الإشارة.. والعبارة

الإشارة.. والعبارة

في ذلك اليوم قدر الله لي أن أسمع سورة قرآنية واحدة من عقلين وقلبين مختلفين تماما.. مختلفين في المشرب، وفي السلوك، وفي التعامل مع قضايا الحياة المختلفة..

وقد تعجبت في البداية عن سر ذلك الاختلاف الشاسع بينهما مع أن كليهما يرفع راية القرآن الكريم، ويدعي أنه خادمه وتلميذه، ولكليهما أتباع وأصحاب.. ولكن مع ذلك كانا، وكأنهما من ديانتين مختلفتين تماما..

عندما عدت إلى بيتي في الليل بعد مروري عليهما، وبعد محاولة تحليل ما رأيت وما سمعت عرفت سر قوله تعالى: { يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ  } [الرعد: 4]، وعرفت أن التفضيل لا يعني التنوع فقط، كالتفضيل الذين نراه بين التفاح والبرتقال وغير ذلك من الفواكه.. وإنما قد يعني أيضا التفضيل بين العشبة التي جعلها الله ترياقا لكل الأدواء، وبين العشبة التي جعلها سما زعافا تقضي على كل صحة وعافية.

ولأدع لكم الفرصة لتكتشفوا ما اكتشفت، وتحكموا بما ترونه، سأحكي لكم الحكاية كما حصلت.. ولا تحسبوا أنها حكاية من وحي الخيال.. إنها بنت الواقع المؤلم الذي نعيشه.. ولكنها محروسة بالرمز.. فالذي يفهم الرمز، ويفك شيفرته سيفهم المراد العميق منها.. والذي يفهم العبارة، ولا يجاوزها إلى الإشارة، فحسبه أن يرى قشرتها، وينعم بالنظر إلى طلائها.

الإشارة:

مررت عليه وهو على كرسيه الذي تعود أن يجلس عليه بين مريديه وتلامذته.. وكان القارئ يقرأ سورة العصر بترتيل خاشع جميل.

بعد أن انتهى من قراءتها التفت الشيخ إلى المحيطين حوله، وقال: سنحاول أن نستمع للمعاني التي أراد الله إبلاغنا إياها من خلال هذه السورة الكريمة([1])..

إن القسم بالعصر في هذه السورة يفيد كون الإنسان يجهل خسرانه، ويبعد أن يدركه ما دام لا يشعر بحقيقة ما كان عليه قبل تعلّق الروح بالجسم المعدني.. أمّا لو تخيل ذلك.. عندما كـان جوهرا خالصا متخلّصا من عموم المواد، وسائر لوازم الفساد، لاعترف بخسرانه بالنظر لما هو عليه الآن، ومن أين له أن يدرك ذلك، وهو  مكبل بشهواته، مسجون في ظروف طبيعته، وتلك الحالة هي أبعد المراتب، وأقصى الغايات التي تبعد به عن نيل سعادته الأبديّة.

وكذلك يبقى ما دامت بصيرته لم تنفذ إلى ما وراء هذه الظروف المحدقة به، ولكن لا تنفذ إلاّ بتصريح برهان { فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } [الرحمن: 33]، وإذ ذاك يدرك خسرانه بالنسبة لما كان عليه قبل تعلّق الروح بالبدن، ولو تخيّل ذلك لما احتيج للتوكيد.

قال بعض الجالسين: لقد شوقتنا يا شيخنا.. فحدثنا عن عوالم الجمال التي كان يعيشها الإنسان قبل نزوله إلى هذا العالم.

قال الشيخ، وهو شاخص البصر، وكأنه يرى ما لا نقدر على رؤيته، أو كأنه يشاهد شيئا، وهو يصفه كما يشاهده: في تلك العوالم الجميلة كانت الروح في كرامة عظيمة وحالة جسيمة، تتلّقى أمرها من الله من غير واسطة، وتجيب جـوابا خاليا من كلّ شبهة.. ولم تفقد حظّها من تلك الكرامة ولو بعد هبوطها وتعلّقها بأول جسم للإنسـان فإنّه توجها بتاج العلم، وكلّلها بإكليل الفهم،  وعلمها ما لم تكن تعلم، وكفاها أنّه أسجد لهـــا الملائكة، وعموم الأرواح كالذر وفي ظهر آدم.

قال تلميذ آخر: فكيف انتقل الإنسان من تلك الأحوال السامية إلى الأحوال الحيوانية، وما قدر الخسارة التي خسرها بسبب ذلك؟

قال الشيخ: إنّ رابطة الجسم أكسبت الروح صبغة غير التي كانـت عليها، فلم يشعر الإنسان إلاّ وهو نوع من أنواع الحيوان يعمل بحكم الطبيعة داخل الجنس العام، وشتان ما بين المرتبتين.. بين حال الإنسان الأوّل، وحال الإنسان الثاني.. فعلى مـا يقتضيه البون الشاسع بين الرتبتين صار كأنّه لم يكن هو.. بل ليس بمستبعد إن قلنا: إنّ الإنسان الأول هو غير الإنسان الثاني مهما كان يطلق لفظ الإنسان على المعنيين.

قال تلميذ آخر: أنت تشير بهذا إلى الحقيقة الإنسانية، وأن ما عليه الإنسان الآن ليس سوى نشأة من النشآت، وأن هناك نشآت كثيرة سابقة، كان الإنسان فيها في أعلى عليين..

قال الشيخ: أجل.. وقد عبر العرفاء عن ذلك النزول بــ (قوس النزول).. ويعنون به ذلك العالم الذي يبدأ من العقل والمجردات التامة والملائكة المقربين، وينتهي إلى أدنى موجود وهو الهيولى والمادة الأولى لعالم الطبيعة.

قال التلميذ: وجود قوس نزول يقتضي وجود قوس صعود.

قال الشيخ: أجل.. وهي التي أشار إليها قوله تعالى: { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة: 46]، وقوله: { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ  } [البقرة: 156]

قال التلميذ: فكيف يحدد مصير الإنسان في قوس الصعود؟

قال الشيخ: هذه النشأة هي المنطلق لتحديد مصير الإنسان النهائي.. فباستطاعة الإنسان أن يتدارك ما فاته من عزّة.. وليس ذلك إلاّ أن يكون بالروح إنسانا، وذلك يتم بالتحقق بمقتضى قوله تعالى: {  إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [العصر: 3]

فالخلاص النهائي لا يتحقّق ولا يتصوّر بمعناه اللازم إلاّ باستجماع تلك الخصال الأربعة وهـي: الإيمان، والأعمال الصالحة، والتواصي بالحقّ، والتواصي بالصبر عليه، أمّا إذا فات الإنسان – والعياذ بالله – حظّه من الإيمان في هاته الحياة، الدنيا فقد خسر خسرانا مبينــا يجعله يقول يوم يرى سعادة السعداء بالنظر إلى شقاوة الأشقياء: { يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا } [النبأ: 40]

أمّا إذا نال حظّه من الإيمان في هاته الدنيا بالقدر الذي يفصله عن محيط الكفران بالله ورسولــه، فقد يتقدّم بذلك شوطا غير قصير في سبيل سعادته ونيل بغيته.

ولكن لا تثبت أقدامه في ذلك الدور إلاّ بالأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة هي جنس يدخل تحته أفراد كلّ فعل محمود، ويخرج منه كلّ فعل مذموم.

وهذا الدور يعتبر أرفع درجة في نيل السعادة غير أنّه لا تستقر أقدام صاحبه استقرارا تاما إلاّ مع التواصي بالحقّ، ومن لم يتواص بالحقّ قل أن يصبر في طريق الحقّ، بناء على أن رأس الأعمـال الصالحة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن لم ينه ويأمر يخش عليه يوما من الأيام يصبـح فيه حيث لا نهي ولا أمر.

وهكذا يسير المؤمن من العرفان إلى الشريعة، فيتمسك بها، فلا طريق إلى الله إلا من خلالها.

أصابتني رعشة شديدة، وأنا أسمع لهذه الكلمات.. لقد كانت تنبيهات قوية تنبه كل راقد وقاعد وراكن إلى الدنيا ليقوم بالاستعداد لصناعة مصيره الأبدي قبل أن يتحسر حسرة لا حد لها..

ظل الشيخ يردد ذلك، ويشرحه بطرق مختلفة، وكان تلاميذه وكأن على رؤوسهم الطير سكونا وخشوعا.. وكان المكان البسيط الذي كنا نجلس فيه قد تحول إلى قطعة من عالم الملكوت الواسع الجميل.

بعد أن انتهى الشيخ من درسه، التفت إلى مريديه، وقال: من فهم منكم من السورة شيئا آخر، فليتقدم به.. فأنتم تعلمون أن القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه، ولا تفنى عطاياه.

رفع أحد التلاميذ يده، وقال: يا شيخ.. ائذن لي أن أطرح لك إشكالا وقع لي، ولبعض زملائي.. ولكن لا علاقة له بالسورة الكريمة.

أذن له الشيخ، فقال: سيدي مع احترامنا لك ولمجلسك، وللعلوم العظيمة التي نستفيدها منك، ولما نراه من تأثيرها على حياتنا جميعا.. إلا أن هناك من يعيبون علينا جلوسنا بين يديك.. وهم يذكرون لنا بأنك لا تحمل أي إجازة من مشايخ الحديث أو اللغة أو غيرها حتى يتاح لك أن تتكلم في القرآن الكريم.. بل يذكرون لنا أنك أمي.. وليست لك البلاغة الكافية التي تؤهلك للحديث عن القرآن الكريم.. لقد ذكروا لنا أن من يرفع المنصوب، وينصب المرفوع أقل من أن يفهم القرآن لنفسه، فكيف يفهمه لغيره.

ابتسم الشيخ، وقال: لقد ذكرتني يا بني بشبابي الباكر عندما كنا ننشغل فيه بالنحو والصرف والبلاغة عن الكنوز العظيمة التي يحويها القرآن الكريم..

كنا حينها نأتي بالآية الواحدة، ونعربها بالوجوه الكثيرة.. وننتفخ مع كل إعراب.. ثم لا نلتفت لمعناها، ولا نعيشه.. بل لا تزيدنا تلك القدرات التي أتيحت لنا إلا حجابا عن فهم القرآن.. حينها التقيت شيخا من العارفين، قال لي: (أقبح كلّ قبيح أن يتعلّم الإنسان نحو اللسان ويعلّمه، ولا يتعلّم نحو القلب ويعلّمه، مع أنّه محلّ نظر الربّ، فإذا كان نحو اللسان مع نحو الجنان كان صاحبهما في أمان، ولا يخشى عليه الخسارة والخذلان، يوم وقوفه بين يدي الرحمن، لأنّ الله تبارك وتعالى لا يثيب العباد على إعرابهم، وإنّما يثيبهم على قلوبهم)([2])

والتقيت آخر، قال لي: ( ما عرفنا من النحو إلاّ إعراب قوله تعالى:  { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } [النور: 32]، إنّ حرف شرط، ويغنهم جواب الشرط، والمقصود بالغنى الغنى الأكبر فيكون خطابه للمتوجهين على طريق أهل الإشارة)([3])

وحكي لنا آخر أن بعض النحويين دخل مجلس الحسن بن سمعون ليسمع كلامه فوجده يلحن، فانصرف ذامّا له، فبلغ ذلك الحسن، فكتب له: (إنك من كثرة الإعجاب رضيت بالوقوف دون الباب، فاعتمدت على ضبط أقوالك مع لحن أفعالك، وإنك قد تهت بين خفض ورفع ونصب وجزم، فانقطعت عن المقصود، هلّا رفعت إلى اللّه جميع الحاجات، وخفضت كل المنكرات، وجزمت عن الشهوات، ونصبت بين عينيك الممات؟ واللّه يا أخي ما يقال للعبد لم لم تكن معربا، وإنما يقال له: لم كنت مذنبا؟ ليس المراد فصاحة المقال، وإنما المراد فصاحة الفعال، ولو كان الفضل في فصاحة اللسان، لكان سيدنا هارون أولى بالرسالة من سيدنا موسى، حيث يقول: وأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً [القصص: 34])([4])

حين سمعت هذا جلست لمشايخي من العارفين.. وقد رأيت من أنوار الفهم عندهم ما فتح لقلبي أنوار الحقائق التي كنت محجوبا عنها بظلمات نفسي، وظلمات الغرور الذي كانت تمتلئ به.

سكت قليلا، ثم قال: أنا لا أقول لكم يا أبنائي.. لا تعربوا القرآن.. أو لا تبحثوا عن استعارته ومجازه.. وإنما أقول لكم: عيشوا القرآن.. واسمعوه من الله.. فلا يفقه القرآن من لا يسمعه من ربه.

قال التلميذ: وهذا أيضا مما يعترضونه علينا.. إنهم يذكرون لنا أننا نكفر بذلك.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحده الذي سمع القرآن من الله.. بل إنه سمعه من الله بواسطة جبريل عليه السلام.

ابتسم الشيخ، وقال: ألم يقرؤوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الولاية: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به)([5]) فـ (والصفة لا تنفك عن موصوفها، ولا تظهر إلا من حجاب لبسها، { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } [الشورى: 51] موسى عليه السلام لما سمع خطابا من جانب الطور الأيمن لم يستدل على أنه كلام الله يكلمه به إلا به من أجل ما أعطي من سلامة الذوق وصحة الوجدان، وهكذا الواحد منا مهما تقوى يقينه وانشرح باطنه فيما يسمعه من ألفاظ القرآن، فلا يراه إلا كلاما يكلمه الله به في ذلك الحال، ولا يستدل عليه إلا به لما يحده في قلبه من تأثير النزول ورعدة الزواجر)([6])

لقد ذكر لي شيخي بعض ما يحصل لسامع القرآن من الله من تأثير حين سماعه، فقال: (وهكذا لما ينزل به على محمد r يحصل من تأثر النزول ما ترتعد به مفاصله، ولن يزال هكذا مهما مر على قلب فارغ من الكدورات إلا ويحدث فيه من تأثير النزول، وقد كان لي نصيب من ذلك والحمد لله، فكنت مهما يطرق سمعي كلام الله فترتعد بوادري عن  الفحص حتى كأني أسمع حسيسا من بقية صلصلة الجرس، وكنت إذا ما تناولت المصحف الكريم نتناوله بيد التبجيل والتعظيم، وأراه كتابا وصل إلي من حكيم عليم.. وبهذه الخاصية والحمد لله أطلعني الله على بعض من جواهره)([7])

قال التلميذ: لو قلنا لهم ما ذكرته الآن لرمونا بالحجارة.

قال الشيخ: فقولوا لهم([8]): إن مرادنا من سماع القرآن من الله لا يعني إلا أننا نعتبره خطابا مباشرا من الله لنا.. أي أننا المقصودون بكل خطاب في القرآن الكريم، فإن سمعنا أمرا أو نهيا قدرنا أننا المنهيون والمأمورون.. وإن سمعنا وعدا أو وعيدا فكمثل ذلك.. وإن سمعنا قصص الأولين والأنبياء علمنا أن السمر غير مقصود وإنما المقصود ليعتبر به وليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه فما من قصة في القرآن إلا وسياقها لفائدة في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته ولذلك قال تعالى { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [هود: 120] فليقدر العبد أن الله ثبت فؤاده بما يقصه عليه من أحوال الأنبياء وصبرهم على الإيذاء وثباتهم في الدين لانتظار نصر الله تعالى.

وكيف لا يقدر هذا، والقرآن ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرسول الله خاصة، بل هو شفاء وهدى ورحمة ونور للعالمين، ولذلك أمر الله تعالى الكافة بشكر نعمة الكتاب فقال تعالى: { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ  } [البقرة: 231]، وقال عز وجل: { لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [الأنبياء: 10].. وغيرها من الآيات الكريمة، وإذا قصد بالخطاب جميع الناس فقد قصد الآحاد، فهذا القارىء الواحد مقصود، فما له ولسائر الناس، فليقدر أنه المقصود، قال الله تعالى: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام: 19]، وقد قال بعض مشايخنا بعد قراءته للآية الكريمة: (من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله)

وفي هذه الحالة، وعند تقديره أنه المقصود من كل خطاب، لم يتخذ دراسة القرآن عمله، بل يقرؤه كما يقرأ العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه، ليتأمله، ويعمل بمقتضاه، ولذلك قال بعض مشايخنا: (هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربنا عز وجل بعهوده نتدبرها في الصلوات، ونقف عليها في الخلوات، وننفذها في الطاعات والسنن المتبعات)

وكان بعض مشايخنا في الزاوية يزورنا، ونحن نحفظ القرآن أو نراجعه، ويقول: (ما زرع القرآن في قلوبكم يا أهل القرآن، إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض)

قال تلميذ آخر: إنهم يا شيخنا يقولون لنا: إنكم لن تستفيدوا من تلك الإشارات إلا بعدا عن حقائق القرآن.. فالقرآن عبارة لا إشارة.. وقد يخطئ الإنسان في الإشارة.. لكنه لن يخطئ أبدا في العبارة، لأنها محروسة باللغة والإعراب والبلاغة وكلام أساطين المفسرين.

قال الشيخ: ليس الشأن يا بني أن نعرب القرآن أو نستخرج درر بلاغته.. الشأن أن نتأثر بالقرآن.. فالقرآن يحدث في قلب الإنسان آثارا مختلفة بحسب اختلاف الآيات، فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد يتصف به قلبه من الحزن والخوف والرجاء وغيره.

وهكذا فإن قلب المؤمن إذا تمت معرفته تغلب عليه الخشية في عامة أحواله، لأن ذلك من مقاصد القرآن الكريم لتربية النفوس وتطهيرها.. ولهذا لا نرى ذكر المغفرة والرحمة إلا مقرونا بشروط يقصر العارف عن نيلها كقوله عز وجل: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ  } [طه: 82]، ثم أتبع ذلك بأربعة شروط: { لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى  } [طه: 82]

ومثل ذلك السورة التي كنا نحاول أن نسمعها من الله، فقد ذكر الله أربعة شروط لتحقيق الفوز والفلاح.

ومن فهم ذلك فجدير بأن يكون حاله الخشية والحزن، ولذلك كان بعض مشايخنا يقول: (والله ما أصبح اليوم عبد يتلو القرآن يؤمن به إلا كثر حزنه، وقل فرحه، وكثر بكاؤه، وقل ضحكه، وكثر نصبه وشغله، وقلت راحته وبطالته)

وقال شيخ آخر، وقد رآنا ننشغل بالروايات والأحاديث عن القرآن الكريم: (نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئا أرق للقلوب ولا أشد استجلابا للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره)

وهكذا فإن تأثر العبد بالتلاوة تجعله يصير بصفة الآية المتلوة، فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط يتضاءل من خيفته كأنه يكاد يموت، وعند التوسع ووعد المغفرة يستبشر كأنه يطير من الفرح.

وعند ذكر الله وصفاته وأسمائه يتطأطأ خضوعا لجلاله واستشعارا لعظمته.. وعند ذكر الكفار ما يستحيل على الله عز وجل يغض صوته، ويكسر في باطنه حياء من قبح مقالتهم.

وعند وصف الجنة ينبعث بباطنه شوقا إليها.. وعند وصف النار ترتعد فرائصه خوفا منها.

وإذا قال: { رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [الممتحنة: 4] ولم يكن حاله التوكل والإنابة كان حاكيا.

وإذا قال: { وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا  } [إبراهيم: 12] فليكن حاله الصبر أو العزيمة عليه حتى يجد حلاوة التلاوة.

فإن لم يكن بهذه الصفات ولم يتردد قلبه بين هذه الحالات كان حظه من التلاوة حركة اللسان مع صريح اللعن على نفسه في قوله تعالى: {  أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ  } [هود: 18]، وهكذا في كل موضع فيه لعنة.. ولهذا ورد في الحديث: (رب تال للقرآن والقرآن يلعنه)([9])

وإذا لم يكن يقرأ بهذه الصفة كان داخلا في معنى قوله عز وجل: {  وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } [البقرة: 78] يعني التلاوة المجردة.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا في قوله عز وجل: {  وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [يوسف: 105]، لأن القرآن هو المبين لتلك الآيات في السموات والأرض.. ومهما تجاوزها ولم يتأثر بها كان معرضا عنها.

كان بعض مشايخنا يمر علنا، ونحن نقرأ القرآن في الزاوية، ويقول لنا: (إياكم وأن يكون حظكم من القرآن إقامة حروفه.. فإن من لم يكن متصفا بأخلاق القرآن، إذا قرأ القرآن ناداه الله تعالى: مالك ولكلامي وأنت معرض عني، دع عنك كلامي، إن لم تتب إلي)

قال ذلك، ثم التفت لتلميذه الذي سأله، وقال: هل تعلم ما هو مثال العاصي إذا قرأ القرآن وكرره؟

قال التلميذ: وما مثاله؟

قال الشيخ: مثله مثل من يكرر كتاب الملك في كل يوم مرات وقد كتب إليه في عمارة مملكته وهو مشغول بتخريبها ومقتصر على دراسة كتابه.

وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله عز وجل: {  فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [آل عمران: 187]

وأشار إلى حال المؤمنين عند قراءته، فقال: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الأنفال: 2]

قال لي بعض زملائي أثناء التحصيل: قرأت القرآن على شيخ لي، ثم رجعت لأقرأ ثانيا فانتهرني، وقال: جعلت القرآن علي عملا، اذهب فاقرأ على الله عز وجل، فانظر بماذا يأمرك وبماذا ينهاك([10]).

قال التلميذ: اسمح لنا سيدنا أن نذكر لك ما يثيره فينا تلاميذ شيخ العبارة من الإشكالات.

قال الشيخ: اذكر ما بدا لك.. فمتى حجرت عليكم أن تسألوني؟

قال التلميذ: لقد ذكروا لنا أن الله أكرم وأعدل من أن يخص أحدا دون أحد بفهم كتابه.. فالكتاب للناس جميعا.. وذلك لا تقوم به إلا العبارة.

قال الشيخ: صدقوا في هذا، فالله أكرم من أن يحرم خلقه.. ولكنه غني كريم، فلا يعطي عطاءه لمن رغب عنه، ألم تسمع قوله تعالى: { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } [الإسراء: 20].. فكما أن ظاهر جلد المصحف وورقه محروس عن ظاهر بشرة اللامس إلا إذا كان متطهراً، فباطن معناه أيضاً بحكم عزه وجلاله محجوب عن باطن القلب إلا إذا كان متطهراً عن كل رجس ومستنيراً بنور التعظيم والتوقير.. وكما لا يصلح لمس جلد المصحف كل يد، فلا يصلح لتلاوة حروفه كل لسان ولا لنيل معانيه كل قلب([11]).

لقد سألت شيخي عن معنى الطهارة التي تبيح مس المصحف، فقال: (طهارة أهل المحبة الفكرة والنظرة، وطهارة أهل الخدمة بالمجاهدة والمكابدة بين عبادة ظاهرة كصلاة وصيام وذكر وتلاوة وتعليم.. وبين عبادة خفية كخوف ورجاء وزهد وصبر وورع ورضا وتسليم ورحمة وشفقة وغير ذلك مما لا يظهر للعيان.. وأما طهارة أهل الباطن، فهو الغيبة عن الأكوان بشهود المكون، أو الغيبة عن الخلق بشهود الملك الحق..)([12])

قال الشيخ ذلك، ثم التفت لتلميذ آخر، وقال: وأنت.. أظن أنك لديك سؤالا.. وأنت تستحي من ذكره.

قال التلميذ: أجل..

قال الشيخ: اذكر سؤالك يا بني.. فأنت تعلم أن الحيي محروم من الاستفادة.. مثله مثل المستكبر تماما.

قال التلميذ: هم يعترضون على ما ذكرته لنا البارحة عند قوله تعالى: { وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا } [الإسراء: 80].. لقد ذكرنا لهم ما قلته.. فذكروا أنك مخطئ فيها، والصحيح أن هذه الآية نزلت في فتح مكة، وأن اللّه تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول هذا الدعاء عند دخولها حال فتحها، ومعناه: رب أدخلني مكة مدخل صدق أي: إدخال صدق، بأن يكون دخولي بك واعتمادي عليك ناصرا لدينك بحولك وقوتك، وأخرجني من مكة مهاجرا إلى جهاد عدوك مخرج صدق: أي: إخراج صدق، بأن أكون منصورا بك، معصوما بحفظك ورعايتك، واجعل لي من لدنك سلطانا: أي: برهانا دامغا لكل باطل نصيرا ينصرني على من عاداني.

قال الشيخ: وهل أنكرت أنا هذا التفسير؟

قال التلميذ: لا.. ولكنك ذكرت لنا معه تفسيرا آخر استغربوه.. بل قالوا فيك كلاما شديدا بسببه.

قال الشيخ: لعلكم أخطأتم يا بني في النقل عني.. فهل تذكر لي ما قلتم لهم بالضبط؟

قال التلميذ: محال أن نخطئ في ذلك يا شيخنا.. نحن نسجل كل كلمة تقولها.. سأعيد لك ما ذكرته لنا.

فتح دفتره، ثم راح يقرأ: ( هذه الآية الكريمة تدل على أن دخول العارفين في الأشياء كلها يكون باللّه، وخروجهم منها يكون باللّه، وكأن الله يخاطبنا من خلالها بقوله: قل أيها العارف: رب أدخلني في الأشياء حقوقا كانت أو حظوظا مدخل صدق أي: إدخال صدق، بأن يكون ذلك الإدخال بك، معتمدا فيه على حولك وقوتك متبرئا من حولي وقوتي ومن شهود نفسي، وأخرجني منها مخرج صدق أي: إخراج صدق، بأن أكون مأذونا بإذن خاص، مصحوبا بالخشية وسر الإخلاص، ليكون نظري‏ إلى حولك وقوتك إذا أدخلتني في الأشياء وانقيادي إليك إذا أخرجتني منها.. واجعل لي من لدنك أي: من مستبطن أمورك بلا واسطة ولا سبب سلطانا أي: برهانا قويّا، وليس ذلك إلا وارد قوى من حضرة قهار لا يصادمه شي‏ء إلا دمغه فيحق الحق ويزهق الباطل، ويكون ذلك السلطان ينصرني على الغيبة عن الحس، وعن شهود السوى حتى نبعد عنهما برؤية مولاهما ولا ينصر علىّ الوهم والحس وشهود الغيرية)([13])

قال الشيخ: نعم.. قلت لكم هذا.. وهو واضح، وليس فيه أي شيء منكر لا من الشريعة، ولا من العقل..

قال التلميذ: ولكنهم يذكرون أن هذا تحريف للقرآن الكريم.. وأننا لا يصح أن نخرج بالآية عما قال المفسرون.

قال الشيخ: صدقوا يا بني في ذلك.. ولا تجادلوهم فيه.. هم تحدثوا عن مرتبتهم الوجودية.. أوعيتهم لا تقبل غير ذلك..

أذكر أني في شبابي الباكر أرسلت لشيخي رسالة أذكر له فيها ما يطرحه المعترضون عليه، فرد علي برسالة قال فيها: (اعلم – أيها الولد المحب- أن من العلوم القرآنية ما هو خاص بالخاصة، ولا يمكن للعامة أن تفهمه أو تتعاطاه، وقد ورد في الأثر: (إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا أظهروه أنكرته أهل الغرة بالله)([14]).. وقد ورد في وصية الإمام علي لتلميذه الصالح كميل: (يا كُميل، إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها، فاحفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة؛ عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباعُ كل ناعق، مع كل ريح يميلون، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، فاحذر أن تكون منهم يا كميل..)

وقال له شاكيا: (آه لو وجدت لهذا العلم حملة لا أجد إلا لقناً غير مأمون، يستعمل آلة الدين للدنيا، ويستظهر بنعم الله على عباده، وبحججه على أوليائه، أو منقاداً لحملة الحق، ولا بصيرة له في أحناته، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شُبهة، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، أو منهوكا باللذة سلس القياد للشهوة، أو مغرماً بالجمع والادخار، ليسا من رعاة الدين في شيء، أقربُ شبهاً بهما الأنعامُ السائمة كذلك يموت العلم بموت حامليه مستترا..)

العبارة:

بعد أن امتلأت بمشاعر عظيمة في مجلس شيخ العبارة، وبعد أن سال من دموعي ما لم أستطع إيقافه.. وبعد تلك الحسرة التي شعرت بها على تقصيري في حق ربي.. رحت لجهلي وغبائي أبحث عن شيخ العبارة الذي كانوا يتحدثون عنه كل حين.

فسألت عنه، فدلني بعضهم على قصر مهيب.. فتعجبت أن يكون لشيخ العبارة مثل تلك المدرسة.. بينما مدرسة شيخ الإشارة لا تعدو أن تكون كوخا من الأكواخ، أو منزلا بسيطا لا يزيد عن البيوت التي تجاورها شيئا.

وعندما دخلت المدرسة زاد عجبي من كثرة تلاميذها.. وكثرة المتاع المتوفر فيها..

كان التلاميذ في انتظار الشيخ على أحر من الجمر.. وكان بيد كل منهم دفتر وقلم..

دخل الشيخ، وكان ضخم الجثم، حسن البزة، طويل القامة، عريض الهامة، يملأ السمع والبصر..

بدأ القارئ بإشارة من الشيخ يقرأ القرآن الكريم.. وكان العجب أن يقرأ سورة العصر..

بعد قراءتها أخذ الشيخ في تفسيرها، وكان جهوري الصوت، فصيح اللسان، يحرص على أن يقيم القلقة والغنة والمدود ونحوها.. ويحرص على ألا يقع في أي لحن.. سأحكي لكم نموذجا مما كان يقوله، ويمكنكم أن تقيسوا عليه الباقي..

قال الشيخ: نبدأ باللغة.. (الْعَصْرِ) كما في القاموس: الدهر.. والجمع أعصار وعصور وأعصر وعصر.. والعصر اليوم والليلة والعشي إلى احمرار الشمس.. والغداة والحبس والرهط والعشيرة والمطر من المعصرات والمنع والعطية، عصره يعصره وبالتحريك الملجأ والمنجاة كالعصر بالضم([15]).

قال بعض التلاميذ: ماذا قال السلف الصالح في معناه؟

قال الشيخ: لقد ورد عن السلف فيه ثلاثة أقوال([16]):

أحدها: أنه الدَّهر، قاله ابن عباس، وزيد بن أسلم، والفراء، وابن قتيبة. وإنما أقسم بالدهر لأن فيه عبرة للناظر من مرور الليل والنهار على تقدير لا ينخرم.

والثاني: أنه العشي، وهو ما بين زوال الشمس وغروبها، قاله الحسن وقتادة.

والثالث: صلاة العصر، قاله مقاتل.

قال تلميذ آخر: هلا وضحت لنا كيف نقرؤها غضة طريقة.

قال الشيخ: في ذلك وجوه:: منها ما قرأ به سلام أبو المنذر، حيث قرأ (والعصر) بكسر الصاد والراء.. وهذا إنما يكون في نقل الحركة عند الوقف كقولك مررت ببكر تعلو كسرة الراء إلى الكاف عند الوقف.. وكذلك يفعلون في المرفوع ولا ينقلون في المنصوب إلا في ضرورة شاعر، وقد قال سيبويه: الوقف على الاسم بستة أشياء: بالإشمام والإشباع، وروم الحركة، ونقل الحركة، والتشديد، والإسكان.. ونقول الإشمام ضم الشفتين بعد الإسكان في المرفوع والمضموم للإشارة إلى الحركة من صوت والغرض به الفرق الساكن والمسكن في الوقف، والروم هو أن تأتي بالحركة مع إضعاف صوتها والغرض به هو الغرض بالإشمام إلا أنه أتم في البيان من الإشمام فإنه يدركه الأعمى والبصير والإشمام لا يدركه إلا البصير.

قال تلميذ آخر: شكرا لنا شيخنا.. فلنذهب إلى الكلمة الثانية (الْإِنْسانَ)

قال الشيخ: (الْإِنْسانَ) لفظ يقع للذكر والأنثى من بني آدم وربما أنّثت العرب فقالوا إنسان وإنسانة، كما قال الشعر:

إنسانة تسقيك من إنسانها… خمرا حلالا مقلتاها عنبه

وال فيه لاستغراق الجنس فيشمل المؤمن والكافر بدليل الاستثناء.

قال تلميذ آخر: وكلمة (خُسْرٍ).. ما تعني؟

قال الشيخ: الخسر والخسران سواء، قال في المصباح: (خسر في تجارته خسارة بالفتح وخسرا وخسرانا ويتعدى بالهمزة فيقال أخسرته فيها وخسر خسرا وخسرانا أيضا: هلك)

بقي الشيخ هكذا يشرح السورة كلمة كلمة.. ثم أعربها، وأطال في وجوه إعرابها.. ثم تكلم عن البيان والمعاني والبديع.. ثم انتهى من درسه، وطلب من تلاميذه أن يسألوه عما لم يفهموه.

قال أحدهم: شكرا لك شيخنا على هذا التفسير العظيم الذي لم نقرأ مثله.. وأنا أريد أن أسألك سؤالا حول شيخ الإشارة..

غضب الشيخ، وقال: ما به.. ألا يزال ذلك الأمي الملحد يتجرأ على تفسير القرآن.. ألم أكن قد نهيته عن ذلك.. ألم تأت الشرطة بعد لتغلق عليه السرداب الذي ينشر فيه الباطنية وكل أنواع الضلال؟

قال التلميذ: بلى.. لم تأت الشرطة بعد.. وقد كنت في الصباح عنده.. وقد رأيته يفسر هذه السورة بخلاف ما فسرتها.. وقد ملأ تلاميذه رعبا.. بل صور لهم، وكأنهم هم الخاسرون.. لا الكفار والمبتدعة والزنادقة.

قال الشيخ، وهو يضحك: لقد صدق في هذا.. فمن تبعه لا شك في خسارته..

ضحكوا جميعا، لكن أحد التلاميذ قال: ولكن السورة فيها هذا التهديد المخيف.

قال الشيخ: هي تهديد للمبتدعة المنحرفين الضالين.. أما أصحاب الفرقة الناجية، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. لقد وردت الآثار الكثيرة عن سلفنا الصالح تضمن النجاة لكل من تمسك بما نتمسك به من السنة وهدي السلف الصالح..

ثم أخذ يروي لهم ما ورد عن البربهاري وابن بطة وابن خزيمة وابن تيمية وغيرهم من الضمانات ما ملأهم بشرا وسعادة، وأكد لهم أنهم لا محالة داخلون الجنة، وأن من عداهم لا محالة داخلون النار.

بعد انتهى رفع تلميذ آخر يده، وقال: هل علمت يا شيخنا بأن شيخ الإشارة قد عاد لما حذرته منه، فذكر أنه يمكن للإنسان أن يسمع القرآن من الله مباشرة من غير حاجة لملك أو غيره.

قال الشيخ([17]): هذه جراءة لم يتح لأحد ـ فيما مضى ـ أن يعلن بمثلها في قوم من المسلمين فتروى عنه وتروج، إنها تؤدى بقائلها والمصدق به إلى الاستغناء عن رسالة محمد r إذا كان (المؤمن) يأخذ القرآن من الامام المبين.. أو يأخذ مباشرة من أرحم الراحمين فإنه ليس من أمة محمد، لأن أمة محمد أخذت القرآن منه صلى الله عليه وآله وسلم، أخذه الصحابة مباشرة وكتبوه ورووه، وبلغ إلى من لم يكن حاضرا نزوله ومن بعده برواية بلغت حد التواتر في كل كلمة منه وكل حرف، وهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يأخذ القرآن مباشرة من اللوح المحفوظ، ولا تلقاه مباشرة من الله، وإنما تلقاه من لدن حكيم عليم بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام، كما أنبأنا علام الغيوب، { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الشعراء: 192]..

إن هذه الدعوى خطيرة جدا لأنها تؤدي إلى أن الوحي لم ينقطع بختم الرسالة، فمن يقرأ اللوح المحفوظ، ومن يتلقى عن الله فهو يوحى إليه: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الشورى: 51]، ونحن المسلمين نعتقد أن الوحي قد انتهى بختم الرسالة)

قال ذلك، ثم ختم الجلسة، وهو يقول: انتظروا.. في هذا المساء سوف نقضي على هذه الفتنة من جذورها.

قبل آذان المغرب بقليل، شعرت بأشواق تجذبني إلى شيخ الإشارة، لأزيح عن قلبي ما علق به من رين بسبب شيخ العبارة، فذهبت، لكني فوجئت بها مغلقة بالشمع الأحمر.. سألت المارة عن الشيخ، فأخبروني أنه اقتيد إلى السجن.. وأن شيخ العبارة انتصر أخيرا على شيخ الإشارة..

وفي ذلك المساء أيضا سمعت أن شيخ العبارة رقي إلى مناصب مهمة في الدولة، بحيث صار هو الممثل الأعلى للإسلام، وهو المفتي الوحيد في الدولة، والمفسر الوحيد للقرآن.


([1])    اقتبسنا هذا التفسير الإشاري بتصرف من (رسالة مفتاح علوم السر في تفسير سورة والعصر) للشيخ ابن عليوة، باعتباره هو شيخ الإشارة في هذه الحكاية.. وخصمه السلفي الذي كفره هو شيخ العبارة.

([2])    ابن عليوة، المنح القدوسية، ص20.

([3])    ابن عليوة، المنح القدوسية، ص21.

([4])    إيقاظ  الهمم فى شرح الحكم، ص: 386.

([5])    صحيح البخاري (8/ 131)

([6])    ابن عليوة، البحر المسجور، ص19.

([7])    البحر المسجور: 19- 20.

([8])    انظر: إحياء علوم الدين (ج1/ 285)

([9])    ابن أبي حاتم في تفسيره ج:6 ص:2017.

([10])    إحياء علوم الدين (ج1/ 286).

([11])    إحياء علوم الدين (ج1/ 281).

([12])    إيقاظ  الهمم فى شرح الحكم، ص: 70 بتصرف.

([13])    إيقاظ  الهمم فى شرح الحكم، ص: 517.

([14])    قال العراقي في تخريجه: (رواه أبو عبد الرحمن السلمي في الأربعين له في التصوف من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف) (انظر: أبو الفضل العراقي، المغني عن حمل الأسفار، تحقيق: أشرف عبد المقصود، مكتبة طبرية الرياض، 1415هـ – 1995م، (ج1/ 23)

([15])    إعراب القرآن وبيانه (10/ 571).

([16])    زاد المسير في علم التفسير (4/ 487).

([17])    الكلام الوارد هنا هو للشيخ أحمد حماني في كتابه، صراع بين السنة والبدعة،(ج1/272) في نقد الشيخ ابن عليوة الذي اعتبرناه شيخ الإشارة.. وقد أشرنا بقصر شيخ العبارة إلى المجلس الإسلامي الأعلى الذي كان يرأسه الشيخ حماني.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *