اتحاد المجرمين

اتحاد المجرمين

لست أدري السبب الذي تفيض فيه عيوني كلما مررت على الشحاذين السوريين على الرغم من كثرة الشحاذين الذين أراهم وأصادفهم من الجنسيات المختلفة..

لعلي أتذكر عند رؤيتهم ما ورد في الأثر: (ارحموا عزيز قوم ذل، وغني قوم افتقر)

ولعلي أتذكر كل أولئك الذين جمعوا جموعهم، وحشدوا جحافلهم لتخريب سورية باسم الديمقراطية، أو باسم الحرية، أو باسم الفوضى الخلاقة التي يطلقون عليها (إسقاط النظام)

سأحكي لكم اليوم حكاية لها علاقة بهذا، ولعلها تفسر سر الدموع التي تفيض من عيني كلما مررت بهم:

في ذلك اليوم جاء لزيارتي صديق لي.. جاءني من قطر.. وكان يعمل عضوا فاعلا لدى ما يسمى بـ (اتحاد علماء المسلمين).. وصادف أن مررت معه في بعض الشوارع على امرأة سورية شحاذة.. فأردت أن أعطيها بعض المال كما تعودت، فطلب مني أن أتريث – أولا – ليسألها: هل هي من الشبيحة الموالية للنظام.. أو أنها من المعارضة؟

قلت له: لا تسخر منها يا رجل .. ودعها لهمومها.. فما علاقة المسكينة بهذا؟

قال: هذا التساهل منا هو الذي أوصلنا إلى هذه الأوضاع.. نحن دائما لا نعطي الأمور حظها من الاهتمام، ولذلك تحصل لنا في كل حين النكسة تلو النكسة .. تصور لو أن الإخوان في مصر لم يلينوا لأعدائهم .. وبمجرد أن نالوا السلطة استحوذوا عليها، وقضوا على خصومهم.. لو أنهم فعلوا ذلك من أول يوم ما كانوا الآن في السجون والمعتقلات، ولما صودرت أموالهم .. ولكنهم كانوا خرافا في زمن الذئاب، وبلهاء في زمن الدهاة.

ومثل ذلك في ليبيا.. لقد تركوا أزلام النظام السابق يعودون من جديد.. ولكن مع ذلك انتبهوا لحالهم، فطنوا لما يحاك لهم.. ولهذا استمروا في ثورتهم يقاتلون كل من يريد أن ينحرف بها.

قلت: دعنا من هذا .. فإني أعلم أني لو خضت معك فيه.. فستتحول صداقتنا إلى عداوة، وإلفنا إلى خصومة .. دعني أعطي هذه المرأة المسكينة ما كتب الله لها.. وهيا ننصرف.

قال: يستحيل أن أتركك تعطيها قرشا واحدا وأنا معك حتى نسألها عن الجهة التي تواليها.. هل هي شبيحة توالي النظام.. أم مواطنة محترمة توالي المعارضة؟

لم أجد ما أفعل إلا الاستسلام، فأنا أعلم طبعه، وأعلم طبع الاتحاد الذين ينتمي إليه، فهو يابس كالصخر لا يلين، ولا يستسلم، ولا يحاور، ولا يقبل الآخر .. هو كما يردد دائما: إما أن ينتصر .. أو يكسر.. وليس هناك حل ثالث.

لكني فرحت بعد ذلك فرحا عظيما .. لأني وجدت المطرقة التي تكسره .. لقد كانت المرأة الشحاذة هي المطرقة..

اقترب منها، وقال لها: أجيبني أيتها المرأة: هل أنت من الشبيحة .. أم من المعارضة؟

نظرت إليه، فرأت هنداما محترما، ووقارا وهيبة، فقالت: ولم؟.. وهل هناك فرق بين الفقير الموالي، والفقير المعارض؟

قال: أجل .. نحن نعين الفقير المعارض للنظام باعتباره مواطنا صالحا.. أما الفقير الموالي فهو مجرم وشبيح، ولا يستحق منا سوى القتل.

قالت: ومن أنت حتى تتجرأ على هذه الفتاوى الخطيرة؟ أتحسب أن الهندام الذي ترتديه يخول لك أن تفتي مثل هذه الفتوى؟

ضحك، وقال: يحق لك أن تقولي ذلك.. لأنك لا تعرفينني، ولا تعرفين الجهة التي أعمل فيها.

قالت: لا يهمني أن أعرفك.. ولا أحرص على ذلك.. فالذي يفرق بين الفقراء على أساس أفكارهم وتوجهاتهم لا يستحق أن أعرفه، أو أعرف الجهة التي ينتمي إليها.. لأني لا أتشرف بذلك.

