التكاثر

التكاثر

التكاثر طبيعة من طبائع الإنسان التي غذيت بها فطرته، وأمدت بها جبلته، وهي دليل كمال، ومعراج وصول، ومسلك تحقيق.

 وهي في نفس الوقت مصيدة النفوس الشرهة والأفواه الجائعة والأجساد الظمآنة.

من أجلها بنيت الدور التي لم تسكن، وجمعت الأموال التي لم تنفق، وطرزت الثياب التي لم تلبس، ومن أجلها امتلأت القمامات بأصناف الطعام، وشغل الخلق الكثير بخدمة فرد لا يشبع.

ومن أجلها امتلأت الأرض بؤسا، وتجرع أهلها الشقاء بكل أصنافه، ورمي الطعام في البحر وتراشق الخلق بأصناف الفواكه والحلويات ليموت ملايين الآخرين جوعا.

إذا حلت حمياها في قلوب الملوك واستحلوا لذتها وفرحوا بنشوتها جندوا الجنود وملئوا الأرض حربا والديار خرابا.

وإن حلت في عقول المترفين خربوا الأكواخ وشردوا أهلها ليبنوا بدلها قصورا لا يسكنونها.

وإن حلت في عقول الحمقى تحولوا لصوصا..

وإن حلت في نفوس العامة تحولوا غوغاء..

وإن حلت في جيوب الأغنياء شحوا على أنفسهم وعيالهم لتكثر كنوزهم.

والقرآن الكريم ذم الكثرة ومدحها، ودعا إليها ونهى عنها، وجعلها من نعم الله على عباده، وجعلها من نقمه عليهم، ونهى عن الفرح بها وأمر بحمد الله عليها.

وكل ذلك في تناسق عجيب لا تناقض فيه ولا اختلاف فإنه:{ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(فصلت:42)

وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم بمشتقاته المختلفة مائة وستة وسبعين مرة، وأكثر ما ورد فيه من هذا اللفظ جاء في مواضع ذم.

ومن العجيب أن يرتبط اسم سورتين من السور القصار باسم الكثرة، وأن تذم وتتوعد إحداهما على الكثرة المذمومة، وأن تبشر الثانية بالكثرة المحمودة، وأن ينهى في الأولى عن التيه بتلك الكثرة، وأن يؤمر في الثانية بحمدها، هما على طرفي نقيض في كل شيء حتى في البناء الصرفي الذي تكون منه كلا اسميهما.

أما السورة الأولى فسميت بسورة التكاثر وهو ـ كما يعرفه البيضاوي ـ التباهي بالكثرة، والتباهي بالكثرة لا يعني الكثرة، لأن التباهي أمر نسبي في كل ما يرتبط به لخضوعه لاعتبارات المتباهى به والمتباهى عليه وزمن التباهي وظروف المتباهين واعتبارات أخرى كثيرة لا يمكن حصرها.

بينما سميت الثانية بسورة الكوثر وهو فوعل من الكثرة وصف به للمبالغة في الكثرة، مثل النوفل من النفل، والجوهر من الجهر،والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو القدر أو الخطر كوثراً([1])

وانطلاقا من اختلاف الاسم يبدأ اختلاف المضمون، وسنحاول أن نجري مقارنة بين كلا الكثرتين الواردة في السورتين لنفرح بالمحمودة ونحمد الله عليها، ولا نغتر بالمذمومة ونعوذ بالله منها.

في سورة التكاثر يبدأ الإخبار الدال على الذم بقوله تعالى:{ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ} (التكاثر:1) والإلهاء هو الاشتغال بما لا يعني، وهو من عمل النفوس الضعيفة التي تقع عاجزة أمام متطلبات رغباتها، فلذلك تقبل إقبالا كليا عليها وفي حرص شديد، وقد تترك أثناء ذلك التلهي وذلك الحرص مصالحها العاجلة والآجلة، وقد لا تلتفت إلى النقائص الكثيرة للأشياء التي تشتغل بعدها وإحصائها والمباهاة بها عن النظر في قيمتها وجدواها.

بينما تبدأ سورة الكوثر بضمير المتكلم المؤكد بـ (إنا)،وهو ضمير يعود على الله تعالى، فالكثرة التي تتحدث عنها هذه السورة كثرة ربانية لا كثرة نفسية، وكل ما هو رباني في منتهى الجمال والحسن والكمال، وليس في الإمكان وجود ما هو أحسن منه، لأن ذلك يقتضي موجدا آخر، وهو مستحيل.

وهي جملة إسمية مؤكدة لتفيد ثبوت معناها ودوامه واستمراره، بخلاف استهلال سورة التكاثر بالجملة الفعلية المرتبطة بالزمن الماضي، فالإلهاء مهما امتد زمنه سيفنى وسيتحول إلى حدث ماض لا تغني فرحته، ولا تذكر نشوته.

وبعد الاستهلال يأتي موضوع التكاثر والكوثر، وفي القرآن الكريم حديث مستفيض عن كليهما:

وأول تصحيح لمفهوم الكثرة نجده في قوله تعالى:{ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(المائدة:100)

فهذه الآية تضع الميزان الصحيح لتقييم الأشياء، فليس هو بالعدد وإنما هو بالنوع، وليس هو بالكم ولكنه بالكيف، فالخبيث ـ وهو في لسان الشرع كل نجس ومنكر وقبيح ـ لا يمكن أن يتساوى مع الطيب، ولو كثر الخبيث، بل إن كثرته لا تزيده إلا قبحا ودمامة وخبثا.

والإعجاب الناشئ من كثرة الخبيث إعجاب نفسي ينقلب تعجبا بأول نظر عقلي يزن الأشياء بموازينها الصحيحة، ولهذا جاء الخطاب في الآية لأولي الألباب أصحاب الحقائق لا القشور.

وقد بين القرآن الكريم علة انهزام الصحابة أول غزوة حنين، وهو الإعجاب بالكثرة والفرح بها والتلهي عن أسباب النصر الحقيقية، قال تعالى:{ لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}(التوبة:25)

ولهذا لم ينتصر في هذه المعركة كما تروي كتب السيرة إلا القلة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثباتهم، ليجني غيرهم ثمرات انتصارهم، ويعلموا أن الله تعالى هو الناصر لعباده لا القلة أو الكثرة.

وتلك الثلة الإيمانية التي لا تنظر أثناء المعارك الكثيرة، معارك الحياة والحضارة والحرب، هي التي انتصر معها طالوت عندما تحول الجمع الكثير من بني إسرائيل الذين طلبوا القتال إلى رغوة صابون نفختها الرياح، قال تعالى:{ لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (البقرة:25)

فقد سار معه في أول المعركة ـ كما يذكر المفسرون ـ ثمانون ألفا، ولم يثبت إلا الذين قالوا تلك الكلمة وهم على عدة أصحاب بدر ثلاثمائة وبضعة عشر، وكان من حكمة طالوت ودلائل بسطة علمه أنه لم يعنف أحدا ليخرج معه، بل جعل خروج الناس معه تطوعا وفداء، ثم نقى من جيشه كل جراثيم الفساد التي قد تنخر قوته ووحدته.

والقرآن الكريم يكاد يختصر تلك الثلة أيضا في داود عليه السلام عندما قتل جالوت، وارتبط بقتله النصر، لأن النصر في المعارك قد يكون بفتح باب، وقد يكون بصيحة، وقد يكون بخفقة ريح، وقد يكون بقطع رأس كرأس جالوت.

وفي معارك الحياة والحضارة قد تختصر الأمة من الأمم والقرية من القرى في مخترع أو مكتشف أو فيلسوف أو رباني لتنفخ في الغوغاء الرياح.

وقد جعل الله تعالى من آياته أن ينتصر المؤمنون في أول لقاء لهم مع المشركين في غزوة بدر مع كونهم الثلة القليلة الحافية الجائعة العارية المستضعفة، قال تعالى:{ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَار} (آل عمران:13)

وهذه الآية، ككل آية في القرآن الكريم، ليس الخطاب بها خاصا باليهود وإلا فرغت من محتواها ودخلت كتب التاريخ، بل الخطاب بها عام لجميع المؤمنين، وفي كل العصور، ليدركوا أن الله تعالى هو الفاعل لا القلة أو الكثرة.

وهذا الإدراك الذي ينزع من قلوبهم الزهو بكل أشكاله هو الذي يثبتهم في كل المعارك، لأن الأقدام المزهوة المختالة لا تستقر على أراضي المعارك الحربية والعلمية والحضارية …

ولهذا اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم في جلسة له مع الصحابة لدراسة أعمق مشاكل الحضارة، وتبصر أخطر الأزمات التي ستمر بها الأمة، وإعطاء أنجع الحلول، الكثرة غثاء كغثاء السيل، قد لا تضر ولكنها لا تنفع، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها،فقال قائل:ومن قلة نحن يومئذ، قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل:يا رسول الله وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت)([2])

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يربي الصحابة على معرفة الرجال بأقدارهم لا بتكاثرهم وتعاظمهم، وأن القلة النافعة خير من الكثرة الضارة: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لرجل عنده جالس:ما رأيك في هذا؟، فقال:رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع،فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:ما رأيك في هذا؟ فقال:يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(هذا خير من ملء الأرض مثل هذا)([3])

ولهذا فإن القرآن الكريم يعتبر الثلة الصالحة السابقة بالخيرات في كل الأمم ثلة قليلة، وما عداها دهماء وغوغاء وعامة وظلمة وفسقة ومفسدون في الأرض، وليس ذلك من الأرستقراطية، وإنما هو إخبار بالواقع الديني والخلقي للبشر، لأن البشر كالمعادن والمعادن بعد حرقها تكون ندرتها بقدر جودتها، وقد يمن الجبل العظيم بحفنة من الذهب وبأطنان من الحجارة والشوائب، قال تعالى مخبرا عن مواقف الخلق يوم القيامة عندما يصنفون بحسب نوعياتهم وجواهرهم وحقائقهم، فهم بين السابقين وهم الثلة النادرة التي أخبر تعالى عن قلتها بقوله:{ ثُلَّةٌ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنْ الْآخِرِينَ }(الواقعة:14)

بينما قال عن أهل اليمين وهم عامة المؤمنين:{ ثُلَّةٌ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنْ الْآخِرِينَ} (الواقعة:13، 14) وسكت عن ذكر باقي الخلق من أهل الشمال لأن عددهم يفوق الحصر ولا قيمة لعدهم، وجميعهم لا يساوي واحدا من المؤمنين.

وأخبر تعالى عن قلة عباده الشاكرين، وهم الذين عرجوا بأرواحهم إلى أرقى معارج الكمال،قال تعالى:{ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ}(سبأ:13)

بينما جاءت النصوص الكثيرة تصف غيرهم بالكثرة، قال تعالى:{ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}(المائدة:32)، وقال تعالى:{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}(يونس:36)، وقال تعالى:{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}(البقرة:243)، وقال تعالى:{ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}(يوسف:103)، وقال تعالى:{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُون}(يوسف:106)

بل إن الآيات لا تستثني رجال الدين والقائمين عليه من هذه السنة الاجتماعية، سنة فساد الأكثرية، وذلك مما ينزع توهم أرستقراطية المؤمنين بسبب قلة عددهم، لأن المؤمنين ليسوا فقط رجال الدين والقائمين عليه، قال تعالى عن رجال الدين من اليهود والنصارى ـ ولا مانع من استفادة المسلمين من هذا النص وتعبيره عن بعض الواقع المزري الذي قد يمثله بعض القائمين على الدين ـ:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }(التوبة: 34)، وقال تعالى:{ وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (المائدة:62)

فالكثرة إذن على ضوء هذه النصوص وغيرها كثرة لا قيمة لها، وإنما تحمد إن كانت كثرة صالحة لأنها حينذاك لا تزيدها الكثرة إلا جمالا، ولعله لأجل ذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم:(تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم)([4])، وقد دل هذا الحديث على الكثرة النوعية لا الكثرة الكمية، لأن المباهاة لا تكون بالمتردية والنطيحة وما أكل السبع، ولهذا جعل من صفات المرأة الولود كونها ودودا، وتوفر هذه الصفة فيها توفر للتربية الصالحة والتنشئة الطيبة، وكثرة كل شخص بهذا الاعتبار بحسب طاقته التربوية لا بحسب طاقته المادية فقط.

ولأجل هذا أيضا من الله على المؤمنين بأن كثرهم، قال تعالى:{ وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}(الأعراف:86)، وقال تعالى:{ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}(النحل:6)

هذا هو بعض أحاديث القرآن الكريم عن الكثرة والقلة البشرية، وما يحمد منها وما يذم، وهو ما يشير إليه قوله تعالى:{ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ}(التكاثر:1)، وما يشير إليه أكثر سبب نزولها، قال ابن عباس:(نزلت في حيين من قريش: بني عبد مناف، وبني سهم تعادوا وتكاثروا بالسادة والأشراف، فقال كل حي منهم نحن أكثر سيدا، وأعز عزيزا، وأعظم نفرا، وأكثر عائذا، فكثر بنو عبد مناف سهما، ثم تكاثروا بالأموات، فكثرتهم سهم)([5])

ووردت آراء أخرى في أسماء القبائل المتفاخرة، والنص يحتمل جميعها، ويحتمل معها شعوبا كثيرة لا تزال تتفاخر بلاعبيها ومطربيها ومصفقيها.

ولكن الكلمة تحتمل مع ذلك معاني أخرى من الكثرة المذمومة، وهي التي فسرها صلى الله عليه وآله وسلم بقوله بعد أن قرا الآية بهذا الخطاب الموجه لأعماق النفس:(يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس)([6])

وفسرها بقوله الآخر الذي يعبر عن الحرص البشري الموضوع في غير محله، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(لو أن لابن آدم واديا من ذهب، لأحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)([7])

ولهذا اعتبر القرآن الكريم التكاثر من مكونات الحياة الدنيا التي يمتزج فيها اللهو واللعب والزينة كما تمتزج النباتات المختلفة في حقل واحد ينزل عليه المطر فيحيله أخضر يانعا تبتهج له النفس ويسر له القلب، ولكن سرعان ما تطل عليه الشمس بحرارتها الحارقة فتحيله أصفر شاحبا ثم هشيما حصيدا، وحينذاك تكون القيمة لنوع الحب والحصاد، فمنه ما ينتفع به الإنسان ومنه ما ينتفع به الحيوان، ومنه ما تنتفع به النار.

ولذلك انتقل المشهد القرآني مباشرة من الحقل إلى الآخرة ليبين أنواع الجزاء التي لا تختلف كثيرا عن جزاء الحصاد، قال تعالى:{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور}(الحديد:20)

ولعل سر اعتبار الكثرة من مكونات الحياة الدنيا بمفهومها الساذج البسيط هو ذلك الغرور الذي ينتاب المستكثر حين يرى نفسه محصنا بأموال لا تفنيها القرون، وبعدد لا تقتحمه الجيوش، وحين يرى أنه قد ضمن دنياه ومستقبله، وقد يستبد به الغرور فيتصور أن الحظ الذي حالفه في الدنيا سيحالفه في الآخرة، أو أن الله الذي أنعم عليه في الدنيا لن يملك إلا أن ينعم عليه في الآخرة، أو أن الأموال التي جمعها بكل الطرق ستكون رشوة صالحة لخزنة النار فلا يعذبونه، قال تعالى عن أمثال هؤلاء السذج:{ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}(سبأ:35)

ولهذا تفتح لأمثال هؤلاء المغرورين خزائن الأرض بعد أن وصدت في وجوههم أبواب السماء، وما إن تشرق في أفواههم ابتسامة النصر على السماء ونشوة الفرح بالأشياء حتى يؤخذوا بغتة وهم في حالة التباس يمسحون عن أعينهم وهم لا يصدقون ما يرون، قال تعالى:{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (الأنعام:44)

ولا تنافي بين الكثرة التي يذمها الله تعالى لاشتغال القلوب بها عنه وتلهيها بها عن حقيقتها وبين الكثرة التي هي نعمة من نعمه على خلقه إذا أقاموا الدين وعرفوا كيف يتعاملون مع كتبهم، حينذاك لا تفتح لهم أبواب الأرض فقط، بل تفتح لهم معها أبواب السماء، فيأكلون من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكن الخلق مع هذا الكوثر الرباني يأبون إلا أن تغلق في وجوههم أبواب السماء، وكأن اللذة لا تتحقق وأبواب السماء مفتوحة، قال تعالى:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}(المائدة:66)

وهذا الكوثر الرباني هو الذي أعطاه الله تعالى لنبيه وكل من يسير على قدمه في مقابل عدم تلهيهم بالتكاثر البشري الفاني الزائل.

وقد ذكر المفسرون عن هذا الكوثر الرباني أقوالا كثيرة منها أنه نهر في الجنة، وقيل هو حوض النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الموقف، وقيل هو النبوة، وقيل هو القرآن، وقيل هو تفسير القرآن وتخفيف الشرائع، وقيل هو كثرة الأصحاب والأمة، وقيل هو الإيثار، وقيل هو الإسلام، وقيل رفعة الذكر، وقيل نور القلب، وقيل الشفاعة، وقيل المعجزات، وقيل إجابة الدعوة، وقيل لا إله إلا الله، وقيل الفقه في الدين، وقيل الصلوات الخمس.

والمفسرون بمحاولاتهم حصر الكوثر في أحد هذه الأشياء كمن يحاول عد النعم التي تفضل الله بها على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهي نعم لا تعد ولا تحصى وليس في طاقة البشر عد النعم المرتبطة بأدناهم، فكيف بعد النعم المتعلقة بخير خلق الله وأشرفهم وأقربهم إلى الله؟

والله تعالى يراعي الفطرة البشرية في كل نعيم يتفضل به عليهم، ومادام البشر لا يشبعون ولا يرتوون، بل يطلبون دائما المزيد، فالله تعالى وعد عباده الصالحين برحمته ذلك المزيد غير المحدود في الدنيا والآخرة، قال تعالى عن كثرة الدنيا: { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (الفتح:19)، وقال عن كثرة الآخرة: { لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} (الزخرف:73)

وكما أن الكثرة في الجنة، كذلك الكثرة في النار، كثرة العدد، وكثرة الصياح، لأنها تتبع الطبيعة البشرية حيثما حلت، يقول تعالى لأهل النار يوم القيامة:{ لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}(الفرقان:14)

وفي النار يكتشفون أن كل النعيم الذي تكاثروا به واشتغلوا وتلهوا لم يكن إلا متاعا قليلا كالمتاع الضروري الذي يحمله المسافر معه ويجتهد في تقليله ما أطاق، قال تعالى:{ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(النحل:117)، ويرون أن زمن ذلك المتاع كان أقل منه: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}(المؤمنون:114)

ولا يدركون ذلك إلا بعد معرفة السعة الإلهية التي لا تحدها الأعداد، ولا تحصيها الأرقام، وما غفلوا عن ذلك إلا لأنهم لم يكونوا يذكرون الله إلا قليلا، ذكرا لا ينبع من قلوبهم ولا تتأثر به حياتهم، قال تعالى عن المنافقين الغافلين:{ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (النساء:142)

بينما كان المؤمنون كما تنص عليهم الأوصاف القرآنية الكثيرة ذكورهم وإناثهم من { الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}(الأحزاب:35)، وكان ذكر لربهم يشغلهم عن النوم: {كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون}(الذاريات:17)، فلا ينامون من الليل إلا قليلا: {قُمْ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}(المزمل:2)

وهم المستثنون من كل عذاب وفي كل محل: { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء:227) لأن الفوز الأبدي لا يكون إلا {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب:21)

وهذا الذكر هو الذي يصحبهم في سائر شؤون حياتهم، وبسببه كانوا يكثرون من الخير لأن سعة الله تعوض عليهم وخزائن الله لا تنفذ، قال تعالى:{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(البقرة:245)

ولكن كل هذه المعارف والسلوك النابع منها لا يكون إلا بالإكثار من ذكر الله حتى ينحاز المؤمن إلى حزب الله، ولهذا جاء الأمر الرباني مخصوصا بالإكثار من ذكر الله دون سائر الأعمال، قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}(الأحزاب:41)

وأول ما يلقيه ذكر الله في القلب هو الحكمة التي يعرف بها صاحبها حقائق الأشياء ويميز الخبيث من الطيب، ويعرف اسم الله الواسع، قال تعالى:{ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}(البقرة:269)

والحكمة الربانية التي يعلمها الذكر في هذا المجال هو أنه لا تنال كثرة الخير إلا بكثرة العمل، ولا تنال كثرة الأذى والشر إلا بالاشتغال بالتكاثر، فالتكاثر والكوثر هما المحددان لمصير الإنسان وحقيقته ونوع الجزاء الذي يلحقه، لأن كل إنسان لا يكثر إلا ما يتناسب مع طبعه وجبلته ووظيفته، والله برحمته لا يعطي كل شيء إلا خلقه، ولا يزن لكل أحد إلا بسعته:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(يونس:44)

ولذلك فإن أصح الأقوال في تفسير اللمم المستثنى من كبائر الإثم والفواحش الوارد في قوله تعالى في صفات عباده المحسنين:{ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى}(النجم:32)

وما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه ; يقال: ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه، ويقال: ما فعلته إلا لمما وإلماما; أي الحين بعد الحين، ومنه إلمام الخيال، قال الأعشى:

ألم خيال من قتيلة بعدما    وهى حبلها من حبلنا فتصرما

لأن كل إنسان بطبيعته الطينية المستعدة للخطأ قد يلم بالذنب بعد الذنب، والله بسعة مغفرته يتجاوز عنه، ولكنه إن انحاز إلى الذنب واشتغل به وأكثر منه وأعرض عن الله بسببه، حاق به ما حاق بالمكثرين والمتكاثرين من الطبع على القلوب وإغلاق أبواب السماء وفتح أبواب الأرض.


([1])  فتح القدير:5/715 

([2])  رواه أبو داود (4297)

([3])  رواه البخاري 7/9 (5091) وفي 8/118 (6447)

([4])  رواه أحمد 3/158 (12640) وفي 3/245 (13604).

([5])  تفسير القرطبي (20/ 168)

([6])  رواه أحمد 4/24 (16414) وفي 4/24 (16415)

([7])  رواه أحمد 1/370 (3501) والبخاري 8/115 (6436) وفي (6437) ومسلم 3/100 (2382)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *