الخليفة الجديد.. ووالداه

الخليفة الجديد.. ووالداه

كنت من جملة المنشغلين بالبحث عن نسب الخليفة الجديد الذي ظهر في الموصل وقبلها في الرقة.. حتى أسمي عصره بالاسم المرتبط بعائلته كما تعودنا على ذلك في تاريخنا الطويل، والذي تداولت على حكمه أسر محدودة معدودة من أمويين وعباسيين وعثمانيين وغيرهم…

وقد وصلت بعد البحث الطويل إلى نتائج كثيرة.. لكني لم أطمئن إليها.. فقررت الذهاب إلى الخليفة نفسه لأسأله عن حسبه ونسبه وأصله وفصله وبذرته وثمرته..

وقد كان من السهل علي أن أصل إليه.. فأنا أعلم حب الخلفاء للشعراء والمديح.. ولذلك لبست لباس الشعراء، وقمت بسرقة بعض الأبيات الشعرية التي امتلأت بأمثالها دواويننا، ورحت أطلب من حراسه أن يأذنوا لي بقراءة القصيدة بين يديه.

ولم تخطئ فراستي.. حيث قربني ووصلني.. بل أذن لي أن أجلس معه في مجالسه الخاصة، حيث كان السياف يرمي له كل حين برأس جديدة من رؤوس أعدائه ومعارضيه.. فقد كان له – على حسب ما رأيته منه – شغف بالعبث بالرؤوس المقطوعة، وقد أخبرني أنه ورث ذلك من حبه لمعاوية ويزيد وكل الخلفاء.. فقد كان لهم جميعا شغف بمثل تلك الرؤوس.

بعد أن رأيته قد أنس لي وارتفعت الكلفة بيني وبينه، وفي مجلس خاص، قلت له بكل جرأة، وأنا أتحسس رقبتي: لقد أخبرني بعضهم أن اسمك الحقيقي ليس أبا بكر البغدادي، وإنما هو (شمعون إيلوت)، وأنك من والدين يهوديين، حيث أن والدك المدعو (إيلوت) قد تم تجنيده في الموساد الاسرائيلية لمدة عام خاض خلالها العديد من التجارب والاختبارات الفكرية والميدانية ليكون مؤهلاً لقيادة فكر مدمر للمجتمعات العربية والاسلامية.

وقد ورد هذا في تسريبات لادوار سنودن، ونشرتها صحف ومواقع إخبارية مختلفة ذكرت أنك تتعاون مع أجهزة مخابرات أميركية وبريطانية واسرائيلية لخلق تنظيم إرهابي قادر على استقطاب المتطرفين من جميع أنحاء العالم في مكان واحد([1]).

قهقه بصوت عال، وقال: ما كل هذا التنقيب في شخصي وفي نسبي.. أنت تبتعد بهذا عن حقيقتي.. فحتى لو كنت يهوديا كما تقول، فقد أكون صاحب اتجاه آخر غير الاتجاه الذي أنا عليه..

ثم ربت علي كتفي بقوة، وقال: الإنسان ابن أفكاره.. لا ابن أبيه وأمه.

قلت: لا شك أن التوجه الديني لوالديك قد ملأ عقلك بالأفكار التي نراك تنفذها.

قال: أنت لا تزال تبتعد عني، وتبتعد عن الجهات الحقيقية التي ساهمت في إخراجي إلى العالم.. أنت مثل الكثيرين من المغفلين الذين يردون كل شيء إلى أمريكا وإلى اليهود.. وينسون الثعابين التي تسكن بيوتهم.. والسباع التي تلتهم حياتهم.

قلت: من تقصد؟

قال: قد يكون أبي وأمي من ذكرت.. ولكن لي أبوان أعتبرهما أبوي الفكريين الحقيقيين، واللذين شكلا شخصيتي بالصورة التي تراها.. وهما لا يزالان يشكلان الكثير من الشخصيات بعدي.

قلت: من هما؟

قال: السلفيون، والحركيون..

السلفيون:

قلت: فمن أصحاب الاتجاه الأول، وما الذي استفدته منهم؟

قال: هم من تراهم يصيحون في كل واد بأنهم الممثلون الوحيدون للإسلام، وأنهم الناطقون باسمه، وأنه لا يمكن لأحد أن يدخل الجنة من غير أن يمنحوا له صك الغفران.

قلت: لم أفهم ما تعني؟

قال: إنهم تلاميذ ابن تيمية، ونجله محمد بن عبد الوهاب.. إنهم الموحدون والوهابيون والسلفيون.. إنهم الطائفة المنصورة والناجية.. إنهم..

قاطعته قائلا: لقد عرفتهم.. إنهم أشهر من نار على علم.. لكني لا أراهم يهتمون بالسياسة.. ولا علاقة لهم بالخلافة؟

قال: لقد تربيت في حجرهم، وتتملذت في مدارسهم.. وكنا كل حين نردد بطولات معاوية ويزيد.. وكيف استطاعا أن يقمعا كل المخالفين غير مبالين لهم بحرمة.. وقد جعلنا ذلك نحن إلى إحياء معاوية ويزيد من جديد.. لنعيد كربلاء والحرة وكل تلك المواقع التي جعلت الإسلام ينتشر في جميع أصقاع الأرض.

قلت: أنا أعلم شغف الوهابيين بمعاوية، ولكني لم أكن أعلم أن ذلك الشغف يحمل أي عنوان عملي.

قال: ليس هناك فكرة في الدنيا لا تحمل عنوانا عمليا.. كل فكرة تمتلئ بها المجالس لابد أن تجد في يوم من الأيام رجالا مثلي لا يكتفون بالكلام.. بل يسعوا بكل جهودهم ليحولوها إلى واقع عملي.

قلت: فأنت تزعم أنك خليفة لمعاوية؟

قال: أنا بالنسبة للوهابيين خليفة لمعاوية وللدولة الأموية.. وبالنسبة للحركيين أنا خليفة لبني عثمان.. ولا يهمني ما يعتقد الآخرون في ما داموا يساهمون في توسيع رقعة دولتي ونشر رايتي.

قلت: لقد ذكرت لي أنك تلميذ للوهابية.. فما الذي استفدته منهم؟

قال: كل شيء.. كل ما نبثه في وسائل الإعلام من ذبح وتدمير هو حسنة من حسناتهم.. وأثر من آثارهم.

قلت: لكني لا أعلم أن إخواننا من الوهابيين مارسوا أي عنف.. فهم لم يحطموا آثار مدينة نمرود ولا تماثيل الأشوريين.. إنهم لا يدعون إلا إلى إخلاص التوحيد لله.

قال: لقد كان التوحيد هو قميص عثمان الذي استحلوا به دماء الناس وأعراضهم.. ألا تعرف عثمان بن بشر؟

قلت: بلى.. أعرفه إنه من مؤرخي الوهابية المعتبرين.

قال: ألم تقرأ ما وصف هزيمة أهل الرياض سنة 1187 ه؟

قلت: أجل، فقد كتب يقول: (فَرَّ اهل الرياض، الرجال والنساء والاطفال لا يلوي أحد على أحد هربوا على وجوههم الى البرية في السهال قاصدين الخرج، وذلك في فصل الصيف، فهلك منهم خلق كثير جوعاً وعطشا… وتركوها خاوية على عروشها، الطعام واللحم في قدوره والسواني واقفة في المناحي، وأبواب المنازل لم تغلق، وفي البلد من الاموال ما لا يحصر، فلما دخل عبد العزيز الرياض وجدها خالية من أهلها الاّ قليلاً فساروا في اثرهم يقتلون ويغنمون)([2])

قال: لقد قرأت جيدا ما فعله في تلك الواقعة، ورحت أطبقه حرفيا عندما فتحت الموصل، وطهرتها من دنس المشركين عبدة الأوثان.

قلت: وتكريت.. بمن اقتديت في اقتحامها؟

قال: بوقعة الرقيّقة التي حدثت عام 1210 ه.. ألا تعرفها؟

قلت: بلى، فقد كتب عثمان بن بشر يقول عنها: (ثور المسلمون بنادقهم دفعة واحدة، فأرجفت الأرض، وأظلمت السماء، وثار عج الدخان في الجو، وأسقطت كثير من الحوامل في الأحساء، ثم نزل سعود في (الرقيقة) المذكورة . وأقام  مدة أشهر يقتل من أراد قتله،  ويجلي من أراد جلاءه، ويحبس من أراد حبسه، ويأخذ من الاموال، ويهدم من المحال، ويبني ثغورا ويهدم دورا، وضرب عليهم ألوفاً من الدراهم وقبضها منهم، وأكثر فيهم سعود القتل… فهذا مقتول في البلد، وهذا يخرجونه الى الخيام  ويضرب عنقه عند خيمة سعود، حتى أفناهم الاّ قليلاً، وحاز سعود من الاموال في تلك الغزوة ما لايعد ولا يحصى) ويقول ابن بشر: ان ابن سعود  قتل من أهل قرية واحدة هي (الفضول)  ثلاثمائة رجل، حتى صارت تلك القرية مضرب الأمثال)([3])

قلت: والرقة؟

قال: بكربلاء تلك المدينة التي اقتحمها سلفي الصالح.. وكم تمنيت لو أتيحت لي الفرصة لدخولها.. إذن لسويت بها الأرض.. ولما أبقيت على أحد من أهلها.

قلت: لا أعلم أن من سلفك من اقتحم كربلاء.

قال: أنت لم تقرأ التاريخ إذن.. ولم تقرأ ما كتبه مؤرخنا العظيم عثمان بن بشر  في كتابه العظيم ( عنوان المجد)، فقد ذكر تلك الواقعة، وقال: (إن سعود سار بالجيوش المنصورة والخيل العتاق المشهورة، من جميع حاضر نجد وباديها، والجنوب والحجاز وتهامة وغير ذلك، وقصدوا أرض كربلاء ونازل أهل بلد الحسين، فحشد عليها المسلمون  وتسوروا جدرانها ودخلوها عنوة، وقتلوا غالب أهلها في الأسواق والبيوت، وهدموا القبة الموضوعة بزعم من اعتقد فيها على قبر الحسين، وأخذوا ما في القبة وما حولها، وأخذوا النصيبة التي وضعوها على القبر  وكانت مرصوفة بالزمرد والياقوت  والجواهر، وأخذوا جميع ما وجدوا  في البلد من الاموال والسلاح واللباس والفرش والذهب والفضة والمصاحف الثمينة وغير ذلك مما يعجز عنه الحصر، ولم يلبثوا فيها إلا ضحوة وخرجوا منها قرب الظهر بجميع تلك الاموال، وقتل من أهلها قريب الفي رجل، ثم ان سعودا ارتحل منها فجمع الغنائم وعزل أخماسها، وقسم باقيها على المسلمين غنيمة للرجل سهم وللفارس سهمان)([4])

قلت: لم يبق لسلفك من الوهابية إذن إلا استحلال مكة المكرمة، ورمي الكعبة بالمنجنيق كما فعل سلفك من الخلفاء؟

قال: كان ذلك ممكنا وميسرا لولا أن الله فتحها لهم صلحا كما فتحها قبل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد روى مؤرخنا العظيم عثمان بن بشر أن أهل مكة استجابوا لرسالة أصحابنا الوهابيين إليهم، والتي جاء فيها: ( أما بعد، فأنتم جيران الله وسكان حرمه آمنون بأمنه. إنما ندعوكم لدين الله ورسوله ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64] فأنتم في أمان الله ثم في أمان أمير المسلمين سعود بن عبد العزيز وأميركم عبد المعين بن مساعد، فاسمعوا له وأطيعوا ما أطاع الله والسلام)([5])

وعندما دخل مكة المكرمة في اليوم الثامن من  محرم  1218ه  خطب في أهلها قائلا: (احمدوا الله الذي هداكم للإسلام وأنقذكم من الشرك. أطلب منكم أن تبايعوني على دين الله ورسوله وتوالوا من والاه وتعادوا من عاده في السراء والضراء والسمع والطاعة)([6])

قلت: الحمد لله الذي حفظ مكة المكرمة من أن تمتد إليها أيادي الهدم كما امتدت قبل ذلك إلى آثار كربلاء.

قال: ومن ذكر لك أن لأوثان مكة حرمة أعظم من حرمة غيرها من الأوثان.. الأوثان واحدة في مكة أو في كربلاء أو المدينة أو في أي مكان آخر.

لقد بادر أسلافنا من الوهابيين بمجرد دخولهم مكة إلى هدم القباب  التي كانت على محل مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم  ومولد الإمام علي والسيدة خديجة، فهدموها، وهدموا الكثير من الآثار([7]).

ثم قصدوا العلماء والوجهاء من علماء الحرمين ومن الشريف فطلبوا منه التوقيع على بيان بالاعتراف بالدين الجديد والتبرؤ من دينهم السابق والإفتاء بكفر عامة المسلمين، فأصدر علماء مكة المكرمة هذا البيان: (نحن علماء مكة الواضعون خطوطنا في هذا الرقيم: ان هذا الدين الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ودعا اليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز، من توحيد الله ونفي الشرك الذي ذكره في هذا الكتاب، أنه هو الحق الذي لا شك فيه. ولا ريب وأن ما وقع في مكة والمدينة سابقا ومصر والشام وغيرهما من البلدان، الى الآن، من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب، أنه: الكفر المبيح للدم والمال، والموجب للخلود في النار. ومن لم يدخل في هذا الدين ويعمل به ويوالي أهله ويعادي أعداءه فهو عندنا كافر بالله واليوم الآخر. وواجب على إمام المسلمين، والمسلمين، جهاده وقتاله حتى يتوب الى الله مما هو عليه، ويعمل بهذا الدين)([8])

قلت: والمدينة المنورة.. ماذا فعل بها سلفك من الوهابيين؟

قال: بمجرد أن فتحها الله لهم قاموا بتهجير سكانها من المبتدعة، حيث لم يبق من بين 70-80 ألفاً سوى ستة آلاف، بعد خمسة عشر شهراً من الحصار، وقد وصفت المدينة فور سقوطها بأن (الشوارع والأزقّة فارغة والبيوت مهدّمة، وملامح الإعياء بادية ظاهرة وكأن الزلزال أصابها)([9])

قلت: فهل أبادوا آثارها كما أبادوا آثار مكة المكرمة؟

قال: وكيف لا يفعلون ذلك.. برئت منهم إن لم يفعلوا ذلك.. فتوحيد الله أغلى من مكة والمدينة وكل بقاع الأرض.. لقد قام سلفي من الموحدين بتدمير آلاف من قبور الصحابة من المهاجرين والأنصار (تصل الى عشرة آلاف) وغيرهم من آل البيت والتابعين والشهداء في مقبرة البقيع بالمدينة المنورة، وأزالوا القبب، حتى أنه لا يمكن التعرّف اليوم إلا على بضعة قبور منها، وقد وصف بعضهم البقيع فور تدميره أواخر 1925، وبداية 1926م، فقال: (حين دخلتُ إليه وجدتُ منظره منظر بلدة قد خربت عن آخرها. لم يكن في أنحاء المقبرة كلها ما يمكن أن يشاهد سوى أحجار مبعثرة وأكوام صغيرة من التراب لا حدود لها، وقطع من الخشب.. كان ذلك أشبه بالبقايا المبعثرة لبلدة أصابها الزلزال فخربها كلها.. كان كل شيء عبارة عن طرق وعرة تتخللها مواد الأبنية المهدمة وشواهد القبور المبعثرة. لم يحدث هذا بفعل الزمن وعوارض الطبيعة، بل صنعته يد الإنسان عن عمد وتقصد)

وفي المدينة أيضاً، تم تدمير قبر الحمزة، والمسجد المشاد عليه، كما تمّ تدمير قبور شهداء أحد، كما تعرضت قبة المسجد النبوي للقصف المدفعي.

قلت: لم يبق إذن إلا نبش قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال: لا تذكرني بما حصل سنة 1926.

قلت: وما الذي حصل؟

قال: لقد كان سلفي من الوهابيين على أتم الاستعداد لقلع كل جذور الوثنية.. لكنهم عندما وصلوا إلى ذلك القبر الذي اتخذه الناس وثنا حالت الحوائل بينهم وبين تنفيذ مهمتهم على أكمل وجه؟

قلت: قبر من تقصد؟

قال: قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

اقشعر جلدي لقوله هذا، وقلت: أكان في نيتهم ذلك؟

قال: أجل.. لكن المشركين من الهند والسند ومصر وغيرها وقفوا حائلين دون تحقيق ذلك.. فجبن سلفنا وراعوا ذلك الواقع.. لكن الفرصة إن أتيحت لنا فلن نسمع فيها لصوت أحد من الناس.

قلت: أتحلمون بدخول مكة والمدينة؟

قال: أجل.. وهل يمكن لخلافة أن تكون من دون مكة والمدينة؟

قلت: وما تفعون إن دخلتهم إليها؟

قال: سنكمل ما بدأه سلفنا، ولن تأخذنا في الله لومة لائم.. ووالله وتالله لو وجدنا الناس يتمسحون بالكعبة ويعبدونها لهدمناها على رؤوسهم كما هدمها الحجاج ويزيد.

قلت: وقبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟

قال: سنفعل به ما فعلنا بقبر حجر بن عدي والنووي وكل القبور.

قلت: ولكنه قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال: عقيدنا التي سطرها لنا ابن عبد الوهاب وابن تيمية تنص على أن الموتى كلهم متشابهون، وكلهم عاجزون.. فلا فرق بين النووي وحجر ومحمد.. نحن دائما نردد: (من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)

الحركيون:

قلت: عرفت آباءك الأولين.. فمن آباؤك الآخرون؟

قال: هم من يسمون أنفسهم حركيين وسياسيين وحضاريين.

قلت: ما أبعد أولئك عنك وعن الوهابيين، فكيف تزعم أنهم آباؤك؟

قال: أنت ترى ظاهرهم فقط.. ولذلك حكمت بما حكمت به.. لكن باطنهم لا يختلف كثيرا عن آبائنا من الوهابيين.. سأضرب لك مثالا عن تأثيرهم التربوي في شخصيا.. أنت تعلم عدائي الشديد للرافضة، ولو أن بيدي قنابل نووية أو غازات سامة لألقيتها عليهم، لأبيدهم عن آخرهم.

قلت: لعل ذلك من تأثير الوهابية فيك.

قال: لا.. لقد استفدت ذلك من تربيتي في مجالس الإخوان المسلمين.. لقد كنت حينها في سورية، وكان لنا شيخ يقال له سعيد حوى.. لعلك تعرفه.. لقد تولى أرفع المناصب في حركة الإخوان المسلمين السورية.. وقد خرج حينها الخميني بثورته في إيران.. وحينها نسي سعيد وغيره من مشايخ الإخوان الصليبية والصهيونية اللتين كانا يحذران منها.. وراحوا يحذرون من الخمينية والصفوية ومن عودة المجوس..

لقد كان يردد على مسامعنا كل حين بصوته المجلجل: (جاءت الخمينية المارقة تحذو حذو اسلافها من حركات الغلو والزندقة التي جمعت بين الشعوبية في الرأي والفساد في العقيدة، تتاجر بمشاهر جماهير المثقفين المتعلقين بالإسلام تاريخاً وعقيدة وتراثاً، فتتظاهر بالإسلام قولاً وتبطن جملة الشذوذ العقدي والحركي الذي كان سمة مشتركة وتراثاً جامعاً للهالكين من أسلافها من الأبامسلمية والبابكية والصفوية، فيعيدوا إلى واقع المسلمين كل نزعات الشر والدمار التي جسدتها تلك الحركات المشبوهة الساقطة في شرك الكفر والزندقة والعصيان، وتعيد إلى الأذهان كل مخططات البرامج الباطنية القائمة على التدليس والتلبيس، فتدعي نصرة الإسلام وهي حرب عليه – عقيدة ومنهجاً وسلوكاً – وتتظاهر بالغيرة على وحدة الصف الإسلامي وهي تدق صباح مساء إسفيناً بعد إسفين في أركان الأمة الواحدة، متوسلة إلى ذلك بنظرة مذهبية شاذة، وتزعم نصرة المستضعفين في الأرض وهي تجند الأطفال والصغار وتدفعهم قسراً وإلجاءً إلى محرقة الموت الزؤام، ثم هي لا تكتفي بكل هذا الشر الأسود بل تقيم فلسفتها جملة وتفصيلاً على قراءة منحرفة قوامها التلفيق والتدليس لكل تاريخ المسلمين، فتأتي على رموزه وأكابر مؤسسيه هدماً وتشويهاً وتمويهاً، وتجدد الدعوة بإصرار إلى كل الصفحات السلبية السوداء الماضية في التاريخ، والتي ظن المخلصون أنها بادت فليس من مصلحة المسلمين ولا في صالح الإسلام إعادة قراءتها من جديد، فلقد قاسى الجميع من شرها ما لا يحصره كتاب)([10])

قلت: رحم الله الرجل.. لقد كان ذلك موقفا من مواقفه.. لعله تاب منه.. ولا يمكننا أن نحمل جماعة كبيرة كالإخوان ذلك الموقف.

قال: لا.. لم يكن ذلك موقف سعيد وحده.. لقد كان موقف أكثر الإخوان.. وعلى رأسهم يوسف القرضاوي، والمؤسسة الضخمة التي أسسها (اتحاد علماء المسلمين)، والتي سخرت لها أموال ضخمة..

لقد نشر هذا الرجل ومؤسسته الكثير من البيانات في جميع وسائل الإعلام..

وكمثال على ذلك، أن هذا الشيخ استغل موسم الحج في أكتوبر 2012 فراح في خطبة له يطلب من المسلمين الدعاء على إيران باعتبارها من أعداء الأمَة، ولحيلولتها دون التدخل العسكري الخارجي في سورية، أو التدخل التكفير الإرهابي فيها.

قلت: صدقت في هذا.. ولكن على العموم الإخوان والحركيون قوم مسالمون.. لا علاقة لهم بالعنف.. وهم يدعون للخلافة النبوية لا الخلافة الأموية.

قهقه بصوت عال، وقال: لا يوجد في الدنيا من يحب الأمويين مثلما يحبهم الإخوان.. لقد كتبوا المؤلفات الكثيرة في مدحهم والثناء عليهم.. لقد كان من أساتذتي في سورية منير الغضبان وقد كان رقيبا للإخوان المسلمين فيها، فقد كتب كتابا حول معاوية يثني عليه سماه (معاوية بن أبي سفيان صحابي كبير وملك مجاهد)، قال في مقدمته: (ما أعتقد أن شخصية في تاريخنا الإسلامي ومن الرعيل الأول من الصحابة الذين تربوا على يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وعاشوا وحي السماء قد نالها من التشويه والدس والافتراء ما نال معاوية بن أبي سفيان([11])..  لقد أصبح كثير من المعلومات ثابتة في أذهان الناس لا تقبل الشك ولا تقبل الجدل، لا تتناسب أبداً والمستوى اللائق بصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصورة معاوية في أذهان الناس أنه طالب سلطة وسياسي بارع ونهاز للفرص لا يرعوي عن شيء في سبيل الوصول إلى الحكم . صارع من أجل السلطة وسعى إلى قتل عشرات الألوف من الناس لكي يصل إلى الخلافة، وهذا الصورة تتنافى مع حس المسلم وفطرته، لكنه لا يجد لها بديلاً، فكتب التاريخ تذكر ذلك، وعندما جاء المؤرخون المحدثون وكتبوا عن معاوية، زادوا الطين بلة، وكرسوا هذه المفاهيم في أذهان الناس وزادوهم قناعة بها، فكان لا بد من الكتابة عن معاوية بن أبي سفيان)([12])

هذا هدفه من الكتاب، وقد برر فيه بذكاء وحنكة كل ما فعله معاوية ويزيد من بعده..

قلت: هذا مجرد رأي شخصي له.

قال: بل هو رأي كبار مفكريهم ومنظريهم.. أنسيت القرضاوي الذي اعتبر نفسه وكيلا لبني أمية يدافع عنهم ويكاد يكفر من يعترض عليهم.

قلت: ذلك تاريخ.

قال: وهم يعيدونه.. ألا تراهم يدافعون عن الخلافة العثمانية.. ألا تراهم يمدون أيديهم كل حين لأردوغان عساه يتمكن في يوم من الأيام من إحياء الخلافة من جديد؟

قلت: بلى.. ولكنهم مع كل ذلك قوم مسالمون لا يحبون العنف.

قهقه بصوت عال، وقال: يستحيل على من أحب معاوية ويزيد والأمويين والعثمانيين ألا تصيبه شراهة للرؤوس المقطوعة والدماء المسفوكة.

قال ذلك، ثم نظر إلى رأسي، وقال: أرى أن جرأتك اليوم قد زادت على حدها، وليس لدي من علاج لها إلا قطعها..

لا أخفي عليكم أن الهلع أصابني من قوله هذا، لكني أمسكت بزمام نفسي، وتذكرت ما كنت أعده من خطط إن هجم علي بمثل قوله هذا.. فقلت له: صدقت سيدي أمير المؤمنين.. فرأسي قربان لمقامكم الشريف.. ولكن إئذن لي فقط أن أحضر قصيدة كنت كتبتها في مدحكم لم يكتب مثلها الأولون والآخرون.

سال لعابه، وقال: أهي أفضل من قصيدة زهير التي مدح بها هرم بن سنان؟

قلت: أجل.. هي أفضل منها بكثير..

قال: فهيا.. أسرع عجل بها قبل أن أعجل بقطع رأسك.

خرجت من مجلسه ذلك، وأنا أتحسس رأسي كل حين، ولا أصدق أنه لا يزال موجودا في مكانه، وقد عانيت بعدها الأمرين حتى استطعت أن أخرج من معسكره وأعود إلى بيتي، وأمكث بعدها شهرا في مستشفى الأمراض النفسية لأتخلص من صورته وصور الرؤوس المقطوعة..


([1]) كشفت وسائل إعلامية إيرانية عن هوية وحقيقة خليفة المسلمين (أبو بكر البغدادي)، زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروفة بـداعش. وقالت صحيفة (أقسام) التركية نقلا عن الصحافة الإيرانية: إن البغدادي عميل بجهاز الإستخبارات الإسرائيلية (الموساد)، زاعمة أن اسمه الحقيقي (شمعون إيلوت) انظر: (http://www.elbilad.net/flash/detail?id=15175)

([2]) عنوان المجد في تاريخ نجد، عثمان بن عبدالله بن بشر النجدي الحنبلي، تحقيق: عبدالرحمن بن عبداللطيف بن عبدالله آل الشيخ، دار دارة الملك عبدالعزيز، 1402-1403 هـ – 1982-1983 م، ص 120.

([3])عنوان المجد، ص 216.

([4])عنوان المجد، ص 257 – 258

([5])عنوان المجد، ص 261

([6]) سراة الليل هتف الصباح، عبد العزيز التويجري، طبع رياض الريس للنشر، بيروت، لبنان، 1997، ص 49.

([7]) المرجع السابق، ص 46

([8]) الدرر السنية والأجوبة النجدية، ج1 ص 314

([9]) الدرر السنية والأجوبة النجدية، ج1 ص 317

([10])الخميني: شذوذ في العقائد، شذوذ في المواقف، سعيد حوى، دار عمار للنشر والتوزيع، عَمّان، الطبعة الأولى، 1407 هـ – 1987 م، ص5.

([11]) هو ذكر بعد ذكر معاوية وأبيه هذه الجملة التي حذفتها (رضي الله عنهما)

([12])معاوية بن أبي سفيان صحابي كبير وملك مجاهد، منير محمد الغضبان، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1400هـ -1980م، ص5..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *