التفجير.. والإصلاح

التفجير.. والإصلاح

كلفت هذه المرة بمهمة خطيرة جدا، وهي أن أذهب إلى المصنع الذي تقوم فيه الجماعات الإرهابية بغسل أدمغة القطعان التي تنتمي إليها، والتي تهيأ بعد ذلك لإرسالها كقنابل بشرية لتدمير الأخضر واليابس، وتشويه معالم الحياة التي أمرنا الله أن نعمرها ونزينها ونكون خلفاءه العادلين فيها.

رأيت في السراديب التي مررت عليها الكثير من المراكز.. ومن العناوين التي لا أزال أذكرها: (القول المحتد على من لم يكفر المرتد)([1]).. و(الزناد في وجوب الاعداد)([2]).. و(تنبيه الأنام لما في التفرقة من آثام وأهمية التوحد في دولة الاسلام)([3]).. و(بيعة الأمصار للإمام المختار)([4])

وكان السرداب الذي استوقفني، ورأيت أن فيه ضالتي هو (مركز التوعية الجهادية)، دخلت إليه بالهيئة التي كنت وصفتها لكم، والتي لا يمكن أن أذكر لكم تفاصيلها هنا.

عندما دخلت رأيت رجلا ضخما أمام سبورة، يوضح بحماسة الأفكار التي يطرحها على القطيع الذي كان يحيط به، وكان – على حسب ما يبدو من ملامحهم – من جنسيات مختلفة، ولست أدري كيف يخاطبون جميعا بلغة واحدة، مع تعدد أعراقهم ولغاتهم..

كان إلى جنب كل واحد منهم سلاحه الذي لا يفارقه، وحزامه الناسف، وعدته وعتاده من أنواع الأسلحة المختلفة، والتي يعتبرونها المهر الذي يتقدمون به للحور العين، والثمن الذي يشترون به قصور الجنة.

كان الحديث فيما يبدو عن التفجيرات، وكان الرد لا على العلمانيين والليبراليين والماركسيين، وإنما على العلماء الذين يخالفونهم، والذين يعتبرونهم هدفا مشروعا، بل من أهم الأهداف التي يحلمون بالوصول إليها.

كان العنوان المكتوب على السبورة هو (التفجير والإصلاح)، وقد حاول المتحدث بكل قوة أن يبرهن للقطيع المحيط به أن التفجير هو الوسيلة الوحيدة للإصلاح، وأنه لا يمكن أن يتحقق إصلاح في الدنيا إلا بالتفجير.

سأنقل لكم ما حفظت من كلماته بدقة، وسأنقل لكم معها ما جرى من حوار بينه وبين من يفهمه من القطيع المحيط به([5]).

قال المتحدث بلغته التي لا تختلف كثيرا عن لغة المتفجرات التي يحملونها: هل سمعتم – أيها الأبطال المجاهدون – بآخر نكتة أخرجها لنا أزلام السلطان من علماء الدنيا.. لقد ذكروا أن ما نقوم به من تفجيرات ليس طريقا للإصلاح.. (عجباً للعقول كيف تفكر؟ هل حقاً يعي هؤلاء ما يقولون؟ أم يدركون شناعة ما به ينطقون؟)

انظروا إلى تهافتهم وخفة عقولهم.. إن ما يطرحونه ( كلمة براقة؛ لكنها غير عادلة، فالتفجير أسلوب، وحكمه حكم غايته وثمرته ونتائجه التي تختلف اختلافا يصل إلى حد التضاد..  فليس من العدل ولا من البيان ولا من الحق أن يعمم هذا الوصف على هذا الفعل المجرد، ولا أن تُتناول مسائل الدين بمثل هذا الإجمال الذي يزيد الغموض ويمهد للخلاف ويستنفد الأوقات والجهود في حوارات ومناقشات تدور في حلقات مفرغة)([6])

انتبهوا إلي.. وسأشرح لكم خطوة خطوة تهافت هذا القول وضحالته، ومخالفته للشريعة، بل مخالفته للعقل والإنسانية وكل القيم.

أجيبوني: أليس أعظم ما يمكن أن يحدثه التفجير هو القتل.. أو بعبارة أخرى أكثر صراحة: ألا ترون أن النتيجة البسيطة والتلقائية للتفجير هي القتل([7]

سكت الجميع، ولم يردوا، فقام أحدهم، وقال: هو يخاطبكم، فلم لا تجيبون؟

قالوا: وبم نجيب؟

قال: قولوا: بلى.

ردد الجميع بصوت واحد يشبه صوت الببغاء: بلى.

قال: طبعا أنتم تعلمون أن الموت هو النهاية الحتمية للإنسان.. يعني حتى لو لم نقتله نحن بمتفجراتنا.. فسوف يموت لا محالة.. وفوق ذلك لن يعدو الأجل الذي حدد له.. أي أننا عندما نقوم بالتفجير ويموت النساء والأطفال في الحقيقة لم نقتلهم نحن، إنما قتلهم الأجل الذي كتب لهم، والذي لا يمكن أن يتجاوزوه بحال من الأحوال.

إن لم تؤمنوا بهذا فلستم مسلمين أصلا، فمن بديهيات الإسلام أن الإنسان لا يعدو الأجل الذي كتب له، لقد ذكر القرآن الكريم ذلك، فقال: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجمعة: 8]

هل وعيتم هذا؟

كان القوم مستلقين على أسلحتهم وذخائرهم، فلم يردوا عليه، فقال: لا بأس.. سكوتكم دليل على إيمانكم العميق.. فأنتم تعون هذا جيدا وتحفظونه.. والحمد لله جميع مراكزنا التربوية والتوعوية تلقنكم أمثال هذه المعاني الإيمانية.

والآن اسمحوا لي أن أنتقل بكم إلى الخطوة الثالثة في الدليل، والتي تقصم ظهر شبههم المتهافتة.

اسمعوني جيدا.. لقد نص جميع علمائنا على أن (القتل منه ما هو بحق، ومنه ما هو بغير حق).. فقتل النفس المسلمة من أمثالكم ذنبٌ عظيمٌ لا يغفر بحال من الأحوال، فأنتم أولياء الله في أرضه.. من حاربكم حارب الله.. ومن ناصركم ناصر الله.. أنتم الرجال الذين أعدهم الله لجنته، بل لفردوسه الأعلى.. وقتلكم هو الجريمة التي لا تغتفر.

أما (النفس الكافرة فهي مهدرة الدم لا تعصم إلا بسبب شرعي كأمانٍ أو عهدٍ أو ذمةٍ ونحو ذلك)، والنفس الكافرة – كما تعرفون – ليست سوى كل من ترون من البشر غيركم، لأنهم إما كفرة أو مؤيدون للكفرة، أو مكثرون لسواد الكفرة.

ولذلك (فالتفجير الذي هو بحق لا شك أنه من أعظم طرق الإصلاح)([8])  ذلك أنه يقلل عدد المفسدين في الأرض.. ويعجل لجهنم بأهلها الذين اشتاقت إليهم، كما قال تعالى عنها: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ [ق: 30]

هذا ما نص عليه القرآن..  ونحن الذين نرفع راية القرآن نسعى بكل جهدنا لنملأ جهنم بأهلها الذين لا يرضى الله عنا إلا إذا ذبحناهم وفجرناهم وفعلنا فيهم الأفاعيل.

كبر أحد الحضور، فكبر الجميع لتكبيره.

انتفخ المعلم بتكبيره إلى أن كاد ينفجر فيهم، ولما عاد إليه عقله، قال: هل سمعتم هذه الأدلة القوية.. هذا هو العلم.. وهذا هو البحث العلمي.. (أما اختراع كلماتٍ مجملة، وعباراتٍ منمقة، فلا يزيد الأمر إلا غموضاً، وكان الأولى بدعاة الحوار معنا أن يكونوا أكثر وضوحاً في النقاش وأن يعتمدوا لغة العلم ويتخذوا من الكتاب والسنة وفهم الصحابة مرجعيةً حاكمةً بدلاً من استخفاف عقول الشباب بآراء الرجال التي تصاغ صياغة الشعارات الانتخابية لتسري في الناس سريان النار في الهشيم وتتكرر مرةً بعد أخرى لتصبح على مرِّ الأيام نصاً مقدساً ومُسَلَّمةً لا يجرؤ أحد على تجاوزها لاسيما مع الضعف العلمي في الوسط الصحوي)

قال ذلك، ثم رفع عقيرته يصيح بحماسة ([9]) :  (إن التفجير من الجهاد ؛ والجهاد باب من أبواب الجنة… إن التفجير غيظ الكافرين، وردع المعتدين، وشفاء صدور المؤمنين..)

بقي يردد ذلك إلى أن أصابتهم نشوة عظيمة جعلت أحدهم يضغط من غير شعور على حزامه الناسف ليقع تفجير ضخم طهر به المكان جميعا.

حينها فقط اقتنعت أن التفجير يمكن أن يكون سبيلا من سبل الإصلاح.. بل قد يكون هو السبيل الأوحد للإصلاح.


([1])هذا عنوان رسالة لأبي عبد الرحمن الأثري، قد نعرض لها في مقال لاحق.

([2])وهو في أصله كتاب لأحد الإرهابين يدعى عبدالقادر عبدالعزيز، اختصره أبو عبد الرحمن الأثري.

([3]) وهو عنوان لرسالة  لإرهابي اسمه أبو سعد العاملي.

([4]) وهو كتاب من تأليف اللجنة الشرعية لآنصار الشريعة في تونس.

([5])  النصوص الموضوعة بين قوسين من رسالة من تأليف أبي عبد الله السعدي، وهو عضو في الجماعات الإرهابية المسلحة، بعنوان: (أباطيل وأسمار)، من نشر (صوت الجهاد) بموقع التوحيد والجهاد.. والغرض من الرسالة كما يذكر هو مناقشة المخالفين حول ما يسمونه جهادا..

([6])أباطيل وأسمار، ص2.

([7]) نص العبارة في الكتاب: (التفجير أعظم ما فيه القتل)

([8]) بين قوسين من الكتاب، ص3.

([9]) العبارات المنقولة هنا من كلامه في كتابه مع بعض التصرف اليسير.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *