الدين.. والجهل والبداوة

في اليوم الثالث، دخلت على صاحبي الوهابي الهارب غرفته التي استضفته فيها، فتعجبت إذ رأيتها على غير الصورة التي كانت عليها، ولولا أن عقلي كان معي، وأن ذاكرتي كانت تحفظ جيدا بيتي لتوهمت أني دخلت بيتا غير بيتي.
لقد صار بيتي أقرب إلى خيام الوبر منه إلى بيوت المدر..
سألته مستغربا: ما الذي حصل لبيتي؟
ابتسم، وقال: اعذرني سيدي.. فلا تزال لوثة الوهابية تطيف بعقلي أحيانا، فأتصرف من غير وعي، وأتحرك على غير رشد.
قلت: لا بأس عليك.. ولكن لم فعلت ببيتي هذا.. وأي ذكريات مؤلمة جعلتك تنحرف به هذا الانحراف؟
قال: ذكريات مؤلمة بدأت مع أول علاقتي بهم..
قلت: فهل تقصها علي؟
قال: ما دام قلمك معك، فسأقصها عليك.. فلا ينفعني عند الله إلا أن أقصها عليك.
أخذ صاحبي الوهابي الهارب نفسا عميقا، ثم قال: في تلك الأيام كنت طالبا جامعيا.. في تخصص من التخصصات العلمية الحديثة.. وكنت فخورا حينها بالحضارة التي أنتمي إليها حضارة العلم والمعرفة.. وقد كنت أتصور نفسي أسير على ما سار عليه أجدادي الذين قدموا أروع حضارة للعالم..
في بعض تلك الأيام شعرت بشوق يشدني إلى مجالس العلم، لما ورد فيها من الفضل.. فأسرعت إلى مجلس من المجالس، وليتني ما فعلت..
لقد وجدت في ذلك المجلس الذئب الذي يلبس ثياب الحمل محتلا لذلك العرش الذي لا يجلس عليه إلا العلماء العاملون.
لقد كان ضبعا حقيرا، ولكنه كان يزأر كزئير الأسود.. يريد أن يجرد بزئيره المسلمين والحضارة الإسلامية من كل منقبة، ليلصق بها بعد ذلك أي دعي أي مثلبة.
قلت: أمستشرق هو أم مبشر؟.. أم مستغرب هو أم ملحد؟
قال: ليته كان كذلك.. لقد كان مسلما ملتزما في سلوكه غاية الالتزام.. وقد رأيت أهل مجلسه يصفونه بأنه (السنة تمشي).. ولكنه كان في حديثه كحامل معول يريد أن ينقض على البنيان الذي بنته أجيال من هذه الأمة.
قلت: فهلا حدثتني حديثه؟
قال: يؤلمني أن أحدثك حديثه.. لقد أثر في ذلك المجلس كما لم يؤثر في أي مجلس.. لقد جلست مع المستشرقين والمستغربين والمبشرين فلم أسمع أحدا منهم ينهش في الأعراض مثلما ينهش.. وللأسف فقد انحرف ذلك المجلس بي انحرافا تاما، وبدل أن أتوجه إلى العلم توجهت إلى الجدل، وإلى الأودية السحيقة والسجون المظلمة لأسكن فيها عقودا من عمري.
قلت: ما دمت قد ذكرته لي.. فلا مناص من أن تحدثني حديثه.. من هو أولا؟
قال: دعنا من اسمه.. فلو ذكرناه لم نأمن أن يحصل لك شر بسببه أو بسبب من يحيط به.. فقد كان لهم من الأنفة والعزة ما لم يكن لمروان القرظ، ولا لأم قرفة([1]).
قلت: فحدثني حديثه.
قال: لقد سمعته يقول([2]): إن الفتن في هذه الأزمان قد تتابعت كقطع الليل، وأحييت معالم الدَّهْمَاء، وأثير نقع الفتن، واستوري زناد الهَزَاهِز.. ولكن مستثار الفتنة وعرصة غيِّها؛ هو فيما حازه الكفار من زخارف الدنيا، فإنها قد بلبلت كثيراً من المسلمين، فمنهم من انسلخ عن دينه.. ومنهم من بقي حائراً.. ومنهم من ثبت على دينه على دَخَنٍ.. ومنهم من لم يرفع بهذه الفتنة رأساً، ولم يلق لها بالاً، بل ثبت على دينه ثبات الجبال الرواسي.
وفي هذا الجو الكئيب من غبار الفتن العصيب ظهر قوم منا ينطقون بألسنتنا، ولكن قلوبهم مملوءة بالشقاق والنفاق وسوء الأخلاق.. لقد ظهر هذا الفريق يحاول إبراز محاسن الإسلام للكافرين.. وأن المسلمين كانوا في حضارة وعلم من جنس حضارتهم وعلومهم..
وقد أخطأوا ـ ويلهم ـ خطأ شنيعا.. فالإسلام هو دين الحق والعلم والحضارة.. ولكنها حضارة غيرُ الحضارة وعلمٌ غير العلم.
سارت مشرقة وسرت مغرباً شتان بين مشرقٍ ومغرب
حضارتهم دنيوية زائلة، وحضارتنا دينية نبوية باقية.. وعلومهم دنيوية دنيه، وعلومنا شرعية ربانية.. سلفية سنية نبوية.. ليست بذات شطحٍ ولا هذيانِ.
رفع رأسه بأنفة وكبرياء، وقال: حضارتنا هي الحضارة الصحيحة.. وهي التي وجدت في القرون المفضلة.. في وقت الصحابة والتابعين، وأئمة الدين، فريق الهدى، وأشياع الحق، وكتائب الله في أرضه، الذين بلغوا من الدين والعلم والقوة غاية ليس وراءها مطلع لناظر، ولا زيادة لمستزيد، ففتحوا البلدان، وشيدوا الأركان، ودانت لهم الأمم، وتداعت لهم الشعوب.
وهم النجوم
لكل عبدٍ سائرٍ |
يبغي الإله
وجنة الحيوانِ |
وسواهم والله
قطّاع الطريق |
أئمةٌ تدعو
إلى النيرانِ |
أهل حضارتنا هم (أبر الأمة قلوباً، وأعمقها علوماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً)([3])
فَمن كان مفاخراً؛ فليفاخِرْ بهم، ومن كان مكاثراً؛ فليكاثرْ بهم، فدينهم هو الدين، وعلمهم هو العلم، مكّن الله لهم في الأرض ففتحوا الدنيا وحكموا العالم في مدةٍ لا يبلغ فيها الرضيع أن يفطم.
قال الذهبي: (واستولى المسلمون في ثلاثة أعوام على كرسي مملكة كسرى وعلى كرسي مملكة قيصر، وعلى أمَّي بلادهما، وغنم المسلمون غنائم لم يسمع بمثلها قط من الذهب والحرير والرقيق، فسبحان الله العظيم الفتاح)([4])
قام رجل من أصحابه، وقال: لقد ظهر في هذه الأزمنة التي أتت بكل عجيب قوم بهرتهم زخارف بني الأصفر وبلبلت أفكارهم وفهومهم، فشعروا – لبعدهم عن الحق – بنقص إزاء ما يرونه.. فهبوا إلى التاريخ يقلبون أوراقه لعلهم يجدون فيه ملجأً أو مغاراتٍ أو مدَّخلاً يسترون فيه هذا النقص، فطووا ذكر القرون المفضلة لأنهم يعلمون أنه ليس فيها لشفرتهم محزّا، ولا لبغيتهم طائلاً، وأمعنوا النظر في دويلات البدع والضلالة، فأخرجوا منها زبالات التاريخ وحثالات المسلمين ممن تفلسف وتزندق وألحد في دين الله، فلمَّعوا وجوههم الكاحلة، ونفضوا عنها الدَرَن والنتن.. فبارزوا بهم الكفار، فكانوا بحقٍ كعبدٍ صرعه أَمَةٌ، وكالمستجير من الرمضاء بالنار.
فهرفوا بما لم يعرفوا، فما كلامهم إلا خطل، وما حديثهم إلا هَذَر، وقديماً قيل: (مَنْ أكثرَ أهجَرَ)
فما سر هؤلاء فضيلة الشيخ.. وبقية السلف.. وسيد الخلف؟
رفع الشيخ رأسه بكبرياء، ثم قال: إن النكتة في ذلك ترجع إلى أن هؤلاء القوم إنما أرادوا مبارزة بني الأصفر بعلومٍ من جنس علومهم، وهذه العلوم لم يبرع فيها من المسلمين إلا الملاحدة، وغفلوا أو تغافلوا عن قوله تعالى :{ كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا } (الإسراء: 20)، وهذا من عطائه تعالى، والدنيا يعطيها الله لمن يحب ويكره، ولكن الدين لا يعطيه إلا لمن يحب، وإلا فهذه العلوم لا تدل على حق ولا تمنع من باطل، بدليل أنك لو جمعت ما عند ملاحدة اليونان والمسلمين من هذه العلوم ثم قارنتها بما عند الكافرين اليوم لما بلغت عشر معشارها.. والنقص إنما يشعر به من ابتعد عن جادة الدين، وإلا فمن سلكَ الجَدَد؛ أَمِنَ العثار.
ولو أمعنوا في دراسة التاريخ؛ لاتضح لهم جلياً أن المسلمين لم يضعفوا ويتسلط عليهم الكفار والتتار والباطنية وغيرهم إلا بعد انتشار مثل هذه العلوم والعلماء بين المسلمين.
لقد كان العلم الشرعي في عهد السلف محصورا فيما دل عليه القرآن والسنة وكلام السلف.. لا علوم الفلاسفة والملاحدة.
كل العلوم سوى القرآن مشغلة |
إلا الحديث وإلا الفقه في الدين |
العلم ما كان فيه قال؛ حدثنا |
وما سوى ذاك وسواس الشياطين |
قال ذلك، ثم صاح بزئير كزئير الأسود: الله الله في الإسلام.. فإن الحضارة الإسلامية لا تقاس بعمران الدنيا ولا بعلومها، فإن المسلمين لما اشتغلوا ببناء القصور الفارهات، وبتعلّم الفلسفة والمنطق والطبيعيات، وركنوا إلى الدنيا واستهانوا بالعلوم الشرعيات؛ رماهم الله بالدواهي والمصيبات، فالفهمَ الفهمَ، فإن الإسلام لم يأتِ لعمارة الدنيا إلا بالطاعات.
قام رجل من القوم، وقال: إن بيننا من التبست عليه الأمور.. فراح يصف المارقين بأوصاف المسلمين.. وراح يعدل من ذكره ثقاتنا في المجروحين.. ونحن نطلب منك أيها الشيخ الوقور أن تذكر لنا الحكم الصحيح فيهم.. وهل هم من أهل الجنة أم من أهل النار؟.. أو هم من الطائفة المنصورة أم من طوائف البوار.. الذين يملؤون أطباق النار؟
قال الشيخ: سل عما بدا لك.. فلن تجد عندي إلا العلم الصحيح.. وكل حرف عداه بدعة.. وكل بدعة ضلالة.. وكل ضلالة في النار.
قال الرجل: نسألك عن عبد الله بن المقفع.
قال الشيخ: لقد كان مجوسياً فأسلم.. وكان يتهم بالزندقة.. وقد قال فيه المهدي: (ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع)
قال الرجل: فأخبرنا عن جابر بن حيان.
قال الشيخ: لقد قال فيه شيخ الإسلام ـ عليه مني أفضل السلام، وأزكى الصلاة والإكرام ـ: (وأما جابر بن حيان صاحب المصنفات المشهورة عند الكيماوية؛ فمجهول لا يعرف، وليس له ذكر بين أهل العلم والدين)
ولو أثبتنا وجوده، فإنما نثبت ساحراً من كبار السحرة في هذه الملة، اشتغل بالكيمياء والسيمياء والسحر والطلسمات، وهو أول من نقل كتب السحر والطلسمات.
قال الرجل: فأخبرنا عن محمد بن موسى الخوارزمي.. ذلك الذي اشتهر باختراع (الجبر والمقابلة)، وكان داعيه لذلك المساعدة في حل مسائل الإرث.
قال الشيخ: لقد رد عليه شيخنا.. شيخ الإسلام.. الناطق باسم الإسلام.. عليه مني أزكى السلام.. بأن ذلك العلم وإن كان صحيحاً إلا أن العلوم الشرعية مستغنية عنه وعن غيره.
ثم هو فوق ذلك كان من كبار المنجّمين في عصر المأمون والمعتصم والواثق.. وكان من كبار مَنْ ترجم كتب اليونان وغيرهم إلى العربية.
قال الرجل: فأخبرنا عن عمرو بن بحر.. ذلك الذي لقب بالجاحظ.
قال الشيخ: ويل له.. ثم ويل له.. لقد كان من أئمة المعتزلة، تنسب إليه (فرقة الجاحظية).. وكان شنيع المنظر.. سيء المخبر.. رديء الاعتقاد.. تنسب إليه البدع والضلالات.. وربما جاز به بعضهم إلى الانحلال، حتى قيل: (يا ويح من كفّره الجاحط).
قال الرجل: فأخبرنا عن محمد بن موسى بن شاكر.
قال الشيخ: ويله.. ثم ويله.. لقد جمع جميع أنواع الضلالة.. فهو فيلسوف، موسيقي، منجّم، من الذين ترحموا كتب اليونان، وأبوه موسى بن شاكر، وأخواه أحمد والحسن؛ منجمون فلاسفة أيضاً.
قال الرجل: فأخبرنا عن الكندي.. يعقوب بن اسحاق.
قال الشيخ: ذلك المارق الفيلسوف.. لقد كان من أوائل الفلاسفة الإسلاميين.. وهو منجّم ضال، متهم في دينه كإخوانه الفلاسفة.
قال الرجل: فأخبرنا عن عباس بن فرناس.
قال الشيخ: ويله.. ثم ويله.. هو فيلسوف، موسيقي، مغنٍ، منجّم، نسب إليه السحر والكيمياء، وكثر عليه الطعن في دينه، واتهم في عقيدته، وكان إلى ذلك كله شاعراً بذيئاً في شعره مولعاً بالغناء والموسيقى.
قال الرجل: فأخبرنا عن ثابت بن قرة.
قال الشيخ: ويل للصابئ.. لقد كان كافرا، فيلسوفا، ملحدا، منجّما، وهو وابنه إبراهيم بن ثابت، وحفيده ثابت بن سنان.. كلهم ماتوا على ضلالهم..
قال الرجل: فأخبرنا عن اليعقوبي.. أحمد بن اسحاق.
قال الشيخ: ويل له.. لقد كان رافضيا، معتزليا، تفوح رائحة الرفض والاعتزال من تاريخه المشهور، ولذلك طبعته الرافضة بالنجف.
قال الرجل: فأخبرنا عن الرازي.. محمد بن زكريا الطبيب.
قال الشيخ: ويل له.. لقد كان من كبار الزنادقة الملاحدة.. يقول بالقدماء الخمسة الموافق لمذهب الحرانيين الصابئة.. وهو يفوق كفر الفلاسفة القائلين بقدم الأفلاك، وصنّف في مذهبه هذا ونصره، وزندقته مشهورة.
قال الرجل: فأخبرنا عن البثّاني.. محمد بن جابر الحراني.
قال الشيخ: ويله.. لقد كان صابئاً.. فيلسوفاً.. منجّماً.
قال الرجل: فأخبرنا عن الفارابي.. محمد بن محمد بن طرخان.
قال الشيخ: ويله.. فقد كان من أكبر الفلاسفة، وأشدهم إلحاداً وإعراضاً، وكان ابن سينا على إلحاده خير منه.
قال الرجل: فأخبرنا عن المسعودي.. علي بن الحسين.
قال الشيخ: ويله.. لقد كان معتزلياً، شيعياً.. قال فيه شيخنا.. شيخ الإسلام.. الجبل الهمام.. عليه مني أزكى السلام: (وفي تاريخ المسعودي من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله تعالى، فكيف يوثق في كتاب قد عرف بكثرة الكذب؟)
قال الرجل: فأخبرنا عن المجريطي.. مسلمة بن أحمد.
قال الشيخ: ويله.. هو فيلسوف، كبير السحرة في الأندلس، بارع في السيمياء والكيمياء، وسائر علوم الفلاسفة، نقل كتب السحر والطلاسم إلى العربية.
قال الرجل: فأخبرنا عن مسكويه.. محمد بن أحمد.
قال الشيخ: ويله.. لقد كان مجوسياً، فأسلم، وتفلسف، وصحب ابن العميد الضال، وخدم بني بويه الرافضة، واشتغل بالكيمياء فافتتن بها.
قال الرجل: فأخبرنا عن ابن سينا.. الحسين بن عبد الله.
قال الشيخ: ويله.. لقد كان إمام الملاحدة، فلسفي النحلة، ضال مضل، من القرامطة الباطنية، كان هو وأبوه من دعاة الإسماعيلية.. كافر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم بالآخر.
مساوئ لو قسمن على الغواني = لما أمهرن إلا بالطلاق
قال الرجل: فأخبرنا عن ابن الهيثم.. محمد بن الحسن بن الهيثم.
قال الشيخ: ويله.. لقد كان من الملاحدة الخارجين عن دين الإسلام، من أقران ابن سينا علماً وسفهاً وإلحاداً وضلالاً.. وكان في دولة العبيديين الزنادقة..
قال الرجل: فأخبرنا عن ابن النديم.. محمد بن اسحاق.
قال الشيخ: ويله.. لقد كان رافضيا، معتزليا، غير موثوق به.
قال الرجل: فأخبرنا عن المعرّي.. أبي العلاء أحمد بن عبد الله.
قال الشيخ: ويله.. ذلك المشهور بالزندقة على طريقة البراهمة الفلاسفة، وفي أشعاره ما يدل على زندقته وانحلاله من الدين..قال فيه شيخنا القحطاني ـ عليه مني السلام ـ في نونيته:
تعسَ العميُّ أبو العلاء فإنه = قد كان مجموعاً له العَمَيانِ
قال الرجل: فأخبرنا عن ابن باجه..أبي بكر بن الصائغ.
قال الشيخ: ويله.. فيلسوف كأقرانه، له إلحاديات، يعتبر من أقران الفارابي وابن سينا في الأندلس، من تلاميذه ابن رشد، وبسبب عقيدته حاربه المسلمون هو وتلميذه ابن رشد.
قال الرجل: فأخبرنا عن الأدريسي.. محمد بن محمد.
قال الشيخ: ويله.. لقد كان خادماً لملك النصارى في صقليه بعد أن أخرجوا المسلمين منها، وكفى بذلك لؤماً وضلالاً.
قال الرجل: فأخبرنا عن ابن طفيل.. محمد بن عبد الملك.
قال الشيخ: ويله.. كان من ملاحدة الفلاسفة والصوفية، له الرسالة المشهورة (حي بن يقظان)، يقول بقدم العالم وغير ذلك من أقوال الملاحدة.
قال الرجل: فأخبرنا عن ابن رشد الحفيد.. محمد بن أحمد بن محمد.
قال الشيخ: ويله.. فيلسوف، ضال، ملحد، يقول بأن الأنبياء يخيلون للناس خلاف الواقع.. ويقول بقدم العالم وينكر البعث، وحاول التوفيق بين الشريعة وفلسفة أرسطو في كتابيه (فصل المقال) و(مناهج الملة)، وهو في موافقته لأرسطو وتعظيمه له ولشيعته؛ أعظم من موافقة ابن سينا وتعظيمه له، وقد انتصر للفلاسفة الملاحدة في (تهافت التهافت)، ويعتبر من باطنية الفلاسفة، والحادياته مشهورة..
قال الرجل: فأخبرنا عن ابن جبير.. محمد بن أحمد.. صاحب الرحلة المعروفة بـ (رحلة ابن جبير)
قال الشيخ: ويله.. ألا ترى في رحلته تلك تقديسه للقبور والمشاهد الشركية، وتعظيمه للصخور والأحجار، واعتقاده بالبدع والخرافات وغيرها كثير؟
قال الرجل: فأخبرنا عن الطوسي.. نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن.
قال الشيخ: ويله.. نصير الكفر والشرك والإلحاد، فيلسوف، ملحد، ضال مضل، كان وزيراً لهولاكو وهو الذي أشار عليه بقتل الخليفة والمسلمين واستبقاء الفلاسفة والملحدين، حاول أن يجعل كتاب (الإشارات) لابن سينا بدلاً من القرآن، وفتح مدارس للتنجيم والفلسفة..
قال الرجل: فأخبرنا عن ابن البناء.. أحمد بن محمد.
قال الشيخ: ويله.. لقد كان شيخ المغرب في الفلسفة والتنجيم والسحر والسيمياء.
قال الرجل: فأخبرنا عن ابن بطوطة.. محمد بن عبد الله.
قال الشيخ: ويله.. ذلك الصوفي، القبوري، الخرافي، الكذّاب.. كان جل اهتماماته في رحلته المشهورة؛ زيارة القبور والمبيت في الأضرحة، وذكر الخرافات التي يسمونها (كرامات) وزيارة مشاهد الشرك والوثنية، ودعائه أصحاب القبور وحضور السماعات ومجالس اللهو، وذكر الأحاديث الموضوعة في فضائل بعض البقاع، وتقديسه للأشخاص، والافتراء على العلماء الأعلام.
***
بعد أن نفث ذلك الأسد الهصور سمومه في أذني سرت بكآبة لا تعدلها كآبة.. وصرت بين أمرين إما أن أستمر في دراسة العلوم الحديثة لتنزل علي بعدها ما نزل على أجدادي من اللعنات، أو أنقطع لأظفر بما يعده هؤلاء من الجنات.. وما أسرع ما ملت إلى الجنات، فقد كنت حينها عظيم الإخلاص، قليل البضاعة من العلم.
لقد سرت في اليوم الثاني، وسحبت انتمائي من الجامعة التي انتميت إليها لأدخل سجن الجهالة والبداوة مع من دخل إليه من الوهابيين وأذنابهم.
***
بعد أن حدثني صاحبي الوهابي بهذا سألته: فكيف أنقذك الله من هذا السجن؟
قال: بعد أن رأيت من الجهل والبداوة في أصحابي ما رأيت.. وفي يوم من أيام الله.. سرت حزينا في بعض البوادي، أقلب النظر فيما كنت فيه، وفيما صرت إليه، وبينا أنا كذلك إذ ربت على كتفي رجل.. وقال لي: لا تحزن.. وواصل بحثك.. فالحقيقة أعز من أن تراها عند طرف واحد.
قلت: من أنت؟.. وكيف عرفت أمري؟
قال: لا يهمك اسمي.. ولكني من أحفاد رجل عظيم من بناة الحضارة الإسلامية كان اسمه (أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى النقاش الزُّرْقَالي)([5]).. وقد عاش في القرن الرابع الهجري.. وولد في قرطبة.. وعمل في طليطلة بالأندلس.
قلت: استر نسبك.. قبل أن يصيبك من ويلاته ما يخرجك من الإسلام.
قال: تقصد ذلك الشيخ الجراح وأتباعه؟
قلت: أجل.. فلم أسمع منهم إلا تهم الإلحاد والزندقة.
قال: لا عليك منه.. إن لأولئك تصورا خاطئا عن دين الله.. إن حالهم لا يختلف عن حال ذلك الأعرابي الذي قال في دعائه: (اللهم اغفر لي ولمحمد، ولا تغفر لأحد معنا)([6])
قلت: ولكن ألا ترى في كلامه وجوها من الصحة؟
قال: إن ذلك الرجل لم يفهم سر حضارة الإسلام..
قلت: فما سرها؟
قال: لقد تعامل المسلمون مع الخلق بما أرشدهم إليه صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: (أنزلوا الناس منازلهم)([7])
قلت: ما تعني؟
قال: ألا ترى الحضارة الحديثة وكيف تزهو بنفسها؟
قلت: بلى.. أرى ذلك.
قال: فهل اختص ببنائها جنس دون جنس.. أو أهل دين دون أهل دين؟
قلت: لا.. هي تضم كل الأديان والمذاهب والأجناس.
قال: فهكذا الإسلام.. لقد وفر للحضارة قيمها والظروف المناسبة لها.. ثم ترك للمبدعين ليتحركوا في مجالات الإبداع الصحيحة.. ولذلك فإن الحضارة الإسلامية شملت ببركاتها كل الأديان والمذاهب والأعراق والطوائف..
قلت: ولكن الشيخ ذكر ملاحدة؟
قال: لقد رآهم بنظره القاصر ملاحدة.. لقد ذكرت لك أن هؤلاء رسموا للإسلام إطارا معينا.. فكل من جاوزه لم ينجو من سيوفهم أو من تصنيفهم.
قلت: ولكن منهم من قال كلمات ربما تؤدي به إلى الإلحاد..
قال: لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا ننظر إلى الأمور من هذه الزاوية.. لقد علمنا أن لا نمحو قناطير الحسنات بخطيئة واحدة قد لا تكون مقصودة.. وقد لا تكون خطيئة أصلا.
ألم تسمع أنه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر (رجلا فيمن سلف أعطاه الله مالا، وولدا، فلما حضرت الوفاة، قال لبنيه، أي أب كنت لكم، قالوا: خير أب، قال: فإنه لم يبتئر، عند الله خيرا، وإن يقدر الله عليه، يعذبه، فانظروا إذا مت فأحرقوني، حتى إذا صرت فحما فاسحقوني، فإذا كان يوم ريح عاصف، فأذروني فيها ـ فأخذ مواثيقهم على ذلك، وربى ـ ففعلوا، ثم أذروه فى يوم عاصف، فقال الله عز وجل: كن، فإذا هو رجل قائم، قال الله: أى عبدى، ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟ قال: مخافتك ـ أو فرق منك ـ فما تلافاه أن رحمه عندها)([8])؟
قلت: إن هذا حديث عظيم.. دعني أذهب وأبشره به.. عساه يكف عن إدخال الناس إلى النار.
ابتسم، وقال:
دعك منه.. فهو يحفظ الحديث.. ويحفظ أسانيده.. ولكن المسكين انشغل بعد رواته عن
البحث عن معناه أو عن إدراك معناه.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (نضر
الله امرءا سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه
منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)([9])
([1]) هذه أمثال عربية قديمة يقال (أعز من مروان القرظ)، و(أعز من أم قرفة).
([2]) النص الذي نعرضه هنا ـ بتصرف ـ منتقدين له مستفاد من كتاب (حقيقة الحضارة الإسلامية)، للشيخ ناصر بن حمد الفهد، وقد اعتبر مذكرته هذه (جوابا عمَّن: جعل حضارة الإسلام؛ هي النبوغ في علوم الفلاسفة والملاحدة.. وجعلها هي تشييد المباني وزخرفة المساجد.. وجعل علماء الإسلام؛ هم الملاحدة).. وللأسف فإن مثل هذه الأفكار تجد سوقا واسعة هذه الأيام.. فكثير من الشباب يحملونها ويبشرون بها، بل يعتبرون التبشير بها من فروض الأعيان.. ويستغل المبشرون والمستشرقون والمستغربون ذلك أسوأ استغلال.
([3]) رواه سعيد بن منصور.
([4]) تاريخ الإسلام: ص159.
([5]) الزرقالي (480-420هـ/1087-1029م) هو من أعظم راصدي الفلك في عصره، وواحد زمانه في علم العدد، والرصد، وعلم الأبراج، قام بأكثر أرصاده بها، ثم انتقل منها إلى قرطبة وبقي فيها حتى وفاته..
([6]) هذا ما ورد في رواية ابن حبان في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، ونص روايته أنه (دخل أعرابي المسجد، ورسول الله a جالس، فقال: اللهم اغفر لي ولمحمد، ولا تغفر لأحد معنا. فقال a: لقد (احتظرت) واسعا.. ثم تنحى الأعرابي فبال في ناحية المسجد.. فقال الأعرابي بعد أن فقه الإسلام: إن رسول الله a قال له: (إن هذا المسجد إنما هو لذكر الله، والصلاة ولا يبال فيه)، ثم دعا بسجل من ماء، فأفرغه عليه.
([7]) رواه مسلم وغيره.
([8]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
([9]) رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين.