الانفتاح الديني

الانفتاح الديني

بعد أن انتهت الاستراحة، وركب الركاب الحافلة، وقد نقص منهم نفر كما في المرتين السابقتين.. أخرج السائق شريطا جديدا، ثم قال: بعد أن نلتم حظكم من الراحة اسمحوا لنا أن نضع شريطا آخر.. يفند شبهة لطالما رددها المغرضون المبتدعون، أولئك الذين يكرهون السنة والسلف.. وهي أننا – أتباع السنة والسلف – منغلقون على أنفسنا، متقوقعون على ذواتنا، لا ننتفح على الآخر.. لا تسمعوا لهذا.. فكلها أباطيل وخزعبلات نشرها أعداؤنا ليشوهوا سمعتنا.. ليس الأمر كما يقول أعداؤنا أعداء الله.. وهذا الشريط يوضح لكم ذلك.. فأصيخوا آذانكم له.. وارموا بأبصاركم إليه.

قال ذلك، ثم أدخل الشريط.. ليبدو مشهد لحديقة جميلة مزدانة بأصناف الأشجار والزهور.. وقد ظهر فيها بعض المشايخ، ومعهم شباب يبدون من جنسيات مختلفة.. والعجيب أن أكثرهم لم يكن ملتحيا، ولا تبدو عليهم علاقة بالتشدد والتطرف.

بدأ الحديث شيخ من المشايخ، وقال: سنبدأ الآن بتفنيد الشبهة التي عرضتموها علي، وهي أننا – معشر أهل السنة والحديث – منغلقون على أنفسنا، لا نستفيد من الآخر، ولا ننفتح عليه..

قال شاب من الحاضرين: أجل.. ويدل لذلك ما تنشرونه في كتبكم من التحذير من اتباع الآخر أو تقليده.. بل إنكم تعتبرون مجرد تهنئة الآخر بعيده الديني بدعة خطيرة، وقد قال في ذلك مشايخكم ما قالوا.

ابتسم الشيخ ابتسامة عريضة، وقال: صدقت في هذا.. ولكن كل هذا شكليات.. القصد منها ألا نذوب في الآخر، ولا يذوب فينا.. القصد فقط أن نتميز.. أما الحقيقة فنحن منفتحون على الآخر أكثر من أي فرقة من الفرق أو طائفة من الطوائف حتى من الرافضة أنفسهم.. والذين نزعم بأنهم أخذوا بعض المبادئ المتعلقة بالوصية والإمامة من عبد الله بن سبأ اليهودي.. نحن استفدنا من الآخر، وانفتحنا عليه أكثر منهم.

سأبرهن لكم على ذلك بطريقة عجيبة.. أجيبوني أولا: أليس الانفتاح ينطلق من قبول مصادر الآخر والاهتمام بها؟

قالوا: بلى.. ومن فعل ذلك فقد انفتح انفتاحا كبيرا.

قال: لا يكفي ذلك عندنا.. بل هناك انفتاح آخر.. وهو قبول رجال الآخر ومفكريه وعلمائه والاستفادة منهم.

قالوا: من فعل ذلك فقد كاد يذوب في الآخر.. ولم ينفتح عليه فقط.

قال: ما دام الأمر كذلك، فسأنطلق من كلا الأمرين لأبرهن لكم أننا – معشر السلفيين، وأسلافنا من أهل الحديث – أكثر طوائف المسلمين انفتاحا، وخاصة على أهل الكتاب الأول من اليهود.

المصادر:

قالوا: ما ذكرته منطقي.. فهات حدثنا عن الأول.. فهل قبل سلفكم التوراة والكتاب المقدس؟

قال: لم يقبلوا التوراة والكتاب المقدس فقط، بل إنهم استفادوا منها أيضا، وبنوا الكثير من الأحكام في القضايا الكبرى عليها.

قالوا: ولكن القرآن الذي تعتبرونه المصدر الأول ينص على تحريف التوراة، ويحذر من الانجرار وراء أهل الكتاب.

ابتسم الشيخ ابتسامة عريضة، وقال: نحن في العادة نتبرك بالقرآن.. ونجمع الأجور والحسنات من خلال قراءته.. تصوروا أننا كلما قرأنا حرفا قرقرأنا حرفا واحدا نلنا عشر حسنات، وخاصة إن رتلناه ترتيلا جميلا.. أما المعاني التي فيه.. فنحن نرجع فيها إلى سلفنا.. فهم أدرى بالناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمطلق والمقيد.. وغيرها كثير.

ولهذا فهم اعتبروا تلك النصوص من باب التشديد في خطاب اليهود.. أما الحقيقة فهي أن علماءنا ينظرون إلى التوراة كما ينظرون إلى القرآن نفسه، وقد قال بعض مشايخنا في ذلك: (وأيضًا فمن المعلوم أن هذه النسخ الموجودة اليوم بالتوراة ونحوها قد كانت موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلو كان ما فيها من الصفات كذبًا وافتراء ووصفًا لله بما يجب تنـزيهه عنه كالشركاء والأولاد لكان إنكار ذلك عليهم موجودًا في كلام النبي أو الصحابة أو التابعين كما أنكروا عليهم ما دون ذلك، وقد عابهم الله في القرآن بما هو دون ذلك فلو كان هذا عيبا لكان عَيب الله لهم به أعظم وذمهم عليه أشد)([1])

قال شاب من الحاضرين: أهذا صحيح؟.. أعقيدتكم في الله، والتي هي أهم قضية في الدين كله تتفقون فيها مع اليهود؟

ابتسم الشيخ، وقال: لا نتفق معهم فيها فقط.. بل نحن نقبل منهم ما يذكرونه من صفات الله.. لأن الله لم ينكرهم عليها.

قال الشاب: ولكن تلك الكتب – بحسب ما أعلم – مشحونة بالحديث عن الله باعتباره جسما مركبا من أعضاء لا تختلف عنا.. إنها تذكر أن لله صورة، وأنها تشبه صورة الإنسان.. لقد ورد في الإصحاح الأول من سفر التكوين (عدد: 26، 27): (وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا. فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض.. فخلق الله الانسان على صورته.على صورة الله خلقه. ذكرا وانثى خلقهم)

قال الشيخ: وهذا نفس ما قاله سلفنا من أهل الحديث، لقد رووا في ذلك آثارا كثيرا في ذلك، وكثير منها من أهل الكتاب، وقد كتب الشيخ (حمود التويجري) – وهو من خيرة علمائنا- كتابا سماه (عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن)، وهو كتاب من الكتب المهمة عند جميع أصحابنا، وقد زكاه شيخنا الجليل ابن باز.. بل إنه قال في أثناء حديثه عنه: (وأيضًا فهذا المعنى عند أهل الكتاب من الكتب المأثورة عن الأنبياء كالتوراة فإن في السفر الأول منها (سنخلق بشرًا على صورتنا يشبهها)([2])

قال الشاب: يا شيخ انظر ما تقول.. إن اليهود تنسب إلى الله تعالى الجلوس والقعود والاستقرار والثقل والوزن والحجم.. ففي (سفر الملوك)(22: 19-20) : (وقال فاسمع إذاً كلام الرب قد رأيت الرب جالسًا على كرسيه وكل جند السماء وقوف لديه عن يمينه وعن يساره)

وفي سفر مزامير (47/8) يقول اليهود: (الله جلس على كرسي قدسه)

قال الشيخ: ونحن كذلك.. لقد استفدنا بانفتاحنا عليهم كل هذه الصفات.. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فما جاءت به الآثار عن النبى من لفظ القعود والجلوس فى حق الله تعالى كحديث جعفر بن أبي طالب وحديث عمر أولى أن لا يماثل صفات أجسام العباد)، وقال: (إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سُمِع له أطيط كأطيط الرَّحل الجديد)([3])

قال الشاب: ولكن الكتاب المقدس ينسب – أحيانا –بعض الأوصاف القبيحة والشنيعة إلى الله كالمكر والخداع والملل.

قال الشيخ: وما في ذلك.. نحن منفتحون عليهم في هذا أيضا.. لقد قال أحد أئمتنا المعاصرين: (لا يوصف الله بالمكر إلا مقيداً، فإن قيل كيف يوصف الله بالمكر مع أن ظاهره أنه مذموم قيل إن المكر في محله محمود)([4])، وقال: (إن الله له مَلَلٌ وأما مَلَلُ الله فإنه ملل يليق به عز وجل)([5])، وقال:(وأما الخداع فهو كالمكر يوصف الله به حين يكون مدحًا)([6])

فغر المحيطون به بأفواههم، وقالوا: أهذا صحيح؟.. إنكم لا تختلفون أبدا عن اليهود.

قال الشيخ: أجل.. فالتوراة والقرآن.. كلاهما من الله.. سأزيدكم شيئا يزيل عنكم شبهة انغلاقنا على أنفسنا.. لاشك أنكم تعلمون أننا نعظم السنة.. بل نقدمها أحيانا كثيرة على القرآن نفسه.. لا من جهة المرتبة، بل من جهة الاستدلال.. فالحديث الواحد قد ينسخ عشرات الآيات.

قالوا: أجل.. سمعنا منك وممن معك هذا.

قال: فأضيفوا إلى معلوماتكم بأن الكثير من هذه الأحاديث التي نرويها عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قد يكون مصدرها يهوديا.. بل أكثر مشايخنا يتيقنون أن ذلك هو مصدرها، ومع ذلك يرفعونها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. باعتبار انفتاحنا الشديد على الآخر.. فنحن تهمنا المعلومة، ولا يهمنا مصدرها.

تعجبت الجماعة، فزاد ذلك في حماسته، وقال: لعلكم تعلمون أن السنة النبوية اختلطت بالأحاديث اليهودية، فهناك الكثير من الأحاديث منتشرة بين المسلمين على أنها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أنها أحاديث كعب الأحبار أو غيره من اليهود.

قالوا: أهذا صحيح؟

ابتسم ابتسامة عريضة، وقال: أجل.. وسأضرب لكم أمثلة على ذلك تدلكم على مدى انفتاحنا على الآخر.. وخصوصا اليهود.

خذوا المثال الأول: لقد روى مسلم عن أبي هريرة، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي فقال: (خلق الله، عز وجل، التربة يوم السبت. وخلق فيها الجبال يوم الأحد. وخلق الشجر يوم الاثنين. وخلق المكروه يوم الثلاثاء. وخلق النور يوم الأربعاء. وبث فيها الدواب يوم الخميس. وخلق آدم، عليه السلام، بعد العصر من يوم الجمعة. في آخر الخلق. في آخر ساعة من ساعات الجمعة. فيما بين العصر إلى الليل)([7]).. إن هذا الحديث الذي يعظمه العلماء والعوام ويتعبدون الله به باعتباره حديثا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس سوى حديث لكعب الأحبار، فقد ذكر ابن قيم الجوزية في (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) هذا، فقال: (ويشبه هذا ما وقع فيه الغلط من حديث أبي هريرة خلق الله التربة يوم السبت الحديث، وهو في صحيح مسلم، ولكن وقع الغلط في رفعه، وإنما هو من قول كعب الأحبار، كذلك قال إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه الكبير. وقاله غيره من علماء المسلمين أيضا وهو كما قالوا، لأن الله أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وهذا الحديث يقتضي أن مدة التخليق سبعة أيام) ([8])

قالوا: أهذا هو المثال الوحيد؟

قال: ما بكم.. لم تستعجلون.. الأمثلة أكثر من أن تحصى.. ومنها ما روي عن ابن عمر يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الملائكة قالت يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب قال إني ابتليتهم وعافيتكم قالوا لو كنا مكانهم ما عصيناك. قال فاختاروا ملكين منكم. قال فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت وماروت)([9])، وقد علق ابن كثير على هذا الحديث بقوله: (أقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار لا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم)([10])

ومثله ما حدث به سمرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته عبد الحارث فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره)([11])، وقد قال ابن كثير معلقا عليه: (فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب من آمن منهم مثل كعب أو وهب بن منبه وغيرهما) ([12])

تعجب الجمع، فازداد سروره، وقال: هذه مجرد أمثلة.. وهي أكثر من أن تحصى.. هذا ما فطنوا له، وصرحوا به أما ما لم يفطنوا أو لم يصرحوا، فلا يعلمه إلا الله.

قال شاب من الحاضرين: انتظر يا شيخ.. لقد قرأت في بعض مصادركم أن أن عمر أتى نبيكم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فغضب، وقال: (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى – صلى الله عليه وآله وسلم – كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)([13])

قال الشيخ: اسمع يا بني.. ليس من السهل عليك أن تستدل بالحديث.. ففيه هو الآخر الناسخ والمنسوخ.. والمطلق والمقيد.. وهناك أحاديث قالها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوصفه بشرا كسائر الناس.. ولذلك ليس من الضرورة أن نأخذ بها.

قال الشاب: ولكن نبيكم غضب غضبا شديدا، وهذا يدل على خطورة الأمر.

قال الشيخ: ألم أقل لك: إنك تفتقر إلى علم الأصول لتفهم أمثال هذه الحقائق.. نبينا يغضب كسائر البشر، ولذلك قد يخطئ عندما يغضب.. لقد روى أهل الحديث في هذا عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (اللهم إني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، وإنما أنا بشر، فأي المؤمنين آذيته أو شتمته أو لعنته فاجعلها زكاة وصلاة وقربة إليك يوم القيامة)([14])

قال الشاب: فأنت ترفض هذا الحديث إذن؟

انتفض الشيخ غاضبا، وقال: معاذ الله.. أتحسبني زنديقا حتى أرد حديثا ورد في الصحيحين.

قال الشاب: ولكنك لا ترى العمل به.

قال الشيخ: أراه صلى الله عليه وآله وسلم ذكره من باب التشدد، لا من باب التشريع.. أو من باب النصيحة لعمر، لا من باب تعميمه للأمة.. أو من باب كونه واليا على المدينة أو قاضيا فيها لا من باب كونه نبيا.. أو من أبواب أخرى لن تفهمها حتى تطالع أصول الفقه([15]).

قال الشاب: وما دليلك على ذلك؟

قال الشيخ: الدليل سهل جدا.. وهو قبول السلف لروايات أهل الكتاب ورجوعهم إلى الكتاب المقدس.. ولو أنهم علموا أن ذلك يخالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما فعلوه.. بالإضافة إلى ذلك فقد ورد في حديث صححه ثقاتنا: (لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن، فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه.. وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)([16])، وقد صار العمل بهذا الحديث، بدل الحديث السابق.

قال الشاب: ألا ترى في الحديث الذي ذكرته خطرا على الدين؟.. فنبيكم – على حساب روايتك- ينهاكم فيه عن كتابة حديثه، وفي نفس الوقت يأذن لكم في الرواية عن اليهود.

قال الشيخ: وهذا من دلائل انفتاح ديننا.. ولهذا تجد تراث اليهودية في كتبنا جميعا.. التفسير والحديث والعقيدة.. وكل شيء.. ألا يكفي هذا على رد شبهة انغلاقنا على أنفسنا التي يرمينا بها عدونا؟

الشخصيات:

قالوا: ما ذكرته من الدليل قوي جدا، وهو يدل على أنكم منفتحون كثيرا..

ابتسم الرجل ابتسامة عريضة، ثم قال: ليس ذلك فقط.. أنتم تعلمون أننا نحترم السلف كثيرا، بل نعتبرهم مراجع للدين، ونقدم فهمهم على كل فهم، وعلمهم على كل علم.

قالوا: هذا صحيح.. ولهذا تطلقون على أنفسكم، أو يطلق عليكم أعداؤكم لقب (السلفية)

قال: فهل تعلمون أن من كبار سلفنا وأئمتهم كثير من اليهود؟

قالوا: أجل.. وما الضرر في ذلك.. فقد أسلموا.. وذهب عنهم وصف اليهودية.

قال: نعم هم أسلموا.. ولكن وصف اليهودية وعلوم اليهود وأهل الكتاب كانت في عقولهم، وقد بثوها إلينا جميعا، وكنا نرجع إليهم فيها.. ولذلك فإن جزءا مهما من ثقافتنا يرجع لهم.

قالوا: ما تقول يا رجل.. إن هو إلا واحد أو اثنان.

ابتسم، وقال: نعم كانوا محدودين.. ولكن لكل واحد منهم تلاميذ كثيرون، كانوا يلقنونهم ويعلمونهم ويروون عنه.. وقد صار كل واحد منهم بعشرة أو عشرات..

قال أحد الحاضرين: مهلا يا رجل.. لا تحسبنا حمقى أو مغفلين.. فقد رأيت بعض الباحثين يتهم كعبا، ويعتبره من الكاذبين.. بل يتهمه بأنه دس الإسرائيليات في السنة النبوية.

قال الرجل: لا يقول ذلك إلا الرافضة أو من تأثر بهم.. ونحن لا نعتبر الرافضة مسلمين أصلا، فلهم دينهم، ولنا ديننا.. وهم يحنقون عليه لسبب بسيط، وهو أن كعبا ومن معه من اليهود الذين أسلموا آثروا بعد اجتهادهم في المسألة أن يكونوا إلى جنب معاوية.. ولا ذنب عليهم في ذلك حتى لو كانوا مخطئين، فكل مجتهد مأجور.. ولو أنهم كانوا إلى جنب علي لقبلوه.. وهذا من المكاييل المزدوجة للرافضة الخبثاء.. بينما نحن نروي عن أتباع علي وأتباع معاوية لا نفرق بين أحد منهم.. فكلهم صحابة.. وكلهم لهم حرمتهم التي لا يجوز انتهاكها.

وقد رد علماؤنا من السلف والخلف على هذا([17])، بل إنهم اعتبروا من يتهم كعبا كمن يتهم الصحابة أنفسهم.. والشواهد الكثيرة تشهد لكعب الأحبار بصدق إسلامه وقوة إيمانه، ومن أبرز هذه الشواهد شهادة كثير من الصحابة له بذلك.

فإذا تتبعنا حياة كعب في الإسلام، ورجعنا إلى مقالات بعض أعلام الصحابة فيه، وأحصينا من تحمل منهم عنه وروى له، ومن أخرج له من شيوخ الحديث في مصنفاتهم.. لو فعلنا ذلك لوجدنا ما يدحض ويبطل هذه الفرية، ويشهد له بقوة دينه وصدق يقينه، وأنه قد طوى قلبه على الإسلام المحض والدين الخالص، ولغزارة علمه وكثرة معارفه لهج بعض أعلام الصحابة بالثناء عليه، فقال عنه أبو الدرداء: (إن عند ابن الحميرية لعلما كثيرا)([18])

أما خال المؤمنين معاوية، فقد وضعه مع كبار الصحابة، وأثنى عليه من بينهم، فقال: (ألا إن أبا الدرداء أحد الحكماء، ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده لعلم كالبحار، وإن كنا فيه لمفرطين)([19]).. انظر كيف اعتبر نفسه مفرطا في التلقي عنه.. وهذا يدل على انفتاحهم وحرصهم على العلم والحكمة.

وهكذا نجد جماهير المحدثين على توثيق كعب؛ وأنى يكون ذلك وقد جلس الكثير من الصحابة بين يديه، ورووا عنه كما رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواء بسواء.. وهذا سر ما اختلط من رواياتهم عنه برواياتهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد حدث عنه من أعلام الصحابة كأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، ولم يكن هؤلاء ولا غيرهم ممن رووا عنه سذجا ولا مخدوعين فيه، وإنما أيقنوا أنه صدوق فيما يروي، فرووا عنه؛ لذلك قال عنه ابن حجر في التقريب: (ثقة مخضرم)([20])، وقد روى له مسلم في صحيحه، وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، وهو دليل على أن كعبا كان ثقة غير متهم عند هؤلاء جميعا([21]).

قال شاب من الحاضرين: ولكني قرأت في بعض كتبكم أن خالكم معاوية رمى كعبا بالكذب، وقال عنه: (إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا – مع ذلك – لنبلو عليه الكذب)([22])

قال الشيخ: مهلا يا فتى.. أنت لم تفهم مراد خالنا.. فلو رجعنا إلى شراح قول معاوية لوجدناهم جميعا يشرحونه بما يبعد هذه الوصمة الشنيعة عن كعب الأحبار، وقد قال ابن حبان في كتاب الثقات: (أراد معاوية أنه يخطئ أحيانا فيما يخبر به، ولم يرد أنه كان كذابا)، وقال عياض: (يصح عوده على الكتاب، ويصح عوده على كعب وعلى حديثه، وإن لم يقصد الكذب ويتعمده؛ إذ لا يشترط في مسمى الكذب التعمد، بل هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، وليس فيه تجريح لكعب بالكذب)، وقال ابن الجوزي: (المعنى: أن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبا لا أنه يتعمد الكذب، وإلا فقد كان كعب من أخيار الأحبار)([23])

أضف إلى هذا، فإن معاوية الذي قال هذا القول، هو نفسه الذي قال: (ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء، وإن كان عنده علم كالثمار، وإن كنا لمفرطين)، فهو قد شهد له بالعلم وغزارته، وحكم على نفسه بأنه فرط في علم كعب، فهل يعقل أن معاوية يشهد هذه الشهادة لرجل كذاب؟! وهل يعقل أن يتحسر ويندم على ما فاته من علم رجل يدلس في كتب الله، ويحرف في وحي السماء؟ ([24]).

***

بعد أن وصل الحديث إلى هذا الحد وصلنا إلى محطة أخرى لنستريح، وهناك اقتربت من رجلين من الركاب لأسمع تحاورهما:

قال الأول: اذهب وحدك.. أما أنا فسأبقى هنا، فعقلي يكاد يطيش.. فأي منطق يفكر به هؤلاء؟

قال الثاني: أنا معك في هذا.. ألا ترى التناقض العجيب.. فهم يتشددون في القبعة والسروال.. ثم يتراخون في العقيدة والتفسير.. أي عقول هذه؟.. أي منطق هذا؟.. أدركني يارب.. فإني أكاد أجن.

اقتربت من جماعة أخرى، فسمعت ضحكات ساخرة:

قال أحدهم: ألم أقل لكم: إن الإسلام ليس سوى نسخة مشوهة من اليهودية والنصرانية؟

قال آخر: نعم.. قلت لنا ذلك كثيرا.. لكنك لم تستطع أن تأتي بدليل واحد.. ولولا أنا وفقنا لركوب هذه الحافلة المباركة لما ظفرنا بهذه البينات.

قال آخر: لقد كنت أسجل كل ما قيل.. وقد فتح لي أبوابا من العلم، سأكتب فيها مقالات محترمة، ترضي أصدقاءنا من العلمانيين والملحدين واللادينيين.

اقتربت من مجموعة ثالثة، فوجدتهم يبكون، وقد غلب عليهم التأثر:

قال أحدهم: لم لم ننهض ونكسر عليها تلفازه، بل شيطانه.. لقد صبرنا عليه كثيرا.

قال آخر: ألا ترى قسوته وشدته؟

قال آخر: أنخاف على أنفسنا منه؟

قال آخر: لا.. بل نخاف من الفتنة.. ألا تعلمون ما قال هارون عليه السلام لأخيه؟ لقد قال له: {يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [طه: 94].. ونحن كذلك.

قال آخر: لا بأس.. فنحن نعيش في دولتهم.. ولابد أن نصبر.. وسيبدلنا الله في يوم من الأيام بدولة أوليائه التي تظهر الإسلام على الدين كله بقيمها وسلامها وتحضرها وربانيتها.


([1])    عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن، التويجري، طبع دار اللواء – الرياض ، الطبعة الثانية ، ص 77.

([2])    عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن، طبع دار اللواء – الرياض، الطبعة الثانية، ص/ 76:.

([3])     (مجموع الفتاوى) (4/374)

([4])     (فتاوى العقيدة) للعثيمين (ص 50).

([5])     المرجع السابق، ص51.

([6])     المرجع السابق، ص52.

([7])    رواه مسلم.

([8])    المنار المنيف في الصحيح والضعيف (ص: 84)

([9])    تفسير الطبري (2/433)

([10])    تفسير ابن كثير (1/ 354)

([11])     رواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعا ثم قال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

([12])     تفسير ابن كثير (3/ 527)

([13])     مسند الإمام أحمد بن حنبل: 3/387 ح(15195).

([14])     رواه البخاري ومسلم.

([15])     للأسف نجد هذا في أصول الفقه، وهو وصف بعض أفعال النبي a بكونها ليست بلاغا نبويا، مع أن الله تعالى اعتبر كل تصرفاته a من الله تعالى إلا ما ورد تخصيصه.

([16])     رواه أحمد.

([17])     نقلنا هذا، وبتصرف من موقع معتمد لدى التيارات السلفية، وهو موقع بيان الإسلام.

([18])     الطبقات الكبير، ابن سعد، تحقيق: د. علي محمد عمر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002م، (9/449)

([19])     الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر، القاهرة، د. ت، (5 /650)..

([20])     تقريب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: أبي الأشبال صغير أحمد شاغف، دار العاصمة، الرياض، ط1، 1416هـ، ص812..

([21])     الطبقات الكبير، ابن سعد، تحقيق: د. علي محمد عمر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002م، (9/ 449).

([22])     صحيح البخاري.

([23])     فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (13/346)..

([24])     الإسرائيليات في التفسير والحديث، محمد حسين الذهبي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط5، 1425هـ/2004م، ص82..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *