مدائن السلام

مدائن السلام

بعد أن مررنا على جميع تلك الأبواب صادفنا باب عظيم احتوى على جميع أصناف البهاء، فصحت: هذا باب الجنة .. لا شك في ذلك .. لكنا لم نمرر على الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف.

قال لي: لا .. هذا باب مدائن الدنيا .. ولكن ـ مع ذلك ـ لا مانع من أن تعتبره بابا من أبواب الجنة، ففي الدنيا من روائح الجنة ما لا يشمه إلا الصديقون.

قلت: والصراط؟

قال: لقد مررت به.

قلت: أتقصد هذا الطريق الذي سلكناه، والأبواب التي فتحت لنا؟

قال: أجل، فهو أدق من الشعرة، وأحد من السيف.

قلت: ولكنا كنا نسير فيه بسهولة ويسر.

قال: لأن النور كان معنا .. ولولا النور لتهنا عن طريقنا .. ولخرجنا إلى أبواب جهنم الكثيرة.

قلت: أهناك إذن أبواب لجهنم تؤدي إليها تلك المسارات التي رأيناها؟

قال: أجل، وهي التي سلكتها مدائن عاد وثمود وسدوم وعمورية، ومدائن الشرق الآفل، والغرب الذي أراد أن يقتل التاريخ.

قلت: أعرف عادا وثمودا وسدوم وعمورية .. ولكني لا أعرف المدينتين الأخيرتين.

قال: سيعرفهما أولادك .. ولعلهم يعتبرون بهما.

قلت: فكيف نفتح هذا الباب؟

قال: ككل الأبواب .. ندخله بفتحه.

قلت: ولكن أين المفاتيح؟

قال: المفاتيح هي الحقائق التي وعيتها أثناء مرورك على الصراط .. فهل وعيت ما قلت؟

قلت: نعم .. وعيته، ولله الحمد والمنة، ولك الشكر والفضل.

قال: سنرى.

قلت: ماذا؟

قال: إن كنت وعيتها بصدق، فسيفتح الباب بمجرد أن نقترب منه، فإن لم يفتح، فهذا دليل على أنك لم تكن صادقا في وعيك.

قلت: لا تخف يا معلم، فأنا واثق مما أقول .. فالمرارات التي عشتها في مدنيتي جعلتني لا أعي فقط ما قلنا، بل أحفظه، وأعيشه.

قال: ولكن .. ألم أخبرك أن الوعي الذي يتوقف على الذاكرة والحفظ لا يكفي وحده؟

قلت: تريد الحب والعزيمة.

قال: لا يكفي للتغيير أن تعرفوا ما لم تمتلئ قلوبكم ببذور الشوق التي تنبت ثمار العزيمة.

قلت: لا تخف يا معلم .. فإن لي عزيمة تفل الحديد.

قال: عزيمة على ماذا؟

قلت: عزيمة على الدعوة لما ذكرنا ونشره والتبشير به.

قال: لا يكفي كل ذلك .. لا يكفي الكلام.

قلت: وهل أملك غير الكلام .. لقد قلت لي: إن فأسك هو قلمك .. ولذلك سأسخره لهذا السبيل.

قال: القلم أداة من أدوات الحضارة .. ولكن الحضارة لا تقوم به وحده.

قلت: بماذا تقوم إذن؟

قال: بك.

قلت: ومن أنا؟

قال: الإنسان.

قلت: أعرف ضرورة الإنسان للحضارة، فلا حضارة بلا إنسان ..

قال: فتحضر أنت قبل أن يتحضر قلمك.

قلت: بماذا أتحضر.

قال: بالسلوك .. بالترفع .. بالتخلق .. بالعرفان .. فالحضارة ليست أشياء .. بل هي قيم ومبادئ.

قلت: أنا أتعلم على يديك ..

قال: أخاف أن تتصور أن ما ذكرته هو النهاية، فتكتفي به .. أو أخاف أن ترى جمال هذه المدنية، فتقرر الاستقرار فيها، وتكتفي بما عرفته كما اكتفيت مع كنوز الفقراء.

قلت: لا تخف يا معلم .. أعلم أن الطريق طويل، وهذه البداية .. وأعلم أن ملكوت الله واسع، ولن أستقر في محل .. بل همتي تترقى إلى الله، { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} (لنجم:42)

قال: إن كنت قلت هذا .. فاقترب من باب المدائن، فستفتح لك.

اقتربت مع المعلم من الباب .. وبمجرد اقترابنا فتح على مدينة عظيمة .. لست أدي هل كانت في الأرض أم في السماء .. كل ما فيها جميل .. أشكال بناياتها تختلف كثيرا عن سائر ما أعرفه من أشكال البناء.

سألت المعلم: ما أجمل هذه الحلل التي ترتديها هذه المدينة، من المهندسون الذين بنوها، أم من الفنانون الذين صمموها؟

قال: هؤلاء مهندسون من أهل الله فتح الله عليهم، فصمموا هذه الأشكال البديعة، مستوحين لها من أشكال الكون.

قلت: أين ناطحات السحاب؟

قال: لا يعرف أهل هذه المدينة التطاول في البينان.

قلت: أين مداخن مصانعهم .. أليس في هذه المدينة مصانع؟

قال: بلى .. هي مملوءة بالمصانع .. بل كل بيت من بيوتها مصنع من المصانع.

قلت: فأين مداخنها؟

قال: لقد حرص أهل هذه المدينة على عدم تلويث الكون بأي ملوثات.

قلت: فما صنعوا معها؟

قال: هداهم الله، فخلصوا الصناعة من كل الملوثات.

قلت: كيف وصلوا إلى ذلك؟ .. دلني على هذا الاختراع .. فقومي محتارون مع الملوثات.

قال: قومك نظروا إلى كسبهم، ولم ينظروا إلى كون الله .. وما كان الله ليهديهم لشيء لم يهتموا به.

قلت: أتقصد أن الطريق إلى ذلك هو الاهتمام والرعاية؟

قال: أجل .. لو صدقوا لوجدوا .. لقد صدقوا في البحث عن الذهب الأصفر.. فوجدوا الذهب الأسود والأصفر .. ولو صدقوا في البحث عن طهارة الكون لوجدوها.

قلت: أين مدارس هذه المدينة وجامعاتها .. فإني لا أرى الطلبة يجتمعون حول أبواب المدارس والجامعات؟

قال: كل بيت من بيوت هذه المدائن مدرسة بحد ذاته، والعلم هنا يبذل بالمجان لكل الناس.. فأهل هذه المدينة كلهم طلبة.

قلت: والمساجد .. أين هي المساجد .. لا أرى المآذن العالية، والقباب الفخمة؟

قال: كل هذه المدينة مساجد .. بل هي كلها مسجد لعبادة الله.

قلت: أقصد المواضع التي يلتقي فيها المصلون لينالوا أجر الجماعة.

قال: في كل حي من أحياء هذه المدينة، بل في كل حارة من حاراتها هذه المساجد .. فهي مثل دكاكين البقالة لا ينبغي أن تخلو منها حارة، وإلا أصابها الجوع.

قلت: ولكني لا أراها .. لقد تعودنا أن نضع المآذن الرفيعة على مساجدنا.

قال: ذلك لحبكم للتطاول .. فكل مأذنة تتطاول على أختها.

قلت: ومساجد هذه المدينة؟

قال: بسيطة كبساطة مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. فأول ما يتعلم المؤمن التواضع والزهد يتعلمه في المساجد.

قلت: ولكن قومي يصرفون أموالا ضخمة على بيوت الله تعظيما لها.

قال: إن الله طلب منكم أن تعمروا بيوته بالخشوع والإيمان والذكر، لا بأصناف الزخارف التي تعبدونها.

قلت: والملاعب .. أين الملاعب الفخمة التي تتباهى دول العالم على تشييدها؟

قال: تلك سنة المترفين، وما كان لأهل مدائن السلام أن يتشبهوا بمدائن الصراع في تشييدها.

قلت: ولكن النصوص تحض على الرياضة، وتدعو إليها.

قال: النصوص تدعو إلى الرياضة .. لا إلى التفرج على الرياضة، ولا إلى الصراع من أجلها.

قلت: فكيف يمارس أهل هذه المدينة الرياضة؟

قال: في كل بيت من بيوت هذه المدينة محل خاص يجمع بين المسجد والملعب والمستشفى والمصنع والكثير من المرافق التي تملأ مدائنكم.

قلت: كيف تقول هذا؟ فما البيت إلا بيت .. وهو لا يعدو أن يكون محل أكل وراحة.

قال: لقد عرف أهل مدائن السلام أهمية البيت، فلذلك ملأوه بالمرافق الطيبة التي تعينهم على دينهم وحياتهم، ألم تسمع قوله تعالى:{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس:87)

قلت: بلى .. فما فيها من العلم؟

قال: إن موسى u أرسل لبني إسرائيل ليخرجهم من عوالم الهوان التي ألفوها إلى عوالم أهل السلام .. والسلام كما يبدأ في النفس من النفس، يبدأ في المجتمع من البيت.

قلت: صدقت .. فإن من الناس من لا يجلس مع أهل بيته إلا قليلا .. شغله المجتمع والعلاقات الاجتماعية عن نفسه وأهله .. ولكن ألا يقضي هذا على الحياة الاجتماعية؟

قال: لا .. هذا يملأ الحياة الاجتماعية بالإيجابية، فلا يلتقي الناس إلا على العلم النافع، والعمل الصالح، والذكر الطيب.

قلت: ألهذا لا أرى النوادي والمقاهي هنا؟

قال: إن أكثر المقاهي التي تملأ شوارعكم سموم تهدم أعماركم، وتحطم حياتكم، وتنشر الخراب بينكم.

قلت: ولكن الكرم يقتضي وجودها، كما يقتضي وجود المطاعم..

قال: إن أردت هذا .. ففي كل بيت من بيوت هذه المدينة محال خاصة بالضيوف، ولكنهم يعمرونها بالذكر والعلم والعمل.

قلت: أيجتمع الضيوف على موائد العلم والذكر، لا الطعام والشراب.

قال: لا خير في طعام لا يحلى بالعلم، ولا يذاب بالذكر.

قلت: والجماعات والحركات، والطرق والتنظيمات، والأحزاب والنقابات .. أين مقارها، فإني لا أرى لها أي مقار .. أتراهم يكبتون الحريات؟

قال: وما المقاصد التي تأسس لها ما ذكرته من جماعات وتنظيمات .. فإن أهل هذه المدائن لا يرون في الأشياء إلا مقاصدها؟

قلت: النقد البناء والهدام .. والحفاظ على حقوق الخواص والعوام.

قال: فكل فرد من مجتمع هذه المدائن يقوم بهذا .. فهو ينقد ليصلح، ويهدم ما يفسد، ليبني على أساسه ما يصلح.

قلت: وجمعيات النساء والأطفال..

قال: وما دورها؟

قلت: الحفاظ على الحقوق المضيعة، وإرجاع ما اغتصب الرجال من حقوق النساء، وما اغتصب الكبار من حقوق الأطفال.

قال: مجتمع أهل السلام لا يقسم الناس على هذه الأسس، فهو ينظر إلى النساء والرجال والأطفال كإنسان، لا كأفراد أو أجزاء من الإنسان.

قلت: وكيف ينظر إلى الإنسان؟

قال: ينظر إلى الإنسان الخليفة العبد الذي رحل من الجنة إلى الأرض ليعمرها بعبادة الله، وينقل حضارة الجنة التي خرج منها إلى الأرض.

قلت: ألهذا أدخل الله الإنسان الجنة قبل أن ينزله إلى الأرض؟

قال: أجل .. لقد كانت فترة دخوله الجنة فترة استكشاف ليؤسس من خلالها العالم الجميل الذي خلقه الله له.

قلت: وجمعيات حقوق الحيوان والبيئة؟

قال: كل فرد من أفراد مجتمع السلام صديق ودود للكون، فالعلاقات بينهم في منتهى الرقة والجمال.

قلت: أيصادق أهل السلام الحيوانات؟

قال: والجمادات .. وكل ما خلق الله ..

قلت: لا أعرف من الصداقة إلا الصحبة التي تحتاج إلى المشاكلة، فأي مشاكلة بين الإنسان وبين ما ذكرت.

قال: أليس الكل مخلوقا لله، ويسبح الله، ويحن لمعرفته؟

قلت: بلى ..

قال: ألا يكفي كل هذا ليملأ حياتهم بالقواسم التي تربط بينهم، وتجعلهم جميعا على قلب واحد؟

قلت: بلى ..

قال: فانظر إلى الكون نظر العبد العابد يحول الله كل ذرة من ذراته صديقا ودودا يملأ حياتك بالأنس.

قلت: والأحزاب السياسية التي يتم بموجبها اختيار الحاكم؟

قال: لقد عرف سكان مدائن السلام قيمة الوحدة فيما بينهم، فلم يتفرقوا إلى أحزاب.

قلت: ولكن اختيار الحاكم يقتضي وجودها.

قال: الحاكم يعينه صدقه وسلامه وامتلاء قلبه بالرحمة.

قلت: ألا يتنافس الناس هنا على الحكم؟

قال: إن الشدائد الشديدة التي يعانيها الحاكم في مدائن السلام، وحياة الزهد التي يعيشها، جعلت أهل السلام يحمدون الله على أن جعلهم رعية لا رعاة.

قلت: أليس لهم حاكما؟

قال: بلى .. وقد تقدم إلى حكمهم من باب الإيثار، لا من باب الأثرة.

قلت: أين الجرائد، والمجلات، ووسائل الاتصال .. ما لي لا أراها في هذه المدينة؟

قال: لهم كل ذلك .. ولكنهم لا يملئونها بالفراغ واللهو واللغو الذي تملئونها به.

قلت: فبم يملئونها إذن؟

قال: بالعلم النافع، والسلوك الرفيع، وبرفع الهمم إلى الله.

قلت: أليست مكتوبة في أوراق كجرائدنا؟ .. فإني أرى أرض المدينة نظيفة من أي ورق.

قال: لقد ابتكروا وسائل كثيرة أغنتهم عن كثير مما يملأ حياتكم بالعبث والتلوث.

قلت: ووسائل التنقل من السيارات والحافلات وغيرها .. فإني لا أكاد أرى طرقا كطرقنا.

قال: لقد هداهم الله، فاخترعوا من وسائل النقل ما يحفظ جمال الحياة والطبيعة، فلم يجرحوا الحقول بالطرقات، ولم يخربوا الأنهار بالجسور، ولم يلوثوا الأجواء بالدخان القاتل.

قلت: فما هي التقنيات التي وصلوا بها إلى ما وصلوا؟

قال: بتقنية الذي عنده علم من الكتاب.

قلت: تقصد صاحب سليمان u الذي قال:{ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}(النمل: 40)

قال: أجل.

قلت: ألم يكن ذلك كرامة له؟

قال: لو كان ذلك كرامة له ما ذكر الله أنه ممن أوتي من علم الكتاب.

قلت: أي كتاب ذكر فيه هذا؟

قال: كل ما تراه من علوم من علم الكتاب.

قلت: والمحاكم .. أين المحاكم؟ .. تلك الدور التي ينشر فيها العدل.

قال: أو يباع فيها العدل بالمزاد.

قلت: في أرضنا قد يحصل هذا .. وأنا أسألك عن مدائن السلام.

قال: في هذه المدينة .. كما في كل مدائن السلام يجتمع الناس على الخبراء من أهل الاختصاص، ممن توفر فيهم العلم والتقوى والسلام، ولهؤلاء محل خاص، هذا المحل هو قلب هذه المدينة النابض.

قلت: ما اسمه؟

قال: الجامع.

قلت: الجامع عندنا هو المسجد الذي تقام فيه الجمعة.

قال: كذلك هنا .. تقام الجمعة الجامعة في الجامع .. حيث يجتمع أهل المدينة جميعا كل أسبوع.. وفي هذا الجامع توجد كثير من المرافق التي تتفرق في مدائنكم.

قلت: مثل ماذا؟

قال: مثل الاستشارات الشرعية، والتربوية، والاجتماعية، والعلمية، وفيه يفصل في الخلاف الذي قد يقع، ونادرا ما يقع.

قلت: فبم يفصل بينهم؟

قال: لديهم أساليب كثيرة في ذلك، ستراها في حينها، فلا تعجل.

قلت: أليس لديهم سجونا؟

قال: الوقت أغلى عند أهل هذه المدائن من كل شيء، فلذلك لا يحرمون المخطئين منه.

قلت: فماذا يفعلون معهم؟

قال: يدلونهم على كيفية تصحيح أخطائهم

قلت: فعلمني علوم ذلك.

قال: ستعرفها عند رحلتك لعيون الطهارة .. فلا تعجل.

قلت: إن ما ذكرته من الجامع يستحيل تحقيقه في مدائننا، فهي من السعة بحيث لا يكفيها أي محل.

قال: وأكثر مشاكلكم بسبب تعقد مدنكم.

قلت: ومدائن أهل السلام؟

قال: صغيرة بسيطة.

قلت: نحن نفخر بالمدن الكبيرة.

قال: وتتعذبون بها.

قلت: ولكنها تكبر تلقائيا.

قال: يضخمها صراعكم .. أرأيت العائلة التي يكثر أولادها ويكبرون هل يظلون مع أسرهم يضيق بعضهم على بعض؟

قلت: كلا .. بل يلتمس كل واحد منهم بيتا خاصا يؤسس على أساسه حياته.

قال: وهكذا فعل أهل مدائن السلام .. كلما أحسوا بأن مدينة ستكبر، وتضيق فيها الحياة انتقلوا إلى غيرها، وأسسوا غيرها.

قلت: فكيف اهتدوا إلى هذا الحل؟

قال: لقد سمعوه من قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:97)

قلت: ولكن هذا خاص بالمستضعفين، وهي تدعوهم إلى الهرب ممن يستضعفهم.

قال: لقد سمعوا معها قوله تعالى:{ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}(العنكبوت:56)، وقوله تعالى:{ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(الزمر:10)

قلت: صدقت .. فما أجمل الحياة في المدن الصغيرة، وما أبسطها .. إن أكثر العقد سببها تضخم المدن.

قال: لو علموا عواقب الإسراف وشموليته لما وقعوا فيما وقعوا فيه.

قلت: أهذا من الإسراف؟

قال: ألم تعلم أن الإسراف يشمل جميع الحياة، وجميع أسباب الحياة.

قلت: بلى .. لقد عرفنا ذلك في مستشفى السلام .. ذكرتني بالمستشفيات .. أين المستشفيات؟

قال: لقد زرت مستشفى السلام، وهو مستشفى من مستشفيات مدائن السلام.

قلت: والشرطة .. لا أرى شرطة في المدينة.

قال: كل أهل هذه المدينة شرطة.

قلت: ومن يحمي حاكمهم؟

قال: عدله.

قلت: وكيف يثبت عدله إن لم يتخذ شرطة وسجونا؟

قال: يثبتها بسلوكه.

قلت: والفقراء .. أين الفقراء؟ .. وأين ملاجئهم؟

قال: سكان هذه المدائن كلهم فقراء .. وكل هذه المساكن ملاجئهم.

قلت: فمن يتصدق عليهم؟

قال: من افتقروا إليه؟

قلت: الله؟

قال: لو افتقروا إلى الخلق ما وهبهم الله هذه المدائن.

قلت: أهذه المدائن كسب كسبوه أم هبة وهبوها؟

قال: الهبات لا تعطى للكسالى.

قلت: فهل لهذه المدينة من أعداء يتربصون بها.

قال: لقد كان لهم أعداء كثيرون؟

قلت: فكيف انتصروا عليهم؟

قال: بحصون تحصنوا بها.

قلت: فما هي؟ .. دلني عليها، فما أحوج المستضعفين من قومي إلى التحصن من أعدائهم الذين يتربصون بهم.

قال: سنقوم برحلتنا إلى هذه الحصون في رحلتنا القادمة.

قلت: هل سنرحل في الدرس القادم إلى (حصون المستضعفين)؟

قال: أجل .. فقد انتهينا من مفاتيح المدائن.

هذا الكتاب

هذه الرواية عبارة عن رحلة يقوم بها الراوي بصحبة معلمه [معلم السلام] ليخرج من المتاهة التي وقع فيها، والتي ترمز للتخلف وكل  القيم الناتجة عنه والمرتبطة به.. وقد أعانه معلمه على ذلك بسبب معرفته بالأبواب التي تنقذه من المتاهة، ومعرفته بالمفاتيح التي تفتحها، إلى أن يصل الراوي أخيرا بصحبة معلمه إلى مدائن السلام.

وهي تحاول أن تضع الحلول المختلفة لعلاج ظاهرة التخلف انطلاقا من استبصار سنن الله في الآفاق والأنفس، والتي تضمن تفاصيلها القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، ولهذا تحاول أن تستلهم منهما  القيم المختلفة التي تخرج بالأمة من التخلف، وتعيدها إلى وعيها، وإلى بناء المدائن العادلة التي كلفت ببنائها.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *