البربهاري.. والرعب الوهابي

في اليوم الثاني عشر من زيارة صاحبي الوهابي، وقبل أن أمر عليه كما أمر كل صباح، شغلت حاسوبي لأطل على بريدي الإلكتروني، فوجدت رسالة من شخص لا أعرفه يسمي نفسه باسم غريب هو (البربهاري)([1]) يدعوني فيها إلى الانضمام إلى جماعته التي تريد أن تحيي من أمر الأمة ما أماتته الأيام.
ويشهد الله أني مع ما أملكه من القوة والأناة ضعفت أمام تلك الرسالة، فقد هددني فيها بما لا طاقة لي بمواجهته، بل لا طاقة لأحد بمواجهته، ثم ختمها بنفس ما بدأها به قائلا: (إن لعنة الله وغضبه وعقابه الشديد يحل على كل من قرأ هذه الرسالة، ولم يرسلها إلى كل من يعرفه من أصدقائه أو غيرهم، ومن قصر في ذلك أو تخاذل فيه أو سخر منه أو استهزأ به، فهو كالمستهزئ بالقرآن سواء بسواء.. ومن استهزأ بالقرآن فهو في نار جهنم خالدا مخلدا)
لم أجد ما أفعل أمام هذا الموقف المحرج المرعب، غير أن أسرع بالتخلص منها بإرسالها إلى كل من أعرف لأضمن أن لا يصيبني ذلك الوعيد الذي صبه على كل من فرط في رسالته، لكني ما إن كتبت أول عنوان أعرفه حتى لاحت لي صورة صاحبه، وهو يتألم ألمي ويحزن حزني، فكففت عنه، لأكتب عنوانا آخر، فتذكرت أنه مريض ضعيف قد يقضي عليه ما أرسله، فأكون سببا في قتله، فتركته إلى عنوان آخر، فتذكرت أنه صاحبه ضعيف الدين، وأن هذه الرسالة لن تقضي عليه هو وإنما تقضي على البقية الهزيلة التي يملكها من الدين.
بعد أن مررت على كل عنوان من العناوين التي أحتفظ بها لم أجد أحدا يصلح لهذه الرسالة، فطبعتها، ثم قلت في نفسي: إن أولى الناس بها هو صاحبي الوهابي، فلا شك أنها ستسعده، وأنه سيستبدل الوهابية بالبربهارية.
ذهبت إليه مسرعا، فوجدت بيتي قد عاد إلى التاريخ من جديد، وكل ما رأيته في اليوم السابق قد عاد، وعاد معه رجل كث اللحية، على وجهه ترتسم كل ألوان القسوة والشدة، وعلى رأسه قبعة حمراء كقبعة الأزهريين، ولكن الحمرة فيها أشبه بحمرة الدماء منها بحمرة الأزهار، وقد شبهته برجل لا يزال بيننا.. يظهر كثيرا في القنوات الفضائية.. قد زاد في الغباوة والحمق عن كل أقرانه ينطبق عليه تمام قوله تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) (سورة القلم)
بمجرد أن دخلت أمسكني من تلابيبي، وقال: لا شك أنك الشيطان، أو من إخوان الشياطين يا نجس يا خبيث يا معتوه.. أقسم بالله لأوقفنك عند حدك، أو لأضعنك مع آبائك وأمهاتك وأهل بلدك تحت نعلي الطاهرة هذه..
كان الرجل ينطق كما تنطق المدافع، ويقلقل كل الحروف لا يستثني منها أحدا.. وكان مع كل قلقلة يزرع ألغاما في صدري تضيف إلى الرعب الذي أصابني من الرسالة رعبا جديدا..
لم أملك إلا أن أسلم الرسالة إليه، وأنا مشدوه لا أعرف ما أقول..
فتح الرسالة، وقرأها، ثم ربت على كاتفي، وقال: أحسنت.. أحسنت.. لم أكن أتصور أنك من جماعتي.. اغفرها لي.. وإلا فإني أقسم بالله أن الله سيصيبك بعذاب شديد دونه كل عذاب.
قلت مبادرا: غفرت لك.. غفرت لك..فلا تعذبني.
لكمني بشدة، وقال: أيها المشرك ماذا تقول؟ هل أنا إله حتى أغفر.. وهل أنا إله حتى أعذب.. لاشك أنك قبوري.. فالقبوريون وحدهم من يجعلون الله كخلقه.. أقسم بالله إن كنت منهم فإن دمك حلال.. وزوجتك طالق.. ولن تحلم أبدا بأن تدفن بعد قتلك في مقابر المسلمين.. بل سترمى كما ترمى الجيف في المزابل.. وفوق ذلك عذاب شديد يصب على كل جزء منك.
لم أدر ما أقول، فقد امتلأت رعبا من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي.. لكني تمالكت نفسي، وقلت لها: ما دامت مقتولا لا محالة.. ومعذبا لا محالة.. فعلام الرعب، فلأمت رجلا خير من أن أموت كما تموت البهائم.
شجعتني هذه المقالة فدفعت الرجل بكل ما أوتيت من قوة، وقد تعجبت إذ أني بمجرد أن دفعته تلاشى وتلاشى معه كل ما كان في بيتي من تاريخ وجغرافيا، بل عاد بيتي إلى ما كان عليه، وعاد معه صاحبي الوهابي الذي نظر إلي مبتسما، وقال: هكذا ينبغي أن تدفع هؤلاء الحمقى والمغفلين.
قلت: لم أدفعه بقوة كبيرة.. فقد كنت ممتلئا بالضعف.
قال: لو أنك نفخت عليه لزال، ولو بصقت عليه لغرق.
قلت: أهو بهذا الضعف؟
قال: أجل.. هو كالشيطان.. نعم هو مرعب.. لكنه ضعيف جدا تكفي الإرادة والعزيمة لقهره والتغلب عليه.
قلت: لكنه هددني بجهنم.
قال: ولو أنك ركنت إليه لجرك إليها.. فلا تخلف من جهنم التي يهدد بها فليست ناره سوى الجنة، وليست جنته سوى النار.. ألا تعرف حديث الدجال؟
قلت: بلى.. فقد ورد في بعض الروايات إشارة إلى هذا.
قال: فهكذا جنة هؤلاء ونارهم.. ألا ترى أنهم يرسلون الشباب الغر لينسف نفسه ويدمر الحياة ويعدونه بالجنة مقابل ذلك؟
قلت: بلى.. وللأسف أرى شبابا في عز الشباب يستسلمون لهم.
قال: لا يستسلم لهم إلا جبان لا يعرف ربه.. فالله هو رب الجنة والنار.. هو رب الإسلام والكفر.. وهو رب كل شيء ومليكه، وأعظم شرك أن تخاف من الخلق إن هددوك بجهنم، فجهنم كالجنة لا يملكها إلا صاحبها سبحانه وتعالى.
قلت: لكأني بك تشير بهذا إلى شيء لم أفهمه.
قال: أشير إلى الوهابية.. وإلى البربهاري..
قاطعته قائلا: ذكرتني بالرسالة التي أرسلها إلي..
ابتسم، وقال: لقد تلاشت كما تلاشى.
قلت: من؟
قال: الرسالة ومرسلها.
قلت: لم أفهم.
قال: لقد وردت إلى بريدك الالكتروني رسالة تهديد من البربهاري، وجئت بها إلي، فلاقاك البربهاري نفسه، وملأك رعبا إلا أنك استطعت أن تتخلص منه.
قلت: إن ما تذكره عجيب.. فلم يطلع على تلك الرسالة غيري.. ثم هل كان البربهاري مرسل الرسالة هو من كنت أتحدث إليه؟
قال: أجل.. لقد كان خياله وروحه وحقيقته هي التي كنت تتحدث إليها، وكانت روحه التي تقمصها الوهابية هي من أرسلت لك الرسالة.. إن الرعب هو الوسيلة التي يستخدمها الوهابيون ليكثروا سوادهم.. إنهم بصكوك الغفران والحرمان التي يتصورون أنهم يملكونها يضمون كل يوم آلاف الأغرار المغفلين..
قلت: ومن هو البربهاري، ولم يتقمصه الوهابية؟
قال: البربهاري سلف من سلف الوهابية، ورمز من رموزهم، وشعار من شعاراتهم، واسم من أسمائهم، وسم من سمومهم.. إنه واحد في التاريخ لكنه آلاف في الجغرافيا.. إنه الآن في العراق يدمر وينسف الزوار والطيبين من المؤمنين.. وإنه الآن في مصر يتربع على المنصات يخطب ويتفاصح ويقلقل الحروف ليحول من سلام الإسلام رعبا ومن جماله دمامة، وإنه الآن في سورة يقوم بالعمليات ليقتل البراءة، ويقتل معها كل شيء..
قلت: أسألك عن تاريخ البربهاري لا عن جغرافيته.. فمن هو؟
أخذ كتابا كان بجانبه، ثم فتحه، وقال: سأقرأ لك نصين لتعرف من هو البربهاري، أما الأول، فقد ذكر ابن بطة أن بعض المحبين للبربهاري ممن يحضر مجلسه من العوام مر وهو سكران على بدعي، فقال البدعي: هؤلاء الحنبلية، فرجع إليه وقال: الحنبلية على ثلاثة أصناف: صنف زهاد يصومون ويصلون، وصنف يكتبون و يتفقهون، وصنف يصفعون كل مخالف مثلك وصفعه وأوجعه.
قلت: ما تعني بنقلك لهذا النص؟
قال: إن الوهابية تنقل هذا النص، وتفخر به، وتعتبره مكرمة من مكارم سلفها البربهاري.
قلت: وما فيه من الحرج؟
قال: ألا ترى من خلال النص كيف يعظم البربهاريون السكارى، وكيف يحترمون صفعاتهم، وكيف ينشرون الرعب الجسدي في المخالفين لهم؟
ثم انظر كيف لم يستطع هذا المحب للبربهاري أن يتخلص من خمره، بل فوق ذلك كيف يستعلي على المخالف، بل يصفعه.. وقد ذكر المؤرخون أنه كان للبربهاري مليشيات تنشر الرعب في المجتمع، وأن محمدا بن عبد الوهاب اقتدى به في صناعة مثل هذه المليشيات.
قلت: أجل.. النص واضح في الدلالة على ما ذكرت.. وما فعله معي في أول مقابلة لي به حصل لي منه بعض أثر تلك الصفعات.. فهات الثاني.
فتح كتيبا صغيرا كان يحمل عنوان (شرح السنة)، ثم راح يقرأ: (وجميع ما وصفت لك في هذا الكتاب فهو عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعن التابعين وعن القرن الثالث إلى القرن الرابع فاتق الله يا عبد الله وعليك بالتصديق والتسليم والتفويض والرضى بما في هذا الكتاب ولا تكتم هذا الكتاب احدا من أهل القبلة فعسى الله أن يرد به حيرانا من حيرته أو صاحب بدعة من بدعته أو ضالا عن ضلالته فينجو به فاتق الله وعليك بالأمر الأول العتيق وهو ما وصفت لك في هذا الكتاب فرحم الله عبدا ورحم والديه قرأ هذا الكتاب وبثه وعمل به ودعا إليه واحتج به فإنه دين الله ودين رسوله وأنه من استحل شيئا خلافا لما في هذا الكتاب فإنه ليس يدين الله بدين وقد رده كله كما لو أن عبدا آمن بجميع ما قال الله عز وجل إلا أنه شك في حرف فقد جميع ما قال الله وهو كافر كما أن شهادة أن لا إله إلا الله لا تقبل من صاحبها إلا بصدق النية وخالص اليقين وكذلك لا يقبل الله شيئا من السنة في ترك بعض ومن خالف ورد من السنة شيئا فقد رد السنة كلها فعليك بالقبول ودع المحال واللجاجة فإنه ليس من دين الله في شيء وزمانك خاصة زمان سوء فاتق الله)([2])
التفت إلي، وقال: هذا هو دستور الوهابية وإنجيلهم وتلمودهم وقرآنهم.. وهو أول ما يملؤون به أتباعهم.
قلت: لقد ذكرني كلامه هذا بالرسالة التي وصلتني.
قال: إنه منهج واحد.. منهج يعتمد الرعب والتخويف والإرهاب، ويسلط جميع أسلحة الدنيا والآخرة في سبيل ذلك.
قلت: أيقنت بما تقول.. ومع ذلك فأصدقك أن في نفسي شيئا.
أعطاني الكتاب، وقال: أفهمك جيدا.. إنك تقول ربما يكون كلامه صحيحا، فلعله لم يضع في هذا الدستور الوهابي إلا المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة.
قلت: بوركت فراستك.
قال: افتح أي صفحة من الكتاب، واقرأها علي..
فتحت صفحة، وقرأت قوله: (واعلم أن العلم ليس بكثرة الرواية والكتب ولكن العالم من اتبع الكتاب والسنة وإن كان قليل العلم والكتب ومن خالف الكتاب والسنة فهو صاحب بدعة وإن كان كثير الرواية والكتب)([3])
نظرت إليه، وقلت: كلام جميل.
قال: ولكن مقصده خبيث.. وبه اقتدت الوهابية في احتقار العلم وأهله.. إنهم يحتقرون العلم والبحث لأنه لا ينسفهم شيء مثلما ينسفهم البحث العلمي.. ولهذا تراهم يحذرون من العلم والعلماء خشية أن يطلع الناس على ما يكتمونه من الحقائق.
فتحت صفحة أخرى، فقرأت قوله: (وأقل من النظر في النجوم إلا بما تستعين به على مواقيت الصلاة واله عما سوى ذلك فإنه يدعو إلى الزندقة)([4])
قال: ألا ترى أن هذا النص مناقضا للنصوص القرآنية الكثيرة التي تأمر بالنظر في السموات والأرض؟
قلت: بلى.. فالله تعالى اعتبر الذين يتفكرون في السموات والأرض من أولي الألباب، قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)(آل عمران)، بل إن الله تعالى أمر بالنظر في السموات، فقال: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) (يونس)، بل إنه عاتب الذين لا ينظرون، فقال: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)(الغاشية)
فتحت صفحة أخرى، فوجدت فيها قوله: (واعلم أنه ما عبد الله بمثل الخوف من الله وطريق الخوف والحذر والشفقات والحياء من الله تبارك وتعالى واحذر أن تجلس مع من يدعو إلى الشوق والمحبة ويخلو مع النساء وطريق المذهب فإن هؤلاء كلهم في ضلالة)([5])
قال: ألا ترى كيف يغلبون الخوف على الرجاء.. والرعب على المحبة.. لأنه برجاء الله ومحبته ينسفون ويزولون ويذوبون.. فالله الرحمن الرحيم الحنان المنان أكبر عدو لهم، لأنه عدو جهنم التي يتوعدون بها الناس؟
***
بقيت مع صاحبي
الوهابي عشيتنا تلك مع الكتاب نقرؤه ونناقشه، وقد فهمت من خلاله سر تركيز الوهابية
على الرعب.. فالرعب – عندهم- هو الأسلوب والوسيلة والهدف.. فلا يمكن أن يستعبدوا
من يريدون استعباده من غير هذا المنهج الشيطاني.
([1]) هو أبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري المتوفي سنة 329 هـ. ذكره الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، فقال: البربهاري: شيخ الحنابلة القدوة الامام، أبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري الفقيه. كان قوالا بالحق، داعية إلى الأثر، لا يخاف في الله لومة لائم..
([2]) البربهاري، شرح السنة، (ص: 47)
([3]) شرح السنة – البربهاري (ص: 45)
([4]) شرح السنة – البربهاري (ص: 48)
([5]) (شرح السنة – البربهاري (ص: 48)