الحجاج

تركنا يزيدا يرسل الويلات على نفسه، ولم نبتعد قليلا حتى سمعنا صوتا لا يقل عما قبله نكارة، إلا أن فيه سيما أصوات الخطباء من تمديد الصوت وتمطيطه، فسألت صاحبي عن مصدر الصوت، فقال: هذا الحجاج.
قلت: ذلك الخطيب الألمعي.. لقد خطب في أهل العراق خطبة سالت لها وديان البلاغة.
قال: وفاضت بها بحار الاستبداد..
قلت: كيف هذا.. لقد كان الحجاج يقتل، ويسرف في القتل.. ولكن الرعية قد تحتاج أحيانا إلى من يردعها.. لقد قال المؤرخون عنه:( كان يغضب غضب الملوك، وكان يتشبه بزياد بن أبيه، وكان زياد يتشبه بعمر)
قال: أراكم تعطون للظلمة الأغلال التي يقيدونكم بها.. ولا تكتفون بذلك، بل تعطونهم السياط التي تلهب ظهوركم..
قلت: عرفت نموذج يزيد، وتمثيله للحاكم المستبد الذي يأخذ الأمر من أهله، ثم يسلط عليهم سياطه، فمن يمثل الحجاج؟
قال: الحجاج هو سوط الحاكم الظالم المستبد..
قلت: صدقت في هذا.. لقد نقل المؤرخون عظم الولاء الذي كان يحمله الحجاج لبني أمية إلى درجة وصموه فيها بالذلة، وقد كتب مرة إلى عبد الملك بن مروان: إن خليفة الله في أرضه، أكرم من رسوله إليهم.
وكان يقول: ويحكم، أخليفة أحدكم في أهله أكرم عليه، أم رسوله إليهم؟ يشير بذلك إلى أن عبد الملك بن مروان، أكرم على الله من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وبلغه أن عبد الملك، عطس يوماً، فشمته أصحابه، فرد عليهم، ودعا لهم، فكتب إليه: (بلغني ما كان من عطاس أمير المؤمنين، ومن تشميت أصحابه له، ورده عليهم، فيا ليتني كنت معهم، فأفوز فوزاً عظيماً)
بينما نحن كذلك إذا بالحجاج يصيج بصوت قد امتلأ قبحا: ادن مني يا تلميذ السلام.
صحت رعبا: ما تريد مني، ألم يكف من قتلت من هذه الأمة حتى تريد أن تلحقني بهم؟
قال: ادن مني لأعرفك بنفسي.. ألست تبحث عن معادن الاستبداد.. لقد كنت أحدهم، بل سيدا من ساداتهم.. لقد جمعت كل البشاعة، وكل الدمامة،.. لقد كنت قاسي القلب، شرس الأخلاق، غليظ الطبع.. حاصرت مكة، وهدمت الكعبة، ورميتها بالمنجنيق، والنفط، والنار، وأبحت الحرم، وسفكت الدماء، وهتكت الأعراض، وقتلت في مدة ولايتي ألف ألف وستمائة ألف مسلم، ومات في سجوني ثمانية عشر ألف إنسان.
كنت لا أرجو عفو الله، ولا أتوقع خيره، وكأنه قد ضرب بيني وبين الرحمة والرأفة، بسور من فظاظة، وغلاظة، وقسوة.
أنتم تسمون التلذذ بالتعذيب سادية، كذلك كنت أنا.. وكذلك هم ذريتي الذي ورثوا أخلاقي وطباعي، لقد كنت أتفنن في ابتكار أنواع العذاب، وأتلذذ بمشاهدة ضحاياي عند تعذيبهم، بل كنت أعذب بعضهم، وأقتلهم بيدي.
لقد جيء لي بابن القرية، فأمرت به، فأمسكه رجال أربعة، حتى لا يستطيع حراكاً، ثم وضعت حربة في ثندوءته، ودفعتها، حتى خالطت جوفه، ثم خضخضها، وأخرجتها، فأتبعها دم أسود، لا زلت أذكر ما قلت حينها، لقد قلت: هكذا تشخب أوداج الإبل، وفحص ابن القرية برجله، وشخص ببصره، وجعلت أنظر إليه بمتعة لا تدانيها متعة.
وأمرت مرة بأحد أسراي، فشد عليه القصب الفارسي، ثم سل عنه، حتى شرح بدنه، ثم نضح بالخل والملح، حتى مات.
وجيء إلي بمحمد بن سعد بن أبي وقاص أسيراً، فظللت أضرب رأسه بعصا كانت في يدي، حتى أدميته، ثم أطمعته في أن أطلقه، وأطرقت ملياً، كأني أفكر، ثم قلت لرجل من أهل الشام: اضرب لي مفرق رأسه، فضربه، فمال نصفه ها هنا، ونصفه ها هنا([1]).
وحبست إبراهيم بن يزيد التيمي الزاهد، ومنعت عنه الطعام، ثم أرسلت عليه الكلاب تنهشه، حتى مات، ولما مات، رميت بجثته في الوكر، ولم يجرأ أحد أن يدفنه، حتى مزقته الكلاب.
وفي معركة الزاوية، إحدى معاركي مع ابن الأشعث، قتلت أحد عشر ألفاً، بالخديعة والمكر، فقد أمر منادي، فصاح: لا أمان لفلان بن فلان، وسمى رجالاً، فقال العامة: قد آمن الناس، وحضروا، فأمرت بهم فقتلوا ([2]).
سكت قليلا، وكأنه يستعيد ذكرياته، ثم قال: ولما دخلت البصرة، دخلت الجامع، وجلست على المنبر، وأمرت جندي بأخذ الأبواب، وقلت لهم: إذا رأيتموني وضعت عمامتي عن رأسي، فضعوا سيوفكم، ثم بدأت خطبتي، فحصبني الناس، فخلعت عمامتي، ووضعتها على ركبتي، فجعلت السيوف تبري الرقاب وسالت الدماء إلى أبواب المسجد، وإلى السكك([3]).
كان العذاب جزءا من متعي لا تعوضه أي متعة، حبست مرة مالك بن أسماء بن خارجة، وضيقت عليه كل أحواله، حتى كان يشاب له الماء الذي كان يشربه، بالرماد والملح.
ولكني لم أكن وحدي، لقد كانت لي بطانة تزين لي ما أنا فيه، بل تعينني عليه، قبضت على يزيد بن المهلب وعذبته، فكان يزيد يصبر على العذاب، فقيل لي: إنه إن رمي بنشابة، فثبت أصلها في ساقه، فلا يمسها شيء إلا صاح، فأمرت أن يعذب بذلك، وأن يدهق ساقه، فلما فعل به ذلك، صاح.
ثم سكت قليلا، ثم قال: إني – والله – لا أعلم على وجه الأرض خلقاً هو أجرأ على دم مني([4])، لقد كان لي في القتل وسفك الدماء غرائب لم يسمع بمثلها، أنا أحد أربعة في الإسلام، قتل كل واحد منهم أكثر من ألف ألف رجل.
وبعد وفاتي، خلفت في حبسي ثمانين ألفاً، حبسوا بغير جرم، منهم خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة.. كنت أحبس الرجال والنساء في موضع واحد، ولم يكن لحبسي ستر يستر الناس من الشمس في الصيف ولا من المطر والبرد في الشتاء ([5])، وربما كان الرجل يستتر بيده من الشمس، فيرميه حرسي بالحجارة، وكان أكثرهم مقرنين بالسلاسل، وكانوا يسقون الزعاف، ويطعمون الشعير المخلوط بالرماد، وكان المسجونون في سجني يقرنون بالسلاسل، فإذا قاموا، قاموا معاً، وإذا قعدوا قعدوا معاً.
وقد أحصي من قتلتهم، سوى من قتلوا في حروبي، فوجدوا مائة وعشرين ألفاً، ووجد في حبسي مائة ألف وأربعة عشر ألف رجل، وعشرون ألف امرأة، منهم عشرة آلاف امرأة مخدرة.
قلت: لم تذكر كل هذا عن نفسك؟.. أتراك تفتخر به؟
قال: بل أتعذب به.. إن هذه الذكريات المريرة التي تطاردني في هذه الوحدة والظلمة والرعب لا أجد لها متنفسا إلا مع من يزور هذه الأوكار التي جعلها الله عبرة للمعتبرين.
قلت: ولكنك مع ذلك أحسنت في أشياء كثيرة.. فلا تحزن..
قال: بعدا لك.. لو عاد الأمر إلي لعذبتك في سجوني بما تراني أعذب به.
قلت: كيف تقول هذا.. وأنا أثني عليك، وأحاول أن أرفع عنك بعض الذي أصابك من ألم.
قال: كف عنك ذلك.. فلم أكن أصلح لشيء.. ألم تقرأ عن سياستي المالية المخربة.
قلت: وما فعلت مع الأموال.. هل سجنتها هي الأخرى؟
قال: بل قتلتها.. وعذبتها.. وحرمت المسلمين من بركاتها.. لقد كانت السياسة التي اتبعتها خلال مدة حكمي من أهم الأسباب التي أدت إلى سقوط دولة بني مروان، وخربت العراق تخريباً تاماً.
قلت: فما فعلت؟
قال: لقد فرضت على أهل الإسلام الذين سكنوا الأمصار، ممن كان أصلهم من السواد، من أهل الذمة فأسلم، بالعراق، أن أردهم إلى قراهم ورساتيقهم، ووضعت الجزية على رقابهم على نحو ما كانت تؤخذ منهم على كفرهم([6]).
قلت: ويلك.. أتنفر الناس من الدين؟
قال: وما يهمني الدين، لقد كانت تهمني الأموال كما تهم سلاطينكم، لقد كتب عمالي إلي، بأن الخراج قد انكسر، وأن أهل الذمة قد أسلموا، ولحقوا بالأمصار، فأمرت بإخراج أهل القرى إلى قراهم، وأن تؤخذ منهم الجزية، على نحو ما كانت تؤخذ منهم وهم كفار([7]).
فاجتمعت إلى ابن الأشعث، أهل الكوفة، وأهل البصرة، والقراء، وأهل الثغور، والمسالح، وتضافروا على حربي، وكان من جملتهم كتيبة تضم حملة القرآن، وتسمى كتيبة القراء.
ولما ثار أهل العراق علي، واحتشدوا لحربي، استنجدت بعبد الملك، فأمدني بجند من أهل الشام، فأنزلتهم في بيوت أهل الكوفة، فأنا أول من أنزل الجند في بيوت الناس([8]).
ولما قتل ابن الأشعث، قلت: الآن فرغت لأهل السواد، فعمدت إلى رؤسائهم، وأهل بيوتاتهم من الدهاقين، فقتلتهم صبراً، وجعلت كلما قتلت من الدهاقين رجلاً، آخذ أمواله، وأضر بمن بقي منهم إضراراً شديداً، فخربت الأرض([9]).
وانبثقت في زمني بثوق، أغرقت الأراضي، فلم أعن بسدها، مضارة للدهاقين، لأني كنت أتهمهم بممالأة ابن الأشعث حين خرج علي.
ومما يدلك على سوء تدبيري أنه لما خرب السواد من جراء إفراطي في الظلم وفي سوء الجباية، تخيلت أن الانقطاع عن الزراعة، إنما كان لقلة الماشية التي تعين الفلاحين على حرث الأرض، فأصدرت أمرا بتحريم ذبح البقر، وقد قال الشاعر في حينها:
شكونا إليه خراب السواد |
فحرّم فينا لحوم
البقر | |
فكنّا كمن قال من قبلنا |
أريها السها وتريني القمر |
قلت: فما كان عاقبة هذه السياسة؟
قال: لقد كانت عاقبة هذه السياسة أن جباية سواد العراق، وكانت على عهد الخليفة عمر مائة ألف ألف وثمانية وعشرين ألف ألف درهم، نزلت في عهدي إلى ثمانية عشر ألف ألف درهم فقط، ثم ارتفعت في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى مائة ألف ألف وأربعة وعشرين ألف ألف درهم([10]).
لقد قال عمر بن عبد العزيز حين جيء له بهذه الثروة الطائلة التي عجزت عن مثلها: (لعن الله الحجاج، فإنه ما كان يصلح للدنيا، ولا للآخرة)([11])
قلت: ويلك يا حجاج.. ما أعظم شبهك بمن استبد من قومي.. لقد كانت أراضينا تدر علينا من الأغلال ما يشبعنا، ويشبع معنا أمما من الناس، فرحنا نتلاعب بها، فأمتناها، وأمتنا أنفسنا تبعا لها.
قال: كلهم مثلي.. ولكنهم لا يعلمون.. ولو طال بك المقام هنا، فسترانا جميعا مغلولين بأغلال واحدة.. فربك لا يفرق بين الحجاج، وأذناب الحجاج.
قلت: الويل لك يا حجاج.. ما فعلت بنفسك؟
قال: والويل الأكبر لمن ولاني.
قلت: لقد ولاك عبد الملك بن مراوان، وقد ذكرت عنه محاسن لم تذكر لك.
قال: لو لم يكن في سيئاته إلا أنا لكفاه ذلك.. لقد كان هو الذي سلطني على العراق، هو الملوم الأول على ذلك.
قلت: لعله لم يكن مطلعا على حقيقة تصرفاتك؟
قال: وكيف يلي أمر المسلمين إن لم يطلع على ما يفعله عمالهم.. لقد كان عبد الملك مطلعاً تمام الاطلاع على سياستي المخربة، وقد كتب إليه مرة يقول: (إن رأيك الذي يسول لك أن الناس عبيد العصا، هو الذي أخرج رجالات العرب إلى الوثوب عليك، وإذا أحرجت العامة بعنف السياسة، كانوا أوشك وثوباً عليك عند الفرصة، ثم لا يلتفتون إلى ضلال الداعي، ولا هداه، إذا رجوا بذلك إدراك الثأر منك، وقد ولي العراق قبلك ساسة، وهم يومئذ أحمى أنوفاً، وأقرب من عمياء الجاهلية، وكانوا عليهم أصلح منك عليهم)([12])
قلت: ومع ذلك لم يعزلك.
قال: كان في إمكانه أن يفعل ذلك.. ولكنه لم يفعل.. وليته فعل.. لقد سألني مرة عن نفسي، فذكرت له أني ( حقود، حسود، كنود) فقال لي: ما في إبليس شر من هذه الخلال ([13]).
قلت: واكتفى بذلك.
قال: بل فرح به.. بل كتب إلي مرة يقول 🙁 إنك عبد، طمت بك الأمور، فغلوت فيها، حتى عدوت طورك، وجاوزت قدرك، أنسيت حال آبائك في اللؤم، والدناءة في المروءة والخلق؟ فعليك لعنة الله من عبد أخفش العينين، أصك الرجلين، ممسوح الجاعرتين)([14])
ومما يدلك على علمه بي ورضاه عن تصرفاتي أنه لما وليت الحرمين حظي عنده إبراهيم بن محمد بن طلحة، فلما أردت الرجوع إلى الشام إلى عبد الملك بن مروان، وفد معي إبراهيم بن محمد بن طلحة وقلت: أتيتك برجل الحجاز في الشرف والأبوة والفضل والمروءة يا أمير المؤمنين، مع ما هو عليه من حسن الطاعة وجميل المناصحة، والله لم يكن في الحجاز له نظير، فبالله عليك يا أمير المؤمنين، إلا فعلت معه من الخير ما هو مستحقه؟ فقال عبد الملك: من هو يا أبا محمد؟ قال له: إبراهيم بن محمد بن طلحة، قال: يا أبا محمد لقد ذكرتنا بحق واجب ائذن له في الدخول.
فلما دخل على عبد الملك أمر بجلوسه في صدر المجلس ثم قال: إن أبا محمد الحجاج ذكر لنا ما نعرفه من كمال مروءتك وحسن نصيحتك، فلا تدع في صدرك حاجة إلا أعلمتنا بها حتى نقضيها لك ولا نضيع شكر أبي محمد الحجاج فيك.
قال إبراهيم: إن الحاجة التي نبغي بها وجه الله تعالى والتقرب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القيامة نصيحة أمير المؤمنين. قال: قل! قال: لا أقولها وبيني وبينك ثالث، قال: ولا صديقك الحجاج؟ قال: لا، قال: قم، فقام خجلاً وهو لا يعرف أين تطأ رجله، فلما مضى قال له: هات نصيحتك، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، وليت الحجاج الحرمين الشريفين وفيهما من تعرف من أولاد المهاجرين والأنصار وصحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع ما تعلمه من ظلمه وفسقه وجوره وبعده من الحق وقربه إلى الباطل، يسومهم الخسف ويطؤهم بالعسف، فليت شعري أي جواب أعددته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا سألك الله في عرصات القيامة عن ذلك؟ فبالله عليك يا أمير المؤمنين، إلا عزلته وادخرتها قربة إلى الله تعالى.
فقال عبد الملك: لقد ظن الحجاج الخير بغير أهله، ثم قال: يا إبراهيم! قم.
فقمت على أنحس حال وخرجت من المجلس، وقد اسودت الدنيا في وجهي فتبعني حاجبه وقبض على زندي وجلس بي في الدهليز، ثم دعا عبد الملك بالحجاج. فدخل فمكث طويلاً فما شككت إلا أنهما يتشاوران في قتلي. ثم دعاني فقمت ودخلت فوافاني الحجاج خارجاً فعانقني، وقال: جزاك الله عني خيراً في هذه النصيحة، أما والله لئن عشت لأرفعن قدرك.
وتكرني وخرج ودخلت وأنا أقول: يهزأ بي، وهو معذور، فدخلت على عبد الملك فأجلسني مجلسي الأول ثم قال لي: قد علمت صدقك وقد عزلته عن الحرمين ووليته العراق وأعلمته أنك استقللت له الحجاز واستدعيت له العراق، وأنك تطلب له الزيادة في الأعمال وهو يظن أنك السبب في توليته العراق، وقد تهلل وجهه فرحاً لذلك، فسر معه أينما توجه يولك خيراً، ولا تقطع نصيحتك عنا.
قلت: لقد أحسن.. فقد أخرجك من الحرم.
قال: لقد عزلني عن الحرم ليوليني العراق.. وأي فرق بين العراق والحرم.. أليست الرعية كلها واحدة؟
ولذلك كانت الرعية تشركنا في دعواتها علينا، وقد لقيت أعرابياً لا يعرفني، فسألته قائلا: كيف سيرة أميركم الحجاج؟ فقال: غشوم ظلوم، لا حياه الله، ولا بياه، فقلت له: لو شكوتموه إلى أمير المؤمنين، فقال الأعرابي: هو أظلم منه وأغشم، عليه لعنة الله ([15]).
قلت: أعجب من جرأتك وجرأة من ولوك.. كيف سمحتم لأنفسكم أن تتولوا أمر الأمة، وفيها تلك الحفنة المباركة من أهل البيت الطاهرين، ومن الصحابة المجتبين.
قال: لا أكتمك.. لقد كنت عظيم الحقد على النبي وعلى أصحابه، وعلى آل البيت.. لقد كان ولائي واحدا للخليفة.
قلت: لقد نبهني حديثك هذا إلى ناحية مهمة أرى بعض قومي يفعلها، ولم أكن أعلم لها سببا.
قال: تقصد ثناءهم علينا وعلى أمثالنا.
قلت: أجل.. فقد كتبوا الكتب الكثيرة يثنون عليكم.
قال: هم لا يثنون علينا، بل يعطون الذرائع للمستبدين ليملكوا رقابكم.. أما الصالحون، فقد كانوا يبالغون في ذمنا، لأن حرصهم على جمال الإسلام وعلى حقائق الإسلام أعظم من حرصهم على التاريخ، وعلى أهل التاريخ.
قلت: وما قال فيك السلف؟
قال: لقد قال عمر بن عبد العزيز: لعن الله الحجاج، فإنه ما كان يصلح للدنيا ولا للآخرة، وقال في 🙁 لو جاءت كل أمة بمنافقيها، وجئنا بالحجاج، لفضلناهم)، وقيل للشعبي: أكان الحجاج مؤمناً؟ قال 🙁 نعم، بالطاغوت، كافراً بالله)
وقيل لعبد الله بن المبارك: أبو مسلم كان خيراً أو الحجاج؟ فقال: لا أقول إن أبا مسلم كان خيراً من أحد، ولكن الحجاج كان شراً منه.
وكان الحسن البصري، يسميني: فاسق ثقيف، وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر: كان الحجاج ينقض عرى الإسلام، عروة، عروة.
***
بينما نحن كذلك إذ تنزلت مرآة من السماء مثل المرائي السابقة، وظهر فيها ما ظهر فيها من القصور والأنهار .. وأنواع الثمار والأزهار.. وظهر فيها شباب ممتلئين قوة وصحة وعافية وجمالا.
سألت صاحبي عنهم، فقال لي: هؤلاء هم الصخور التي تكسرت عليها سفينة الحجاج.. وهم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (ألا لا يمنعن رجلا مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه.. ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)([16])
وهم الذين عاشوا يحيون قوله تعالى:{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله تعالى فيه مقال، فلا يقول : يا رب خشيت الناس، فيقول : فاياي كنت أحق أن تخشى)([17])
قلت: لا أحسب أن هناك من استطاع أن يقف في وجه الحجاج.
قال: وهل نسيت سعيد بن جبير؟
قلت: أجل.. لقد ذكرتني بحديثه .. لقد كان حديثه شيقا جميلا.. فهلا حدثتني عنه.
قال: وكيف أحدثك عنه، والحجاج هنا..
قلت: وهل يمكن للحجاج في هذه المآسي أن يتذكر الحادثة؟
قال: وهل يمكن أن ينساها، وهو يعيشها في كل لحظة.. ويتألم لها أعظم الألم.. إنه في كل حين يظهر فيه هؤلاء الشباب المنورين بنور الإيمان يستعيد ذكرياته مع سعيد، ويخاطبه وهو في غاية الألم والأسف والندم.
فجأة سمعت الحجاج بصوته المزعج يردد بينه وبين نفسه كالمجنون: ويلي منك يا سعيد بن جبير.. ألا تكف عن تعذيبي؟.. لقد قضيت حياتي كلها آلاما بسببك.. بل ظلت صورتك تعذبني إلى آخر لحظة من حياتي.
أذكر جيدا حين أتاني زبانيتي بك، فسألتك عن اسمك، فقلت لي: سعيد بن جبير.
فرددت عليك باستكبار واستعلاء: بل أنت شقي بن كسير.
فابتسمت ابتسامة قاتلة، وقلت: بل كانت أمي أعلم باسمي منك.
حينها انتفخت أوداجي، وصحت غاضبا: شقيت أمك، وشقيت أنت.
فرددت علي بكل برودة: الغيب يعلمه غيرك.
حينها تصورت أنني أهنت أعظم إهانة، فصحت فيك: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى.
لكنك لم تأبه لتهديدي، وقلت: لوعلمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلها.
رحت بعدها أمتحنك بما كنت أمتحن به من أشاء تعذيبهم فسألتك:: ما قولك في محمد؟
فأجبتني: نبي الرحمة، وإمام الهدى.
فسألتك عن خصمي اللدود الإمام علي، وقلت: فما قولك في «علي) أهو في الجنة أم هو في النار؟
فأجبتني: لو دخلتها، وعرفت من فيها عرفت أهلها، فما سؤالك عن غيب حفظ الحجاب؟!
فسألتك: فما قولك في الخلفاء؟
فأجبتني: لست عليهم بوكيل كل امرئ بما كسب رهين.
فسألتك: أشتمهم أم أمدحهم؟
فأجبتني: لا أقول ما لا أعلم إنما استحفظت أمر نفسي.
فسألتك: فلأيهم أعجب إليك؟
فأجبتني: أرضاهم لخالقي.
فسألتك: فأيهم أرضى للخالق؟
فأجبتني: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم.
فسألتك: فأي رجل أنا يوم القيامة؟
فأجبتني: أنا أهون على الله من أن يطلعني على الغيب.
فسألتك: أبيت أن تصدقني؟
فأجبتني: بل لم أرد أن أكذبك.
عندها نفذ صبري منك، فصحت فيك: ويلك يا سعيد.
فرددت بثبات: الويل لمن زحزح عن الجنة، وأدخل النار.
حينها عبثت بعصا كانت في يدي، وقلت ساخراً: اختر لنفسك يا سعيد أي قتلة تريد أن أقتلك!
فرددت علي بكل برودة: اختر أنت لنفسك، فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.
أردت أن أذلك وأهينك وأعبث بكرامتك، فقلت: أفتريد أن أعفو عنك؟
لكنك فطنت لمرادي، ورحت تحطم كبريائي، وتقول: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر.
حينها ضقت ذرعا منك، ومن سهامك التي كنت تصوبها إلى قلبي، فصحت في زبانيتي: اذهبوا به فاقتلوه.
لكنك لم تأبه، بل ابتسمت .. بل رحت تضحك ساخرا مني، فسألتك عن سر ضحكتك، فأجبتني: عجبت من جرأتك على الله، وحلم الله عليك.
حينها أمرت بالنطع فبسط، وطلبت أن تقتل أمامي، فرحت تقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين.
فصحت في زبانيتي: اصرفوه عن القبلة.
فصرفوك عنها، لكنك قلت بكل برودة: فأينما تولوا فثم وجه الله.
فصرخ في زبانيتي: كبوه على وجهه.
فرحت تبتسم، وتقول: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى.
حينها طلبت منهم أن يذبحوك بكل برودة، فرحت تقول: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله خذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة.. اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي.
وذبحوك من الوريد الى الوريد .. وأنت تذكر الله.
هل تحسب أنني ارتحت بعدك.. كلا.. فقد أمضيت ما بقي من أيام معدودة من عمري، وأنا أتعذب، وأصيح كل حين: مالي ولسعيد بن جبير؟
وكنت تأتيني في الكوابيس تأخذ بمجامع ثوبي، وتقول: يا عدو الله! فيم قتلتني؟
وهكذا
بقيت تلازمني إلى يومي هذا.. فالويل لي منك..
([1]) الطبري 6 / 379 والإمامة والسياسة 2 / 41 و 42.
([2]) ابن الأثير 4 / 469..
([3]) الإمامة والسياسة 2 / 25 و 26.
([4]) العقد الفريد 2 / 176.
([5]) مروج الذهب 2 / 128.
([6]) وفيات الأعيان 6 / 311.
([7]) ابن الأثير 4 / 464 و 5 / 101.
([8]) ابن الأثير 4 / 482.
([9]) أدب الكتاب للصولي 2 / 220..
([10]) أحسن التقاسيم للمقدسي 133.
([11]) معجم البلدان 3 / 178.
([12]) العقد الفريد 5 / 45.
([13]) نهاية الأرب 3 / 267.
([14]) ابن الأثير 4 / 386.
([15]) الملح والنوادر للحصري 15.
([16]) رواه أحمد والترمذي والحاكم.. وغيرهم.
([17]) رواه أحمد وابن ماجة.