شعر بنوع من الذلة، فلذلك راح يحاول بكل الوسائل أن يعيد كرامته التي انتهكت، فقال لها: أنا من قطر .. وأعمل عالما في (اتحاد علماء المسلمين).. هل تعرفينه؟ .. وهل تعرفين قطر؟

حدقت فيه بشدة، فظن أنها تريد أن تعتذر له، فقال: لا داعي للاعتذار.. فنحن في (اتحاد علماء المسلمين) لم نقم إلا بواجبنا .. لقد وقفنا مع الثورة السورية إلى النهاية.

بقيت تحدق فيه بقوة، فشجعه ذلك على الحديث، فراح يقول: نحن الذين وقفنا مع الثورة السورية في أول بدايتها .. بل نحن الذين شجعناها على القيام، وقد كانت اللافتات والشعارات تكتب في قطر، وترسل إلى هناك ليرفعها مندوبونا الذين ننفق عليهم من كل أنواع الأموال.. ونحن الذين رفضنا الإصلاحات التي أراد النظام أن يخدعكم بها.. ونحن الذين رفضنا الحوار معه.. ونحن الذين أفتينا بقتل الطاغية المستبد الظالم.. ونحن الذين أفتينا  الثوار بحمل السلاح.. ونحن الذين شجعنا الجيش على الانشقاق.. ونحن الذين شكلنا المعارضة، وطلبنا منها أن توحد صفوفها.. ونحن الذين حولنا من الثورة السورية قضية لا تقل عن القضية الفلسطينية، بل تتفوق عليها في الأهمية .. ونحن الذين استطعنا أن نقنع العالم بعدالتها.. ونحن الذين أفتينا بالنفير العام ليقدم المجاهدون من كل أنحاء العالم ليحرروا سورية من الطغيان.. ونحن الذين جمعنا الأموال لتسليح الثوار والمجاهدين.. ونحن الذين استعملنا كل وسائلنا مع الغرب وأمريكا لتقيم منطقة عازلة.. ونحن الذين..

أخذت المرأة عصا كانت بجانبها، وراحت تشرعها نحوه، وهي تصيح: ويل لكم أيها المجرمون .. أنتم السبب في كل ما حصل لنا .. أنتم الذين شوهتم الإسلام.. أنتم الذين حولتم المسلمين المتسامحين المسالمين إلى عصابة.. لقد دمرتمونا، ودمرتم بلادنا.. كنا نعيش في فضل الله .. وفي مساكننا .. وبين أهلينا.. لكنكم أبيتم إلا أن تخرجونا من كل ذلك النعيم وذلك السلام وتلك السعادة.

أراد الرجل أن يسترد كرامته، فصرخ فيها هو الآخر: بل أردنا لكم الحرية .. أردنا أن نحرركم من نظام الطاغية .. أردنا ألا تبقوا مجرد أنعام تأكلون وتشربون.. وليس لكم أي ديمقراطية ولا حرية ولا حقوق سياسية..

غضبت المرأة غضبا شديدا، ولوحت بعصاها، وهي تقول: وما شأنكم بنا .. وبحريتنا .. هل حررتم قطر التي تنطلقون منها في نشر إجرامكم؟ .. هل أدخلتم إليها الديمقراطية؟.. أليس الأقربون أولى بالمعروف؟ .. فلم تركتموها، ورحتم تنشرون سمومكم في كل بلاد الإسلام .. خربتم ليبيا وسوريا وكل بلاد الله.. ملأتم قلوب جميع المسلمين بالأحقاد .. نشرتم سموم الطائفية ..

لم يجد ما يقو، إلا أنه صاح فيها من حيث لا يشعر: لاشك أنك من الشبيحة.. أنت من أزلام النظام.. كان على الثوار أن يقتلوك أو يذبحوك قبل أن تصلي إلى هذا المكان.

ثم أخذ من حيث لا يشعر يركلها برجله.. ثم أخذ العصا منها بالقوة، وأراد ضربها بها لولا أن الناس منعوه..

استحييت من نفسي، ومن أن يكون لي صديق بتلك القسوة ..

فررت بجلدي من ذلك المكان وأنا أحمد الله على أني لم أسر معه إلى تلك البلاد التي جعلها الشيطان مركزا لنشر الأحقاد والضغائن والدمار.

لقد كان صديقي قبل أن يسير إلى تلك البلاد، وقبل أن ينضم إلى ذلك الاتحاد أكثر سلاما.. وألين جانبا .. وأوفر رحمة .. لكني عندما سمعته ورأيته عرفت التأثير الكبير الذي يفعله (اتحاد المجرمين) في المنتمين إليه.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *