الشعراوي.. والأزهريون

الشعراوي.. والأزهريون

كان السائق في غاية السماحة والسلام، ولهذا لم يشأ أن يقع معه في جدال، بل أخذ شريطا آخر، وقال: لا بأس ما دام مصطفى محمود لم يعجبك.. فلدي شريط آخر لعالم من كبار العلماء عشقه العامة كما عشقه الخاصة.. كان يفسر القرآن الكريم فتشرئب الأعناق لتفسيره.. كان ذا روحانية عالية..

قاطعه ربيع، وقال: دعك من كل هذه الأوصاف.. ألا تعلم نهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المدح.. ألا تعلم أمره بأن يحثى التراب على وجوه المداحين، فقد ورد في الحديث عن أبي معمر قال: قام رجل يثنى على أمير من الأمراء، فجعل المقداد يحثي عليه التراب، وقال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نحثي في وجوه المداحين التراب)([1])

قال السائق: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا لم أقصد المدح، بل قصدت فقط أن أرغبكم في الاستماع إليه، والاستفادة منه.

قال ربيع: من هو، فلا أظنه إلا جيفة من الجيف التي عودتنا عليها.

قال السائق: كيف يكون جيفة.. إن كلامه يحيي القلوب الميتة..

قاطعه ربيع: عدت إلى المدح من جديد.. أخبرنا عن اسمه من دون مقدمات.

قال السائق: لا بأس.. هو الشيخ محمد متولى الشعراوي..

قهقه ربيع بصوت عال، وقال: ألم أقل لكم.. إن صاحبنا لا يختلف عن الغراب.. إنه لا يقع إلا على الجيف.. قبحك الله ألا تعلم ما يقول الثقاة المحققون سدنة الدين ورعاته في الشعراوي؟

ألا تعرف أن الحجة الثقة الضابط المحقق علم الدين وناصر الملة الشيخ العلامة الحبر البحر الفهامة (محمد ناصر الدين الالبانى) رحمه الله ورضي عنه وقدس روحه الشريفة سئل عن النكرة الرويبضة القبوري الملحد الشعراوي، وقد كان السائل مثلك أحمق لا يقع على الجيف، وكان معجبا بالشعراوي إعجابا شديدا فأجابه العلامة بقوله: (هو منحرف عن العقيدة وكثيرا ما يتأول الآيات بتأويل لتناسب مفاهيم العصر الحاضر.. لا يؤخذ عنه العلم.. عنده أسلوب جيد جذاب لكن ما عنده علم صحيح ولهذا فالذي يريد أن يستمع اليه مأخوذا بروعة أسلوبه يجب أن يأخذ حذره من أن يتلقن منه ما ليس بصحيح.. لقد ذكر لي بعضهم أنه سأله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه: 5]، وقال له: هل يوصف ربنا بأن له صفة العلو؟ فثار عليه الشعراوي ثورة عظيمة، وذكر له أن الله ليس له مكان وليس له زمان.. وأظن أن هذا وحده كاف في بيان ضلاله.. بالإضافة إلى ذلك فهو من علماء الأزهر.. وعلماء الأزهر علماء يتقنون اللغة العربية.. لكنهم بعيدون عن السنة كل البعد) ([2])

قال السائق: ألا ترى أن شيخك قد بالغ قليلا حين حكم على جميع علماء الأزهر أنهم بعيدون عن السنة؟

انتفض ربيع غاضبا، وهو يقول: ويلك.. كيف تتجرأ على رمي المحقق المدقق بالمبالغة.. إن جميع كلماته موزونة بموازين دقيقة.. ألا تعرف موازين المحدثين.. إنهم لا يقولون لغوا.. إنهم لا يقولون كذبا.. إنهم لا يقولون زورا.. إنهم لا ينطقون عن هوى.. إن كلامهم {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]، ولهذا أبيحت لهم الغيبة التي حرمت على غيرهم.

ألا تعلم أن النيل من أهل الحديث ومن سار على نهجهم أمر عظيم، فبه صرف الناس عن الحق الذي هم عليه، ولهذا شدد سلف هذه الأمة الصالحون المهتدون على من ينال منهم أقل نيل، فعن سفيان الثوري أنه قال: (استوصوا بأهل السنة خيراً؛ فإنهم غرباء.. والظاهر أن سفيان يريد أهل الحديث؛ لأن المنتسبين إلى السنة الذين يقابلون أهل البدع في عصره كانوا أكثرية، والدولة والسلطان بأيديهم.

وقد فسَّر كل العلماء المحققين الغرباء والفرقة الناجية والطائفة المنصورة بأهل الحديث وبأهل السنة، ومرادهم بأهل السنة أهل الحديث، وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يزال ناس من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)([3])، وقد سئل الإمام أحمد عن معنى هذا الحديث؟ فقال: إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث؛ فلا أدري من هم؟!.. وقال فيهم حفص بن غياث: هم خير أهل الدنيا.. وعن بكر بن عيَّاش أنه قال: إني لأرجو أن يكون أصحاب الحديث خير الناس.. وقد قال الحاكم مؤيداً قولهما: ولقد صدقا جميعاً أن أصحاب الحديث خير الناس، وكيف لا يكونون كذلك؟! ثم شرع في الثناء عليهم… إلى أن قال: فالشدائد مع وجود الأسانيد العالية عندهم رخاء، ووجود الرخاء مع فقد ما طلبوه عندهم بؤس؛ فعقولهم بلذاذة السُّنة غامرة، وقلوبهم بالرضاء في الأحوال عامرة، تعلُّم السنن سرورهم، ومجالس العلم حُبورهم، وأهل السنة قاطبة إخوانهم، وأهل الإلحاد والبدع بأسرها أعداؤهم ([4]).

سكت ربيع قليلا يستجمع أنفاسه، فظن السائق أنه أكمل حديثه، فأراد أن يتحدث، فقاطعه ربيع بقوة، وهو يقول: دعني ويلك أكمل حديثي.. لقد قال يوسف بن موسى القطان: ازدحمنا يوما على أبي بكر بن عياش، فقال: مالي أرى رؤوسا كأنها رؤوس الشياطين، فتنحينا عنه، فقال: ما أعلم في الدنيا قوما خيرا منهم هم قد عرفوا حديثي لو أخذوه وذهبوا من كان يقول لهم شيئا.. وقال هشام بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم قال: شيعنا الأوزاعي وقت انصرافنا من عنده فأبعد في تشيعينا حتى مشى معنا فرسخين أو ثلاثة فقلنا له: أيها الشيخ يصعب عليك المشي على كبر سنك، فقال: امشوا واسكتوا لو علمت أن لله طبقة أو قوما يباهي الله بهم، أو أفضل منكم، لمشيت معهم وشيعتهم، ولكنكم أفضل الناس.. وقال محمد بن أحمد بن البراء العبدي سمعت عثمان بن أبي شيبة يقول – وكان رأى بعض أصحاب الحديث يضطربون – فقال: أما إن فاسقهم خير من عابد غيرهم.. وقال قتيبة بن سعيد: إذا رأيت الرجل يحب أهل الحديث مثل يحيي بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وذكر قوما آخرين فإنه على السنة ومن خالف هذا فاعلم أنه مبتدع.. وقال أحمد بن سنان: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث، وإذا ابتدع الرجل نزع حلاوة الحديث من قلبه.

كان ربيع يخطب بقوة وحماسة، والزبد يتطاير من فمه، وجسمه يرتجف جميعا، وكنت في ذلك الحين كالأبله أتفرج معجبا بحفظه وحماسه وطريقة نطقه بالألفاظ، ولم تكن لدي أي مصفاة أزن بها كلامه، لأميز بين حقه وباطله، وعاقله ومجنونه.

بعد أن انتهى من خطبته الطويلة، قال له السائق: يا بني اسمعني جيدا.. الذي أعلمه.. وأنا كما تراني إنسان أمي بسيط لا أحفظ ما تحفظ.. هو أن أهل الحديث وغيرهم مهما جل قدرهم بشر قد يخطئون وقد يصيبون.. وقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } [النجم: 3] نزل في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينزل فيهم.

عاد ربيع إلى غضبه من جديد، وصاح في السائق: ويلك.. ثكلتك أمك.. أتتجرأ على أهل الحديث.. ألا تعلم أنه قيل للإمام أحمد: يا أبا عبدالله! ذكروا لابن أبي قتيلة بمكة أصحاب الحديث، فقال: أصحاب الحديث قوم سوء. فقام الإمام أحمد مثل قيامي هذا، وهو ينفض ثوبه، ثم قال: زنديق، زنديق، زنديق. ودخل البيت.

وقال أحمد بن سنان القطان: ليس في الدنيا مبتدع؛ إلا وهو يبغض أهل الحديث، وإذا ابتدع الرجل؛ نزع حلاوة الحديث من قلبه.


([1])     رواه مسلم.

([2])     شريط رقم 206 من سلسلة الهدى والنور بتصرف.

([3])     سنن الترمذي: كتاب الفتن عن رسول الله a باب ما جاء في الشام ح(2192).

([4])     هذه النصوص والتعليقات عليها مقتبسة من كتاب (أهل الحديث هم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية – حوار مع سلمان بن فهد العودة)، ربيع المدخلي، من مواضع متفرقة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *