الجهاد.. والجريمة

لست أدري العملية التي يحول بها المجرمون الكلمات المقدسة الممتلئة بعطر الإيمان والسلام والمحبة إلى كلمات مدنسة بروائح القمامة والدماء والأشلاء.
فكلمة (الجهاد) المقدسة التي نص عليها القرآن الكريم، ودعا إليها، وبين أنها ركن من أركان الحياة التي لا تقوم إلا بها، تحول في الأفواه والأيادي النجسة إلى مرتع للجريمة، ووكر للإرهاب، وأداة للذبح والقتل واللصوصية، حتى مج الناس المصطلح القرآني، وتصوروا أن القرآن الكريم يدعو لما يدعو إليه هؤلاء الشياطين.
مع أن الأمر مختلف تماما، فالقرآن الكريم عندما يدعو إليه أو بالأحرى يأذن فيه، يجعله وسيلة لقمع الظالمين الذين لم يقنعوا بما آتاهم الله فراحوا يتسلطون على غيرهم، كما قال تعالى::﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)﴾(الحج: 39-40)
فالآية الكريمة تقرر أن الغاية من الجهاد هي ردع الظالمين المجرمين، وحماية المستضعفين من أي دين كانوا.
ويذكر القرآن الكريم أن ما مورس من جهاد في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعدو هذا الغرض، فهو يوضح أن المسلمين كانوا مستهدفين من الأعداء في كل حين، وأنه لولا ما آتاهم الله من قوة وسلاح لأجهز عليهم الأعداء، قال تعالى::﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾(البقرة:217)
وقال:﴿ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾(النساء: 102)
وقال:﴿ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ﴾(الممتحنة: 2)
وقال:﴿ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾(التوبة: 8)
ولهذا لا نجد في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي بدء بالعدوان على قرية أو مدينة أو أي جهة من الجهات، بل كان السلام هو الشعار الذي حمله رسول الهداية ورحمة الله للعالمين.
لكن هذه المعاني السامية تحولت في أيدي المجرمين إلى معاني ممقوتة ممتلئة بالعفن.. ذلك أن نفوسهم المريضة لا تقبل السلام، ولا تستطيع أن تشم أريج عطر السلام.
لست كاذبا ولا مدعيا فيما أقول.. بل أقول – للأسف – الحقيقة التي يصرحون بها في كتبهم وخطبهم وأفعالهم..
واليوم سأنقل لكم نص خطاب وحوار جرى بين زعيم من زعمائهم يدعونه (أبا قتادة الفلسطيني) مع قطيع من قطعانه لا طاقة له بالتفكير، ولا بالحوار.
دخلت إليهم متسترا، كان الجميع يحملون سكاكين تفوح منها رائحة الدماء، وكانت ثيابهم ممتلئة بالدماء، وكانت ألسنتهم كألسنة الأسود والفهود والنمور، ولولا أني مكلف من جهة رسمية بتغطية ذلك اللقاء لما أقدمت عليه.
خرج أبو قتادة إلى قطيع أسوده، بزئيره المجلجل، ورمى رأسا بشريا بيده بكل قوة، ثم قال([1]): لقد شممت من بعضكم أنه أخذته بعض الرأفة على الأعناق التي يقطعها.. ويلكم إياكم أن تقعوا في الكفر.. فالمشفق على الكافر كافر.. والذي تأخذه الرحمة بالكافر محارب لربه مفارق لدينه.
تدبروا القرآن جيدا، واقرأوا قوله تعالى: ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾ [البقرة: 251]، انظروا: لما قتل داود جالوت اجتباه الله تعالى ([2])..
ثم التفت إليهم بقوة، وقال: اعلموا أنكم خير أهل الأرض، وأن الله يباهي بكم ملائكته، وأنكم الأنوار التي أنزلها الله في العالم المملوء بالردة والظلمات.. وأنتم سيف الله في أرضه الذي يقطع به دابر الكفرة والملاحدة والعلمانيين والليبراليين والمعتزلة والأشاعرة والرافضة والصوفية.. وكل من سار خلفهم ومعهم.
أنتم أيها الأسود البواسل الرجال الذين اختارهم الله لجنته وحوره وقصوره وأنهاره..
واعلموا أن لكم بكل بيت تهدمونه قصرا من قصور الجنة.. وبكل رأس تقطعونه مائة حورية من حور الجنان لو أطلت بخمارها على أهل الأرض لذهل أهل الأرض بالنظر إلى خمارها عن كل شيء.
أيها الأسود البواسل لا تترددوا.. ولا تأخذكم في الله لومة لومة.. واعلموا أن الحق معكم وبكم.. وأنه لولاكم لما عبد الله في أرضه.. ولولاكم لضاع الحق بين أيدي علماء السوء وحكام السوء وشعوب السوء.
قام إليه شبل من الأشبال لم ينبت عذاره بعد، وقال: لقد شوقتنا إلى جنان ربنا وما أودع فيها من الحور العين.. فهلا دللتنا على علج من العلوج لنقطع رأسه، ونهدم بيته، ونجعله أثرا بعد عين؟
زأر أبو قتادة بقوة، وقال: وما حاجتكم للعلوج.. كل من عداكم حلال الدم.. حلال المال.. حلال العرض.. فالكل كفرة.. بل الكافر المرتد أبشع من الكافر الأصلي.
قال الشبل: أترى أن هؤلاء الذين يسكنون أرض الإسلام من طنجة إلى جاكرتا كفرة؟
قال أبو قتادة: إياك أن تشك في كفرهم.. فتكون مثلهم..
قال الشبل: ولكنهم يوحدون الله ويعبدونه.
قال أبو قتادة: بل هم يشركون به أبشع الشرك.. فهم بين أمرين: بين مشركي القبور ومشركي القصور([3])، إن المشركين (في زماننا هذا قد تميزوا بنوع من الشرك، وهذا الشرك هو الذي دخلت فيه كثير من الطوائف المنتسبة للإسلام وهو شرك القضاء والتحاكم، فإن الكثير من المنتسبة للإسلام لم يلحق شرك الغرب من جهة أنه صار نصرانياً أو يهودياً، وهو-بلا شك-شرك وكفر، ولكن ما هو الشرك الذي دخلت فيه الطوائف هذه الأيام؟ إنه بلا شك شرك الدساتير والقوانين الوثنية)([4])
ولذلك فإن كل من وضع تلك القوانين والدساتير كافر.. وكل من تحاكم إليها كافر.. وكل من رضي بها كافر.. وكل من لم ينهض للإنكار عليها كافر.. وكل من نهض ولم يقاتلها كافر([5]).. ولذلك لا يوجد مؤمن في الأرض إلا أنتم أو من هم على شاكلتكم من إخواننا من القاعدة والنصرة وبوكو حرام وشباب الإسلام.
نهض شبل آخر، وقال: لقد ذكر لنا بعضهم أن (التكفير حكم في المطلق.. بمعنى يجوز لك أن تقول: من فعل هذا الفعل أو قال هذا القول أو اعتقد هذا الاعتقاد :كافر، لكن إن وقع هذا الفعل أو القول أو الاعتقاد من هذا الشخص-أي: من شخص معين-فلا يجوز لك أن تقول فلان كافر)([6])
غضب أبو قتادة، وقال: ويل لك.. وويل له.. هذا خطأ وشذوذ عن منهج السلف (إن الإرهاب الذي يمارسه مشايخ السلطان، ثم مشايخ الإرجاء، فعوام المسلمين الذين ينعقون كالببغاوات هي التي تجعل الكثير يمارس عملية دفن الرأس في الرمل مخافة الاتهام بعقيدة الخوارج أو الغلو والتطرف، حتى صارت أعظم المكفرات يوجد لها عند هؤلاء تخريجاً أنها لا تستلزم كفر المعين)([7])
نهض شبل آخر غاضبا، وقال: دعونا يا قوم من الجدال في البديهيات، فمتى شك عاقل في كفر أولئك المرتدين حتى نعود إلى الحديث عنهم كل حين..
هات وحدثنا عن المال والغنائم.. ألسنا مجاهدين؟ أو ليس من حق المجاهدين أن يغنموا؟ أو ليس يحتاج الجهاد إلى موارد مالية.. فما العمل لتحصيلها؟
ابتسم أبو قتادة، وقال: أبشر.. وأبشروا جميعا.. فكل ما ترونه من أموال الدنيا وخزائنها من حقكم أنتم وحدكم.. احصلوا عليها بكل طريقة.. فهي مباحة لكم ولا تسمعوا لمن يصرفكم عن ذلك.. فإنه (مما يؤسف له أن عامة التنظيمات والجماعات الإسلامية، حتى الجهادية منها عندما يفكرون بالمورد المالي، فإنهم لا يخرجون عن تفكير أهل الباطل أو أصحاب الدنيا، فهم إما أن يبحثوا عن متبرع محسن، أو يفرغوا بعض أفرادهم للتجارة والكسب، وهم بهذا جعلوا لأعدائهم عليهم سبيلاً؛ لأن هذه المنافذ لا يتقنها المسلم وخاصة المجاهد، وعلى الخصوص في هذا الزمان، حيث سيطر الكفر على هذه المنافذ، واحتاط منها حتى لا يؤتى من قبلها…إياكم ثم إياكم أن تخجلوا من الحق الذي تعلمونه وإياكم ثم إياكم أن تضعفوا أمام إرجاف الناس عليكم: سيسميكم الناس لصوصاً كما سيسمون جهادكم قتلاً وتخريباً، فلو أطعتموهم سيكون للكافرين عليكم قدرة وسبيلا. . وأنا أستغرب من أولئك الذين يدعون الناس للجهاد والقتال في سبيل الله ثم يطلبون منهم أن يكتسبوا عيشهم من الوظيفة، وهي عبودية ورق القرن العشرين كما سماها العقاد أو يطلبون منهم أن يكتسبوا عيشهم بالتجارة التي ستأخذ جلّ وعامة وقته)([8])
كبر الجميع بعد كلماته هذه، وسال لعاب كثير.. واختلط اللعاب بالدماء التي تفوح من سكاكينهم وثيابهم.. كان المنظر بشعا جدا لم أطق تحمله.. فأسرعت خطاي أهرب من ذلك الكابوس.. وأثناء هربي كنت أسمع صيحات أبي قتادة تصخ في أذني وكأنها قنابل نووية، كان يقول في وسط تكبير أصحابه: (أيها المسلمون لا بديل عن النار، ولا بديل عن السلاح، ولا بديل عن الدم)([9])
(إن المسلمين قوم يتقربون إلى الله بذبح أعداء الله، فالذبح سجيتهم)([10])
(طريق الجهاد: هو طريق الدم والخطف والسجن)([11])
بقيت بعدها مريضا مدة، وكنت أتحسس من كلمة جهاد إلى
أن عدت وقرأت القرآن الكريم واغتسلت به من ذلك الكابوس الثقيل، وعلمت حينها سر
قوله صلى الله عليه وآله وسلم
: (أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُنَافِقٌ عَلِيمُ اللِّسَانِ يُجَادِلُ
بِالْقُرْآنِ)([12])،
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم
: (مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ)([13])،
وأكبر المحارم التي نص عليها القرآن الكريم حرمة الدماء.
([1]) النصوص التي أنقلها هنا بين قوسين هي من كتاب (الجهاد والاجتهاد- تأملات في المنهج ) لعمر بن محمود أبو عمر، المشهور بأبي قتادة الفلسطيني، ط. الأولى 1419هـ 1999م الناشر: دار البيارق بالأردن.. مع بعض التصرف بحسب ما يقتضيه المقام، من غير تدخل في الأفكار المطروحة.
([2]) ذكر هذا في كتابه في ص(153)، وعقب عليه بقوله: (فهل عقل مشايخنا هذا: قتل، قتل، قتل…؟ فليت مشايخنا يعيدون لنا تفسير وتجلية كلمة (قتل)
([3]) ذكرأبو قتادة في الكتاب المذكور في ص(26) ذكر (أن الشرك الواقع في هذه الأيام له صورتان : شرك القبور، وشرك القصور)
([4]) النص بين قوسين من كتاب أبي قتادة ص(25)
([5]) أشار أبو قتادة إلى هذا بقوله في ص(178) : (معركتنا مع المرتدين هي معركة قد فرغنا من أصولها الشرعية، حيث تبين لنا بكل وضوح حكم الله تعالى في الحكام وطوائفهم، وأما من بقي من الناس يرتكس في جهله لعدم فهم التوحيد أو لعدم علمه بنواقضه! فلا نملك له إلا الدعاء، أما من فهم حكم الله في هؤلاء أنهم كفار مرتدون، وأنه يجب قتالهم فقد خرج من دائرة الجهل، إذا تم هذا، فعلى الجميع حينئذ أن يريحنا من آرائه الرائعة الوردية، إن الدور الآن بعد الفراغ من معرفة حكم الله تعالى فيه أن نسمع لخبراء ومستشارين وقادة من نوع جديد …هم أهل الخبرة والمعرفة في العسكرية والقتال والحرب)
([6]) ذكر هذا أبو قتادة منكرا عليه في ص(84) من كتابه مع رميه للمخالف بالجهل والشذوذ والخطأ، وقد قدم لذلك بقوله: (وقد ظن من لا خبرة له أن التكفير حكم في المطلق، ولا يجوز فيه التعيين.. إلخ.
([7]) ذكر هذا في (ص(76) من كتابه.
([8]) ذكر هذا في كتابه في ص (42-43).
([9])ذكر هذا في كتابه في ص(168)
([10])ذكر هذا في كتابه في ص(133).
([11])ذكر هذا في كتابه في ص(159).
([12]) مسند أحمد تحقيق: شاكر (1/ 227)
([13])مصنف ابن أبي شيبة (6/ 146)