أنا

أنا هي أول لفظة يعبر بها الإنسان عن نفسه.
وفي الخلق من يقولها لمجرد التعرف والتعريف، ويستعملها كما يستعمل جميع الضمائر منفصلة ومتصلة لا يشعر بالتغاير بينها، ولا يعتقد أن أنا أفضل من أنت، أو أنا خير من هو أو هم.
وفي الخلق من يستعملها كأداة يمحو بها غيره، ويخضع بها رقاب غيره، يقولها ملء فيه، ويتصور أنها كافيه بمجرد نطقه بها أن يسجد لها الخلق، وأن يسمعوا ويطيعوا، أو يسبحوا ويكبروا.
الأول يشعر أنه جزء من كل، وفرد في مجموع، وواحد من عدد ضخم يتشكل منه بنيان الكون، أما الثاني فيعتقد أنه هو الكل، وغيره فروع لخدمته، وأنه هو المجموع وغيره شتات يتوحدون فيه، وأنه هو الواحد وغيره أصفار عن يساره ويمينه يتشكل منه عدده.
الأول يرى نفسه وغيره، ويسمع الأصوات جميعا، وبكل موجاتها، وينمحي في الآخرين كما ينمحون فيه، ويحبهم ويتفاعل في حياته معهم، أما الثاني فلا يرى إلا نفسه، ولا يسمع إلا حسه أومن ضبطت موجاته بحسب ترددات حسه، ولا يعرف الصفر وجوده لأن الصفر غيره.
الأول إذا مشى لم تشعر به الأرض، ولم يتحرك له النسيم، ولم تهرب الطيور من أوكارها ولا النمل إلى قراها ولم تهتز صفحة الماء وهو يطالعها بوجنته، أما الثاني فتندك الأرض من تحته، ويتخلخل السحاب من فوقه، وتفر النسور من قمم الجبال إن نظر إليها، وترتفع أمواج البحار إن طالعها بصفحته كالقمر يمدها ويسحبها.
والأنا الثانية هي التي يقال فيها: { لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (القصص: 76)، وهي التي ذكر ذمها في القرآن الكريم، وهي التي كانت مصيبة على كل من قالها تائها بنفسه متكبرا على ربه.
وأول من قالها ـ كما ينص القرآن الكريم ـ إبليس عندما أمره الله تعالى بالسجود لآدم فأبى، فسأله الله تعالى: { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين } (الأعراف:12)
ومن ذلك الحين بدأ التعاظم بالذات، وبدأ الانفصال عن الكون المتكامل المتوازن، وورث خلق كثير من بني آدم هذه الكلمة وتعاظموا بها وتاهوا وأسسوا المعابد والقصور لتعبد ذواتهم، لأن الدماء الإلهية تسري في عروقهم، وشيدوا التماثيل ونشروا صورهم في كل المحلات وعلقوها على جميع الجدران، وقتلوا كل ذبابة تطن أثناء حديثهم، وقطعوا حبال كل من رفع صوته أمامهم، وأنشأوا دور الأمن المختلفة لتقوم بما يجب في حقهم من تشريفات وتعظيمات وتبجيلات.
والقرآن الكريم يقص علينا من أنباء هؤلاء، ومنهم { الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (البقرة: 258)
والقرآن الكريم يشير بهذه الآية إلى السذاجة التي يقع فيها هؤلاء المتعاظمين بأنفسهم حين يصدقون أنهم ـ حقيقة ـ آلهة ما دام الملك بأيديهم ورقاب الخلق بين أيديهم يقتلون من يشاءون ويحيون من يريدون بدون معارضة ولا محاسبة، وهذا التعاظم يحجب عن أعينهم مظاهر القصور الكثيرة التي تحيط بجميع ذواتهم.
ولهذا قبل هذا الملك المناظرة مع إبراهيم عليه السلام لأنه كان يظن أن ألوهيته أمر بديهي لا يناقش فيه، وتصوير دهشته وحيرته عندما واجهه إبراهيم عليه السلام بالشمس يدل على أنه لم يكن يراها كما يراها سائر الناس لأنه كان مشغولا بنفسه، ولا يرى غيره إلا أصفارا يعكفون على التسبيح له.
والقرآن الكريم يذكر نموذجا آخر لتعاظم الأنا يفصل في ذكره تفصيلا لم يحظ به اسم كافر غيره، هو فرعون حيث ذكر اسمه في القرآن الكريم في سبعة وستين موضعا، وهذا النموذج تنطبق عليه نفس صفات النموذج السابق إلا أن القرآن الكريم يفسر سبب مرضه، وينص عليه في قوله تعالى: { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (الزخرف:54)
ففسق قومه وخفة عقولهم وطاعتهم المطلقة له وقابليتهم لألوهيته هي التي جعلته يصدق حقيقة أنه إله ينبغي أن يعبد، ولهذا كان يصيح فيهم دائما بخطبة واحدة تكفي مبررا لأي أمر يصدره هي: { أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى } (النازعات:24)
وعندما جاءه موسى عليه السلام يدعوه إلى الله ويعرفه بأنه رسول رب العالمين تعجب أن يكون هناك إله غيره فسأله:{ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } (الشعراء:23)
وعندما أراهم موسى عليه السلام كل الحجج نهض فرعون يصيح في قومه وهو يتصور أن كلماته وحدها تكفي لتقرير ما يقول ونسف جميع معجزات موسى عليه السلام:{ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ}(القصص:38)، وهذه هي السذاجة التي يتحلى بها كل من يعظم أناه ويمحو غيره.
لقد كان يتصور أنه إن وجد إله آخر فلن يعدو كونه صاحب سرير مثل سريره أو تاج مثل تاجه،مثلما تتصور الخلائق جميعا من أصحاب الملل المنحرفة آلهتها عندما تطبعها بطابع القومية والعرقية والأرض وتغرق ربها في مستنقعات من الأساطير لتعبد ذاتها من خلال ربها، وتنزل ربها من علياء وجوده ليرفع رايتها ويصيح بشعاراتها ويفكر بتفكيرها.
ويصور القرآن الكريم أسلوب هؤلاء المتعاظمين مع كل من يقيم عليهم الحجة، وهو أسلوب واحد في مختلف فترات التاريخ وإن تعددت أشكاله، وهو ما صاح به فرعون في وجه موسى عليه السلام:{ قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ}(الشعراء:29) ثم يتوجه إلى الملأ من قومه ناصحا في غاية التواضع:{ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}(غافر:26)، والفساد الذي يعنيه فرعون هنا هو أن يتحول غيره أرقاما ويصير هو جزءا من كل.
والقرآن الكريم يخبرنا بذلك التهديد ومحاولة تنفيذه ليبين سذاجة التفكير الناتج عن كسل عقل المتعاظم الذي لا يرى غيره ولا يستفيد من غيره، والذي يحول بينه وبين الصبر على أي مناظرة أو التنازل لقبول أي حجة.
ولهذا نرى في جميع مواطن الحوار بين المؤمنين وغيرهم في القرآن الكريم الكفار يقطعون الحوار بإثارة الشغب والتهديد بالقتل والرجم أو بممارسة القتل نفسه، فإبراهيم عليه السلام يقطع حواره الرقيق مع والده بهذا التهديد الخطير:{ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}(مريم:46)، والرجل الذي جاء قومه يسعى في سورة يس يقطع حواره بقتله ليستأنف القرآن الكريم ذكر تتمة حديثه بعد موته، ومؤمن آل فرعون قطع حواره الطويل البليغ بما يشير إلى محاولة قتله، كما قال تعالى:{ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}(غافر:45)
والقرآن الكريم يبين أن ذلك التيه بالذات قد لا يكون بسبب ملك عريض أو عرش عظيم، بل قد يتيه الإنسان ببستان يملكه يمحو من خلاله غيره ويتعاظم عليهم، قال تعالى عن صاحب الجنتين:{ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} (الكهف:34)
بل قد يقول هذا الضمير البسطاء من الخدم والسقاة لمعارف بسيطة يعلمونها أو يدعونها كما قال تعالى عن أحد صاحبي يوسف عليه السلام في السجن:{ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي }(يوسف:45) ولهذا أنكر عليه الحسن البصري، وقال: كيف ينبئهم العلج؟!
بل في القرآن الكريم ما يشير إلى هذا الإنكار عندما طلب منه يوسف عليه السلام أن يذكره عند ربه فنسي، فمن اللؤم نسيان نبي عرف صديقيته وإحسانه وبشره بنجاته.
ولهذا نرى أن كل من قال أنا في القرآن الكريم من الكفرة يقولها متعاظما مهما اختلف نوع تعاظمه.
ولعله لأجل هذا وردت كراهة التلفظ بهذه الكلمة لغير ضرورة، قال جابر بن عبد الله: (استأذنت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: من ذا؟ فقلت: أنا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنا أنا، قال الراوي: كأنه كره قوله أنا)
أما المؤمنون فقولهم أنا في القرآن الكريم يأتي مشفوعا دائما بعبارات التواضع كما قال تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:{ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(الأعراف:188)
فالله تعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن ينفي ادعاء أي ملكية لنفع يجلبه لنفسه أو ضر يمنعها منه إلا بما يسره الله له من قوى، وينفي عنه ادعاء الغيب، ويأمره أن يقول في تواضع:{إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
ويأمره في آية أخرى أن يخبرهم بأنه بشر مثلهم آتاه الله الرسالة، وأما الله تعالى فواحد، وأن لقاء الله مرتبط بأعمالهم التوحيدية المحضة لينفي عنهم أي ظن في نسبة الألوهية له كما نسبها النصارى للمسيح عليه السلام، قال تعالى:{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}(الكهف:110)
وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول هذه الكلمات التي تفيض بالتواضع لقوم عتاة متكبرين يتصورون أن مقامهم الرفيع يستدعي إنزال ملائكة أويستدعي خطابا مباشرا من الله بل رؤية مباشرة له، قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا}(الفرقان:21)
وكانوا يقولون له صلى الله عليه وآله وسلم في تعاظم إذا أمرهم بالسجود للرحمن:{ وَمَا الرَّحْمَانُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا}(الفرقان:60) والقرآن الكريم يعيد إلى الأذهان هنا فرعون الذي سأل موسى: { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}(الشعراء:23) ليبين أن مصدر الكفر واحد، وهو تضخيم الأنا والتعالي بها على كل شيء حتى على الله، ولهذا قال تعالى عن الكافرين في كل زمان ومكان:{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}(النمل:14)، فقد جمعوا بين الجحود والكفران مع يقين أنفسهم بالحق تعاليا بذواتهم وتعاظما بها.
وهم يتخذون في هروبهم من الحق مسالك مختلفة أكثرها بدائية ما ذكره نوح عليه السلام عن قومه وهو يشكو إلى ربه طريقة مقابلتهم لدعوته،قال تعالى:{ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}(نوح:7)
وهناك من يتعالى عن الحق ويتعاظم على مجرد حركة يشير بها إلى نكران الحق فهو يكتفي بالتولي، ولا يضع يديه على أذنيه ولا يستغشي ثيابه لأن الكبر الذي حشيتا به تمنعه من الاستماع لغير أهوائه، قال تعالى:{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(لقمان:7)
وهناك من يجادل ويحاجج في كل المجالات وبدون علم يتخذ من مجرد حديثه حجة تكفي لرد أي حق وإحقاق أي باطل، قال تعالى:{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (غافر:35)
وانصراف هؤلاء عن الحق ـ كما يوضح القرآن الكريم ـ ليس انصرافا بمحض إرادتهم ولا برغبتهم، وإنما هو صرف، فالمتعاظم غير مخير كسائر الخلق، بل هو مسير بقيود نفسه الكثيرة والتي لا يطيق لها دفعا،قال تعالى:{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ }(الأعراف:146)
وكيف يؤمن هؤلاء أو يذعنوا للحق أو يكفوا عن الجدال، وتعظيمهم لأنفسهم يقف جدارا منيعا بينهم وبين السماء يحول بينهم وبين الهداية التي تستقبلها كل الكائنات، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}(الأعراف:40)
واختيار القرآن الكريم لمثال الجمل الذي يحاول أن يدخل من خلال ثقب إبرة لبيان استحالة دخولهم الجنة يشير إلى ذلك التعاظم، فكأن الجنة في أذهانهم ثقب إبرة، وكأنهم عند أنفسهم جمل ضخم([1]) لا تساوي الجنة أمامه شيئا، ويستحيل على الجمل أن يلج سم الخياط.
والقرآن الكريم يصف لنا مشهد قبض أرواح هؤلاء المتعاظمين وهم في سكرات الموت يحاولون الاحتفاظ بحشاشة الروح التي لا تزال تنبض بها عروقهم، يفرون بها في كل موضع من جسدهم، كما يفر الصبي الصغير من الحقنة فيضطر لإمساكه بشدة، وكذلك تفعل الملائكة الموكلة بقبض روحه وهي تؤدي الوظيفة التي وكلت بها، قال تعالى:{ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}(الأنعام:93)
وفي أمر الملائكة لهؤلاء بإخراج أنفسهم دليل على تعلق هؤلاء الشديد بذواتهم تعلقا يبتر صلتهم بكل الكون، ويجعل منهم كونا حياديا غارقا في الحياد.
بينما تصف الآيات القرآنية مشهد المؤمنين وهم في احتضارهم في حالة استرخاء قصوى تنم بالراحة والطمأنينة والسعادة، قال تعالى يخاطب تلك النفس المؤمنة البعيدة عن كل أنا ومتعلقاتها:{ يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}(الفجر: 2ـ30)
وفي أمرها بالدخول في عباد الله الصالحين دليل على ما كانت تحمله النفس من تواضع ولين وشعور بالآخرين،وهي البشارة التي يبشر الله بها عباده الصالحين الذين لا يشعرون باكتمال نعيمهم في الجنة إلا بإخوانهم،قال تعالى:{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ}(العنكبوت:9)، ويصف حالهم في الجنة بكونهم {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (الحجر:47)
ويخبرنا أنس بن مالك بحادثة كانت سببا لمسرة عظيمة انتشرت بين الصحابة، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:يا رسول الله متى قيام الساعة؟، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصلاة، فلما قضى صلاته قال: أين السائل عن قيام الساعة؟، فقال الرجل:أنا يا رسول الله قال: ما أعددت لها؟ قال:يا رسول الله ما أعددت لها كبير صلاة ولا صوم إلا أني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (المرء مع من أحب وأنت مع من أحببت)، فما رأيت فرح المسلمون بعد الإسلام فرحهم بهذا([2]).
ولهذا لما حضرت بلالا الوفاة قالت امرأته:واحزناه، فقال:بل واطرباه، غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه.
وهؤلاء العباد الصالحون المتعارفون في محبة الله لم تكن المحبة لتربط بين قلوبهم وتجعلهم نفسا واحدة لو كان لكل واحد منهم كيانه الخاص.
ولهذا وصف الله تعالى تجمعات وتوحدات غير المسلمين بهذا الوصف المطلع على ما تخبئه الضمائر:{ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} (الحشر:14)، لأن كل واحد من أولئك المجتمعين يريد أن يبني صرح نفسه على أطلال الآخرين، فهم يجتمعون بالمصلحة، ويتفرقون أو يتقاتلون إن دعت المصلحة إلى ذلك.
في نفس الوقت الذي نرى فيه مشاهد الإيثار بين المؤمنين تشير إلى تلك الروح الواحدة التي تجمع بينهم، قال تعالى:{ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}(الحشر:9) فهم يحبون ضيوفهم واللاجئين إليهم ويمدونهم بكل شيء يحرمون أنفسهم منه، ولا يجدون في صدورهم إلا الرضا والراحة والطمأنينة.
وهذه الراحة والأمن النفسي التي يراها المؤمن مع إخوانه يفتقدها الذي لا يعرف من الضمائر المنفصلة إلا ضمير واحدا هو ضمير المتكلم.
وبذلك يصور القرآن الكريم والتوجيهات النبوية والنماذج العالية من النفوس الراقية عظم خسارة الذي يتخذ من ذاته صنما، ومن الأرض هيكلا، ومن الخلق قرابين، فأول ما يخسره من ذبح جميع الكون قربانا لذاته نفسه التي بين جنبيه، ومن خسر نفسه خسر كل شيء خسارة لا تعوض قال تعالى:{ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيم} (الشورى:45)
ويرد القرآن الكريم سبب ذلك النسيان إلى نسيان الله تعالى، لأن من نسي الله نسي كل شيء، لأن كل شيء بالله ومن الله وإلى الله، وكل شيء بغير الله باطل، وكل شيء من غير الله هباء.
فالناسي لله ارتبط بوجود وهمي خيالي لا حقيقة له، فلذلك يصعق يوم يكتشف الحقيقة مبهوتا حين يرى نفسه قد تعلق بقشة في وسط محيط كوني لا ينتهي، قال تعالى::{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُون}(الحشر:19)
واعتبر كل جرائمهم المتولدة من أنانيتهم خناجر تطعن صدورهم قبل أن تصل لضحاياهم، فهم الفريسة وهم الصياد، وهم الخائن وهم المخون، وهم الخادع وهم المخدوع، وهم المستهزئ وهم المستهزأ بهم، وهم المفتري وهم المفترى عليه، وهم الظالم وهم المظلوم…
قال الله تعالى يوضح هذه الحقائق، ويخاطب هذه النفوس:{ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 9)، وقال تعالى:{وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(البقرة:57)، وقال تعالى:{ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}(آل عمران:69)، وقال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}(الأنعام:24)، وقال تعالى:{ وَلَا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}(النساء:107)
إلى آخر آيات القرآن الكريم
الكثيرة التي تنعى إلى هؤلاء المتعاظمين أنفسهم وتبشرهم بالخسارة الأبدية يوم توضع
موازين الأعمال والحقائق، فيجدون كفتهم فارغة من كل خير، ولا يجدون في كفتهم إلا
جسدا منطويا هزيلا قد عبدوه من دون الله، ولا يجدون إلا ضميرا واحد من الضمائر
المنفصلة حجبهم عن كل خير، قال تعالى: {وَمَنْ
خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ
خَالِدُونَ}(المؤمنون:103)
([1]) سئل ابن مسعود عن الجَمَلِ فقال هو زوج الناقة. كأنه استجهل من سأله عن الجمل، وقرأ بعضهم الجُمل، وفسَّروه فقالوا قَلسُ السفينة.. معاني القرآن وإعرابه للزجاج (2/ 338)
([2]) رواه أحمد 3/159 (12652) وأبو داود 5127.. وغيرهما.