الزينة

الزينة

الزينة هي تلك المظاهر التي تنبت من جذور القلب المغذى بمادة التزيين، والتزيين هو نفخة الفرح التي يتلقاها القلب بحسب قابليته واستعداده، ونافخو مادة التزيين مختلفون ومتعادون ومتناقضون، منهم الناصح الغارق في نصحه، ومنهم العدو الموغل في عداوته، ومنهم الأحمق الذي لم يستطع أن يميز نفسه في إحدى الطائفتين، ومنهم المخادع والمنافق والمراوغ، كما أن منهم المحب والحنون والوديع.

ومادة النفخ متعددة متضاربة، منها العسل المصفى والإكسير الأحمر والترياق الشافي، ومنها السم الزعاق والموت الأسود والداء العضال.

وطريقة الفرح بنفخة التزيين تختلف صورها باختلاف ألوان الابتسامات وأصوات القهقهة وضروب الرقص والغناء.

والقابلون لألوان التزيين كالمعادن المختلفة المتناقضة منها الجوهر النفيس والذهب الإبريز، ومنها الحديد والزنك والرصاص.

بهذه الصور المتعددة المتضاربة يتحدث القرآن الكريم عن الزينة والتزيين ليرسم الحقيقة أمامنا بكل معانيها، ويصورها بكل مشاهدها لنختار ما يتناسب مع قابلية قلوبنا وجوهر استعدادنا.

 ولكنه ـ كطريقته مع كل شيء نشتغل به ونشغل أنفسنا وتنسينا غمرة الفرح المتدفق من شرايين قلوبنا بماذا نشتغل وعما نشغل ـ ينهانا عن الفرح، ويأمرنا بإضفاء السكينة على قلوبنا وعقولنا لنراجع ذواتنا ونراجع الكون من حولنا ونراجع الحقائق التي ينطق بها هذا الكون، لأن الفرح ريح عاصف تقلع أشجار الفكر من عقولنا، ونشوة غامرة قد تلمس القلوب لمسا رقيقا وقد تجرحها فتصير كالمرآة المخدوشة تتشوه في عينها صور الأشياء.

أكثر ما ورد في القرآن الكريم من مادة زين ـ والتي تكررت في القرآن الكريم في ستة وأربعين موضعا ـ ورد بصيغة فعّل المشددة التي تعني أن هناك أطرافا ثلاثة ترتبط بالزينة هي: الزينة والمزين والمزين له، والقرآن الكريم تحدث عن هذه الأطراف الثلاثة وصنفها وبين عاقبة كل صنف منها.

ولا يمكن تصنيف الآيات القرآنية الواردة في ذلك بحسب هذه الأركان، لأن كل آية بإعجازها وعمقها وحيويتها تحوي كل الأركان، وتضم كل الأصناف وتخاطب كل النفوس.

وأكثر ما يشير إليه القرآن الكريم من مواضيع الزينة التي وضعت في القلوب ولم تجبل عليها هي زينة الحياة الدنيا، ويأتي التعبير القرآني عن هذه الزينة، وهو يحمل في كل كلمة منه ما يشير إلى السم الزعاق الذي تحويه هذه الزينة والهلاك العظيم الذي ينتظر الشاربين من ذلك السم، يقول تعالى:{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب} (البقرة:212)

فأول لفظ في الآية هو (زُيِّنَ) ويشير بلفظه وروحه إلى أن ذلك المزين قد كسي من الأثواب ووضع عليه من المساحيق ما أحاله حسنا وجميلا، وإن كان قبيحا ودميما، فالمزين ليس جميلا بالضرورة، ولهذا يبين القرآن الكريم كثيرا من مظاهر التزيين التي لا تتناسب مع كل الأذواق، ولكن القلوب المستعدة لذلك التزيين تتناسب معها وتفرح بها وتتعجب ممن لا يتذوق حلاوتها.

ومنها تلك القلوب التي أودعت فلذات أكبادها جوف الثرى مخافة أن تقتسم معها لقمة العيش أو مخافة السبة والعار، وهي تبتسم فرحا، وكأنها تخلصت من وزر ثقيل ينوء به ظهرها، قال تعالى:{ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}(الأنعام:137)

ومنها التي استحلت ألسنتها الطافحة بألوان الخبث سب الله تعالى وكأنه حلوى لذيذة أو فاكهة شهية، وقد نهي المسلمون عن سبهم أو مناقشتهم في ذلك لأن حلاوة الكفر قد تشربتها قلوبهم وذاقت لذتها وتمكنت منها، وفرق كبير بين مجرد الكفر وبين الكفر المزين في القلب، ولهذا يكون أبعد الناس عن اتباع الرسل رجال الدين الذين استحلوا صناعة التدين وتمكنت من قلوبهم، قال تعالى:{ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام:108)

ومنها القلوب المصرة العنيدة التي تحملت لأواء الشدائد وهي تقبض ألسنتها بشدة عن دعاء الله استغناء عن الله وترفعا عنه كما يقبض اللئيم يده عن الكريم حسدا وتعاظما واستنكافا، قال تعالى:{ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام:43)

ومنها القلوب التي ينقل القرآن الكريم عجب الهدهد منها، وهو الحيوان الصغير الضعيف صاحب الجمجمة الصغيرة والطاقة الفكرية الضعيفة حين رآها تعفر الثرى لمخلوق مثلها، لم يخطر على باله قط وهو الحيوان أن هناك من يبيع الله بأشعته الحارقة أو الدافئة، قال تعالى:{ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ}(النمل:24)

ومنها العقول التي اقتنعت بأحكام معينة، ثم تلاعبت في تطبيقها بما يحيلها صورا بلا معاني، وأجساما بلا أرواح، ومن هؤلاء: المشركون الذين ضموا إلى كفرهم تلاعبهم بالأشهر الحرم التي كانت بقية من بقايا الحنيفية التي جاء بها إبراهيم عليه السلام فحولوا شهرا عن شهرا مراعاة لمصالحهم القاصرة المحرمة التي لا تتحقق إلا بالإضرار بغيرهم، قال تعالى:{ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (التوبة:37)

والخلاصة التي يعطيها القرآن الكريم في ذلك هي أن كل الانحرافات التي وقعت فيها الديانات والمذاهب والنفوس مزينة وليست زينة، فهي محسنة بأنواع الحلي والمساحيق والحلل، بينما تبرز الدمامة بكل مظاهرها والبشاعة بكل صورها لكل من انشغل بالحقيقة عن المظهر،ولم تنسه نشوة الفرح الكاذب ما تخفيه الصور.

ولكن تمييز اللباس من البدن والحقيقة من المظهر في وسط ذلك الجو المغري لا يكون إلا للبصيرة الإيمانية النافذة التي كانت مركبة في عقول الذين آمنوا عندما مر بهم قارون، وهو في موكب الزينة يسلب الألباب وينشر الحسد والغبطة، والقرآن الكريم ينقل لنا بدقة صورة ذلك الموكب، وصورة النفوس التي كانت تلتف به، يقول تعالى:{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (القصص:80)

والخلاف الذي وقع بين هذين الفريقين كما ينقله القرآن الكريم ليس في أصل الزينة، فكلا من المؤمنين والذين يريدون الحياة الدنيا يبصرونها وتشتهيها أنفسهم، لكن الفرق بينهما حصل فيما بعد الزينة وما خلفها، فالمؤمنون كانوا يشاهدون بعيونهم آثار تلك الزينة المؤقتة الملطخة بآلاف العيوب، ولعل أقلها فرح صاحبها بها وانشغاله بها عن ربه، بينما الذين يريدون الحياة الدنيا كانت أعينهم عميا عن إبصار المدى البعيد الذي يبصره المؤمنون.

ولهذا يصور القرآن الكريم الذين لا يؤمنون بالآخرة بصورة الأعمه المتردد الحائر بين نوازع نفسه الكثيرة المتناقضة، قال تعالى يصور هذه الحيرة: { إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ}(النمل:4)

وهذه الحيرة التي سببها الإدمان على الزينة الكاذبة تجعل على بصره غشاوة تحول بينه وبين اللجوء إلى الحق الذي يبصره ويعرفه وتكاد فطرته المخبأة في سراديب وجوده تلمسه، ولكن التزيينات الكثيرة المتناقضة تحول بينها وبين الإمساك به، قال تعالى:{ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} (العنكبوت:38)، فهم مستبصرون بالحق مبصرون له، ولكن التزيينات الشيطانية التي ألفتها قلويهم جعلتهم مكتوفي الأيدي محاصرين بالأهواء لا يملكون من أمر أنفسهم شيئا.

ولهذا يشبه الله تعالى أمثال هؤلاء بالسائر في الظلمات التي لا تعدو ظلمات التزيينات الكثيرة المتناقضة التي تحجب الرؤية عن البصر والبصيرة، بخلاف المؤمن الذي يهتدي بصقل مرآة قلبه عن أي التفاتة تحول بين بصيرته وبين رؤية الدروب الصعبة التي تتحرك فيها روحه.

فلذلك كان المؤمن هو الحي الحقيقي الذي يرى نفسه وغيره بينما حياة أولئك الفارين عن أنفسهم المشغولين بصنوف التزيينات موت في صورة حياة، قال تعالى:{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام:122)

وقد جاء الفعل في الآية مبنيا للمجهول ليترك صاحبه محتارا في مصدر ذلك التزيين الذي غمر قلبه فرحة به.

ولذلك كل ما ورد في القرآن الكريم مبنيا من هذا الفعل ورد في الزينة المنهي عن الفرح بها كقوله تعالى:{ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}(فاطر:8)، وقوله تعالى:{ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}(محمد:14)، وقوله تعالى:{ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد}(الرعد:33)

والقرآن الكريم يشير إلى بعض هؤلاء المزينين الذين لم يكن لهم من غرض إلا الغواية:

وأولهم إبليس عدو الإنسان الأول، قال تعالى ذاكرا الحوار الذي بدأت به خطة الشيطان في ضم الإنسان إلى حزبه:{ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}(الحجر:39)

وقد دل هذا التعبير على معرفة الشيطان بخصائص ونقاط ضعف عدوه الذي جبل على حب الزينة وحب اللذة وحب الجمال في أي صورة وفي أي تركيب، فهو يضعف أمامها ويكاد يتلاشى، قال تعالى:{ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا}(الأنعام:28)

والقرآن الكريم يشير إلى طريقة التزيين التي يمارسها والتي يقلب بها الحقائق ويخاطب كل إنسان باللغة التي يفهمها، وذلك في الوساوس التي كان يلقي بها إلى آدم عليه السلام كل حين، ومنها ما جاء في قوله تعالى:{ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ } (الأعراف:20)

وقوله تعالى:{ مَا نَهَاكُمَا} يشير إلى أنه ربما كان يستخدم معهما وسيلة تأويل النص لتفريغه من محتواه، وكأنه يقول:إن الله ما نهاكما لأجل النهي، وإنما لأسباب أخرى منها أن تكونا ملكين أو تكونا خالدين، فإن أردتما برغبتكما أن يحصل لكما ذلك فلا بأس من أكل الشجرة.

أو ربما جاءهما من باب آخر وقال: إن الله الرحيم بكما ما كان ليمنعكما من هذه الشجرة وأنتما ضيفان عنده، فاتهما فهمكما ولا تتهما ربكما.

أو ربما جاءهما من باب آخر، وقال:إن النهي الذي صدر لكما من ربكما لم يكن نهيا مطلقا، بل هو مقيد بأكل جميع الشجرة لا بمجرد تذوق ما فيها.

أوربما قال لهما:إن النهي لم يكن عاما في جميع الأوقات، بل كان مخصوصا بأول دخولكما الجنة لعدم تناسب أكلها مع أجهزتكم الهاضمة حينذاك.

أو ربما قال لهما:لقد ورد النهي قبل نضجكما وصلابة يقينكما، أما بعد ذلك فلا تكليف بعد يقين ولا حركة بعد معرفة.

أو ربما جاءهم من أبواب أخرى نراها ونسمعها كل حين في محاولات التهرب من النصوص القطعية بألاعيب الألفاظ، والقرآن الكريم يشير إلى أن آدم لم يكن يعرف أمثال هذه المكائد، ولذلك حلف الشيطان له أنه لم يقل ذلك له إلا ناصحا صادقا، ولم يكن آدم يتصور أن هناك من يقسم على الله كاذبا فلذلك أكل من الشجرة، قال تعالى:{ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِين} (الأعراف:21)

ولذلك لم يكن خطأ آدم عليه السلام إلا خطأ المغتر بالقسم لا خطأ المتجرئ على الله، قال تعالى:{ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} (الأعراف:22)

والمؤمن كما ورد في الحديث: (غر كريم، والفاجر خب لئيم)([1])، وكان بعض العلماء يقول: (من خادعنا بالله خدعنا)، وقد قال الشاعر:

إن الكريم إذا تشاء خدعته           وترى اللئيم مجربا لا يخدع

ولأجل هذا وردت النصوص الكثيرة تحذر من كيد الشيطان الذي لا يترك المؤمن حتى وهو مشتغل بعبادة ربه يقرأ كلامه، ولهذا ورد الأمر بالاستعاذة قبل القراءة في قوله تعالى:{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}(النحل:98)

بل إن النص يشير إلى الاستعاذة مطلقا بدون تقييد بالقبلية أو البعدية ليبقى القارئ متقيا أثناء قراءته من أي وسوسة أو تلبيس شيطاني يصرف المعاني ويحول القلوب، وقد ورد ما يدل على ذلك في قوله تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحج:52)

والشيطان يتخذ في تزييناته أسلوب المرحلية، فهو يبدأ مع كل شخص بحسب قابليته، ثم ينتقل معه خطوة خطوة إلى أن ينتهي معه إلى آخر الطريق، قال تعالى محذرا من هذا الأسلوب الشيطاني الذي لا ينتبه له إلا المراعون لأنفاسهم وخطراتهم وأحاديث قلبوبهم:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(النور:21)

أما آخر الطريق الذي ينتهي عنده الشيطان مبتسما، وقد نجح في صياغة نسخة منه فيشرحها قوله تعالى:{ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِين}(الحشر:16)

وهذا الذي يقوله في الدنيا هو عين ما سيذكره في خطبته البليغة لأهل النار الذين يتجمعون حوله يلومونه ويعنفونه، وينسبون كل جرائمهم إليه، وفي نص الخطبة ما يشير إلى أسرار تلك التزيينات التي لم يكن للشيطان فيها من سلطة إلا سلطة الكلمة، ولم يكن من دافع لسماعها إلا القابلية التي كان أهل النار مستعدين لها، وبذلك يحكم الشيطان لنفسه بالبراءة، ويكفر بكل ذلك التعظيم والطاعة التي عبد بها من دون الله في أجيال الأرض الطويلة، قال تعالى:{ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(إبراهيم:22)

وما ذكره القرآن الكريم عن نهاية وسوسته للإنسان بإلقائه في الكفر ذكره عن حاله بعد نهاية كل وسوسة، حيث يولي مدبرا تاركا فريسته يتمرغ في أوحال تزييناته، وهذه الحادثة التي وقعت للمشركين مثال على ذلك، قال تعالى:{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَاب} (الأنفال:48)

ولعل هذا النص يشير إلى ما تستشعره النفوس بعد حصولها على اللذة التي باعت في سبيلها كل فضيلة، فإنها بمجرد الظفر بها تشعر بنوع من الكآبة ومن القلق الداخلي الذي لا يعرف سببه.

وما سببه إلا انقطاع تيار التزيين الذي كان متصلا بقلب المستعد له، فيحرم من أبسط ما كان ينتظره، ويعادى من أقرب الناصحين لنفسه الشيطان الرجيم.

ولهذا أمرنا بالإستعاذة الدائمة منه، وسن لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكثير من المأثورات في ذلك، قال تعالى:{ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(فصلت:36)

ولكن التزيينات لا تتوقف عند الشيطان فهناك آلا ف الشياطين الذين يوسوسون كل حين ثم يخنسون، فلا هم يفترون ولا هم ييأسون، قال تعالى:{ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} (فصلت:25)

وقد جاء التسمية القرآنية لهذا الموسوس بلفظ القرين ليشير إلى الملازمة الدائمة التي تتحول بها الأفكار والطبائع، فالملازمة أصل التزيين، والإلف جذر الاستحسان، وما انشغال الإنسان بصنوف الزينة التي لا يرى غيرها إلا نتيجة لذلك الإلف الذي يحجب عن البصر الرؤية السوية، فلا تفرق بين العسل والسم.

وقد اعتبر القرآن الكريم في هذه الآية قرين السوء رسولا من الله إليه، فالله هو المقيض لذلك القرين، لأن حكمة الله تعامل كل جوهر بحسب استعداده، ولهذا جاء في قوله تعالى:{ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}(الزخرف:36)

وما يشير إلى سر ذلك التقييض، وهو العشى الذي حجب بصيرته عن ذكر الرحمن، وما أنسب هذا الاسم لهذا الموضع، فهذا الضال عشى عن ذكر الرحمن وابتعد عن مقتضياته ليقع تحت سلطان أسماء أخرى من المضل والمنتقم والجبار، فإنه لا فرار لأحد بحال من الأحوال عن أسماء الله الحسنى.

والقرآن الكريم يذكر خطبة القرين وتبريه كما ذكر خطبة الشيطان، وكما ذكر خطب المستكبرين والمستضعفين ليبين حقيقة ذلك التزيين، وأنه لم يكن سوى مساحيق وضعت على الدماء وحلي وحلل كسي بها كل شخت دميم، قال تعالى:{ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيد} (ق:27)

ويبين القرآن الكريم أن هذا القرين أو مثله كان من أصحاب المؤمن في الدنيا، ولكن المؤمن الذي لم يعشو عن ذكر الرحمن لم يكن مستعدا لقبول تزييناته، فالرحمن يحفظه من كل ما لا يقتضيه اسمه الجليل، قال تعالى يخبر عن ذلك المشهد الأخروي في مسامرة جرت بين أهل الجنة:{ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} (الصافات:53)

ولهذا، فإن المزين الحقيقي هو الله لاقتضاء ضرورة تمييز الجواهر ذلك التزيين، ولكن الملوم هو العبد القاصر الأعمه الذي لم ير من تزيينات الله إلا ما يناسب استعداده، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ}(النمل:4)

لأن الله تعالى زين كل شيء، وخلق كل شيء في منتهى الحسن والجمال ليحصل بذلك الحسن البلاء، قال تعالى:{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الكهف:7)

والقرآن الكريم يضرب أمثلة كثيرة عن ذلك التزيين منها ما هو في أعالي الفضاء:{ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}(الحجر:16)

ومنها ما هو على الأرض يدب أو يطير أو يخترق الأجواء أو يغوص في أعماق المحيطات والبحار، قال تعالى:{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُون} (النحل:8)

وهذه إشارة قرآنية عامة للتزيين الواقع في وسائل النقل، والذي كان ولا يزال تجارة رائجة بعد أن انتقل من تزيين الخيول إلى تزيين السيارات والطائرات والصواريخ، ولهذا ختمت الآية بقوله تعالى:{ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}(النحل:8)

وتزيين الله تعالى الشامل العام التام هو الذي أذاق المؤمنين حلاوة الإيمان ومرارة الكفر حين وضع زينة الإيمان في القلوب المؤمنة، فرحمة الله تأبى أن يحرم التمتع بالزينة أولياءه ولو في الحيز الدنيوي البسيط، قال تعالى:{ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ}(الحجرات:7)

فالحلاوة التي يجدها الكافرون والمؤمنون واحدة، والفرق بينهما لا يعدو موضوع التزيين وعاقبته، فعاقبة تزيين المؤمن السرور والفرح الدائم في الدنيا والآخرة، وعاقبة تزيين غيره هو الألم المباشر الذي يحسه بعد انقطاع تيار التزيين الشيطاني، فيظلم قلبه وتعشو عيناه.

هما كمن جلس على مائدة واحدة، وعلى طعام واحد، هو طعام الله، لكن الكفرة أبوا إلا أن يضيفوا إلى طعامهم سما ليتميزوا به عن غيرهم، فإذا بهم يتخبطون تحت تأثيره.

فالله تعالى لم يحرم المؤمنين من ضيافته على هذه الأرض ولم يحرم عليهم الطيبات، بل هي لهم كما لغيرهم في الدنيا، وهي لهم خالصة في الآخرة، قال تعالى:{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}(الأعراف:32)

ولكن الشيء الوحيد الذي طلب من المؤمنين، وهو شيء هين بسيط يزيد في فرحتهم وسعادتهم هو أن لا ينشغلوا بالنعيم الفاني عن الباقي، وأن لا ينشغلوا بالخلق عن الخالق، قال تعالى:{ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}(طه:131)

وقد جاء التعبير عن الذين كفروا بهذا الاسم ليشير إلى العمى الذي أوقعه فيهم جحودهم، فأصبحوا لا يميزون بين ما ينفعهم وما يضرهم.

ثم عبر عن موضوع تزيينهم بالحياة الدنيا وهي الحياة الأولية البسيطة التي تشبه حياة الكائنات وحيدة الخلية التي تختار المستنقعات ولا تعرف من وظائف الحياة إلا وظائف محدودة بسيطة بحسب طبيعة تكوينها.

ثم تواصل الآية سيرها وكل حرف فيها ينشر الحسرة في قلوب الذين آثروا الخلق على الله حينما تنجلي الغشاوة عن قلوبهم فيرون الذين كانوا يستهزئون بهم في الدنيا ويرونهم أسفل منهم، قد ارتفعوا إلى أعال لا يبصرونها ولا يحلمون بها، بينما انخفضوا هم إلى وهاد سحيقة ليسمعوا خطبة الشيطان.


([1])  رواه البخاري في الأدب المفرد 418 وأبو داود 4790 والترمذي 1964.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *