مخادعا، فهو يعامل بعكس مقصوده، قال تعالى عن المنافقين: { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}(البقرة:9)، وقال تعالى:{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (النساء: 142)
و العلم كالعقل ليس خيرا مطلقا ولا شرا مطلقا، بل هو بحسب صاحبه، ولذلك ورد في القرآن بصيغتي المدح والذم، ونهي عن الفرح به لذاته وتعظيمه لذاته لما ينجر عن ذلك الفرح والإعجاب من مخاطر ربما لم يدرك عصر من العصور منها ما أدركه هذا العصر، قال تعالى ضاربا المثل بمن قبلنا: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ}(الأعراف:175)، فهذا العلم الذي جر صاحبه إلى الغواية بسبب فرحه به وخلوده إلى الأرض كما عقب تعالى على ذلك بقوله:{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(الأعراف:176)
وهذا المثال يكاد ينطبق تماما على الكثير من اكتشافات هذا العصر حيث تلهث البشرية كل حين وفي كل مجال، وحيث استغل العلم ليغذي ذلك اللهث الذي لا ينقطع، بل اعتبر ما عداه من العلوم الإنسانية مجرد ثقافات عامة لا تمت بصلة للعلم، ولذلك اختار القرآن الكريم مثال الكلب ليشبه تلك الحيرة، قال القتيبي:(كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال المرض وحال الصحة وحال الري وحال العطش. فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته فقال: إن وعظته ضل وإن تركته ضل; فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث)
ويضرب القرآن الكريم المثل على ذلك بطاغيتين كان الفرح بالعلم أحد أسباب طغيانهما هما قارون وفرعون:
أما قارون فأجاب الصالحين من قومه الذبن نهوه عن الفرح بما عنده بقوله: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي } وعقب الله تعالى على ذلك بقوله:{ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ}(القصص:78) ليبين أن علمه ذلك جهل مادام قد صرفه عن ربه، وصرفه قبل ذلك عن نفسه.
أما فرعون فقد هاله مارآه في عصره من اكتشافات واختراعات فظن أن الله يدرك باختراع من الاختراعات مثلما يفعلون الآن عندما يريدون البحث عن الروح أو العالم الآخر من خلف المناظير والمجاهر قال تعالى:{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ}(القصص:38)
ولكن ذلك ليس خاصا بقارون أوفرعون فهما مجرد نماذج، ولهذا تأتي القاعدة العامة في قوله تعالى:{ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر:49)، فتلك النعم، وذلك العلم الذي استدل به عليها مجرد فتنة وابتلاء.
والقرآن يشير هنا إلى خطر فتنة العلم، العلم الذي اتخذ في كثير من أحقاب التاريخ مبررا للإلحاد وغطاء للكفر وسبيلا للتنصل من التكاليف.
ولذلك فإن أول ما يبدأ به القرآن الكريم في تربيته للنفوس المؤمنة وتأمينها من فتنة العقل والعلم والحد من طغيانهما الناشئ من فرط الفرح بهما بيان أن ذلك العلم الذي تفخر به البشرية، والذي تعتبره نتيجة من نتائج عقولها الجبارة، عارية وليس ملكا، والعارية لا يفرح بها وإنما تستعمل للحاجة والضرورة، قال تعالى:{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(النحل:78)
فكما بدأ الإنسان أول خلقته جاهلا فكذلك يختم له بالجهل، قال تعالى:{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِير}(النحل:70)
فالإنسان محدود العلم من حيث مدة علمه التي لا تتجاوز فترة حياته القصيرة، والتي يزاحم مزاولته للعلم فيها شؤون حياته الكثيرة، ومع ذلك فهو محدود نوعية العلم أيضا حتى أن معارفه التي لا تتجاوز حياته الدنيا قدتوصف بالجهل قال تعالى:{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}(الروم:7)
وقوانين الحياة الدنيا في جميع مجالاتها ليست هي قوانين الحياة الآخرة، فالذي فرح في الدنيا واختال زهوا بكونه طبيبا ملما بالأدواء وشفائها، قاصرا فكره على ذلك، سيصبح يوم القيامة بل بعد موته مباشرة جاهلا كغيره ممن ظن أنه تميز عنهم، لأن أجساد أهل القيامة لا تحتاج إلى دواء، فهم بين صحيح لا يمرض أو مريض لا يصح ولا يموت.
ولذلك فإن الحقيقة الأولى التي يقررها القرآن الكريم في النفس هي أن أكثر الناس لا يعلمون، وتلك القلة التي تعلم لا تعلم إلا قليلا،قال تعالى:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}(الإسراء:85)
وبعد أن تستشعر النفس حقيقة جهلها، وتعلم أن جهلها أصل ثابت فيها، وأن ما تعرفه عارية لا ينبغي أن تفرح لها يعود القرآن ليؤسس فيها العلم الحقيقي ويشعرها بالكيفية التي ينبغي لها أن تنظر بها للعلم، وتفرح به من خلالها، فيبدأ ببيان أن العالم الوحيد في هذا الكون هو الله، وأن كل من أوتي علما فالله أعلم منه، قال تعالى:{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}(يوسف:76)
ولذلك فإن كل ما عداه متعلم منه ومستفيد منه، يقول تعالى مخبرا عن جواب الملائكة بعد أن رأوا ما رزقه آدم من العلم:{ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم} (البقرة:32)
وأول من يفعله من يعرفه هاته الحقائق:جهله وعلم الله واستفادته العلم من الله، هو أن يخضع متواضعا لله لا يهزه الزهو ولا يغره الفرح،قال تعالى:{ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا}(الإسراء:107)
وكل من خر ساجدا لله فإنه لن يستعبد خلق الله ولن يؤذيهم بعلمه، ولن يخترع الأسلحة النووية، ولا القنابل الجرثومية، ولن يجعل من البشر فئران تجارب يرضي من خلالهم أصناف شذوذه، وبعبارة قرآنية لن يقول للخلق: كونوا عبادا لي من دون الله، قال تعالى:{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}(آل عمران:79)
وأول ما يفعله العقل بأمثال هؤلاء هو أن يعقلهم، وأن يضبط جماح أهوائهم، وأن يحتل مكانه الذي أهله الله له لا يعدوه، وهو مكان شريف منيف، ولكن الله نفاه عن غير المؤمنين به ولو كانوا في التصورات البشرية قمما في الفكر والرأي والإبداع، لأن كل فكر يبعد عن الله هوى، وكل علم يبشر بغير الله وسواس، وكل رأي يحارب الله ضلالة.
فلذلك كل ما ورد في القرآن الكريم من وصف للكفار بأنهم لا يعقلون لا يراد به ذلك البدوي الجلف الغليظ الذي ناوأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط، وإنما يراد به كل ملحد أو محارب لله ورسوله، ولو علقت على صدره النياشين، ونصبت له التماثيل، وترك خلفه أطنان الأوراق، لأن تلك الأطنان تنمحي جميعا أمام كلمة كفر واحدة يجحد بها الحق، ويناوئ بها أهله.
قال تعالى:{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة:171)
وفي هذه الآية تشبيه بليغ للمؤمن الذي قد يكون محدود الثقافة ومع ذلك يخاطب الكفار الذين قد يكون منهم العلماء والباحثون وأهل الفكر فلا يسمعون إلا صوته، ولا يفهمون ما يقول، أوقد يضحكون مما يقول، فهم كالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ولا تفهم ما يقولا، لأن موجات الحديث مختلفة، وطريقة التفكير مختلفة، وبعد النظر متفاوت.
وكثيرا ما نرى عقلا جبارا يحل أعقد المعضلات الرياضية، أو عقل اقتصادي يحل أفتك أزمات مجاعة، أو عقل فيلسوف يقسم الشعرة بذكائه، ولكنه إذا ما حدث عن أبسط القضايا الإيمانية صعر خده ولوى عنقه، وقال: هذه قضايا هامشية، أو مسائل غير مطروحة،ورضي بأن يموت على إلحاد أو على إيمان لا وجود لأي أثر له في حياته.
ويشبه الله أمثال هؤلاء بالأنعام تشبيها صريحا في القرآن وفي مواضع كثيرة، بل يزيد في تفضيل الأنعام عليهم، يقول تعالى:{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} (المائدة:22)، ويقول تعالى:{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(الفرقان:44)
لأن هؤلاء الذين يتيهون بمعارفهم وصنائعهم الدنيوية البسيطة يوجد ما يماثلها في الحيوانات التي لم تدرس في الجامعات، ولم تقرأ الكتب، ولم تتلق أي تدريبات، فإن أي عنكبوت يتحدى أبرع مهندس، وأي نملة تتحدى وزارة تموين، وأي نحلة تفوز على جميع خبراء التغذية، بل أي نبات يفقه أسرار الجو كما لا يفقهه خبراء الإرصاد فيلبس لكل مناخ لبوسه.
وفي العقل العملي، العقل الذي يرشد للفضيلة ويدعو للخير وينتهج نهج الحكمة، ينفي الله عن غير المتأدبين بفضائله اسم العقل، يقول تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(الحجرات:4)، ويقول تعالى:{ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}(المائدة:58)
والعقل العملي كالعقل النظري، كلاهما وجهان لعملة واحدة، فسلوك المرء العملي دليل على عقله النظري، وتفكيره النظري الذي قد لا يجسر على التصريح به هو الهادي لسلوكه العملي، وهؤلاء الذين لم يحترموا نبيا رسولا من الله إليهم، ولم يعرفوا منزلته، ونادوه كما ينادي بعضهم بعضا، وأولئك الذين لم يحترموا نداء ربهم بالصلاة وجعلوه موضعا للندرة والنكتة كلاهما لاعقل له، لأنهما لوكانا يعقلان لعرفا الله وعرفا الرسول وعرفا كيف يتعاملان مع الله والرسول.
ولهذا فإن المؤمن الكامل الإيمان، والإنسان المكتمل الإنسانية، هو من صفا جوهر عقله فأصبح محلا لكل حق ولكل خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، ولهذا يقصر الله وصف العقل عليهم في نفس الوقت الذي يقلل من عددهم، قال تعالى:{ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}(العنكبوت:43)
فآيات الله وأمثاله لا يفهمها أو يعقلها إلا العالمون أصحاب العقول،قال عمرو بن مرة: (ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنني لأني سمعت الله تعالى يقول: { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت:43)
وآيات الله ليس المراد بها آيات القرآن الكريم فقط، بل هي كل آية في السموات والأرض، قال تعالى:{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (آل عمران:190)
وأولو الألباب في هذه الآية ليس المراد بهم علماء الفلك أو الذرة أو الجيولوجيا فقط ممن عرفوا كثيرا من خبايا الكون، وإنما كل مؤمن عرف أن لهذه السموات ربا وتوجه إليه بالعبادة، أما غيره ممن اقتصر على مشاهدة الآية أو تحليلها، ولم يعبر منها إلا الله فيصدق عليه قوله تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}(يوسف:105)، وقوله تعالى:{ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ}(الأنبياء:32)
وقد ورد هذا اللقب أُوْلُوا الْأَلْبَابِ في القرآن الكريم في ستة عشر موضعا كلها قاصرة على المؤمنين أصحاب العقول النيرة، واللب هو العقل الخالص من الشوائب، وسمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من معانيه، كاللباب واللب من الشيء، وهذا يشير إلى أن العقول الأخرى التي تتيه فرحا بنفسها ما هي إلا غلالة وقشرة ومظهر بسيط يستر العقل الحقيقي الذي جعله الله للكمل من عباده، والفرح بتلك القشرة والانشغال بها يحول بين الإنسان والترقي للكمال الذي سيصله حتما إن رجع إلى الله، وفرح بنعمة العقل المستعبد لله لا للنفس ولا للهوى ولا للشيطان.