السقاف.. والمتكلمون

السقاف.. والمتكلمون

ترك السائق ربيعا إلى أن انتهى من خطبته، ثم قال مخاطبا له بكل أدب: ما دمت قد أثنيت على أهل الحديث وذكرت فضلهم.. فلدي هنا بعض الأشرطة لعالم جليل من علماء الحديث.. أرى أن ما ذكرته ينطبق عليه تماما.. فهو لا يقول زورا، ولا ينطق عن هوى.

ابتسم ربيع، وقال: وأخيرا عدت إلى رشدك.. هات ضع الشريط.. وشنف آذاننا بأطيب كلام.. كلام المحدثين.

أخذ السائق يبحث عن الشريط، لكنه بمجرد أن وجده، وأراد وضعه أوقفه ربيع، وقال: رويدك يا رجل.. أخبرنا أولا.. من هو هذا المحدث الذي تريد أن تسمعنا صوته؟

قال السائق: ألم تذكر أن أهل الحديث كلهم ثقاة.. وناجون.. ومنصورون؟

قال ربيع: لقد ظهر فيهم بعض المبتدعة، ممن تلاعب بهم الشيطان.. ولذلك أخبرنا أولا من هو هذا المحدث؟

قال السائق: إنه حسن السقاف..

عاد الغضب إلى ربيع من جديد، وقام، وهو يقول: ويلك.. ألم تعرف من المحدثين غير هذا المبتدع الضال المضل.. ويلك ألا تقع إلا على الجيف.. لقد عقدنا الاجتماعات الطويلة عنه، وكلنا اتفق على أنه([1]) (رافضي خبيث، من أكثر الناس مناداةً ودعوةً إلى وحدة الوجود.. إلا أنه لم يدم في دعوته إلى مبادئه العفنة طويلاً، فتنصل وانخنس، وأصبح يقرأ في عقائد الفرق الضالة، فأعجبته فكرة دخوله أو تحوله إلى مذهب الرافضة ظناً منه ـ أو تصديقاً لحاله ـ بأنه شريف من السادة آل البيت ـ على حد تعبيره.. وأين هو من ذلك، فإذا نظرت إلى حقيقة هذا الخساف المتهور، وجدته  كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، أو {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]، ولم يزل هذا المتهور المعثار يطعن في الدين ويشوهه، متخذاً حسبه ونسبه ـ زاعماً ـ مطيةً للدس في الدين.. وقد تبعه على ذلك غلمان حدثاء الأسنان، يمرقون من الدين – وهم لا يشعرون ـ مروق السهم، فقد جرهم هذا المجرم باديء ذي بدء إلى وحدة الوجود – مستغلاً بذلك جهلهم – وهاهو الآن يجرهم وراءه إلى مذهب الرافضة، وهم لا يشعرون)

قال السائق: لا تعجل يا بني في أحكامك ولا تتسرع.. نعم هو اختلف مع الألباني في بعض الأمور.. لكن هذا لا ينفي عنه صفة أهل الحديث.. فكتبه تشهد بكونه محدثا لا يقل عن كبار المحدثين المعاصرين إن لم يكن يتفوق عليهم.. أما كونه رافضيا، فلا أراه يرجع في كتبه إلى بحار الأنوار ولا إلى الكافي، بل أراه يرجع إلى البخاري ومسلم وكتب أهل السنة جميعا.

قال ربيع: أهل الحديث الذين ورد مدحهم في النصوص هم الذين خلصوا للحديث.. أما الذين مزجوا حديثهم بعلم الكلام والتصوف.. فلا كرامة لهم.. ولا حرمة لهم.. ولحومهم حلال لمن يشاء أن يأكلها.. بل إنا نتقرب إلى الله بذمهم والدعاء عليهم.

قال السائق: دعني يا بني أضع الشريط لتسمعه.. إنه في تنزيه الله.. إنه يذكر من الأدلة العقلية على ذلك ما يملأ القلب راحة وطمأنينة وإيمانا.

انتفض ربيع، وقال: وما علاقة العقل بالدين.. ألم تسمع ما ورد في نصوصنا المقدسة عن ذم العقل؟

قال السائق: كيف تقول ذلك.. ألم تقرأ القرآن الكريم؟.. ألم تقرأ ما ورد فيه من مدح العقل، ومن مدح أصحاب العقول؟

قال ربيع: من أنت حتى تتجرأ على القرآن الكريم.. لا يمكن أن تحتج بالقرآن ففيه الناسخ والمنسوخ.. والخاص والعام.. والمطلق والمقيد.. ما أدراك لعل الآية التي استدللت بها منسوخة.. أو أنها مخصصة.. أو أنها مقيدة..

قال السائق: إذا لم نرجع للقرآن الكريم.. فلمن نرجع؟

قال ربيع: إلينا.. إلى أهل الحديث.. فالسنة هي بيان القرآن.. ونحن ناقلو السنة.. ولا يفهم السنة من لم يرجع إلينا.

قال السائق: ولكن هذا الرجل متكلم كبير.. وهو يفسر السنة على منهج أهل الكلام..

غضب ربيع غضبا شديدا، وقال: ومتى صار المتكلم سنيا.. (لم يكن للبشرية بعلم الكلام علم منذ عرفت العلم فلم يعرفه السابق حتى يعلمه اللاحق ؛ لقد كان علماً مبتكراً جديدا ظل التاريخ، والواقع عليه شهيدا.. فقد نشأ في الدولة اليونانية، ودرس في مدارسها البيقوريه والرواقية والسفسطائية وفي الدولة اليونانية بنيت العلوم المنطقية، ووضعت ضوابطها العقلية، وقال اليونان بأنه آلة تعصم عن الخطأ الأذهان، ولو عصم منهم الأذهان لقلنا صدق اليونان لكنهم مختلفون في أبسط قواعد ما يعرفون فأرسطاليس الذي رتب علم المنطق، وحرره. رد على أساتذته أفلاطون، وسقراط، وتبرأ منهما فلا يعصم عقل الإنسان مهما كان إلا بوحي من الرحمن يكشف له الغيب، ليصل بلا ريب ثم زحف علم الكلام على أمة الإسلام فكان لها مضللا، ولفكرها مشتتا، ولرأيها مفرقا، ولوحدتها ممزقا، وبقي إلى اليوم مشغلاً للقوم الذين تأثروا بالأبحاث الفلسفيه في العقائد الإيمانيه مع أنها توقيفيه فيا لمصيبة الإسلام من طريقة أهل الكلام)([2])

قال السائق: لا تعجل يا بني.. فعلم الكلام علم راسخ.. وله علماؤه الكبار المشهود لهم بالعلم ونصرة الدين.. وهم كسائر الناس ليسوا معصومين.. ولا حرج على المجتهد أن يخطئ.. فقصدهم – حتى لو أخطأوا في بعض ما بحثوه -نصرة الدين والرد على الشبهات.

غضب ربيع غضبا شديدا، ثم قال: ألا تعلم ما أجاب به أبو عمر الضرير حين سئل عن تعلم علم الكلام للرد به على أهل الجهل؟ لقد وقف مثل موقفي هذا، وقال: الكلام كله جهل فلا تتعلم الجهل، فإنك كلما كنت بالجهل أعلم كنت بالعلم أجهل([3]).. وقال أبو يوسف: العلم بالكلام، والخصومة جهل، والجهل بالكلام علم.. وقال الإمام مالك: لو كان الكلام علماً لتكلم فيه الصحابة، والتابعون كما تكلموا في الأحكام،والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل.. وقال الشافعي: الكلام ليس من العلم.

قال السائق: أظن أن المشكلة وردتك من اسمه.. لا بأس.. فله اسم آخر.. إنه (علم التوحيد)

قهقه ربيع بصوت عال، وقال: منذ متى صار علم التوحيد يتكلم عنه بالعقل.. علم التوحيد ما أخذ من النقل لا من العقل.. لقد قال العباس بن سريج: توحيد أهل العلم، وجماعة المسلمين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، وتوحيد أهل الباطل من المسلمين الخوض في الأعراض والأجسام، وإنما بعث النبي بإنكار ذلك([4]).. وسئل الإمام مالك عن التوحيد، فقال: محال أن يظن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه علم أمته الإستنجاء، ولم يعلمهم التوحيد.

قال السائق: ولكن من الناس من لا يتقبل النقل.. ولذلك نبدأ معه بالعقل.. فكيف ترانا نبادر الملحد الذي ينكر القرآن الكريم.. هل نخاطبه بما يفهمه أم بما لا يفهمه، ولا يقر به؟

قال ربيع: كل جدال بالعقل ضلالة.. لقد قَالَ الله تَعَالَى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ }[لقمان: ٢٠].. فلا يجادل في الرحمن إلا اتباع الشيطان.. والجدال في الله بالعقل أضل المسلمين عن النقل.. وقد أمر الله المسلمين بترك المجادلين والإعراض عنهم، وعدم القعود معهم قَالَ تَعَالَى:{ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }[الأعراف: ١٨٠]، بل جعل من قعد معهم في الإثم مثلهم. قَالَ تَعَالَى:{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } [النساء: ١٤٠]

قال السائق: صدق الله العظيم.. ولكن هذه الآيات الكريمة نزلت في المجادلين العابثين، لا في طالبي الحقيقة الذين يحتاجون من يجادلهم ويحاورهم.. وقد كان المتكلمون هم الذين تخصصوا في هذا.. وكان لهم صوابهم، كما كان لهم خطؤهم.

قال ربيع: لو أنك رجعت إلى سلف الأمة لما وقعت في هذه الضلالات([5]).. لقد سئل أبو حنيفة عما أحدث الناس من الكلام في الأعراض، والأجسام فقال: مقالات الفلاسفة عليك بالأثر وطريقة السلف وإياك، وكل محدثة فإنها بدعة.. وقال: لعن الله عمرو بن عبيد إنه فتح للناس الطريق إلي علم الكلام.. وقال محمد بن الحسن: كان أبو حنيفة يحثنا على الفقه، وينهانا عن الكلام.. وقال أبو يوسف: العلم بالكلام، والخصومة جهل، والجهل بالكلام علم.. وقال: من طلب الدين بالكلام تزندق.. وقال عبد الرحمن بن مهدي: من طلب الكلام فآخر أمره إلي الزندقة.. ودخل رجل على مالك بن أنس، فسأله عن القرآن. فقال لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد، لعن الله عمراً، فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام، ولو كان الكلام علماً لتكلم فيه الصحابة،و التابعون كما تكلموا في الأحكام، والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل.. وقال: إياكم وأهل البدع فقيل: يا أبا عبد الله، وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله، وصفاته، وكلامه، وعلمه، وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان.. وقال الشافعي: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيءٍ والله ما توهمته قط،ولأن يبلى المرء بما نهى الله عنه خلا الشرك بالله خير من أن يبتلى بالكلام.. وقال: حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر، والقبائل، ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب، والسنة، وأخذ الكلام.

قال السائق، وهو يبتسم: على حسب قولك.. فإن كل علماء الأمة على ضلالة.. وينبغي أن نضربهم جميعا بالجريد.

قال ربيع: كيف ذلك؟

قال السائق: ما هي الطوائف التي مارست الكلام في تاريخ الإسلام؟

قال ربيع: كل الطوائف الضالة ما عدا أهل الحديث الناجون المنصورون.. أما من عداهم فقد وقعوا في فخ علم الكلام.. فأهل الكلام، والعقل، والجدل هم: المعتزلة والجهمية والأشاعرة والماتريدية والشيعة الإثنا عشرية والشيعة الزيدية والإباضية.. وكل من خاض بعقله في الدين.

قال السائق: أليس في هؤلاء علماء ومحققون وباحثون؟

قال ربيع: لا عالم إلا أهل الحديث.. أما من عداهم فهم في الضلالة يسدرون.. وفي غيهم يخوضون.. وإلى النار يوم القيامة يدخلون.

قال السائق: وما تقول فيما ورد في القرآن من ذكر البرهان، كما قَالَ تَعَالَى:{ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: ١١١]، وعلم الكلام ليس سوى محاولة للبرهان على الحق.

قال ربيع: الحجة في برهان النقل لافي برهان العقل، قَالَ تَعَالَى:{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: ١٥]، فلو كان البرهان بمجرد العقل لعذب وإن لم يبعث الرسل.

قال السائق: اسمعني يا بني جيدا.. إن بعض ما تقوله صحيح.. فقد تدخل بعض أهل الكلام فيما يعنيهم.. ولكن ذلك لا يلغي أصل علمهم.. علم الكلام محاجة لأهل الباطل.. وقد ضرب الله تعالى مثالا لذلك بإبراهيم عليه السلام: قَالَ تَعَالَى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: ٢٥٨]

قال ربيع: اسمعني جيدا أيها المجادل عن أهل الباطل.. علم الكلام باطل، ولا يدمغ الباطل إلا الحق، قَالَ تَعَالَى:{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: ١٨].. محاجة إبراهيم للنمرود تعجيزية، وليست عقليه، وعجزه يدل على صدق إبراهيم، وصدق الأنبياء يعرف بالمعجزات لا بالعقل..

قال السائق: ولكن الله تعالى ذكر أنه لقن إبراهيم عليه السلام الحجة، فقال:{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: ٨٣]، وعلم الكلام ليس سوى حجج واحتجاجات.

قال ربيع: حجة إبراهيم مستمدة من الرحمن، وحجة أهل الكلام مستمدة من اليونان. فتأمل {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} فالحجة مستمدة من النقل لامن العقل، من وحي الرحمن لا من كلام اليونان.

قال السائق: لكن القرآن الكريم ذكر عن الأنبياء أنهم كانوا يجادلون أقوامهم، كما قال تعالى عن نوح عليه السلام، قَالَ تَعَالَى:{ قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: ٣٢]، وأهل الكلام لا يمارسون سوى ذلك اقتداء بالأنبياء عليهم السلام.

قال ربيع: جدال الأنبياء لأهل الباطل بعلم مستمد من الرحمن، وجدال أهل الكلام بجهل مستمد من اليونان.. قَالَ تَعَالَى:{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: ٢٨]

قال السائق: ألا ترى أن القرآن كله محاجة لأهل الباطل.. وهو يستعمل ما تعارفت عليه العقول من المنطق؟ ألم تسمع إلى الله تعالى وهو يقول::{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: ٢٢]، وهذه محاجة بقضايا عقلية منطقية.

قال ربيع: النقل هو الذي أعطى الحجة للعقل فمتى كان العقل يعرف التوحيد قبل النقل، فالعقل لا يعلم العقائد، والشرائع إلا بالنقل، ولو عرفت بالعقل لما احتاج العقلاء إلى كتب وأنبياء.

قال السائق: لكن الله تعالى أمرنا بالتدبر فقَالَ:{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء: ٨٢]، وقَالَ:{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص: ٢٩]

وأمرنا بالتفكر، فقَالَ:{ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: ٢٤]، وقَالَ:{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: ٤٤]

وأمرنا بالتعقل، فقَالَ:{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: ٢]، وقَالَ:{ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: ٧٣]

وهذه الأمور جميعا تفتقر إلى العقل.

غضب ربيع غضبا شديد، وقال: ويلك.. تبا لك من مجادل عنيد.. إن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُنَافِقٌ عَلِيمُ اللِّسَانِ يُجَادِلُ بِالْقُرْآنِ)([6]) ليصدق فيك، وينطبق عليك، وأنت حقيق به.

قال السائق: إن لم نحتج بالقرآن ونرجع إليه.. فلمن نرجع؟

قال ربيع: القرآن حمال وجوه.. ولذلك لابد من العودة إلى السنة.. وإلى كلام السلف الذي هم أولى الناس بالقرآن.

قال السائق: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

قاطعه ربيع بقوة، وقال: اسكت.. ويلك..أتريد أن تكذب علينا.

قال السائق: لا.. كنت أريد أن أذكر لك حديثا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤيد ما ذكرت.

قال ربيع: وذلك هو الكذب.. فقد اتفق المحدثون على أنه لم يصح في فضل العقل شيء، لقد قال العلامة ابن القيم: (أحاديث العقل كلها كذب)([7]) ونقل عن أبي الفتح الأزدي وأبي جعفر العقيلي وابن حبان: (أنه لا يصح في العقل حديث.. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: (أحاديث العقل كلها موضوعة)([8])

قال السائق: لا بأس.. فلندع هذا الحديث، ولنستمع كلام هذا العالم ونزنه بموازين الكتاب والسنة، فإن رأيت أنه يخالف ما وردا به ضربنا به عرض الجدار.

قال ربيع: ويلك.. ثم ويلك.. لأن أصب القطران في أذني أحب إلي من أن أستمع إلى هذا الدعي الصعلوك الكذاب المفتري.. لقد قال قال الإمام أبو عثمان الصابوني في صفة أهل السنة: ويبغضون أهل البدع، الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم، ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين، ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم، التي إذا مرت بالآذان، وقرت في القلوب ضرت، وجرت إليها الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرت)([9]).. وقال سفيان الثوري: (من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة، وهو يعلم، خرج من عصمة الله، ووكل إلى نفسه.. وقال: من سمع ببدعة، فلا يحكها لجلسائه، لا يلقها في قلوبهم.. وقال ابن بطة: فالله الله معشر المسلمين، لا يحملن أحدا منكم حسن ظنه بنفسه، وما عهده من معرفته بصحة مذهبه على المخاطرة بدينه في مجالسة بعض أهل هذه الأهواء، فيقول: أداخله لأناظره، أو لأستخرج منه مذهبه، فإنهم أشد فتنة من الدجال، وكلامهم ألصق من الجرب، وأحرق للقلوب من اللهب، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم، ويسبونهم، فجالسوهم على سبيل الإنكار، والرد عليهم، فما زالت بهم المباسطة وخفي المكر، ودقيق الكفر حتى صبوا إليهم([10]).. وقال ابن قدامة: كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع والنظر في كتبهم والاستماع لكلامهم([11]).. وقال البربهاري: وإذا رأيت الرجل جالساً مع رجل من أهل الأهواء فحذّره وعرّفه، فإن جلس معه بعد ما علم فاتقه؛ فإنه صاحب هوى([12]).. وقال شيخ الجميع، بل شيخ الإسلام نفسه ابن تيمية: ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم أو ذب عنهم، وأثنى عليهم، أو عظم كتبهم، أو عرف بمساعدتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم.. بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات لأنهم أفسدوا العقول والأديان([13]).


([1])     الشتائم المذكورة هنا منقولة بتصرف من أكبر منتدى للسلفية، ملتقى أهل الحديث، على هذا الرابط:  (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=66246)

([2])     هذا الكلام مقتبس من كتاب (الإمام في تحريم علم الكلام)، محمد بن أحمد العماري، عضو الدعوة والإرشاد بوزارة الشؤون الإسلامية بالمملكة العربية السعودية، دت، دط، ص5.

(1) –  رواه العجلي في ذم الكلام ج1ص93، ومثله الآثار التالية  كلها في صفحات متقاربة.

(5)-رواه العجلي في ذم الكلام وأهله ج1ص87

(1)- الآثار التي ننقلها هنا كلها رواها العجلي في ذم الكلام وأهله ج1ص85، فما بعدها.

([6])     رواه ابن عبد البر.

([7])     المنار المنيف (ص 25).

([8])     سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (5/ 400).

([9])     عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص298-299).

([10])     الإبانة: (2/470)

([11])     انظر: الآداب الشرعيه لابن مفلح : (1/232).

([12])     شرح السنة (ص : 121).

([13])     مجموع الفتاوى (2/132).

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *