الحركة الإسلامية.. والغباء السياسي

الحركة الإسلامية.. والغباء السياسي

عندما أتيحت لهم الفرصة للوصول إلى السلطة التي طالما حلموا بها، لم أكن أتصور أبدا أنهم بهذا الغباء، وبتلك السذاجة المقيتة.. لقد غمرهم الغرور، فتصوروا أنهم ملكوا الدنيا والآخرة، ولم يبق لهم إلا أن يصيحوا كما صاح فرعون: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف: 51]

كان في مقدورهم أن يتريثوا، ولا يستعجلوا، حتى يحضر الوقت المناسب الذي يرون أنهم يمكنوا أن يستقروا على الكرسي الذي جعلوه هدفهم الأكبر، بل هدفهم الوحيد.

وكان في إمكانهم – من باب السياسة والدهاء – أن يلينوا لمخالفيهم حتى لا يستطيع أحد أن يكسرهم.. ولكن الغرور والكبرياء اللذين ألبسوهما اسم العزة حالا بينهم وبين ذلك، فراحوا يدمرون كل شيء، ويدمرون معه أنفسهم أيضا.

في ذلك الحين أتيحت لي الفرصة لأجري الحوار مع أحدهم في قصره الفخم، وقد توسلت إلى ذلك كعادتي بحيلة من الحيل.. لن أذكرها لكم طبعا، ولن أذكر لكم اسم محاوري أيضا، ولو أنه معروف للجميع.. كانوا يسمعون صدى صوته كل حين في كل القنوات والإذاعات والجرائد والمجلات يتودد مرة، ويهدد أخرى.

المهم أن الفرصة أتيحت لي لأتحدث معه حديث الند للند، وهذا نص الحوار مع بعض التصرفات التي يقتضيها المقام، وتقتضيها اللغة، فقد كان محاوري حديدا شديدا يتحدث بلهجة فيها بعض العنف الذي أخشى أن يخدش شعور القراء.

قال لي: لا شك أنك جئتني هذه المرة لتكرر علي ما ذكرته سابقا من الدعوة إلى اللين والسلام.. أو الخنوع والذلة.

قلت: أجل.. ولكن هذه المرة تختلف.. فالأحزاب قد تحزبت عليكم.. والناس قد شمروا سواعدهم يريدون رحيلكم.. أو استئصالكم.. وقد بلغ بهم الغضب حده.. فلا تستهينوا بالأمر.

ضحك ضحكة عالية، وقال: ومنذ متى صار للدهماء والغوغاء والعامة رأي؟.. إنهم أحقر من أن يفعلوا شيئا.. إنهم والهباء سواء..

قال ذلك، ثم نفخ بفمه على الهواء، ثم قال: سننفخ عليهم مثلما أنفخ على هذا الهواء، ولن ترى بعد ذلك أحدا منهم.

قلت: ولكنهم حددوا موعدا دقيقا.. وقد اقترب أجله.. لعلك نسيته.. إنه الثلاثون من..

قاطعني بقوة، وقال: ثلاثون أو أربعون.. سيمر كما تمر سائر الأيام.

قلت: ولكنهم قد يرشونكم بالماء.. فيبللونكم.. بل قد يغرقونكم.

غضب، وقال: من رشنا بالماء سنرشه بالدم.. ومن سبنا بكلمة سببناه بعشر.. ومن حفر لنا حفرة رميناه فيها، وأحرقناه.

قلت: ولكن القرآن الكريم الذي تزعمون أنكم تريدون تحكيمه على الناس لا يقول ذلك.. انظر كيف يخاطب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم : ﴿قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)﴾ [المؤمنون: 93 – 96]

إن دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأن يدفع بالتي هي أحسن ليست مع المؤمنين، بل مع الكفار المشركين، بل المحاربين الذين استعملوا كل الوسائل لحربه وحرب المؤمنين.

إن القرآن الكريم كله لين وسلام..

إنه يعلمنا كيف نتعامل مع الناس.. مع جميع أصناف الناس حتى الظلمة منهم.. اسمع إليه، وهو يقول: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)﴾ [فصلت: 33 – 35]

إن هذه الآية الكريمة تعلمنا كيف نمارس السياسية.. إنها تعلمنا أننا إذا أحسنا إلى من أساء إلينا سنقوده إلى مصافاتنا ومحبتنا والحنو علينا، حتى يصير كأنه ولي لك حميم.

وقد طبق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته ذلك خير تطبيق، فحول أعداءه إلى أولياء، وخصومه إلى مناصرين.

طأطأ رأسه، فطمعت في أن يكون ما قرأته من القرآن الكريم قد أثر فيه، لكنه بعد أن فكر ودبر وقدر صاح: هل أنت أفضل أم اتحاد علماء المسلمين؟.. هل أنت أفضل أم العلامة القرضاوي؟ هل أنت أفضل أم كل العلماء الذين نرجع إليهم كل حين؟ هل أنت أفضل أم أولئك الذين يحفظون القرآن ويصلون التراويح به عن ظهر قلب؟

قلت: وما علاقة هذا بذاك؟ لقد قرأت لك من القرآن الكريم الذي تزعم أنه دستورك ما يدلك على كيفية التعامل مع المخالفين، بل مع الخصوم.

قال: لاشك أن في القرآن أيضا ما يدل على خلاف ما ذكرت.. وإلا كيف تبرر مواقف العلماء العاملين الذين ذكرت لك؟

قلت: ولكن من العلماء من هذه البلدة وغيرها من هم أكثر علما، وأكثر ورعا وزهدا، وهم مع المخالفين، وهم يرددون ما أردد، وينصحونكم بما أنصحكم به.

قال: دعني من أولئك المجرمين.. أولئك سيكونون أول من تسعر بهم الخنادق التي سنوقدها لأعدائنا.. ألا تعرف ما حصل للبوطي الضال المضل؟.. سنفعل بهم مثلما فعلنا به.. لن نخسر عليهم أكثر من فتوى يفتيها اتحاد علمائنا، أو بيان يصدرونه؟

قلت: لكن المسألة أخطر.. إن شعبا كاملا يتجهز لكم.. ألا ترى أنه من الصعب مواجهة شعب كامل؟

قال: لقد تمرن شعبنا على الخضوع للأقوى.. ألم يخضع قبل ذلك للفراعنة.. ثم خضع للماليك وللعثمانيين.. حتى وصل الأمر إلى الذي تعرف.

قلت: إن مطالب هؤلاء الناس بسيطة جدا.. وما دام لكم من القوة والسلطان والغلبة ما لكم، فلم لا تلينون لهم؟.. اقبلوا ما يدعونكم إليه.. وأعيدوا الاستفتاء.. فإن كانت لكم الغلبة برهنتم للمجتمع المحلي والدولي أنكم منتخبون بامتياز.. وصار لكم من الصلاحيات بعدها ما لا يخطر لكم على بال.

قال: وإن لم ننجح.. ماذا سيحصل؟

قلت: حينها تعودون إلى محالكم التي جئتم منها.. وهي محال محترمة.. ولن تفقدوا شيئا.. فقد يجرب الشعب غيركم.. ثم يعود إليكم.. بل قد تظفرون من احترامه ما يفوق كل الكراسي والنياشين.

إنكم ستبرهنون للعالم أنكم قوم زاهدون وورعون، وأنكم تحترمون إرادة شعوبكم.

طأطأ رأسه، فطمعت في أن يكون قد تخلى عن بعض كبريائه، لكنه رفعه بشدة، وقال: هل ترانا حمقى حتى نضحي بالشرعية بهذه السهولة؟

قلت: وما عساكم تفعلون، وأنتم تعلمون أن كل شيء بيد خصومكم.. فلينوا.. حتى لا تكسروا.

قال: لقد مضى عهد الكسر.. ومضى معه عهد السجون.. لن نسجن.. ولن نعتقل.. ولن يحصل شيء.. نحن الآن في فترة التمكين.. نحن الآن في فترة القوة التي لا تقهر.

بعد ذلك الحديث بعشرة أيام.. زرته في سجنه.. وقلت له: لا تحزن.. لا تزال الفرص أمامكم.. يمكنكم أن تتراجعوا وتلينوا وتخففوا غلواءكم..

نظر إلي بقسوة، وقال: لا.. لن نلين.. سوف ترى كيف يعلق هؤلاء الظلمة على المشانق.

قلت: إن لم ترحموا أنفسكم.. فارحموا أولئك العوام البسطاء الذين حولتم حياتهم إلى جحيم.

قال: كيف تريد لنا أن نسجن ويهنئون هم بالعيش.. لن يهنأ أحد بالعيش بعد الآن.. علينا وعلى أعدائنا.

لم أدر ما أقول له.. ولكن كانت المصائب تتوالي عليهم كل حين.. فمرة تصادر أموالهم.. ومرة يوضعون في خانة الإرهاب.. وهم لا يزالون في كبريائهم وغرورهم، وكل أمانيهم أن يخرب اقتصاد بلادهم، وتدمر مقدراتها.. ولو أتيح لهم أن يحضروا أمريكا والناتو وهتلر ونيرون ليبيد شعبهم لما ترددوا في ذلك لحظة واحدة.

لقد صار لقلوبهم من السواد والحقد ما أعمى بصرهم وبصيرتهم عن النظر في مستقبلهم ومستقبل أولئك البسطاء الذين غرروا بهم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *