مفتاح الكون

مفتاح الكون

بعد أن قال ذلك فتح لنا الباب .. فرأينا ما لا يمكن وصفه.. لكنا ما إن سرنا قليلا حتى رأيت بابا عجيبا قد صورت عليه صور شتى تختلط فيها الذرة بالمجرة، والخلية الحية بالأكوام من الجمادات، وكلها ترفع رايات بيضا، وتنطق بلا حرف ولا صوت تطلب السلام.

سألت االمعلم عن هذه اللوحة الرمزية، فقال: هذا باب حقوق الأكوان، وهي تطلب جميعا منكم الرحمة.

قلت: ما الرحمة التي تطلبها الأكوان؟

قال: هي الرحمة التي يطلبها الإنسان.

قلت: وما الرحمة التي يطلبها الإنسان؟

قال: الفطرة.

قلت: لقد خلق الله الإنسان على الفطرة.

قال: وكذلك خلق الأكوان على الفطرة.

قلت: أفهم خلق الإنسان على الفطرة، ولا أفهم خلق الأكوان على الفطرة.

قال: أليس المولود (يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)([1])

قلت: بلى، قد فهمت هذا في المولود، فهو في أصله فطرته قلبه كابتسامته العذبة، وروحه لطيفة كلطف محياه.

قال: فكذلك الكون ولد بريئا طاهرا يبتسم برياحه كما يبتسم بنسيمه، وهو يخاف على فطرته أن تنجس بقاذوراتكم، ألم تخف الملائكة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ على الأرض من شركم معشر بني الإنسان؟

قلت: بلى، لقد قالت:{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } (البقرة: 30)

قال: وهل حصل ما خافت منه الملائكة؟

قلت: بلى، فقد قال أخبرتعالى عن كثير من المفسدين في الأرض، ومن جملتهم ذلك الذي نزل فيه قوله تعالى:{ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (البقرة:205).. وقد ذكر المفسرون أنها نزلت في الأخنس.

قال: أهذه آية الأخنس؟

قلت: نعم .. هكذا قال المفسرون، وعلى هذا نصوا.

قال: وهل الأخنس واحد؟

قلت: نعم .. وهو الذي أبوه شريق، وينتمي إلى ثقيف.

قال: ما أخطر ما تفسرون به القرآن الكريم .. إن ابن شريق لا يستحق نظرة واحدة من محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف يستحق أن ينزل قرآن ينشر ذكره إلى قيام الساعة .. إن هذه الآية تخاطبكم، فلا تنشغلوا بالأخنس وبأبي جهل.

قلت: فما تقول لنا؟

قال: تقول لكم لا تغتروا بالمفسدين الذي يزعمون أنهم يصلحون، ألم يقل الله في الآية السابقة لهذه الآية:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (البقرة:204)

قلت: بلى .. وهكذا كان الأخنس.

قال: وهكذا هو حال كل أخنس يفسد ويزعم أنه يصلح .. يضر ويزعم أنه مفسد .. يسلبك ما في جيبك، ثم يطلب منك أن تدفع له ثمن تعبه في مد يده إلى جيبه.

قلت: لقد ذكرتني بما روي في بعض الكتب:(إن عباداً ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، لبسوا للناس مسوك الضأن من اللين، يجترون الدنيا بالدين، قال اللّه تعالى: عليّ تجترئون وبي تغترون؟ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران)

قال: لقد ذكر القرآن الكريم الكثير من المفسدين الذين يزعمون أنهم مصلحون، فقال:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (البقرة:11)

قلت: وقد صدق التاريخ ما قال الحق تعالى، فليس هناك مفسد إلا وهو يزعم الإصلاح، فأكبر الجرائم الإنسانية تغطى، بل تمجد، بل يعطى أصحابها الشهادات التقديريه لكونهم من المصلحين.

قال: ذلك في حسابكم، أما في حساب الحق، فإن المفسد هالك من أول خطوة يبدأ بها فساده، ألم تسمع قوله تعالى:{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم:41)

قلت: بلى.

قال: فقد أخبر تعالى أنه سيذيق المفسدين ثمار فسادهم.

قلت: ولكن ثمار فسادهم طالت الأكوان من الأحياء والجمادات.

قال: ليس في أكوان الله جمادات .. كلهم أحياء .. وكلهم يستغيثون بالله من فسادكم .. وكلهم يرسل آلاف اللعنات على كل من غير ابتسامة الكون .. أو لعب ببراءته.

قلت: لعلك تقصد آثار الصناعة على جمال الأرض وطهارتها وتناسقها.

قال: وهل هناك خطر أعظم من هذا .. لم تزكم الأرض منذ خلقها الله، فلما جئتم وجاءت حضارتكم كان أول ما فعلته أن أحرقت رئة الأرض، فتنفست سلا .. ولعبت بأمواج البحر البريئة، فملأتها نفطا .. ولم يسلم جو الفضاء من فسادكم، فخرقتم ما رقعه الله، وقطعتم ما وصله.

قلت: صدقت، فقد قرأت في هذا من الأخبار ما ينقضي دونه العجب.

قال: فاذكره.

قلت: لقد قرأت أنه خلال نصف قرن مضى فقط خسر العالم خُمس  التربة الصالحة للزراعة، وخُمس غابات المطر، وانقرضت الآلاف من الأجناس النباتية  والحيوانية.. وقرأت عن انتشار مواد كيمائية خطرة تستخدم في أكثر دول العالم، وآثارها سيئة، وهي تصل إلى أكثر من 80 ألف مادة.. وقرأت عن ارتفاع حرارة  الأرض نتيجة أبخرة وغازات وعوادم السيارات وغيرها، والتي أدت إلى تغيرات مناخية زادت من خطر الأعاصير المدمرة أو الجفاف أو الفياضانات .

قال: فأنتم تخربون بيوتكم بأيديكم.

قلت: ما بالك يا معلم .. أنت تتكلم كل حين عن تلوث البيئة ..

قال: هل ترضى أن ترمى في الكعبة النجاسات، أو تدنس المساجد بالقاذورات؟

قلت: لقد قف شعري مما قلت .. والله لو حصل ذلك لملأنا عليهم الدنيا لهيبا .. كل شيء نقبله ما عدا تدنيس مقدساتنا.

قال: الحق أقول لك: من لم يشعر بالغيرة على أكوان الله كما يشعر بالغيرة على كعبة الله، ومساجد الله، فهو لا يعرف الله، ولا يقدر خلق الله.

قلت: كيف .. أنت تتكلم كلاما خطيرا قد نرجم بسببه .. أنت تجعل للجبال والحجارة والرياح والأمطار من القداسة ما للكعبة والمساجد.

قال: أنا لا أفعل ذلك، بل الله هو الذي يأمرنا بذلك.

قلت: بم يأمرنا؟

قال: باحترام مخلوقاته .. ألم تقرأ حديث القرآن الكريم عن مواقفها الخاشعة .. ألم تسمع قوله تعالى:{  إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72)، فلولا ما في الكون من طاقة الإدراك والاختيار ما عرض عليه هذا العرض الخطير، ولولاها ما أجاب هذه الإجابة الواعية.

والقرآن الكريم يخبر عن وعي الحجارة وعيا يجعلها تهبط من خشية الله، قال تعالى:{ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه} (البقرة: 74)

والجبل يخشع لنزول القرآن، قال تعالى:{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21)، بل ينهد لسماع شرك المشركين، قال تعالى:{ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} (مريم:90 ـ91)

قلت: لقد ذكرتني بما ورد في الآثار من أن الجبل يفخر إن مر عليه ذاكر لله، فقد ورد في الأثر:(إن الجبل ليقول للجبل: هل مرَّ بك اليوم ذاكر لله؟ فإن قال: نعم، سُرَّ به) ثم قرأ عبد الله قوله تعالى:{  وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (البقرة:116) قال:(أفتراهن يسمعن الزور ولايسمعن الخير)([2])

قال: فأنت ترى أن الكون حلقة ذكر واسعة .. أفليس لهؤلاء الذاكرين الخاشعين من الحرمة ما للكعبة والمساجد؟

قلت: بلى .. بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يحمل احتراما عظيما للكائنات، فعندما حن الجذع لفقد رسول الله r، ضمه حتى سكن ([3]) .. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يبادل هذه الأشياء مشاعرها، فكان يقول عن أحد:(هذا جبل يحبنا ونحبه)([4])

قال: أتدري ما أعظم حق يطلبه منكم الكون؟

قلت: ما هو .. لقد شوقتني.

قال: أن تعترفوا به.

ضحكت وقلت: وكيف نعترف به .. أنحن نستعمره؟

قال: أجل أنتم تستعمرونه في تصوراتكم، فتعتقدونه كونا هملا لا راعي له ولا حافظ، فتصارعونه وتوهمون أنفسكم أنكم تغلبونه.

قلت: فكيف نعترف به؟

قال: أن تعتقدوا أنه كون لله، لا كونكم، فتتعاملون معه معاملة الأخ لأخيه، وتتناولوا ما فيه من فضل باسم الله، لا باسمكم وباسم جهودكم.

قلت: ففسر لي ذلك، وأدبني به.

قال: علم ذلك في درس آخر من دروس السلام، عندما نشرب من عيون الحقائق مياها عذبة من أكواب (أكوان الله) 


([1])    رواه البخاري ومسلم.

([2])   رواه ابن أبي شيبة.

([3])    رواه  الترمذي والدارمي.

([4])    رواه البخاري ومسلم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *