الحافلة الثانية

بعد أن استفرغ السائق كل جهوده لإرضاء ربيع وجد نفسه كمن يريد أن يحرث في اليباب، أو يشرب من السراب.. التفت إليه، وقال: أظن أنك لن تجد عندي ما تريد البحث عنه.. أنا أعرف جيدا ما تبحث عنه.. وقد عشت فترة من عمري أنهل من المنابع التي تنهل منها.. لكني بعد أن عاد إلي عقلي، وتداركتني رحمة ربي تركتها جميعا، وعدت إلى المورد العذب الذي أنزله الله على عباده لأستقي منه، وأدع ما ينفرني منه أو يبعدني عنه.
قال ربيع: ما تقول يا رجل.. أتتهمني في عقلي.. أم تحسب أنك هديت إلى الحكمة التي ضللت عنها.. ويلك لعلك ممن قال الله تعالى فيهم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 175، 176]، أو كمثل من شبههم بالحمير، فقال: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5]
قال السائق: إن الله تعالى لم يحدد في هذه الآية لا أنا ولا أنت.. ولا العلماء الذين أرتضيهم، ولا العلماء الذين ترتضيهم.. وإن من التألي على الله أن أزعم أن تلك الآيات تنطبق علي أو عليك.
إن الله تعالى بعدله ورحمته ترك لنا الفرصة لنحدد بكامل حريتنا ما نراه من مواقف.. لأننا نحاسب يوم القيامة على مواقفنا كما نحاسب على أعمالنا.
قال ربيع متهكما: أراك بارعا في الوعظ.. فهلا تركت هذه المهنة وذهبت إلى المساجد لتخطب فيها.. لا ينقصك سوى أن ترسل لحيتك، وترتدي ما أرتديه من ثياب.
قال السائق: أنا أحترم وظيفتي، وأحترم قدراتي، ولا أتجرأ على منصب لا أرى نفسي أهلا له.. أنا مجرد سائق.. وفقني الله لأشغل أوقات سفري بالتتلمذ على مجالس العلم..
قاطعه ربيع قائلا: بل مجالس الجهل.. فلو أنك بدلها وضعت أفلاما إباحية.. أو أغان خليعة لكان أجدى لك عند ربك.. لأنك ستموت حينها فاسقا.. أما الآن فلا أظن إلا أنك ستموت كافرا، فمن يستمع لمن تستمع إليه من الكفرة لن يطمع في نجاة.. ولن يشم يوم القيامة ريح الجنة..
قال السائق: لا بأس يا بني.. قل ما شئت.. وأنا أعذرك.. فلست أنت الذي تتحدث.. إن الذي يتحدث بدلك هم أولئك الذين أتيحت لهم كل الكراسي والمجالس والمنابر والمناصب ليحولوا الأمة جميعا إلى قطعان ذئاب ينهش بعضها لحم بعض، ويسفك بعضها دماء بعض.
قال ربيع: لا أرى هذه الجرأة منك على لحوم العلماء المسمومة إلا قائدا لك إلى جهنم، وبئس المصير..
ثم أشار إلي أن ننزل من الحافلة، وهو يقول: وأنا وأخي هذا أكرم على الله من أن نضيع وقتنا معك.. فلا أظن حافلتكم هذه ستصل بكم إلى بر الأمان.. فمن تجرأ على العلماء سيلقى وبال جرأته في الدنيا قبل الآخرة.
نزلنا من الحافلة.. وبقينا في المحطة مدة يسيرة وجدنا بعدها سائقا جلفا غليظا لا يختلف عن صاحبي.. اقتربنا منه، وسألناه عن نوع الأشرطة التي يضعها في الحافلة، فأجابنا بكل جفاء: أنا لا أعرف إلا الفرقة الناجية.. فداها أبي وأمي.. فنحن نبدأ بها، وننتهي بها، فمن أعجبه كان معنا، ومن لم يعجبه فإلى جهنم وبئس المصير.
امتلأ صاحبي سرورا، وقال: أرأيت كيف أخرجنا الله من ظلمات الجهلة.. وزج بنا في أنوار العلماء المحققين؟.. لقد قلت لك دوما: سر معي مغمض العينين.. فالله تعالى يحيطنا بعنايته ما دمنا في رحاب الفرقة الناجية.
ركبنا الحافلة، وسرعان ما امتلأت بالركاب..