مفتاح الرفق

مفتاح الرفق

بعد أن قال ذلك فتح لنا الباب .. لكنا ما إن سرنا قليلا حتى رأيت بابا عجيبا، قد علقت عليه صورة لنفس الرجل السابق .. الرجل الذي يلوح النور في وجهه، والذي يتحرك حركات منتظمة دقيقة على صراط معتدل مستقيم، وكلما لاح له شيء يريد أن ينحرف به عن مساره فتح كتابا كان يحمله لينظر ما فيه، ثم يستمر في سيره.

ولكني لم لم أر الصراط دقيقا جدا كما رأيته في الباب السابق، صحيح أنه أدق من الشعرة، وأحد من السيف .. ولكن الكتاب الذي كان يحمله يحول من ذلك الضيق مساحة تستغرق الأرض جميعا.. بل تحتوي الكون جميعا ..

فلذلك لم أر الرجل خائفا، ولا وجلا .. بل إنه يكاد يرقص على ذلك الحبل الدقيق من عظم اتساعه.

سألت المعلم: أرى أن الذي رسم هذه الصورة لم يقصد إلا معارضة رسام الصورة السابقة.

قال: التعارض في أرض الصراع، لا في أرض السلام .. المسالم لا يعارض أحدا.

قلت: كيف هذا؟ إن أبسط عاقل يرى التعارض بين الصورتين.

قال: عندما يعزل العاقل عقله، فيرى الأشياء بعينه، لا بعين الحقيقة يرى التعارض.

قلت: أأنا الآن أعزل عقلي؟

قال: ما أكثر ما تعزلون عقولكم ..

قلت: ولكنها معنا.

قال: هي معكم .. ولكنكم لا تستخدمونها .. أنتم كتائه في الصحراء لا ينظر إلى الهداة ولا يستمع لهم .. ثم يظل حزينا لأن الصحراء تلتهمه برمالها.

قلت: بين لي كيف ينتفي التعارض بين الصورتين.

قال: إن نفرا من قومك قرأوا ما في الورع من فضل، فضيقوا به ما وسع الله من دينه، ولم يروا في الدين من ألفاظ إلا ألفاظ (الباطل والحرام)

قلت: ولكن هذه الألفاظ موجودة.

قال: ولكنها محدودة.

قلت: فلماذا لا نجعل الأصل الحذر من وجودها لنتقيها؟

قال: لأنك لو فعلت ذلك لم تقدم ولم تتحرك ولم تتطور ..

قلت: بلى .. التدريب يقتضي التطوير، والتطوير يقتضي التحرك، والتحرك يقتضي التغيير.

قال: ونفر من قومك يعتبرون التغيير محدثا، ويعتبرون كل مجدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

قلت: هذه حقيقة نطق بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال:(من أحدث في أمرنا هذا، فهو رد)([1])

قال: لكن ذلك في أمور الدين، لا في شؤون الدنيا.

قلت: أتقصد أن نبيح كل التعاملات لكي نتطور.

قال: التعاملات الإنسانية التي يقرها العقل، ولا يعارضها الشرع.

قلت: وهم لا يتكلمون إلا فيما يعارضه الشرع.

قال: الشرع يضع الضوابط، ويحد الحدود، ويترك الحياة بعد ذلك تسير في مساحة واسعة من الاختيارات، ألم تر الرجل الذي في الصورة كيف يسير في مساحة تسع الكون مع أنها في نظر العقول الضيقة أحد من السيف وأدق من الشعرة.

قلت: إذن الصورة ترمز إلى هذا المعنى.

قال: إن رحمة الله التي وسعت كل شيء تأبى أن تختبر عباد الله بما هو أدق من الشعرة، وأحد من السيف، ألم تقرأ ما ورد في أوصاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو قدوة العلماء في بيان أحكام الشرع؟

قلت: بلى .. فقد وصفه الله تعالى بالرحمة والرأفة بالخلق، فقد قال تعالى فيه:{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128)، وقال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الانبياء:107) .. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه:(إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً)([2]

قال: فهل كان صلى الله عليه وآله وسلم يتخير التشديدات ليعاقب بها أمته؟

قلت: كلا .. بل كان رحمة مهداة، يقول فيه الحق تعالى:{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (لأعراف:157).. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول عن نفسه:(بعثت بالحنيفية السمحة)([3])

قال: فالتوسعة على الناس أصل من أصول الدين، وسنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

قلت: يا معلم .. ولكن ما علاقة هذا بما نحن فيه؟

قال: ألم تعلم أن السعي الجاد للخروج من التخلف يستدعي ـ أول ما يستدعي ـ الشرعية؟

قلت: أجل، فقد عرفنا ذلك.

قال: وهذا يستدعي اللجوء إلى العلماء للبحث عن أحكام الله.

قلت: هذا صحيح، فالورع هو الذي يراعي خطواته، أين يضعها؟

قال: ولكن الذين لا يدركون سماحة الشريعة ورحمتها لا يرون من الأحكام إلا جانبها التشديدي، فيمنعون من كل نشاط، ويوقفون كل حركة، ويمنعون كل تطور.

قلت: فاضرب لي أمثلة على ذلك.

قال: لو ضربت لك الأمثلة لعرفت من نقصد .. والناصح ينصح ولا يفضح. 


([1])   رواه البخاري وغيره.

([2])    رواه مسلم.

([3])    رواه أحمد والطبراني.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *