أتاتورك

أتاتورك

تركنا الحجاج يوبخ نفسه ويلومها، ويشتد في لومه لها، ولم نبتعد إلا قليلا حتى سمعنا صوتا لا يقل عن صوت الحجاج نكارة وخبثا إلا أن صوت الحجاج أفصح، ولسانه أبلغ.

اقتربنا من مصدر الصوت، فوجدنا رجلا يرتدي بذلة عصرية، وقبعة إفرنجية، فتعجبت أن يكون مثل هذا اللباس في مثل هذا المحل، فإذا بالرجل، يمسك بثيابه يريد أن يمزقها، فتحول القيود بينه وبين ذلك.

تعجبت من هذا المشهد، فقلت لصاحبي: أهذا مجنون.. ما باله.. إنه يلبس لباسا حسنا في مثل هذا المحل، ثم هو لا يرضى به، بل يريد تمزيقه.

قال: إن أعظم ما يعذب به هذا المستبد هذا اللباس الذي يلبسه.

قلت: كيف ذلك؟.. لا أراه إلا لباسا عاديا.

قال: هو عادي في ظاهره.. ولكنه في حقيقته يرمز إلى أمور خطيرة قام بها هذا المستبد طيلة حياته، وهو الآن يتعذب لتذكرها([1]).

قلت: من هو ـ أولا ـ حتى أعرف خبره، وأعلم علمه؟

قال: هذا رجل أراد أن يلغي باستبداده أمة من الوجود، فراح يعيث فيها أنواع الفساد.

قلت: كلهم يفعل هذا.. فما وجه خصوصية هذا المستبد؟

قال: هذا المستبد لم يكتف بأموال الناس، ولا بدمائهم، بل راح يستل عروق الإيمان التي ورثوها من أسلافهم.

قلت: كثير يفعل هذا.. فمن هو من بينهم؟

قال: رأسهم المفكر، وأسوتهم السيئة، وزعيمهم الذي لا ينازع.

قلت: أراك تحوم حول رجل أعرفه.. وترك وراءه من الخراب ما لا نزال نعاني منه.

قال: أجل.. هو ذلك الرجل..

قاطعته قائلا بصوت مرتقع، وكأني أريد حل لغز: إنه أتاتورك..

صاح الصوت الخبيث: من يناديني.. أنا أتاتورك.. أنا خليفة مخلص من خلفاء فرعون.. لقد نصبت نفسي إلهاً من دون الله، أشرع للأمة كما أشاء.. لفقت قانوناً فريداً يتكون من القانون السويسري والقانون الإيطالي وغيرهما، وأكملت الباقي من عندي.. لقد عزلت الله لأبقى وحدي.. لقد كنت أصيح بملء في 🙁 نحن لا نريد شرعاً فيه قال وقالوا، ولكن شرعاً فيه قلنا وتقول)([2])

وفي جلسة في مجلس النواب وقفت قائلاً 🙁 إن التشريع والقضاء في أمة عصرية يجب أن يكونا عصريين مطابقين لأحوال الزمان لا للمبادئ والتقاليد)

وقد عقب علي حينها هامان.. وزير عدلي قائلا 🙁 إن الشعب التركي جدير بأن يفكر بنفسه بدون أن يتقيد بما فكر غيه من قبله، وقد كان كل مادة من مواد كتبنا القضائية مبدوءة بكلمة قال المقدسة، فأما الآن فلا يهمنا أصلاً ماذا قالوا في الماضي، بل يهمنا أن نفكر نحن ونقول نحن) ([3])

وعندما اعترض علي مرة أحد القانونيين بقوله 🙁 إن هذا النظام الذي تريدون وضعه لا يوجد في أي كتاب للقانون) قلت له بكل قوة:( إن النظم ليست إلا أشياء وأمورا تكيفت ومرت من التجارب.. علي أن أنفذ ما أريد، وعليكم أن تدرجوا ما أعمل في الكتب!!)([4])

قلت: ولكن الخلافة كانت قائمة، والأمة كان فيها كثير من الخير، فكيف وصلت إلى ذلك العرش الذي جلس عليه قبلك سلاطين آل عثمان؟

قال: ذلك حديث طويل.. وتلك مؤامرة خبيثة دبرناها، ودبرها سلفنا لنميت أمة محمد.. ونميت معها السلام والإسلام.

قلت: فأخبرني عنها..

قال: ستمر على تفاصيلها في حصون المستضعفين.. ولكني سأخبرك عن بداية خبري.. فما أنا إلا حلقة في سلسلة لم يكن لها من هدف غير تحقيق الغاية التي توهموا أنهم شرفوني بتحقيقها.

قلت: فما بداية خبرك؟

قال: لقد كان أمر أمة محمد قائما ما دامت وحدتها قائمة، فرحنا نتلاعب بتلك الوحدة بصنوف التفريق..

قلت: لقد ذكرتني بقول القس سيمون‏ 🙁 إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب الإسلامية، وتساعد التملص من السيطرة الأوربية، والتبشير عامل مهم في كسر شوكة هذه الحركة، من أجل ذلك يجب أن نحوّل بالتبشير اتجاه المسلمين عن الوحدة الإسلامية‏)([5]) ‏

قال: ومثله قال المبشر لورنس براون 🙁 إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية، أمكن أن يصبحوا لعنةً على العالم وخطراً، أو أمكن أن يصبحوا أيضاً نعمة له، أما إذا بقوا متفرقين، فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير.. يجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين، ليبقوا بلا قوة ولا تأثير‏)([6]) ‏

قلت: فكيف طبقوا سياسة التفريق؟

قال: تفاصيل ذلك كثيرة.. وستعرفها في حصون الوحدة.. ولكني سأخبرك على ما يرتبط منها بخبري..

لقد أنشأنا عصبة ليس لها من هم إلا تنفيذ خططنا.. وبعد صراع مرير مع الخليفة ـ وقفت فيه كل القوى الدخيلة والعميلة ضده ـ انتصرنا وأقصينا عبد الحميد عن الخلافة بالقوة.. واخترنا بدله سلطاناً جديداً لم يكن يساوي في نظرنا إلا أحد البابوات المؤقتين.. لقد رأينا حينها أن المناخ لم يتهيأ بعد لإلغاء منصب الخلافة.. فلم يكن من الحكمة أن نستعجل بإلغائها.

قلت: وما فعلتم مع فكرة الجامعة الإسلامية التي كانت منتشرة في ذلك الحين؟

قال: لقد أبطلناها، ووضعنا البديل لذلك بفكرة القومية الطورانية معلنين أن حركتنا تهدف إلى تتريك الولايات العثمانية.. ولم نكن نقصد بذلك إلا تهييج العرب الذين سرعان ما تعلقوا ببريطانيا، كعادتهم في مد أيديهم لأعدائهم، ووضعوا مستقبلهم في يد عميل المخابرات لورانس منادين هم أيضاً بالثورة العربية والقومية العربية.

ثم أعلنا الدستور، ذلك الصنم الذي جعل دعايتنا العريضة أعظم الغايات، وجاء الدستور معبراً عن أهدافنا اللادينية إذ رفع شعارات الماسونية، وشدد على الحرية الدينية، وعطل عمل المحاكم الشرعية باسم الاصلاح والتقنين، مما أتاح الفرصة لأعداء الإسلام كي يتمكنوا من العمل بكل حرية ونشاط.

قلت: لا زلت تحدثني عن العصابة التي نشأت فيها.. فحدثني عنك.

قال: عصابتي هي أنا.. وأنا هو عصابتي.. لقد كنا نحمل من الإخلاص ما لو حملتموه لانتصرتم..

قلت: لا أقصد ذلك.. بل أقصد كيف وصلت أنت إلى السلطة لتنفذ الخطط التي كنتم تتكتمون عليها.

قال: عرفنا حب هذه الأمة للأبطال.. فرحنا نضرب على هذه الأوتار.

قلت: كيف.. هل حولوك واحدا منهم؟

قال: لقد فعلوا ذلك بدقة محكمة.. لقد كانت اللعبة العالمية تقتضي اصطناع بطل تتراجع أمامه جيوش الحلفاء الجرارة، وتعلق الأمة الإسلامية اليائسة فيه أملها الكبير وحلمها المنشود، وفي أوج عظمته وانتفاخه ينقض على الرمق الباقي في جسم الأمة فينهشه ويجهز عليها إلى الأبد!

وتمت صناعة البطل بنجاح باهر.. وكنت أنا البطل الموعود..

رفع بها صوته، ثم راح يحاول تقطيع ثيابه.. إلا أن الأغلال كانت تحول بينه وبين ذلك.

ثم استمر يقول: وقفت أتحدى الحلفاء بقوة كاذبة تمتلئ ضعفا.. وقفت أتوعد اليونان بألقائها في البحر.

ولم ير الحلفاء بداً من التفاوض معي، وكانت ثمرة المفاوضات هي الاتفاقية المعروفة باتفاقية [كيرزن]

قلت: فما تنص هذه الاتفاقية؟

قال: كانت تحوي أربعة الشروط.. كل شرط منها جبل من جبال الاستبداد..

قلت: فما هي هذه الشروط؟

قال: أولها إلغاء الخلافة الإسلامية نهائياً من تركيا.. وثانيها أن تقطع تركيا كل صلة مع الإسلام.. وثالثها أن تضمن تركيا تجميد وشل حركة جميع العناصر الإسلامية الباقية في تركيا.. ورابعها أن يستبـدل الدستـور العثماني القائم على الإسلام بدستور مدني بحت([7]) .

قلت: فكيف تزعم أنك بطل.. وهم يملون عليك مثل هذه الشروط.

قال: لقد كانت هذه الشروط هي حلمنا الذي أسسنا لأجله كل تلك المسرحية الطويلة.

قلت: فهل وفيت بها؟

قال: خير وفاء.. ألم تقرأ ما قال المؤرخ أرمسترونج في ذلك.

قلت: فما قال؟

قال: لقد قال 🙁 انطلق أتاتورك يكمل عمل التحطيم الشامل الذي شرع فيه وقد قرر أنه يجب عليه أن يزيل جميع الأنقاض التي تحيط بها، هو حطم فعلاً النسيج السياسي القديم، ونقل السلطنة إلى ديمقراطية، وحول الإمبراطورية إلى قطر فحسب، وجعل الدولة الدينية جمهورية عادية، إنه طرد السلطان وقطع جميع الصلات عن الإمبراطورية العثمانية، وقد بدأ الآن في تغيير عقلية الشعب بكاملها وتصوراته القديمة وعاداته ولباسه وأخلاقه وتقاليده وأساليب الحديث ومناهج الحياة المنزلية التي تربطه بالماضي)([8]) .

قلت: أوصل بك الحد إلى التدخل في حياة الناس الشخصية؟

قال: لو أذنت لي.. أو أذن لي صاحبك لأخبرتك بما فعلت.. لينالك العجب.. ولترى من طبائع الاستبداد ما لم تكن تتصور.

أشار إليه صاحبي بالإذن، فراح يقول ـ وكأنه يسترجع ذكريات مريرة تؤرقه ـ : في 29/10/1923 تم إعلان الجمهورية وانتخبت أول رئيس للجمهورية، واتخذت أنقرة عاصمة لي.

بعدها بفترة قصيرة في سنة 1924، وفي 16/3 أصدرت قانون توحيد التدريسات، وبموجبه اُلغي تدريس الدين واُلحقت المدارس جميعها بوزارة المعارف، وأغلقت مدارس القرآن الكريم والدين.

قلت: لقد بدأت بالتعليم.

قال: لأصوغ العقول الجديدة الصياغة التي يريدها الشياطين الذين ارتبطت بهم.

قلت: ثم ماذا؟

قال: في 24/4 ألغيت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية و المحاكم الشـرعية، وأعدت النظر في دستور الدولة.

وفي سنة 1925، وبعد اندلاع ثورة الشيخ سعيد پيران (الپالوي)، أعلنت الأحكام العرفية في الولايات الشرقية، وتبعه قانون إقرار السكون (قانون إقرار النظام في البلاد)، وتبعه إغلاق عشرة من الصحف الصادرة باستانبول.

قلت: لا زلنا نرى الأحكام العرفية، وإغلاق الصحف الملتزمة.

قال: كل المستبدين يدينون بدين واحد.. ولست إلا واحدا منهم.. لكني أنا البطل الذي سبق الكل، ونهج نهجه الكل.

قلت: ثم ماذا فعلت؟

قال: أعدمت من تجرأ على معارضتي.. ففي 29/6 أعدمت الشيخ سعيد پيران وسبعة وأربعين من أعوانه.. وكانت بداية سنة ممارسة الإرهاب على الرعية.

وبعدها أغلقت جميع التكايا والزوايا في شرقي الأناضول..

وبعدها بدأت سيري نحو الحداثة.. نحو أن أصير أوروبيا مظهرا كما صرت أوروبيا مخبرا.

قلت: فما فعلت؟

قال: ألغيت التقويم الرومي المستعمل، واستعملت التقويم الغريغوري الأوروبي، واستعملت الأوقات حسب الساعات الزوالية.

وفي 24/8 ظهرت بالقبعة في قسطموني.. لقد ظهرت بهذه القبعة اللعينة التي لم أعد أطيقها، والتي لا أزال أتعذب بها.. اقترب مني يا تلميذ السلام.. وانزعها من رأسي.. فإن لها من الآلام ما لا يمكن لأي خبير تعذيب أن يتصوره.

صمت قليلا، ثم قال: لا.. دعها.. لقد عذبت بها أقواما.. فدعني أتجرع المرارات التي جرعتها غيري.

قلت: ثم ماذا فعلت؟

قال: في 24/9 من تلك السنة اشترك النساء المسلمات لأول مرة في حفلة رقص في منطقة تقسيم باستانبول، وفي 8/12 تم إقرار قانون القيافة ولبس القبعة وتكشّف النساء، أي إقرار الزي الأوروبي الكامل.

وفي 14/12 تم إجبار موظفي المساجد على ارتداء الزي الأوروبي والموظفين بلبس القبعة، وتم إلغاء الألقاب كالشيخ والخليفة والمريد.

وفي سنة 1926، وفي 17/2 منه تم إلغاء الزواج الإسلامي، ووضع قانون الزواج المدني، وبموجبه: حرّم تعدد الزوجات، وأُلغي المهر المفروض على الزوج، ومنع الزوج من حق الطلاق، وأصبحت البنت حرة في اختيار الزوج من أي دين كان، والتسوية بين الذكر والأنثى في الميراث..

وفي 4/10 تم قبول القانون المدني الأوروبي – الذي هو عبارة عن الترجمة الحرفية للقانون السويسري، وترجمة القانون الإيطالي وعدّه قانون الجزاء التركي، وتم إلغاء القوانين الشرعية كافة.

وفي 4/10 تم نصب تمثال لي في منطقة سراي بورنو باستانبول.

قلت: لم؟

قال: ألم أقل لك: إني خليفة فرعون.. وهل كان فرعون يرى غير نفسه.. ألم يبن الأهرام لأجل نفسه.. فكذلك أنا وكذلك كل مستبد لا يرى إلا نفسه.. ألستم تصرفون أموالا عريضة على صور رؤسائكم وزعمائكم؟

قلت: بلى.. نفعل ذلك وغيره.

قال: فكلهم مثلي.. فلم تفردونني باللوم.

قلت: واصل حديثك.

قال: في 1927 وفي 20/5 أمرت بإزالة كل ما يمت إلى الدولة العثمانية من لوحات وطغراء في الدوائر الرسمية، وفي 4/11 تم الاحتفال برفع الستارة عن تمثال النصر بآنقرة.

وفي سنة 1928 وفي 10/4 منها تم إخراج كلمة الله من القَسَم الذي يؤديه رجال الدولة وإخراج جملة (دين الدولة الرسمي الإسلام) وجميع التعابير والاصطلاحات الدينية من الدستور.

وفي 1/11 تم تقليص عدد موظفي المساجد من (2128) إلى (188) فقط.

وفي نفس اليوم تم إقرار الحروف اللاتينية بدلاً من العربية المستعملة، وبموجبه بيعت أطنانً من الوثائق والكتب القيمة بأزهد الأثمان وأطنان منها أرسلت إلى مصانع الورق.

وفي 1/11 تم إجبار الصحف ولوحات الأزقة والشوارع والمحلات على اتخاذ الحروف الجديدة.

وفي 30/12 تم غلق (90) مسجداً في استانبول.

وفي سنة 1929 وفي 1/ 9 منه تم رفع الدروس العربية والفارسية من المدارس ووضع الحظر على قراءة القرآن والكتب الدينية وتم تنفيذ القرار بشدة.

وفي هذه الأثناء وضع الحظر على اسـتعمال الألقاب العثمانية كالباشا والافندي وما شابه.

وفي سنة 1931 تم فرض الآذان والإقامة بالتركية رسماً وحظرهما بالعربية. وطبع المصحف بالتركية.

وفي سنة 1933 وفي 1/2 منها حدثت ثورة في بورصة احتجاجاً على الآذان بالتركية، وفي 7/2 أصبح الآذان بالتركية نافذاً في جميع المساجد.

وفي سنة 1935 وفي 2/1 منها جعل يوم الأحد عطلة الأسبوع بدلاً من الجمعة.. وفي 1/2 تم تحويل مسجد أياصوفيا إلى متحف بعد إغلاقه مدة من الزمن، وتحويل جامع الفاتح إلى مستودع، كما صدر قرار بفرش المسـاجد بالكراسي واستخدام (الاورج) فيها حيث تتم تلاوة القرآن بمصاحبة الموسيقى، إلا أنه لم ينفذ.

قلت: أراك لم تكتف بدنيا الناس حتى رحت تذهب إلى أخص خصوصياتهم مما لم يسايرك فيه الغرب نفسه الذي تلهث خلفه.

قال: أجل.. ولذلك فإن الحكومة التي أسستها كانت ـ كما وصفها الأمير شكيب أرسلان ـ ليست لادينية من طراز فرنسا وإنجلترا فحسب، بل هي دولة مضادة للدين كالحكومة البلشفية في روسيا سواء بسواء، إذ أنه حتى الدول اللادينية في الغرب بثوراتها المعروفة لم تتدخل في حروف الأناجيل وزي رجال الدين وطقوسهم الخاصة وتلغي الكنائس([9]) .

والحقيقة الأخطر من هذا هي أني كنت النموذج الصارخ للحكام في العالم الإسلامي.. لقد كان لأسلوبي الاستبدادي الفذ أثره في سياسات من جاء بعدي منهم، كما أنه أعطى الاستعمار الغربي مبرراً كافياً للقضاء على الإسلام، ففرنسا مثلا بررت تنصير بلاد المغرب العربي وفرنجتها بأنه لا يجب عليها أن تحافظ على الإسلام أكثر من الأتراك المسلمين أنفسهم.

قلت: فهل اكتفيت بتلك المظاهر تستلها واحدة واحدة.

قال: لا.. لم أكتف.. كانت همتي أعظم.. ففي سنة 1940وفي 7/ 3 تم تدريس الإلحاد رسماً في معاهد القرى.. وتم بذك ما أردت من كل تلك التفاصيل والفروع.

قلت: أراك لم تترك شيئا من الإلحاد إلا وقعت فيه.. فكيف سكتت رعيتك، وأنت تتدخل في أخص خصوصياتها؟

قال: إن أي قرار من القرارات التي سقتها لك، وغيرها كثير لم يطبق إلا بالسياط والجلادين والقتلة.. لقد أشعت من الرعب ما ملأ الرعية بالسمع والطاعة الكاذبة.

لقد شكّلت محاكم زرعت الخوف والإرهاب في طول البلاد وعرضها، ونصبت المشانق لعلماء أجلاّء، ولكل من تُحدثه نفسه بالإعتراض على السلطة الحاكمة.

لقد صرّح جلادي الأمين الذي حشر معي في هذه الأوكار ( قارا علي) لصحيفة ( صون بوسطة) في عددها الصادر في 3/ 3/ 1931بقوله 🙁 علّقتُ بيدي على المشانق خمسة آلاف ومائتين وستة عشر شخصاً في اثني عشرة سنة الماضية..)

ووصفت صحيفة ( جمهوريت) في عددها الصادو يوم 16/ 7/ 1930 الاعمال الجارية في شرقي الاناضول كالآتي: (لقد التجأ ما يقرب من ألف وخمسمائة شقي الى مغارات جبل آرارات، وألقت طائراتنا قنابل مكثفة عليهم، فكانت الانفلاقات مستمرة حتى طهرت تلك البقاع من العصاة، حيث أحرقت جميع القرى التي التجأ اليها الاشقياء، وامتلأ وادي زيلان بجثث الذين أبيدوا والبالغ عددهم ألفا وخمسمائة)

فساد جو من الذعر و الإرهاب في أرجاء البلاد، حتى أصبح الناس يخفون القرآن الكريم عن أنظار موظفي الدولة، ونشطت الصحافة في نشر الابتذال في الأخلاق والإستهزاء بالدين، فانتشرت كتب الإلحاد وحلت محل كلمات (الله، الرب، الخالق، الإسلام) كلمات (الطبيعة، التطور، القومية التركية) وغيرها من المصطلحات البديلة.

أما المعلمون والمدرسون فقد راحوا ـ خوفا مني أو تصنعا ـ يحاولون مسح كل أثر إيماني من قلوب الطلاب الصغار إذ أصبحوا يلقنونهم الفلسفة المادية وإنكار الخالق والنبوة والحشر.. وسعت السلطة الحاكمة آنذاك بتسخير جميع إمكانياتها وأجهزتها وقوتها ومحاكمها إلى قطع كل الوشائج والعلاقات التي تربط هذه الأمة بدينها ونزع القرآن من قلوبهم، حتى أنها قررت جمع المصاحف من الناس وإتلافها، ولكن لما رأوا صعوبة في ذلك خططوا لكي ينشأ الجيل المقبل نشأة بعيدة عن الإيمان والإسلام فيتولى بنفسه إفناء القرآن.

قلت: فهل ألجم الخوف رعيتك عن الثورة عليك؟

قال: إن أي قرار كنت أصدره، كان يحدث ثورة في المجتمع، وكنت أسارع بكل ما أوتيت من بأس لإخمادها.. بل إني أحيانا أستفز الناس بقراراتي ليثوروا لأقتل كل من يحمل بذرة من الصلاح.. ليخلو الجو لهدفي الأكبر.. غرس الإلحاد.

قلت: أكان هدفك الأكبر هو غرس الإلحاد؟

قال: أجل.. ولم يتفطن لهذا الهدف.. أو بالأخرى لم يسع بذكاء منقطع النظير لمواجهته إلا ذلك العدو اللدود ( بديع الزمان النورسي)

قلت: وغيره؟

قال: كثير منهم انشغلوا بفروع قراراتي عن مقاصدها.. فسقطوا في هوة الاستفزاز.. تصور ـ مثلا ـ أن علماء كثيرين وأدباء أجلاء آثروا تركوا البلاد على لبس القبعة.. وقد حدثت حينها ثورات ضدي في أنحاء مختلفة من البلاد ففي سنة 1925مثلاً حدثت: في سيواس في 14/11، و أرضروم في 25/ 11، و مرعش في 27/ 11، و ريزة في 2/ 11 وأخمدت كلها بالقوة.

قلت: وبديع الزمان؟

قال: لقد أمرت باعتقاله، وأخذه من صومعته في جبل أرك ونفيه إلى بارلا، وهي بلدة صغيرة نائية، لكي يخمد ذكره ويقل تأثيره ويطويه النسيان ويجف نبعه.

قلت: فهل جف نبعه؟

قال: لا.. لقد كان النورسي بخلاف ما وضع له من خطة رهيبة، لم يترك دقيقة من وقته تمضي في فراغ، بل صرف حياته بدقائقها في سبيل أجلّ خدمة في الوجود، خدمة القرآن والإيمان. فانكبّ على الاستفاضة من أنوار القرآن الكريم مستعصماً به حتى أفاض الله على قلبه من نور الآيات الحكيمة ما أفاض، فأسال منه سلسبيلاً من الرسائل سماها رسائل النور ونشرها سراً ـ بعيداً عن أنظارنا ـ بين الرعية، فحمى بها الإيمان الذي كنا نسعى لاقتلاعه من الحذور.

لقد صدق بعض كتابكم([10]) حين قال 🙁 تُرى أي مصير رهيب كان ينتظر تركيا، لو لم يقيض الله سبحانه وتعالى لها هذا الرجل، في وقت بدأت فيه فؤوس الحقد، ومعاول الهدم تعمل على زلزلة الإيمان وتقويض بنيانه ومسح آثاره من البلاد.. ويتراءى لنا طيف الأندلس شاحباً باكياً وقد انحسر عنه الإسلام وغادره الى غير رجعة)

قلت: فحدثني عن بديع الزمان، وكيف تم له ما تم؟

قال: العلم يؤخذ من أهله، وقد حدثتك عن خبري، فاسأله عن خبره.


([1])  أشرت بهذا إلى ما ورد في الحديث من أن من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به، فقد قال a : (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلددا فيها أبدا) رواه البخاري ومسلم.

وفي حديث آخر، قال a 🙁 من قتل نفسه بشئ في الدنيا عذب به يوم القيامة ) الطبراني في الكبير.

([2]) حاضر العالم الإسلامي : 3/ 343 .

([3]) المصدر السابق : 3/ 344 ، 345 .

([4]) الرجل الصنم : 205 .

([5])  ‏كيف هدمت الخلافة / ص 190.

([6])  ‏جذور البلاء : ص 202.

([7]) المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام : 174.

([8]) الصراع بين الفكرة الغريبة والفكرة الإسلامية : 16 .

([9]) حاضر العالم الإسلامي : 3/ 336 .

([10])  هو أديب ابراهيم الدباغ في كتابه (سعيد النورسي رجل الإيمان في محنة الكفر والطغيان)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *