الريح

الريح

الفرح بالريح من أنواع الفرح المذموم في القرآن الكريم، فلماذا ذم؟

أليست الريح نعمة من النعم العظمى التي يتوقف عليها استمرار الحياة على هذه الأرض؟ وهي بالتالي كالشمس والقمر والماء وكل هذا الكون الكبير الذي يفتقر الإنسان إليه في كل لحظة كما تفتقر كل أصناف الأحياء؟

أليس هذا الغلاف الغازي الذي يحيط بالأرض والذي تتشكل من حركته الرياح هو الغلاف الغازي الوحيد الذي تتأقلم معه حياة الإنسان على هذه الأرض؟

أليس هو الذي يلقح السحاب فيمطر، ويلقح النبات فيثمر، ويحرك السفن في البحر، ويحرك طواحن الهواء، ويشكل نوعا من أنواع الطاقة التي يستظل بخدماتها الإنسان؟

إن كل ذلك حقائق علمية واقعية لا يجادل فيها، ولم يرد القرآن بنفيها، بل ورد فيه ما يؤكدها، ولكن يؤكدها بغير الأسلوب الذي تعوده الناس في دراستهم للمظاهر الطبيعية، حيث يجعلون الظاهرة ذاتا قائمة بنفسها تحركها الطبيعة العمياء كيف تشاء، ويجعلون منها كذلك ذاتا عمياء لا تبصر ولا تسمع ولا تعقل ما تعمل، وليس لها وظيفة أو رسالة تؤديها، هي كالمجنون الذي توضع في يده قنبلة ليرميها متى يشاء وهو يضحك ويلهو.

وهذا التصور للريح، والمشاعر الناشئة عنه هو الذي ورد ذمها في القرآن الكريمة بصيغة غير مباشرة في قوله تعالى:{ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ}(يونس:22)

تبدأ الآية بلفظ التسيير المشتق من السير وتخبر أن سير الإنسان في البر والبحر من تقدير الله وفعل الله وخلق الله، حتى حركات أقدامه وهو يرفعها ويخفضها ويطوي بها النجاد والوهاد من تقدير الله، تلك الحركات التي قد يختال بها الإنسان ويزهو ويطاول الجبال.

ثم ينتقل المشهد إلى البحر معتمدا أسلوب الخطاب الذي يحمل الأنس ويشعر المستمع بالقرب، ولكنه فجأة يلتفت إلى الغائب، ويتحدث بصيغة الغائب ليشعر بالنفور والإبعاد والحجاب، ويخبر عن الريح الطيبة التي تحرك السفن الشراعية، ويأتي الإنكار على موقفهم حيث فَرِحُوا بِهَا ولم يفرحوا بمرسلها، أولم يكونوا يعتقدون أن لها مرسلا، حينذاك { جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ}، وحينذاك عرفوا ربهم والتجئوا إليه بصدق ووعدوه أن يشكروه، ولكن المشهد ينتقل بعد ذلك إلى سكون الريح وعودة الرياح الطيبة فإذا بهم يعودون إلى طبعهم وبغيهم وعتوهم، قال تعالى:{ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}(يونس:23)

ومثل هذه النفوس التي تتقلب تقلب الرياح غير جديرة بأن تفرح الفرح الحق، الفرح الذي يفرحه المؤمنون، لأن المؤمنين يفرحون بنعمة الريح لا بالريح، ويعتبرونها رسائل من الله، رسائل ود فيستبشرون بفضل الله، أورسائل تخويف فيرجعون إلى الله ويثوبون إليه ويستغفرونه، يحسنون الظن به في نفس الوقت الذي لا يأمنون مكره، لأن ذلك يؤدي إلى الغرور، والغرور هو القاصمة التي تحجب الإنسان عن ربه وتستعبده لنفسه.

ولذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما تصف عائشة ـ قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم، قالت: وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف في وجهه قالت: يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية فقال: يا عائشة ما يؤمني أن يكون فيه عذاب عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا:{ هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} (الاحقاف: 24)([1])

وقال أنس بن مالك: (كانت الريح الشديدة إذا هبت عرف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم)([2])

وكان صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن سبها أو التوجه إليها بالمدح أو الذم، بل يتوجه إلى الله فيسأل من خيرها ويستعاذ به من شرها، كان صلى الله عليه وآله وسلم يوصي أمته بقوله:(الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها وسلوا الله خيرها واستعيذوا به من شرها)([3])

وكان من سنته صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول إذا عصفت الريح:(اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)([4])

بهذا التوحيد علمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيف نوحد الله في كل الأشياء، وكيف لا نأمن مكره مع كل شيء، لأن كل شيء مجند لله خاضع لأوامره حتى الريح التي نراها طيبة قد تحمل في طياتها جرثوم الموت القاتل إذا أراد الله ذلك.

وقد كانت الريح جندا من جند الله يوم تحزب الأحزاب تبغي استئصال شأفة المسلمين، قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (الأحزاب:9)، فالريح من الجنود المرئية، وغيرها من الجنود غير المرئية.

وجند الله من الريح هي التي نصر الله بها هودا عليه السلام على قومه، حين أرسل عليهم ريحا باردة كبرودة قلوبهم، في أيام مشؤومات كشؤم نفوسهم مقابلة لهم على تشاؤمهم من نبيهم عليه السلام، وتحقيا لطلبهم، قال تعالى:{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ}(فصلت:16)

وكانت الريح قد جاءتهم بصورة يحبونها فانتهضوا مستبشرين يصيحون {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}، فأجابهم هود عليه السلام بلسان العارف بربه:{ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}(الأحقاف:24)

قال ابن عباس يصف ذلك المشهد:(أول ما رأوا العارض قاموا فمدوا أيديهم، فأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجاً من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح ما بين السماء والأرض مثل الريش، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمال سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، ولهم أنين، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال واحتملتهم فرمتهم في البحر)([5])

وهو تصوير دقيق لما نراه كثيرا على شاشات التلفزيون من أنواع الأعاصير، والتي لا نسمع لها سببا إلا حركات الرياح وتحولات الضغط، والتفسيرات المادية الكثيرة، والتي لا ينكرها القرآن، وإنما ينكر الاكتفاء بها وتصور أنها فاعلة بذاتها.

ولذلك يخبر القرآن الكريم أن هذه الظواهر التي نسميها طبيعية هي ظواهر إلهية، ما كان منها خيرا وما كان منها مؤذيا، وأن ما أصاب عادا منها لم يكن يراد به عين عاد وإنما كل عاد، قال تعالى حكاية عن العذاب الذي أنزله على المصريين:{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}(الأعراف:133)

والآية ترسم حركة الجليل والدقيق، وهي تسعى جميعا لتطبق مراد الله وأمره، وتجمع بين الطوفان العملاق الضخم وبين القمل القزم الصغير لتبين أن الشيء إذا صار جنديا لله يتحول إلى قوة خارقة لا يقاومها شيء، لأنها من أمر الله.

وقال تعالى عن الصواعق:{ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} (الرعد:13)، فالله تعالى هو الذي يرسل الصواعق ليصيب بها من يشاء، وقد جاء الفعل بصيغة المضارع الذي يفيد كل حاضر ومستقبل لينفي عن أذهاننا ربط عقاب الله بالأمم السابقة بعاد وثمود وقوم فرعون، وختم بالفاصلة المنبئة عن صفة من صفات الله بأنه شديد القوة وشديد الأخذ لمن أراد لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

وسبب نزول هذه الآية يصور شخصية تمثل نموذجا لكثير من المثقفين الذين يضحكون ملء أفواههم إن سمعوا متدينا يتحدث عن سنن الله الكونية، ويسخرون من تفسير أي ظاهر بغير التفسير الذي يرونه، ولعله لأجل ذلك ورد في الآية وصف للمنكرين بالمجادلين:{ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} لأن الذي يجادل في أفعال الله يجادل في الحقيقة في الله، عن مجاهد قال: جاء يهودي فقال: يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو؟ من نحاس هو أم من لؤلؤ أو ياقوت؟ قال فجاءت صاعقة فأخذته وأنزل الله الآية([6]).

وهذا السبب ينطق كل لفظ فيه بصحته، فاليهود مجادلون حاذقون في صنعة الجدل، واليهود ماديون يحبون الذهب واللؤلؤ، وقد عبدوا العجل ولا يزالون يعبدونه من دون الله، وهم الذين أخرجوا للناس مقولتهم (لا إله والحياة مادة)، وهم الذين الذين فسروا الحياة والتاريخ تفسيرا ماديا، وما إيمانهم الظاهر بالله، وما قراءتهم للكتب إلا قشرة يدارون بها خبث نفوسهم.

ولأجل هذا تجيء كل آيات القرآن الكريم المخبرة عن الرياح بلفظ الإرسال لتشعر أنها رسول من الله، والفرح لا يكون بالرسول وإنما بالمرسل:

قال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (لأعراف:57)

وقال تعالى:{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}(الحجر:22)

وقال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}(الفرقان:48)

وكل هذه الآيات تطفح بالبشر والفرح والرحمة، لتخبر أنها المقصد الحقيقي من إرسال الرياح، فهي التي يحيا بها موات الأرض، ويثمر الزرع وتمتلئ خزائن السحاب، ويرتوي الخلق بمائها الطهور.

ولعله من أسرار القرآن في اختيار الألفاظ أن عامة المواضع التي ذكر الله تعالى فيها إرسال الريح بلفظ الواحد فعبارة عن العذاب، وكل موضع ذكر فيه بلفظ الجمع فعبارة عن الرحمة، ليخبر أن رياح الرحمة كثيرة، وأن ريح العذاب واحدة رحمة من الله، لأن رحمته سبقت غضبه.

بل إن الرياح القواصف والأعاصير والريح العقيم والريح الصرصر العاتية ماهي كذلك إلا رياح رحمة بما تلقيه في صدور المؤمنين من خوف من الله ينزع حجاب الغفلة والعادة، ويعيد لله في أذهانهم قدرته وتصرفه المطلق في الكون، ولولا الريح العقيم ما عرف فضل الله بالرياح اللواقح.

ولهذا يأتي التحذير من مكر الله بالتهديد بأمثال تلك الرياح، قال تعالى:{ أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنْ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا}(الإسراء:69)

والريح القاصفة هي التي تكسر الصواري وتغرق المراكب، وهي من أنواع الرياح التي تدرس الآن في علوم البحار.

ويصور مشهد آخر الريح، وقد نفخت فيها الحياة، وتحولت إلى جبار يقصم ظهر المشرك ويهوي به في مكان سحيق، كالمكان الذي يسكن فيه عقله وقلبه، قال تعالى:{ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}(الحج:31)

ولكن التهديد لا يقتصر على هذه الأنواع من الرياح العاتية، بل يهدد الله تعالى الآمنين من مكره بالرياح السواكن، لأن سكون الريح كعتوها كلاهما إذا شاء الله يتحول إلى عذاب، قال تعالى:{ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور}(الشورى:33)

فهذه الآية ضربت مثالا عن تأثير سكون الرياح على السفن الشراعية التي تستغل حركة الرياح لتمخر عباب البحر، ويطبق مفهومها كذلك على ركود كل شيء على ظهر الأرض إن أمر الله الرياح أن تسكن.

وبعد أن يعرف المؤمن أن الريح فضل من فضل الله وجند من جنده لا قيام لها بذاتها يعبر منها إلى الله ويستدل بها عليه، ولهذا جاءت الآيات الكثيرة تجعل من الريح آية، والآية في تصور المؤمن لا تعني الاستدلال بها على الوجود، لأن الله في ذهنه لم يغب حتى يحتاج إلى دليل يدل عليه، وإنما الآية رسالة من الله وحرف من كلمات الله التي يخاطب بها الكون كل حين:

قال تعالى:{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(البقرة:164)

وقال تعالى:{ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُون}(الروم:48)

وقال تعالى:{ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(الجاثية:5)

وقال تعالى:{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(الروم:46)

وهذه الآية تخبرنا في إيجاز جميل عن التصور الحقيقي للرياح والموقف منها، فهي مبشرات ووسائط رحمة إلهية ومحركات للفلك، وذلك يعني أنها وسيلة من وسائل الطاقة، أما موقف المؤمن منها فموقفان:موقف حركي باستغلال طاقتها لاستدرار فضل الله عليه، وموقف شعوري وتصوري بإدراك أنها من فضل الله وشكر الله على ذلك، والفرح بها لأجل ذلك.

ولكن هذا الموقف الذي تدعو إليه الآية لا يقوم به كما تنص الآيات الأخرى إلا القوم العاقلون، ومجيء الآيات بصيغة الجمع { آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يدل على أن العقل المؤمن عقل جماعي ليس عقلا استبداديا، فهو يتبصر ويبحث، وفي نفس الوقت يسمع، لأن الاستبداد بالرأي والفرح بالعقل المجرد حجاب من الحجب التي تحول بين الإنسان والحق.

وتخاطب الآيات المشركين ليتببصروا في حركات الرياح لعلهم يرون آلهة أخرى مع الله، الرياح التي تتحرك كل مرة في اتجاه، فتميل معها قلوبهم فرحا وقنوطا بحسب اتجاهها، قال تعالى:{ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(النمل:63)

ويستدل بها تعالى على البعث الذي ينكره المشركون والطبائعيون والشيوعيون، ويحرف معناه اليهود والمسيحيون والبوذيون ليعرفوا من الرياح مفاهيم جديدة أخطر من الخبز والماء، لأنه ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان.

ورحمة الله بالرياح عامة تشمل المعدة والرئة والعقل والقلب، قال تعالى:{ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}(فاطر:9)

ومن المفاهيم الجديدة التي يدعو القرآن إلى الاعتبار بها من حركات الرياح مفهوم الحياة الدنيا فهي تشبه الهشيم الذي تذروه الرياح، قال تعالى:{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}(الكهف:45)

ومفهوم العمل الذي لا يراد به وجه الله، قال تعالى:{ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}(إبراهيم:18)

ومفهوم الإنفاق الذي لا يوضع في مواضعه الشرعية، ولا يراد به وجه الله تعالى، قال تعالى:{ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (آل عمران:117)

وأخيرا يبين القرآن الكريم أن الرياح التي هي جند من جند الله تصير جنديا خاضعا للمؤمن إن تخلى عن أنانيته وتحلى بالعبودية لربه كما حصل ذلك لسليمان عليه السلام قال تعالى:{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}(الأنبياء:81)، وقال تعالى:{ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}(ص:36)

بهذا التصور للريح ينتفي من المؤمن الفرح الزائل الباطل بها، الكاذب على الحقيقة، والذي لأجله ذمه القرآن الكريم، وينشأ بدله فرح جديد بكونها نعمة من الله ورسالة من رسائله وفضل من فضله، فلا يكون عبدا لحركاتها المختلفة، تفيء به ذات اليمين وذات الشمال، بل يكون عبدا خالصا لله، والله لا تعتريه الحوادث، ولا يصيبه التغير، والعاقل هو الذي يركن إن ألم به الخطر إلى البناء الثابت لا إلى البناء الذي تهده الرياح.


([1])  رواه البخاري 6/167، وفي (الأدب المفرد) (251) ومسلم 3/26.

([2])  رواه أحمد 3/159 (12647)

([3])  رواه البخاري في الأدب المفرد 720 وأبو داود 5097 وابن ماجة 3727 والنسائي في الكبرى 10701.

([4])  رواه عبد بن حميد (167) والترمذي 2252.

([5])  القرطبي:16/175.

([6])  تفسير ابن كثير (4/ 443)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *