الأرض

الأرض

الأرض والتراب والوطن ظروف يعيش في وسطها الإنسان، أم قيم ومبادئ ومصادر يتلقى منها فكره وروحه وعواطفه؟

ولماذا يفرح الإنسان بالأرض ويتيه بها ويتعلق بجذورها، وقد يمد نفوذه على أراضي غيره يغتصبها ويستعمرها ويمتلك أهلها أو يطردهم؟

ولماذا يتغنى الناس بقطعة الأرض التي يظنون أنفسهم ملاكا لها ومواطنين بها ويبالغون في تغنيهم ويجعلها الشعراء مساوية لله في ملكوته، ويختارونها على الخلد وعلى الجنة، ويكادون يختارونها على الله؟

ولماذا تجري تحت بعضهم الأنهار، ويخضر تحت أرجلهم الزرع، وتدنو إلى أيديهم الثمار، ويلفح آخرون تحت القيظ، ويحترقون بالحر والجليد، وكل هؤلاء، من يعيش منهم في جنة الدنيا، ومن يعيش في سعيرها، يحن إلى أرضه ويحبها ويتعلق بها ولا يكاد يرضى ببيعها.

وهل الوطن صنم من الأصنام التي تعبد في الأرض من دون الله، أم أنه آية من آيات الله التي يعبد من خلال النظر لها الله ويعرف ويحب؟

وهل أصحاب المصالح الذين يتاجرون بحب الوطن، ويتظاهرون بتقبيل ترابه والتمسح بحجارته والانحناء أمام جباله ووهاده كهنة لهذا الصنم وسدنة له، أم عارفون متعبدون يركعون بركوعهم له لله ويتعبدون له؟

وهل عباد هذا الصنم البلهاء الذين يقصرون نظرهم إلى التراب، ولا يرفعون أعينهم نحو السماء، ولا ينظرون إلى الكواكب الكثيرة التي تزين هذا الكون العريض بلهاء أم مؤمنون، محقون أم مخدوعون؟

إن القاعدة التي نعرفها من خلال القرآن الكريم والنصوص المعصومة المقدسة الخالية من زهو الشعارات وألوانها وبريقها هي أن كل ما يفرح به من دون الله باطل، ومصير صاحبه إلى الحزن، وأن الفرح الوحيد الحق هو الفرح بالله وبما عند الله، فهل الفرح بالوطن معصية، وهو الذي يترعرع بين حناياه الإنسان ويرضع من ترابه، وهو طبيعة لا يكاد ينفك عنها الإنسان، فهل هذه الطبيعة جبلة أم تطبع؟ وهل هي زينة أم تزيين؟

إن القرآن الكريم ـ وهو يصف اليوم الذي منه بدأ الإنسان ـ يعرفنا أن مزين عبادة الوطن والفرح به والاشتغال به عن الله هو إبليس عندما قال في نص وعيده الذي لم يقصر في تنفيذه: { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}(الحجر:39)، فقد زين للخلق الأرض فأصبحت في أعينهم أجمل من السماء، وزين لهم التراب فتثاقلوا إليه ونسوا الجنة التي نزلوا منها.

وكانت الأرض هي الظرف الذي تم فيه كل تزيين، وقصر الخلق نظرهم إليها واشتد حرصهم عليها وعبادتهم لها، وكان أكبر تهديد يرسله هؤلاء المواطنون المتثاقلون للأرض العابدون لها لأنبيائهم، هو ما نص عليه القرآن الكريم تفصيلا وإجمالا كسنة اجتماعية يقابل بها الرسل والدعاة في كل مكان وزمان، قال تعالى:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِين} (إبراهيم:13)

وهذا المنطق يبين التصور المغلوط لهؤلاء المتثاقلين حين تصوروا أنهم ملاك الأرض، يخرجون من يشاءون ويحتفظون بمن يشاءون، لأنهم وحدهم المواطنون والوطنيون وغيرهم عملاء أو خونة أو يريدون أن يخرجوا أهل الأرض من أرضهم.

وهذه هي الورقة التي كان يلعب بها فرعون عندما خاطب قومه وعيناه مغرورقتان بالدموع حزنا على الوطن الذي يريد موسى أن يسلبه من المصريين، قال تعالى على لسان فرعون:{ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} (الأعراف:110)

وقد كانت هذه الورقة هي التي كان يلعب بها فرعون على عقول المصريين كما يلعب بها كل الطغاة على مسار التاريخ، ولذلك كان المنطق الذي عبر به الملأ من قوم فرعون وهم لسانه الناطق، وهم فروع من فرعنته أو كما يصورهم القرآن فراعنة صغار يختبئون وراء فرعون الأكبر كما تختبئ الأصنام وراء الصنم الأكبر، قال تعالى:{ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} (الأعراف:127)

والإفساد في الأرض في تصورهم هو أن تكون لموسى وأخيه هارون الكبرياء في الأرض التي هي الثمرة الأولى التي يجنونها من وراء مواطنتهم ووطنيتهم، قال تعالى:{ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}(يونس:78)

لأن المفاهيم الجديدة والعقائد الجديدة التي تمس ثوابت الأمة تمس روح الوطن وتمس مصالح القائمين عليه، وهي بالتالي خيانة عظمى وإفساد في الأرض.

 ولهذا ارتبطت الآلهة في كل الديانات والمذاهب البشرية بالأرض، وكانت الأرض هي أم الآلهة أو أساس وجودها، وكان الأنبياء خونة باعتبار هذه العقائد لأنهم يمسون أصلا من الأصول التي يرتبطون بها ولا يريدون التنازل عن تصوراتهم نحوها، ولذلك كانوا يقابلون بالتهديد وبالإخراج من الأرض، قال تعالى عن المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:{ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء:76)، وقال عن الفراعنة مع موسى: { فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنْ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} (الإسراء:103)

ويخبرنا القرآن الكريم عن إحدى العلل الكبرى التي كان المشركون يتصورونها كافية لترك الدين الجديد الذي يستيقنون صدق مبلغه وأنه رسول رب العالمين، وهو الاستغراق في الوطن والأرض إلى درجة الخوف والجبن، قال تعالى: { وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(القصص:57)

والكبرياء في الأرض والتعالي بها وتضخيم الذات من خلالها والفخر على الغير والتكاثر عليه هي الغاية التي يصور بها القرآن حب هؤلاء الوطنيين للأرض، فهم في حقيقة الأمر لا يحبون الأرض وإنما يحبون وجودهم عليها، ولا يفخرون على الغير بالأرض، وإنما يفخرون عليهم بأنفسهم، لأنهم لو كانوا مواطنين بأرض أخرى لفخروا بها وأحبوها وتعلقوا بها.

والنماذج القرآنية عن المستعلين في الأرض كثيرة، منها نموذج الفرد المتعالي فرعون، قال تعالى:{ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِين}(القصص:4)

ومنها نموذج المجتمع المتعالى قرية عاد، قال تعالى:{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}(فصلت:15)

وتعالي فرعون صاحب الأرض الخصبة الذي تجري من تحته الأنهار مع تعالي عاد صاحبة الأرض القاسية الجافة يبين أن الأرض لم تكن محبوبة لذاتها وإنما لكونها إسقاطا للأنا.

وانطلاقا من هذا التعالي في الأرض الذي جعل أصحابها يعتقدونها ملكا لهم، كان الأنبياء يعرفون قراهم أن هذه الأرض أرض الله لا أرضهم، وأنهم سيكونون مغتصبين مفسدين إن نسبوها إلى أنفسهم، والقرآن الكريم يذكر عن نبي الله صالح عليه السلام لبيان ذلك أربعة أساليب من خطابه لقومه الذين اشتد تعلقهم بالأرض إلى الدرجة التي حجبتهم عن السماء، قال تعالى:{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(الأعراف:73)

فالأرض أرض الله لا أرض عاد أو ثمود، وسبب كل الأخطاء التي يتعامل بها الإنسان مع الأشياء هي اعتقاده ملكيته لها، والتي تجعله يتصور حريته المطلقة في التعامل معها كما يهوى وكما ترغب نفسه.

ولهذا كان الأنبياء يخاطبون قومهم بمنطق النعمة لا بمنطق الأشياء، لأن النظر إلى النعمة والآلاء بهذا الاعتبار يجعل منها عبودية خالصة لله لا حجابا عن الله، قال تعالى عن خطاب صالح لقومه: { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (الأعراف:74)

ونلاحظ إعجاز النص القرآني في ترتيبه ذكر آلاء الله على ذكر النعم، وترتيبه عدم الإفساد في الأرض على ذكر آلاء الله، لأن من رأى الأشياء من الله لا يتضرر بها ولا يضر غيره، ومن رآها من نفسه انشغل بها، فأهلك نفسه وألحق الفساد بغيره.

ولهذا كان صالح عليه السلام يخاطب قومه ويذكرهم بأنهم خلفاء في الأرض بجعل الله لينفي عنهم الشعور بتملك الأرض أو التضخيم الزائد لأنفسهم، قال تعالى على لسان صالح عليه السلام:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا}(فاطر:39)

واعتبارهم خلائف ينزع عنهم زهو التملك، واعتبار خلافتهم جعلا وليست ذاتية تنفي عنهم الأنا التي قد تضخم تصورهم للخلافة إن تصوروها نابعة منهم واستحقاقا لهم.

وبما أن ثمود كانت تهوى العمران والحضارة العمرانية، وتشعر أن ذلك العمران منها وبها كان صالح يخاطبهم بأن قدرتهم التعميرية من الله نعمة من نعمه كنعمة الأرض، قال تعالى:{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}(هود:61)

والعمران والمساكن التي يتشكل منها الوطن كانت ولا زالت حجابا من الحجب العظمى التي تحول بين الخلق وبين السماء ومسمارا من المسامير التي تثقلهم إلى الأرض، وكلما ارتفع بنيان النفس البعيدة عن الله كلما ارتفع طغيانها، فتجبر الرومان كان وليدا من قساوة حجارة مسارحها، وتعالي الفراعنة كان أثرا للصروح المشيدة التي أرادوا بها أن يصلوا إلى السماء، والظلام الروحي الذي يطغى على الشوارع الأمريكية والأوروبية ظلال من ناطحات السحاب التي يتيه بها الغرب على الشرق.

ولهذا جعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تعالى العامة البسطاء بالبنيان علامة من علامات الساعة، لأن انشغال هؤلاء بالتعالي يدل على أن تلك المفاهيم سيطرت على المجتمع سيطرة لا يخلصهم منها إلا قيام الساعة.

ومنطق أن الأرض لله وأن الاستخلاف فيها بيد الله هو الذي كان يصحح به موسى عليه السلام التصور الإسرائيلي للأرض والتي جعلتهم أذلاء مستضعفين يسامون الخسف ولا تتحرك أنفسهم للخروج من ذلك الهوان، قال تعالى:{ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(الأعراف:128)

وهذا النص يشير إلى أن اعتقادهم القديم بأن الأرض للبشر أو لبعض البشر هو سبب الاستضعاف والهوان.

وخلافة الإنسان في الأرض قاعدة من قواعد التصور الإسلامي للإنسان تعرفه بحقيقته وحقيقة الأرض التي يسكن فيها ويسكن إليها، قال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}(الأنعام:165)

وقال تعالى للملائكة حين كان آدم مشروعا خلقيا جديدا ينتظر محله للبروز: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُون} (البقرة:30)

ولتأسيس هذا المفهوم الذي يقوم على نسبة الأشياء لله ليأخذه الإنسان بعد ذلك من الله هو الذي من أجله يكرر القرآن نسبة الأرض لله وفي كل موطن يحتاج إلى بيان تلك النسبة، قال تعالى:{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة:17)

وقد وردت هذه الآية عقب قوله تعالى:{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}(المائدة:17) ليبين تهافت العقول البشرية التي ألهت المسيح وقصر نظرها الذي جعلها تسلم زمام الألوهية لإنسان في أرض هي جزء من كون فسيح لا نهاية له، وهو دليل على عمى من اتخذوا آلهة من الأرض أو من أي كوكب في السماء، فكل كوكب صفر في مساحة الكون وحجمه وأبعاده وجميع اعتباراته، ولهذا جاء التعبير القرآني يعبر عن ملك الله الواسع للأرض والسماء وما بينهما وكل شيء، ذلك الملك الذي يتصرف فيه كما يريد، لا معقب لحكمه ولا راد لأمره.

والقرآن الكريم يبين ـ نتيجة لذلك ـ أن كل ما على هذه الأرض من تيسيرات لم تفرضها التطورات الجيولوجية العمياء ولا التقلبات الزمنية المتطاولة وإنما دبرها الله لتستقبل الإنسان وتسخر لخدمته، قال تعالى:{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الزخرف:10)، والمتأمل في الأرض وفي التيسيرات الموجودة بها يرى مدى انطباق هذه الصفة على الأرض مقارنة بالكواكب الكثيرة المرئية.

والقرآن الكريم يفصل بعض وجوه هذا التمهيد ليبين من خلالها أن الله هو الفاعل والممهد والمدبر لا التطورات الجيولوجية العمياء، قال تعالى:{ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا}(الضحى:6)

ودعا إلى النظر إلى تسطيحها وتهيئتها بقوله تعالى:{ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَت}(الغاشية:20)

وأقسم بها بوصفها تتصدع وتنشق ليخرج منها الخير الكثير بذلك التصدع، قال تعالى:{ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْع} (الطارق:12)

وفصل في بيان الترتيب الذي رتبه الله تعالى للإنسان على الأرض بقوله تعالى: { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَاأَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} (النازعات:30 ـ 33)

ولهذا أشار تعالى بعدها إلى النظر بهذا المنظار للأرض نظر اعتبار لا نظر افتخار، قال تعالى:{ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِين} (الذاريات:20)

واليقين في القرآن لا يشير فقط إلى اليقين العقلي، بل يشير كذلك إلى نفس قوية مكتملة تندمج فيها قوة العقل مع نقاء الشعور مع بعد النظر.

وهذا اليقين هو الذي يجعلها ترى أثر رحمة الله في كل مظهر من المظاهر التي ينسبونها للطبيعة، قال تعالى:{ فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الروم:50)

وهو الذي يجعلها ترى الأرض معلقة بحفظ الله وإمساكه، منتظمة في سلك الكون لا بجاذبية عمياء تطرح ألف سؤال محير على من يرضى بقيوميتها من دون الله، قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (فاطر:41)

وهذا التصور هو الذي يحفظ المؤمن من الوقوع في براثن التصورات الخرافية، قال ابن عباس لرجل مقبل من الشام: من لقيت به؟ قال: كعبا، قال: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: إن السموات على منكب ملك، فال: كذب كعب، أما ترك يهوديته بعد! إن الله تعالى يقول::{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا } (فاطر: 41)

فإذا اطمأن المؤمن الموقن إلى هذه الحقيقة وعلم أن الأرض لله خلقا وتهيئة وتصريفا جاءت النصوص لتبين أن هذه الأرض المخلوقة عبد مطيع لله تحمل من عليها بأمر الله، والمواطن الحقيقي الذي تفرح به الأرض قبل أن يفرح بها هو الذي يشاركها تسبيحها لله، قال تعالى يبين نشأة الأرض وطاعتها لله في تلك النشأة التي أودعت فطرتها:{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت:11)

وهذا العهد الذي قطعته الأرض والسماء على نفسيهما بطاعة الله يتحد مع العهد الذي قطع على بني آدم وهم في عالم الذر إلا أن الفرق الوحيد والجليل بينهما هو أن الإنسان ينسى ويبتلى بنسيانه، أما غيره من المخلوقات فلا تنسى أبدا الفطرة التي فطرت عليها، قال تعالى:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}(الأعراف:172)

والجمع بين الإنسان الكائن الحي العاقل مع الأرض والسماء التي نراها جامدة لا روح فيها ولا عقل يشير إلى النظرة القرآنية للأرض والسماء وكل شيء، وهو أن الحياة تدب فيها جميعا، الحياة التي لا ندركها نحن لأننا من عالم مختلف ومن جنس مغاير.

ومن أنانية البشرية حصرها صورة الحياة في مظاهر الحياة التي تراها، والتي لا تعدو في معظمها تأمين التركيب الحي من الاختلال، فالأكسوجين والماء والكربون وغيرها من التركيبات والعناصر لا يعدو دورها حفظ التركيب وإمداده بطاقة الحياة التي نتصورها ونقصر الحياة عليها، ولهذا يذكر القرآن الكريم عن الأرض تسبيحها الدائم لله، والتسبيح لا يصدر إلا من حي عاقل، قال تعالى:{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(الصف:1)

وقد وردت هذه الآية في افتتاح ثلاث سور قرآنية هي الصف والحشر والحديد مع حذف ما الموصولة عن الأرض في سورة الحديد.

وبينت الآيات الكثيرة أن هذا التسبيح دائم مستمر، كتسبيح كل شيء في الكون، قال تعالى:{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}(الإسراء:44)، وفي الآية الكريمة إشارة إلى العقول التي تنكر كل ما لا تفقهه لتردها إلى حقيقتها العاجزة القاصرة عن سماع وإدراك حقائق الكون الكثيرة.

والآثار الكثيرة تؤكد هذا المعنى القرآني وهذه الحقيقة الكونية، فعن ابن مسعود أنه قال:(كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)، وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيح كحنين النحل، وعن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه دخل على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل، فقال لهم:(اركبوها سالمة ودعوها سالمة ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله منه)([1])

ويبين القرآن الكريم أن هذا الكائن الحي الذي يسمى الأرض صاحب مشاعر، فهو يكاد يتفطر من الكفر الذي يقع عليه،قال تعالى:{ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا}(مريم:90)

ويعبر القرآن الكريم عن قمة المشاعر الوجدانية التي تصدر من الأرض في مواقفها المختلفة من المؤمنين والكافرين والمفسدين والمصلحين، فالأرض لا تعرف غير هذه المصطلحات، قال تعالى:{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ}(الدخان:29)

وقد نفى ابن عباس المعنى المجازي الذي تفسر به أمثال هذه الآيات، نتيجة عدم الفقه في حقائق تصرفات الأكوان، فقال حين سأله بعضهم عن هذه:نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ففقده بكى عليه، وإذا فقده مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله تعالى فيها بكت عليه، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى الله تعالى منهم خير فلم تبك عليهم السماء والأرض)([2])

وهذا التفسير يوحي بإشارات علمية كثيرة قد تكشف عنها الأيام في علاقات السماء والأرض، وعلاقة الصلاة بالكون، ونحن نعرف الآن كثيرا من العلاقات التي كانت تعتبر في يوم من الأيام خرافات وأساطير.

ولأن الأرض بهذه الصورة، صورة الكائن الحي، يعبر القرآن الكريم عند ذكر نعم الله على عباده بما يوحي بتشبيهها بالحيوانات المركوبة التي يستغل ظهرها وضرعها ولحمها وجلدها، وكذلك الأرض يستغل سطحها وترابها وهواؤها وثرواتها، فهي مركب وسفينة فضائية مزودة بكل الاحتياجات، قال تعالى:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(الملك:15)

ولهذه المفاهيم القرآنية أثرها الكبير في تصحيح مفهوم المواطنة والعلاقة بالأرض، والربط الشعوري بين الأرض والإنسان ربطا لا توثقه الأنا والتعالي والتكاثر، وإنما يوثقه التوجه الواحد لله بالتسبيح والصلاة والافتقار والعبودية.

ولهذا تسلم الأرض بما فيها من حجارة وجبال وتربة على المؤمنين وتفرح بهم وتسر بمشاركتها لهم في تسبيحها، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن)([3])

وقال عبدالله بن مسعود: (إن الجبل يقول للجبل: يا فلان، هل مر بك اليوم ذاكر لله تعالى؟ فإن قال نعم سر به)، وعن أنس بن مالك قال:(ما من صباح ولا رواح إلا تنادي بقاع الأرض بعضها بعضا: يا جاراه، هل مر بك اليوم عبد فصلى لله أو ذكر الله عليك؟ فمن قائلة لا، ومن قائلة نعم، فإذا قالت نعم رأت لها بذلك فضلا عليها)

 وقال صلى الله عليه وآله وسلم في الحدبث المشهور:(لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)([4])

وهذه المشاعر وغيرها هي الأساس النظري الذي تنطلق منه علاقة المؤمن بالأرض، علاقة الرحلة إلى الله بما تقتضيه من صلاح يقدم على المصالح، فالمصالح نتيجة محدودة مؤقتة، والصلاح سير قد يكون عسيرا ولكن نتيجته تحوي المصالح الحقيقية للإنسان، والتي ينشغل عنها بمصالح التركيبة المعدنية والعضوية والغازية التي تشده إلى الأرض وتشعره بملكيته لها.

ولهذا نرى في القرآن الكريم الترغيب الكثير بالهجرة في سبيل الله وعدم الركون إلى الأرض إن كان في الركون إليها إضرارا بالمصالح الشرعية التي من أجلها سخرت الأرض مركبة طيعة للإنسان، قال تعالى:{ يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِي}(العنكبوت:56)

والحديث عن السعة هنا يشير إلى الهجرة إذا ما اقتضى تحقيق العبادة ذلك، ولهذا لا تعذر الملائكة الذين يموتون مستضعفين مع أن لهم إمكانيات التنقل والبحث في الأرض عن مواطن جديدة لتحقيق العبودية، هم كالمسافر الذي يبحث في القاطرة أو الطائرة عن الموضع المناسب له.

قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(النساء:97)، فاستضعاف هؤلاء الظالمين لأنفسهم لم يكن بسبب عجزهم وإنما بسبب ركونهم وتثاقلهم إلى الأرض، ولهذا جاءت الآيات بعدها تستثني الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم لضعفهم المادي الحقيقي لا الضعف النفسي المجازي.

ولهذا يقص القرآن الكريم علينا كثيرا من قصص المهاجرين في سبيله بدءا من الأنبياء الذين لا نكاد نستثني واحدا منهم من الهجرة.

والقرآن الكريم يرغب في الهجرة في سبيل الله ويعد صاحبها الفضل العظيم الدنيوي والأخروي، قال تعالى:{ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}(النساء:100)

فالمهاجر في سبيل الله في حماية الله وفي سعة من فضل الله وإن مات فهو من الشهداء، وقد ورد في الحديث قولهصلى الله عليه وآله وسلم:(من خرج حاجاً فمات، كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمراً فمات، كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازياً في سبيل الله فمات، كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة)([5])

والهجرة في الشرع، بهذا المفهوم، لا تقتصر على الرحلة من بلد الحرب إلى بلاد الإيمان، بل تتعداه إلى آفاق الحياة الواسعة، ولهذا جاءت الآيات الكثيرة تحث على السير في الأرض للعلم وللبحث وللاعتبار، قال تعالى:{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(العنكبوت:20)، وقال تعالى:{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}(النمل:69)، وغيرها من الآيات الكثيرة وهي كلها دعوة إلى التخلص من قيود التراب والوطن والتثاقل إليهما.

وهذه المفاهيم هي التي جعلت كثيرا من الصالحين يسيحون في الأرض، ينشرون دين الله ويربون الناس عليه ويتعلمون العلم النافع، فمات بعضهم مشرقا ومات آخر مغربا لتشهد الأرض على تضحيتهم بالأرض في سبيل الله، تلك التضحية التي عوضهم الله بها التمكين في الأرض، قال تعالى:{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}(النور:55)

 وهذا الوعد الحق ليس خاصا بالصحابة بل هو عام لكل عبد صالح، قال تعالى:{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} (الأنبياء:105)

وهكذا لا يخسر المؤمن شيئا بعدم تعلقه بالأرض، لأن الأرض لن تضيع منه إن ترك تعلقه القلبي بها وركونه وتثاقله الجسدي إليها، بل إنه سيكسب بدل ذلك التعلق آفاقا جديدة ورؤى جديدة تجعل منه عالمي النزعة واسع الطموح غير محدود بالحدود الجغرافية البسيطة التي تقيده بقيودها وتصوراتها وتحصره في عالم التراب مع أنه أرفع من التراب.


([1])  رواه أحمد 3/439 (15714) و3/440 (15731)

([2])  تفسير الطبري (25/74)

([3])  رواه مسلم 7/58 (6003).

([4])  رواه مالك في الموطأ 176. وأحمد 3/35 (11325) وفي 3/43 (11413) والبخاري 1/158.

([5])  أبو يعلى في مسنده (6357)، وفي معجمه (101)، والطَّبرانيُّ في الأوسط (5321)، وابن ابي حاتم في العلل (973)، والبَيهَقِيُّ في الشعب (3806)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *