اغتيال العقول

اغتيال العقول

بعد أن انتهت الاستراحة، وركب الركاب الحافلة، وقد نقص منهم نفر، آثروا البقاء في الصحراء على ما يفرض عليهم سماعه ومشاهدته.. أخرج السائق شريطا جديدا، ثم قال: بعد أن نلتم حظكم من الراحة اسمحوا لنا أن نضع شريطا آخر.. يخرجكم من ظلمات الجهل والغواية إلى نور العلم والهداية.. إنه يبين دورنا سلفنا الصالح في نصرة النقل، وحرب العقل.. ونصرة المنطق القرآني، ونقض المنطق اليوناني.

قال ذلك، ثم أدخل الشريط.. ليبدو مشهد لقاعة محاضرات فاخرة، يقف على منصتها مجموعة من الناس لا يختلفون في هيئتهم عن المجموعة التي رأيناها في الشريط السابق إلا أنهم أكثر شبابا، وأجمل هنداما، وأقرب إلى عصرنا هذا منهم إلى العصور السابقة.

تكلم أحدهم، ويبدوا أنه المقدم فيهم، فقال: يشرفني اليوم، ومن هذا المجلس أن أزف إليكم بشارة تأسيس جمعيتنا الجديدة، والتي سميناها (الجمعية النقلية لحرب العلوم العقلية)، والحمد لله، فقد تمكنا في وقت قصير – وبواسطة بعض المحسنين داخل البلاد وخارجها – أن نشتري لها الكثير من المقار، بما فيها هذا المقر الذي تجلسون فيه.

لن أطيل عليكم.. سيتقدم أعضاء الجمعية، ليعرفوكم بأهدافها وسياستها ومشاريعها المستقبلية.. كل في المجال الذي تخصص فيه.

المسؤول الشرعي:

تقدم الأول، وقال: أنا المسؤول الشرعي في الجمعية، ودوري فيها واضح، وهو تسليط النقل على العقل، أو تسليط سيف الفتوى الشرعية على أصحاب المناهج العقلية.. وقد رأيت من خلال تتبعي لآثار أسلافنا في هذا أن هناك ثلاث واجبات علي وعلى الفريق المساند لي أن نقوم بها([1]).

أولها: رفض الفلسفة وتكفير رجالها والتحذير منهم، باعتبارهم من أكبر منابع العقلانية..

ولنا في هذا – بحمد الله – الكثير من الفتاوى الجاهزة من كبار أعلام الأمة، وليس علينا سوى نشرها وإذاعتها، بل وتحفيظها للصبيان حتى يشبوا، وهم يبغضون العقلانيين من أول نشأتهم.

قلب بعض الصفحات أمامه، ثم قال: لدينا – مثلا – فتوى العلامة الحافظ أبي عمرو بن الصلاح الذي أصدر هذه الفتوى المهمة، والتي تنص على أن (الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، والزيغ والزندقة.. ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالبراهين، ومن تلبّس بها قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان، وأظلم قلبه عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم)([2])

ولم يكتف بذلك، بل راح يكفر الفلاسفة، ومن سار على نهجهم، ويرميهم بالعظائم، ومن ذلك قوله في ابن سينا: (لم يكن من علماء الإسلام، بل كان شيطانا من شياطين الإنس)([3])

قلب صفحات من الملف الذي يحمله، ثم قال: هناك فتاوى أخرى كثيرة هنا.. سنحاول نشرها.. منها فتاوى لشيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية الذي اشتد في انتقاد الفلاسفة وذمهم، وفضحهم في كثير من مصنفاته.. وقد وصف ابن سينا وأمثاله بالمرتدين والمنافقين، واعتبر نصير الدين الطوسي من رؤوس الملاحدة المسلمين الصابئة عبدة النجوم والكواكب([4]).

ومنها فتاوى للحافظ شمس الدين الذهبي الذي حرّم الاشتغال بكثير من علوم الأوائل كالإلهيات والكيمياء.. وأطلق على الفلسفة (الحكمة المشؤومة)، واعتبر الجهل خيرا منها، ووصفها بأنها بلاء وهذيان، ومن طلب فيها الهدى أضله الله([5]).

ومنها فتاوى للحافظ ابن كثير الذي لعن الفلاسفة، ونسبهم إلى الجهل وقلة العقل.. وذكر عن الفارابي أن له أفكارا يخالف فيها المسلمين، (فإن كان مات على ذلك فعليه لعنة الله)([6])

 ومنها فتاوى لعبد المؤمن الجرجاني الذي قال عن الفلاسفة ذما لهم وتحذيرا منهم: (فأعرض عن الفلاسفة، وغض بصرك عن تلك الوجوه الكاسفة، فأكثرهم عبدة الطبع، وحرسة الكواكب السبع)([7])

الثاني: إقصاؤهم من كل شيء له علاقة بالدين، وخصوصا رواية الحديث.. فهم – حتى لو كانوا أصدق الناس – متهمون في رواياتهم، فلا تقبل أحاديثهم.. وذلك لأن علماءنا من السلف الصالح اتفقوا على تكفير الفلاسفة المشائين لمعتقداتهم المناقضة لدين الإسلام؛ وهذا وحده كاف لرفض رواياتهم الحديثية.

ولهذا جرح يحيى بن معين أحمد بن صالح المصري المعروف بابن الطبري بقوله: كذاب يتفلسف([8]).. وقال الحافظ ابن ناصر السلامي البغدادي في الفقيه محمد بن زبيبة البغدادي: (كان على عقيدة الفلاسفة لا تجوز الرواية عنه)([9])

 ولا يغيب على بالكم أن هذا المسلك استخدمه سلفنا الصالح مع كل المنحرفين من أهل الأهواء، ولم يخصوا به الفلاسفة دون غيرهم، وهذا مشهور عنهم.. ولنا فيهم أسوة حسنة.. ولهذا فإن جمعيتنا ستتبنى هذا المنهج التحذيري حتى يفر كل عقلاني إلى جحره، لا يتكلم في الدين، وإن تكلم فيه لا يسمع له أحد.

  ثالثها، وهو الأخطر، التحذير من المنطق الأرسطي الذي تسرب إلى علوم الإسلام بسبب قبول بعض المبتدعة له، كابن حزم الذي دافع عنه في كتابه (التقريب لحدود المنطق)، وأبي حامد الغزالي، وهو الأخطر، حيث أدخل المنطق في علم أصول الفقه، فألحق بكتابه (المستصفى) مقدمة منطقية، اعتبرها (مقدمة العلوم كلها، ومن لم يحط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا)([10])

وقد تصدى سلفنا الصالح من العلماء لهذه الهرطقة، ومنهم الحافظ أبو عمرو بن الصلاح الذي حرّم الاشتغال بالمنطق، وقد قال حين سُئل عن المنطق: (واستعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية من المنكرات المستبشعة والرقاعات المستحدثة وليس بالأحكام الشرعية افتقار إلى المنطق أصلا، هو قعاقع قد أغنى الله عنها كل صحيح الذهن، فالواجب على السلطان أعزه الله، أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم –ويُخرجهم من المدارس ويُبعدهم)([11])

ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي حمل حملته الشديدة على المنطق والمناطقة، وذكر أن (المناطقة هم من أجهل أهل الأرض بالطرق التي تُنال بها العلوم العقلية والشرعية، إلا من علم منهم علما من غير طرقهم المنطقية، فتكون علومه من تلك الجهة، لا من طريق المنطق؛ الذي فيه كثرة التعب في البرهان، وضيق العلم والبيان، والعجز في التصّور والتعبير)([12])

 ومنهم العلامة ابن قيم الجوزية الذي حرّم الاشتغال بالمنطق، بل هجاه بقصيدة ينبغي أن نحفظها لصبياننا كما يحفظ القرآن، ومما جاء فيها:

وعجبا لمنطق اليونان           كم فيه من إفك ومن بهتان

مخبّط لجيد الأذهان               ومفسد لفطرة الإنسان

مضطرب الأصول والمباني           على شفا هار بناه الباني

أحوج ما كان إليه العاني   يخونه في السر والإعلان

أما فقهاء الأندلس، فقد كان موقفهم شديدا، حيث أنهم كانوا يمنعون أهل العلم من الاشتغال بالمنطق، حتى أن المناطقة كانوا يُعبرون عن المنطق بغير اسمه، فيسمونه (المفعل) خوفا من صولة الفقهاء([13]).

المسؤول العلمي:

تقدم الثاني، وقال: أنا المسؤول العلمي في الجمعية، ودوري فيها واضح إنه يشبه دور المباحث والمخابرات..

لقد شكلت لجنة تبحث في جميع التاريخ الإسلامي، لتحصي كل من فيه رائحة فلسفة، أو عقلانية ونحو ذلك، لتقوم بما يجب عليها نحوه.

لدي هنا ملفات مفصلة بكل ذلك ابتداء من القرن الثاني الهجري إلى عصرنا الحديث:

فمن رجالها الأوائل في القرن الثاني الهجري: أبو الفضل صالح بن عبد القدوس الأزدي المتفلسف الزنديق، وجابر بن حيان الذي صنف كتبا كثيرة في علوم الأوائل كالكيمياء والهيئة والطب والفلسفة.. وقد كفره سلفنا وخلفنا، وحرموا صناعة الكيمياء التي كان يشتغل بها([14]).

ومن رجالها في القرن الثالث: الفيلسوف يعقوب الكندي البغدادي.. وهو من الضالين المنحرفين، وقد كتب المصنفات الكثيرة في الدعوة للفلسفة والعقل، ومنها (الحث على تعلّم الفلسفة)، و(كتاب الفلسفة الأولى)، و(كتاب لا تنال الفلسفة إلا بالرياضيات)، وغيرها.

ومن رجالها الضالين في القرن الرابع الهجري الطبيب أبو بكر بن زكريا الرازي الذي كتب كتبا كثيرة في الطب والهندسة والفلك والمنطق والإلهيات.

ومنهم أبو نصر الفارابي الذي أعاد تلخيص وتهذيب علوم الأوائل، وعلى مؤلفاته تخرّج الفيلسوف ابن سينا ومن جاء بعده من الفلاسفة.

ومنهم أبو حيان التوحيدي الذي كتب في جميع ضلالات الأدب والفلسفة، منها كتاب كبير في تصوّف الحكماء والفلاسفة.

ومن رجالها في القرن الخامس الهجري الضال المضل أبو علي بن سيناء الذي كتب كتاب الشفاء، الذي جمع فيه كل علوم الفلسفة.

ومن رجالها في القرن السادس الهجري شهاب الدين السهروردي المقتول الذي، كان جامعا للفنون الفلسفية، وبارعا في أصول الفقه، لكنه كان أحمق منحلا مغرورا.

ومن رجالها في القرن السابع الهجري عز الدين الإربلي الضرير الشيعي الذي كان رأسا في علوم الأوائل، وأقرأ الفلسفة في بيته للمسلمين وأهل الذمة.

ومنهم نصير الدين الطوسي الذي كان وزيرا لهولاكو، وفي زمانه أقام دولة للفلاسفة، فبنى لهم مدرسة بمدينة مراغة، وأغدق عليهم الأموال والامتيازات.

المسؤول الأمني:

بعد أن ذكر المسؤول العلمي الكثير من أسماء الفلاسفة وغيرهم في العصور المختلفة، تقدم الثالث، وقال: أنا المسؤول الأمني في الجمعية، ودوري فيها واضح.. إنه أهم دور في الجمعية.. إنني عبد سميع مطيع للمسؤول الشرعي، ولجنة الفتوى التابعة له.

وقد رأيت – من خلال تتبع آثار سلفنا الصالح في الموقف من هؤلاء العقلانيين المجرمين – أن لي وللجماعة التابعين لي سبعة أدوار، سأشرحها لكم إجمالا، أما التفاصيل، فلا يمكن ذكرها هنا.

أما الأول: فهو حرق كتب الفلسفة وما يتصل بها من العلوم العقلية ومنع بيعها..

لقد كان سلفنا الصالح يستعينون – أحيانا – ببذل ماء وجوههم لدى الملوك والأمراء لتحقيق ذلك.. لكن ذلك ليس شرطا في عصرنا.. فيمكننا أن نحقق ذلك بسهولة بدون الحاجة لأحد من الناس.. لدي خطط ناجعة لتحقيق ذلك.

من الأمثلة التاريخية على ذلك أن السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي – وبتوجيه من سلفنا الصالح – لما ملك مدينة الري، أحرق كتب الفلسفة والفلك.. وبما أن المعتزلة كانوا عقلانيين، فقد أحرق كتبهم أيضا([15]).

ومن الأمثلة على ذلك أن المستنجد بالله أمر بالقبض على الطبيب المتفلسف أبي الوفاء بن المرخم، ثم أُحرق من كتبه ما كان في علوم الفلسفة، كرسائل إخوان الصفا، وكتاب الشفاء وغيرها([16]).

ومن الأمثلة على ذلك أنه لما أُتهم المتفلسف الركن عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلاني باستعمال عقله في الدين جمع الوزير ابن يونس البغدادي الحنبلي كتبه، وعقد له محاكمة حضرها أعيان الناس، وفيها كان الطبيب أبو بكر بن المارستانية يقرأ بعض كتب عبد السلام على الحاضرين، ويقول: (العنوا من كتبها ومن يعتقدها)، فيصيح العوام باللعن حتى تعدى إلى جده الشيخ عبد القادر الجيلاني([17]).

ومن الأمثلة على ذلك أن السلطان المرابطي العظيم أبا الحسن علي بن يوسف ين تاشفين كان شديد الكره للفلسفة وعلم الكلام، فأمر بحرق كتبهما، ومعها كتب أبي حامد الغزالي، لما فيها من كلام وفلسفة، وتوعّد بالقتل لمن يُخفي تلك الكتب([18]).

ومثله السلطان الموحدي أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الذي غضب على الفيلسوف ابن رشد، وأمر بحرق كتب الفلسفة، ونهى عن الاشتغال بها، وتوعّد من وجدها عنده بالعقاب الشديد، واستثنى منها كتب الطب والحساب وما ينفع من علم النجوم في الصلاة([19]).

وأما الثاني، فالحجر على كتب الفلسفة ومنع تدريسها، ومن السهل علينا تطبيق ذلك في عصرنا بالقيام بالتظاهرات والمسيرات وحوادث الشغب.. ويمكننا الاستعانة في هذا بالتزلف لأصحاب القرار، ولو برشوتهم.. الحمد لله لدينا ممولون من أنحاء العالم لا يبخلون علينا.

ومن الأمثلة على ذلك أن الحافظ أبا عمرو بن الصلاح أفتى بأن من الواجب على السلطان أن يُخرج أهل الفلسفة المشائيم من المدارس ويُبعدهم عنها، ويدفع شرهم عن المسلمين([20]).

وقد استجاب الحكام الصالحون – بحمد الله – لهذه الفتوى المقدسة.. فقد طرد الملك الأشرف موسى بن العادل الأيوبي المتكلم المتفلسف العقلاني سيف الدين الآمدي من المدرسة العزيزية بدمشق، فأقام الآمدي في بيته خاملا إلى أن مات([21]).

 ومما يبين إدراك سلفنا لخطر العلوم العقلية أن ابن الصلاح ذكر للملك الأشرف أن أخذ المدرسة العزيزية من هذا العقلاني، أفضل من استرجاع مدينة عكا التي كانت آنذاك بيد الصليبيين([22]).

وقد علق بعض الأثريين على هذا تعليقا حسنا، فقال: (مدينة عكا أمرها واضح، يحتلها الكفار الصليبيون، وسيسترجعها المسلمون منهم يوم يقدرون عليهم. لكن ما يقوم به السيف الآمدي من تدريس للفلسفة في المدارس السنية هو –في نظر ابن الصلاح – عمل داخلي خطير جدا، يؤدي إلى إفساد الدين وتخريب الفكر الإسلامي السني، والتمكين للفلسفة بأباطيلها وضلالاتها في المجتمع الإسلامي)([23])

ومن الأمثلة على ذلك أنه لما استولى الملك الأشرف موسى بن العادل على مدينة دمشق نادى مناديه بأنه لا يشتغل أحد من الفقهاء بشيء من العلوم سوى التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بالمنطق وعلوم الأوائل نُفي من البلد([24]).

وأما الثالث، فإهدار دم رجال الفلسفة ومن يستخدمون العقل في الدين، وتنفيذ ذلك، إما بأمر السلطان، أو بأمر المفتي حين يقصر السلطان.

ومن أحسن الأمثلة على ذلك وأجودها ما فعله الحاكم الصالح العادل خالد بن عبد الله القسري الذي كان واليا علي العراق لهشام بن عبدالملك، والذي سن سنة حسنة بذبح هؤلاء العقلانيين، فقد ذبح الجعد بن درهم بعد أن خرج به إلي مصلي العيد بوثاقه ثم خطب الناس وقال: (أيها الناس! ضحوا، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسي تكليما)([25])، ثم نزل وذبحه.

وقد أثنى على سلوكه هذا كل سلفنا الصالح ومن تبعهم بإحسان، فقد قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين معقبا على ثناء ابن تيمية على خالد القسري: (جزاه الله خيرا، فالناس يضحون بالغنم والشاة والمعز والبعير والبقر.. وهذا ضحي بشر منها، فإنه شر من الإبل والغنم والحمير والخنازير، لأن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6]، ويقول: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، وإني أسأل الآن: البعير عن سبع، والبقر عن سبع، وهذا الرجل عن كم.. عن آلاف آلاف وقي الله شرا كبيرا، لكن بعض الناس _ والعياذ بالله_ يقولون إن هذا العمل من خالد بن عبد الله القسري ليس دينا، ولكنه سياسي، ونقول لهم هذا كذب، لأن الرجل صرح أمام الناس أنه قتله من أجل هذه البدعة)

وقد مدح ابن القيم هذا السلوك العظيم من خالد القسري في (النونية) التي عرض فيها عقيدة السلف، فقال:

ولأجل ذا ضحي بجعد خالد الق سري يوم ذبائح القريان

إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا *ولا موسي الكليم الداني

شكرا الضحية كل صاحب سنة *لله درك من أخي قربان

ومن الأمثلة على ذلك – أيضا – ما حصل للمتفلسف الصوفي عبد الله عين القضاة الهمداني الذي قتله وزير من الصالحين بعد أن رأى في بعض كتبه ألفاظا شنيعة ينبو عنها السمع، ويُحتاج إلى مراجعة قائلها فيما أراد بها؛ وقد عمل الوزير محضرا وأخذ فيه خطوط جماعة من العلماء، بإباحة دمه بسبب تلك الألفاظ، فقبض عليه وحمله مقيدا إلى بغداد، ثم أرسله إلى همدان وصلبه بها([26]).

ومن الأمثلة على ذلك ما حصل للفيلسوف الإشراقي شهاب الدين السهروردي الذي أفتى علماء حلب بقتله، وما أسرع ما استجاب الملك الظاهر بن صلاح الدين الأيوبي لذلك، ثم جاءه أمر من والده صلاح الدين يأمره بقتله([27]).

ومن الأمثلة على ذلك، وهو عجيب يبين مدى حنق سلفنا الصالح على الفلاسفة والعقلانيين، ما فعله سلطان يُعرف بمحمد بن المظفر بجثة الفيلسوف أبي علي بن سينا، فقد نبش قبره، وأخرج رفاته وأحرقها بعد أكثر من 140 سنة من وفاته([28]).

وأما الرابع، وهو مهم جدا، فهو توظيف الرأي العام لمقاومة الفلاسفة ومن يستخدمون العقل في الدين، وتنفيذ ذلك سهل لا يحتاج إلى سلطان أو مفت، بل قد يكفي فيه خطباء الجمعة والمدرسون واستخدام شبكات التواصل الاجتماعي، وكل وسائل الإعلام الجديد.

وقد طبق سلفنا الصالح هذا خير تطبيق حيث كانوا يتولون شحن الرأي العام بالحقد على المبتدعة والمنحرفين عن السنة، ليتولى العامة بعد ذلك أمرهم إما بقتلهم أو تهديدهم أو تخويفهم.

ومن الأمثلة على ذلك ما رُوي أن بعض أهل الحديث كان يُشنّع على الفيلسوف يعقوب الكندي اشتغاله بعلوم الفلاسفة،و يُغري به العوام([29]).

ومن الأمثلة أنه عندما حوكم المتفلسف الركن عبد السلام بن عبد الوهاب وأحرقت كتبه، جُمعت العامة لحضور محاكمته، فكانت تصيح بلعنه حتى تعدّى اللعن إلى جده الشيخ عبد القادر الجيلاني([30]).

ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره المقري الأندلسي عن عوام الأندلس وحرصهم على السنة، وحربهم للفلاسفة والعقلانيين، وقد وصف ذلك، فقال: (وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم [علم الفلك]، فإن لهما حظا عظيما عند خواصهم ولا يتظاههر بهما خوف العامة، فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة، أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة اسم زنديق، وقيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة، أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان، أويقتله السلطان تقربا لقلوب العامة، وكثيرا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت)([31])

ومن الأمثلة على ما ذكره المقري أن الفيلسوف علي بن جودي الأندلسي – تلميذ ابن باجة – اشتهر بين الناس باشتغاله بالفلسفة، فاتهموه في دينه وطاردوه للقبض عليه، ففرّ منهم والتحق بجماعة من قطاع الطرق([32]).

المسؤول السياسي:

تقدم الرابع، وقال: أنا المسؤول السياسي في الجمعية، ودوري فيها واضح.. إنني أعرف الأحزاب السياسية، وأتقرب إليها لأرى مواقفها، فمن وقف معنا، فنحن معه، وسينجح في الانتخابات لا محالة، ومن رفضنا أو رفض مواقفنا، فسأحيل أوراقه إلى المسؤول الشرعي، وهو من يتولى أمره برفقة لجنة الفتوى التي تتبعه..

وقد مارس أعلام من السلف هذا حين تقربوا من السلطان لينشروا مذهب أهل السلف، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى ابتداء من العصر الأموي، وانتهاء بعصرنا.

***

بعد أن وصل الحديث إلى هذا الحد وصلنا إلى محطة أخرى لنستريح، وهناك اقتربت من رجلين من الركاب لأسمع تحاورهما:

قال الأول: هل رأيت.. ألم أكن أقول لك دائما: إن كنت تريد أن تتدين، فعليك أن تلغي عقلك.. فلا يمكن أن يجتمع العقل مع الدين؟

قال الثاني: لست أدري ما أقول لك.. لكني لم أشعر في حياتي بألم كما شعرت وأنا أستمع وأشاهد تلك الحرب المقامة على العقل.. لست أدري أهؤلاء لا يقرؤون القرآن.. أم أنني أنا الذي أفهم القرآن على غير ما يفهمونه.. لست أدري يا صديقي.. أنا الآن في حيرة عظيمة.. ولا أحسبني أستطيع أن أستقل هذه الحافلة من جديد.

قال الأول: أتريد أن تبقى في الصحراء.. ما بك يا رجل؟

قال الثاني: لقد كانت كل أماني معقودة على ما ورد في القرآن من قيم وجمال.. لكني الآن أشعر أن كل شيء بدأ ينهار.. فكل شيء صار مظلما بالنسبة لي.. ولا فرق عندي أن أبقى في هذه الصحراء القاحلة، أو أنتقل إلى أي محل آخر.

تركتهما، وانتقلت إلى مجموعة أخرى لأسمع الضحكات والسخرية بالإسلام ونبيه.. وكأنهم كانوا يتفرجون على فلم كوميدي.

أما أنا فقد كنت كالأبله لا هم لي إلا البحث عن ربيع، والاستماع لموقفه.. فلم يكن لي حينها عقل أفكر به إلا عقل ربيع.


([1])     كثير من المادة العلمية في هذا الفصل رجعت فيها لمرجع معتمد لدى التيارات السلفية: مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية خلال العصر الإسلامي، ق:2-13ه-، الدكتور خالد كبير علال، دار المحتسب، 2008.

([2])   الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 23، ص: 143.

([3])   ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب، ج5 ص: 137.

([4])    ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج2 ص: 92 .

([5])   سير أعلام النبلاء، ج 8 ص: 359.

([6])   البداية والنهاية، ج2 ص: 71.

([7])   ابن تغري بلدي : النجوم الزاهرة، ج6 ص: 309 .

([8])   الذهبي : السير، ج12 ص: 165.

([9])   ابن رجب البغدادي : الذيل على طبقات الحنابلة، ج1ص: 167.

([10])   المستصفى في علم الأصول، ج 1 ص: 327.

([11])   الذهبي: السيّر، ج23 ص: 143 .

([12])   مجموع الفتاوى،، ج9 ص: 114، 158.

([13])   حاجي خليفة: كشف الظنون، ج2ص: 1862.

([14])     انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية )) (29/368).

([15])   ابن الأثير : الكامل في التاريخ، ج 8 ص: 170.

([16])   المرجع السابق، ج9 ص: 439.

([17])  جمال الدين القفطي : تاريخ الحكماء من أخبار العلماء، ص: 288.

([18])   سير أعلام النبلاء: ج 19، 334 .

([19])   الذهبي : المصدر السابق، ج21 ص: 217.و ابن أبي  أصيبعة : عيون الأنباء، ج1 ص: 523 .و  عبد الواحد المراكشي:    المعجب ، ج1 ص: 306-307.

([20])   الذهبي : السيّر، ج23 ص: 143 .

([21])   الذهبي : نفس المصدر، ج22 ص: 366.

([22])   وقد ذكر ابن تيمية ذلك، واستحسنه، فقال: من الحكايات المشهورة التي بلغتنا : أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي وقال : أخذها منه أفضل من أخذ عكا. مع أن الآمدي لم يكن أحد في وقته أكثر تبحرا في العلوم الكلامية والفلسفية منه وكان من أحسنهم إسلاما وأمثلهم اعتقادا. مجموع الفتاوى (9/ 7)

([23])     مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية خلال العصر الإسلامي، ص84.

([24])   الذهبي : السيّر، ج 22 ص: 366.و ابن كثير : البداية والنهاية، ج 13 ص: 148 .

([25])   البخاري في (خلق أفعال العباد) ص 69.

([26])     ابن حجر: لسان الميزان، ج4 ص: 411.

([27])   الذهبي : السيّر، ج 21 ص: 10، 211 ..

([28])   محمد بن يعقوب الفيروز أبادي : البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة، ج1 ص: 90 .

([29])   ابن النديم : الفهرست، ج1 ص: 386.

([30])   ابن رجب : الذيل، ج2 ص: 72.

([31])     نفح الطيب (1/ 221).

([32])   ابن سعيد المغربي: المغرب، ج2 ص: 109-110 .

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *