عاشرا ـ حضارة

عاشرا ـ حضارة

في اليوم العاشر من تلك الأيام العشرة المباركة، التقيت المستشرق الذي قطفت على يده ثمرة الحضارة من شجرة النبوة..

وهي الثمرة التي عرفت بها سر قوله تعالى على لسان هود ـ عليه السلام ـ:{ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } (هود:61)

فقد عرفت من هذه الآية غاية جليلة من الغايات التي خلق من أجلها الإنسان، وهي عمارة الأرض.. ولكن لا بالخراسانة المسلحة وحدها، بل بذكر الله والتقرب إليه.

***

كان من الأسماء المارقة التي سجلت في الدفتر الذي سلمني إياه المرشد اسم (كوستاف لوبون)([1]).. وقد كنت أعرفه، وأعرف تأثره الشديد بالحضارة الإسلامية، والذي ملأ به كتبه.. إلا أني لم أكن أعرف سر ذلك إلى أن التقيته في ذلك اليوم المبارك.

عندما رأيته في البدء تصورته مجنونا قد فقد عقله.. ولم أكن وحدي في ذلك التصور.. بل كان كل من كان معنا في ذلك المحل يحمل ذلك التصور.

في ضاحية من ضواحي باريس كانت تسكن غابة لم يفكر إنسي ولا جني في قطع أشجارها.. فقد كانت الرئة التي تتنفس منها باريس.. وكانت القلب الذي يمدها بدماء الحياة..

ولكنهم في ذلك اليوم أحضروا كل ما أمدتهم به هذه الحضارة من وسائل التدمير ليقطعوا أشجار تلك الغابة.. بل يجتثوها من أصولها.. ليقيموا بدلها مصنعا للكوكاكولا.

وجاءت الآلات، واقتربت من الأشجار لتقطعها.. أو لتجتثها من أصولها.

لكنها فوجئت برجل يصيح فيها كما يصيح المجانين: ابتعدي أيتها الآلات الحمقاء.. اتركي لي أسرتي.. لا تقطعي جذوري.

ضحك أصحاب الآلات وغيرهم من الناس الذين اجتمعوا في ذلك الموقف.

استمر في صياحه يقول: ملعونة أنت أيتها الحضارة التي تهدم الحياة.. ملعونون أنتم يا من خلفتم عادا وثمودا وسدوما وعمورية.. ملعون كل من يقطع أشجار الله ليستبدلها بشراب الشياطين..

نظر إلى الآلات، وصاح: حتى أنت أيتها الآلة الخرساء ملعونة.. لأن تلك الأيادي الآثمة امتدت إليك وصنعتك..

أسرع رجال الشرطة إليه ليبعدوه عن طريق الآلات.. فصاح فيهم، وهم يمسكون به: هذه هي حضارة الجبروت.. هذه هي حضارة المعتقلات والسجون والزنازن والدماء.. هذه هي الحضارة التي حلمت بها الشياطين منذ ابتدأت الشياطين.

أبعدته الشرطة عن ذلك المحل.. ثم قيدته بعيدا عن تلك الأشجار، لتدع للآلات ممارسة ما تتقنه من أدوار.

في ذلك الحين.. وفي ذلك الموقف الشديد الذي تنفطر له القلوب التقيت (كوستاف لوبون)

اقتربت من ذلك الرجل الذي توهموه مجنونا، فوجدته مع كل ذلك الصياح هادئا غاية الهدوء.. مطمئنا عظيم الطمأنينة.

قلت: أراك ناقما على الحضارة..

قال: أي حضارة!؟.. ليس هناك شيء اسمه حضارة.. نحن في بدائية تفوق بدائية البدائيين إن كان هناك بدائيون.

قلت: حضارتنا الغربية التي نشرت العلوم والفنون.. وأحيت من الحياة ما كان خاملا.. ألست ترى ناطحات السحاب.. والمركبات التي تزور الأفلاك.. وصناديق الانتخابات التي تتجول على الرعايا لتعطيهم ما يريدون؟

قال بألم شديد، وهو شارد الذهب: نعم ([2]).. الإنسان.. السوبرمان.. أو السوبر شيطان.. مشى على القمر، وأرسل السفن إلى المريخ والزهرة وأورانوس والمشتري.. وأرسل الكاميرات الفلكية إلى ما وراء الشمس.. وأرسل المجسات الفضائية تقيس الأشعات الخفية في أرجاء الكون.. وزرع الأرض بالميكنة.. وضاعف المحصولات بالهندسة الوراثية.. واستولد الجديد المبتكر من الفواكه والثمار، واخترع السيارة والقطار والطائرة والصاروخ والتليفزيون والفاكس.. واخترع الحاسبات والذاكرة الكمبيوترية المذهلة وصنع الأعاجيب في الطب والجراحة.

زرع قلوب الموتى في الأحياء.. وزرع الشعر والجلد والكبد والكلية والأمعاء والرئتين.. وزرع أجهزة السمع والبصر في الدماغ.. قضى على الجدري.. وأوشك أن يقضي على التيفود والتيفوس وشلل الأطفال والجذام..

وامتد بصره عن طريق المناظير الفلكية العملاقة، فأصبح يرى شموسا على بعد 15 مليون سنة ضوئية.. واخترق بصره العالم الأصغر عن طريق المجهر، فأصبح يرى الميكروبات والفيروسات.. وامتد سمعه إلى ما وراء المجرات.. فالتقط ضوضاء الانفجار الذي بدأ به الكون.

أما قوة ذراعه فقد تعملقت إلى روافع وصواريخ وقنابل ذرية وهيدروجينية وتحولت إلى قوة تدميرية هائلة..

قلت:  نعم.. هذه بعض منجزات هذه الحضارة العظيمة..

التفت إلي، وقال بغضب: أي عظمة هذه.. إن الانحطاط أقل وصف يمكن أن توصف به هذه الحضارة.

قلت: كيف ذلك.. وقد تهيأ لها ما لم يتهيأ لأي حضارة في الدنيا.

قال:  أجل.. أجل.. لقد تمكن الإنسان من خياطة شبكة الانترنت..

قلت: أجل.. إنها عجيبة العجائب.. يتصل بها أطراف العالم للتجارة الإلكترونية ونشر العلوم والمعارف.

قال: ولكن هذه الحضارة المجنونة.. حضارة سدوم وعمورية استعملتها في نشر الدعارة والقمار.. وجميع أنواع الانحراف.

بينما نحن كذلك إذ سمعنا رجلا ينادي عاملا باسم (محمد).. فصاح الرجل بكل قوة: ابتعد يا محمد.. فأولئك مجرمون.. عد إلى بلدك.. وعد إلى أصلك.. فإن هؤلاء سيزجون بك في هاوية الجحيم.

قلت: مع من تتحدث؟

قال: لقد ذكروا اسم (محمد).. أليس كذلك؟

قلت:  بلى.. هو أحد العمال..

قال:  اذهب إليه.. واطلب منه أن يبتعد عن هؤلاء المجرمين.. ومره أن يلجأ إلى محمد ليغسل الأدران التي ملأه بها هؤلاء المجرمون.

قلت: إلي أي محمد يلجأ؟

قال:  إلى ذلك الذي مزج حضارة الأرض بحضارة السماء.. ذلك الذي رفع الإنسان إلى عالم الإنسان.. ذلك الذي بنى حضارة القيم والمثل العليا.

قلت:  تقصد نبي العرب؟

قال: بل أقصد النبي الذي بشر وأقام حضارة لم يقم في الدنيا مثلها.. ولن يقوم.

قلت: ولكن محمدا لم ينجز أي إنجاز مما أنجزته حضارتنا.. بل كان يركب الحمار، ويأكل الشعير.. بل أحيانا لا يجد ما يأكل، فيعصب الحجر على بطنه من الجوع.

ونحن الآن في عصر التخمة.. أقل فقير يمكنه لو أطاع بطنه أن يموت من التخمة.

قال: بل نحن في عصر الجوع.. والألم.. والكآبة.. ولكنا نفر من جوعنا وآلامنا وكآبتنا إلى أنواع كثيرة من السموم.. فلا يزيدنا أكلنا لها إلا جوعا وألما وكآبة.

قلت: لم أفهم ما تقصد.

قال: نحن في جاهلية لبست لباسا مزركشا، ووضعت عطورا سامة.. ثم توهمت أنها حضارة..

قلت:  إن لم يكن ما نحن فيه حضارة.. فليست هناك حضارة على الأرض.

قال: إن كانت هذه حضارة.. فليس هناك حقيقة في الأرض.

قلت:  أهذه الحضارة تناقض الحقيقة؟

قال:  هذه الحضارة تناقض كل شيء، وتصارع كل شيء.. ولو ترك لها الزمام قرنا آخر.. فستقطع آخر شجرة في الأرض.. وستقتل آخر إنسان في الأرض..

قلت: أنت متشائم كثيرا..

قال:  لا.. أنا مع ألمي وصياحي وكآبتي متفائل كثيرا.

قلت:  لم؟

قال:  لأن هذه الحضارة تقتل نفسها، وتقطع جذورها..

ألا ترى إلى هذه الآلات التي تجتث هذه الأشجار؟

قلت:  بلى.. وأنا متألم مثلك لذلك.

قال:  ستصيب هذه الحضارة اللعنة التي أرسلتها هذه الأشجار.

قلت:  ستدمر الأرض إذن.

قال:  بل ستعمر.. ستعمر عمرانا لم تعمر مثله.

قلت:  ألست متناقضا فيما تقول؟

قال:  لا.. بل أنا متفائل.. هذه الحضارة ستموت كما ماتت قبلها كل الحضارات الطاغية لتبنى على أنقاضها حضارة السماء.

قلت:  ومن الذي ينزل لنا بحضارة السماء؟

قال:  الذي أنزلها أول مرة لن يعجز عن أن ينزلها مرة أخرى.

قلت:  وهل نزلت حضارة من السماء.. لم أسمع بهذا.

قال: إنها الحضارة التي غرس شجرتها محمد.. هي لا تزال حية نضرة تنتظر فقط من يسقيها.. لتعود ثمارها الطيبة من جديد تطعم جوع البشرية.. وتسقي ظمأها.

قلت: أراك تعود إلى محمد.

قال: لولا أن لي ثقة كبيرة في إنقاذ ورثة محمد للإنسان ولحضارة الإنسان لكنت الآن في مارستان المجانين.. إن أملي في ذلك الرجل العظيم.. وفي ورثته العظام.. إن ذلك هو زاد تفاؤلي الوحيد.

قلت: أراك مغرما بالحضارة الإسلامية..

قال: لقد طفت الحضارات البشرية جميعا، وبحثت في تراثها وآثارها.. وسألت إنسانها وبنيانها.. فلم أجد حضارة أطهر ولا أصفى ولا أرفع من الحضارة التي أقامها محمد.

قلت: لكأني بك أحدهم.. فمن أنت؟

قال: أنا (كوستاف لوبون)..

قلت:  المستشرق العاشق لحضارة المسلمين.

قال: أنا الباحث عن الحضارة التي تحفظ الأكوان.. وترفع الإنسان.

قلت: لقد كنت مشتاقا للقائك لأسألك عن سر ذلك التفاني الذي أبديته تجاه حضارة المسلمين.

قال: يسرني أن أجد من يسمعني.. فأنا لا أبشر إلا بذلك.

قلت: فهل وضعت مقاييس تميز بها الحضارات؟

قال: لم أضع أنا.. ولكن الحقائق الأزلية التي وردت في القرآن.. والتي تنطق بها العقول التي لا تزال عقولا هي التي وضعت تلك المقاييس.

قلت: فهل هما مقياسان؟

قال:  أجل.. ولكنهما يؤولان إلى واحد.

قلت:  ما هما؟

قال:  الفطرة والسلام.. وكلاهما يؤول إلى الفظرة، وكلاهما يؤول إلى السلام.

قلت:  لم أفهم هذه الألغاز.

قال: لقد نطق القرآن ـ كتاب الحقائق الأكبر ـ فقال على لسان موسى عندما سأله فرعون عن الله:{ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طـه:50)

فالله جعل لكل شيء برنامجا يسير عليه.. وهذا البرنامج هو الفطرة.. والخروج عنها هو الشذوذ.

والشذوذ هو نوع من الصراع.. ولكنه صراع مع الداخل.

وأما السلام.. فهو الفطرة التي تحكم العلاقات بين الكائنات.. وهي التوافق والتكامل والانسجام.. فإذا خرج عنها كان صراعا.. وكان في نفس الوقت شذوذا.

قلت:  فهمت قصدك.. أنت تريد أن تقول بأن الفطرة هي سلام الداخل، والسلام هو فطرة الخارج.

قال: أجل.. وقد طبقت هذه المقاييس على جميع أنواع الحضارات.. فلم أجد حضارة تكتمل لها الفطرة مع السلام إلا في الإسلام.

قلت:  هذه دعوى..

والدعاوى إن لم تقيموا عليها بينات فأبناؤها أدعياء

قال: الحياة كلها والمجتمعات كلها دليل على صدق هذه الدعوى..

حضارة الجاهلية

قلت:  فهل نبدأ بحضارة الجاهلية؟

قال: لا يمكن أن تعرف فضل حضارة الإسلام من دون مقارنتها بحضارة الجاهلية..

قلت:  فعن أي جاهلية تريد أن نتحدث؟

قال: بهذه الحضارة التي ذكر قومنا أنها نهاية التاريخ ([3]).. وأنها الأمل الذي انتظرته البشرية طويلا.

قلت:  ألم يكونوا محقين؟

قال: لقد طبقت المقياسين اللذين ذكرتهما لك على هذه الحضارة.. فوجدتها تتربع على قمة الشذوذ، وعلى قمة الصراع..

ثم وجدتها فوق ذلك قد جمعت شرور الحضارات السابقة، وأضافت إليها من الكبرياء والغفلة ما جعلها تسد آذانها وأبصارها عن كل صالح ومصلح.

الشذوذ:

قلت:  فلنبدأ بشذوذ هذه الحضارة ([4]).

قال: لن أطيق الحديث عن كل شذوذ هذه الحضارة.. ولكني سأقتصر على نماذج بسيطة تستطيع أن تعبر منها إلى غيرها من العظائم..

قلت: يمكنك أن تستدل بالأمثلة..فهي عينات صالحة.

قال: أتعرف النوم؟

ابتسمت، وقلت: وكيف لا أعرفه.. وأنا أقضي ثلث عمري نائما.

قال: لقد وضع البرنامج الإلهي للنوم مواقيت محددة تتوافق مع الفطرة.. ووضع في نظام الكون ما يتوافق مع هذا البرنامج.. لقد ذكر القرآن ذلك، فقال:{ وَهُوالَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} (الفرقان:47).. وعد القرآن من نعم الله على عباده أن جعل الليل بصورة معينة تتناسب مع حاجة الإنسان الجدسية إلى الراحة، فقال:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (القصص:71 ـ72)

  قلت:  أنا لا أزال أتعجب من ذكر القرآن لهذا مع كونه يكاد يكون معلوما من الفطرة بالضرورة.

قال: القرآن يتحدث مع الإنسان.. ويصف له البرنامج الإلهي.. والله يعلم أن البرنامج الذي يضعه لهم ستغزوه الفيروسات التي تحرفه وتحوله عن مساره الحقيقي.. فلذلك كان القرآن هو الكتاب الذي يصف الفطرة التي طبع عليها الإنسان.

قلت:  نحن نتحدث عن حضارتنا وعن شذوذها.

قال:  وهذا من أخطر مظاهر شذوذها.

ابتسمت، وقلت: وما علاقة النوم بالحضارة؟

قال: أليس للنوم علاقة بالإنسان.. أليس النوم ركنا أساسيا من أركان الحياة!؟

قلت:  بلى..

قال: فالحضارة التي تنحرف بهذا الركن من أركان الحياة عن الفطرة التي فطر الله عليها الأشياء حضارة شاذة.. وهذا نوع من شذوذها.

قلت: ربما يكون ما تقوله صحيحا.. ولكن مقاييس نجاح الحضارات أعظم من هذا.

قال: لا تحتقر هذا.. ولا تحتقر شيئا من الفطرة التي فطر الله عليها الأشياء.. فإن شيئا بسيطا يغزو برنامج الحياة قد يفسد الحياة جميعا ويملؤها بالكدورة.

إن انحراف الليل في هذا الحضارة تبعه انحرافات كثيرة في السلوك وفي الصحة وفي العلاقات الاجتماعية.. وهو ما لا يمكن أن تنهض الحياة بسببه.

سكت قليلا، ثم قال: في الولايات المتحدة يعاني نصف الأمريكيين من الأرق واضطرابات النوم، وقد ازدادت هذه النسبة عما كانت عليه.

وقد ذكر الدكتور آلن باك ـ المدير الطبي للمؤسسة الوطنية لأمراض النوم ـ الذي أشرف على استطلاع خلص إلى النتيجة المذكورة ـ سبب هذا المرض قائلاً: (إن طبيعة الحياة المعقدة في المجتمع الحديث قد أفقدت الكثيرين قدرتهم على التمتع بالنوم.. بسبب زحمة العمل وتوتر الأعصاب)([5])

قلت: ولكن التنمية تقتضي هذا.. وعلى كل حال.. فمن لم ينم في الليل نام في النهار..

قال: أكثر ما يطلق عليه البشر تنمية انحراف.. ومرض.. ومصائب.. لا تقل عن هذه المصائب التي تراها الآن.

أما نوم النهار.. فلا يغني عن نوم الليل.. لأن الله خلق الليل ليلا، والنهار نهارا.. وقد قال الأطباء: (ولا يخالف أحد أن باستطاعته تعويض ما فاته من نوم ساعات الليل، ويا بعد ما بين هيمنة الظلام الهادئ الساكن، وبين انتشار النور الخاطف للأبصار والمثير للأعصاب.

ويستغرق النائم عادة في نومه آخذاً القسط الأوفى من راحته في ساعاته الأولى، لهذا كانت الفائدة المجتناة من نوم ما قبل منتصف الليل، ضعف الفائدة المتوخاة من نوم ما بعد منتصف الليل)([6])

ويقول جورج ألفرد تينيس ـ أحد أتباع ثيودور ستوكمان ـ وهو صاحب نظرية (النوم الطبيعي) القائلة إن النوم الذي يسبق منتصف الليل تكون له ضعف القدرة على إعادة العافية إذا قيس بالنوم الذي يعقب انتصاف الليل: (الصباح هو أفضل الأوقات وأنسبها للعمل، لأننا نكون عندئذ قد استعدنا حيويتنا وأصبحنا أكثر مرونة ونشاطاً واستجابة للتنبيه، أو بعبارة أخرى، نكون أكثر حظاً، في تمتعنا بخصائص الشباب)

سكت قليلا، ثم قال: أتعرف (الريجيم)؟

ابتسمت، وقلت: هل له هو الآخر علاقة بالحضارة؟

قال: أجل.. له علاقة كبرى بالحضارة.. لأنه من شذوذ هذه الحضارة.

قلت: كيف ذلك.. أتريد من البشر أن يصبحوا بأجسام الفيلة.. إن الأرض لا تستطيع حمل هذا العدد الضخم من الفيلة.

قال: ولم يصبح البشر فيلة؟

قلت: لولا الريجيم لصاروا فيلة.

قال: ولم لا يأكلون أكل الفطرة.. ويعيشون حياة الفطرة.. فلا يضطرون إلى الريجيم ولا إلى غيره..

أعرف قريبة كانت تأكل بلا حساب.. وخارج فطرية الغذاء.. حتى أصبحت ممتلئة البدن وغير مقبولة الشكل، وبخاصة من زوجها، فلما أحست منه ذلك سارعت إلى اعتماد ريجيم صارم دفعة واحدة، ودون تدرج، فأصيبت بالهزال وفقدان المناعة إلى أن ابتليت بمرض (السحايا) وأدخلت المستشفى في حالة الخطر الشديد، ثم رد الله لها عافيتها بعد فقدان الأمل.

إن حاجة الجسم إلى الأغذية المتنوعة تبعثها الغدد من خلال الإحساس بالرغبة في تناول هذا الطعام أو ذاك، ومن الفطرية مراعاة التجاوب مع هذه الرغبات دون تفريط ولا إفراط، لأن عدم التجاوب مع هذا الإحساس الفطري، يعتبر لوناً من ألوان الشذوذ.

سكت قليلا، ثم قال: أتعرف الزواج.. والعلاقات الزوجية؟

قلت: أجل.. ولولا الزواج ما استمر نوع الإنسان.

قال: هذه الحضارة المسمومة عبثت به وبهذا النوع من العلاقات ما شاء لها أن تعبث.. فعالم الجنس اليوم ـ في حضارة سدوم وعمورية ـ قد خرج بالكلية عن الممارسة الفطرية، فلم تعد هناك علاقة بين الزوج وزوجته، بل اتخذ أنماطاً من الممارسات الجنسية القذرة الممعنة في الحيوانية، حيث الممارسات الجماعية، بين الذكور والإناث، وبين الذكور والذكور، كما بين الإناث والإناث، بقصد الوصول إلى المتعة القصوى.. لقد بلغ الجنون والهوس الجنسي اليوم، درجة باتت تهدد المجتمعات العالمية بالأوبئة الفتاكة..

قلت: هذه ممارسات شاذة لبعض الشواذ.. ولا نستطيع أن نحكم من خلالها على حضارة كاملة.

قال: لم يعد الأمر شذوذا.. إن هذه الحضارة الشاذة تريد أن تجعل من الشذوذ فطرة.. لتصبح الفطرة بعدها شذوذا.

إن الشذوذ الجنسي ومخالفة الفطرة في الزواج، أخذ طريقه عبر التشريعات والقوانين.. فقد راح الكثير من الدول، وحتى بعض الكنائس الغربية ـ في بريطانيا تحديداً ـ تجيز الزواج المثلي الأحادي الجنس.

سكت قليلا، ثم قال: أتسمع ببراءة الأطفال؟

قلت: أسمع بها.. وأرها في عيونهم البريئة.

قال: ويوشك أن لا تراها.. لو استمرت هذه الحضارة المجنونة..

لقد امتد جنون هذه الحضارة إليهم ليلتهم براءتهم.. لقد ذكر المصادر الإعلامية أن ملايين الأطفال، يقعون ضحية عصابات الدعارة والشذوذ.

وما حدث في بلجيكا على سبيل المثال، يعطي نموذجاً واضحاً لما آلت إليه أوضاع البشرية، من جراء انحدارها وبعدها عن الفطرة.

ففي هذا البلد الأوروبي.. اكتشفت عصابات تقوم على تجارة الأطفال وقتلهم بعد اغتصابهم، والأنكى من ذلك، أن الرأي العام البلجيكي والعالمي اكتشف تورط مسؤولين حكوميين في الفضيحة، مما استدعى ردات فعل قوية ستؤدي إلى تغييرات دستورية مهمة، والأمر نفسه يحدث الآن في بريطانيا وعدد آخر من دول العالم.

سكت قليلا، ثم قال: أتعرف العلف؟

ابتسمت، وقلت: هو طعام الحيوانات.. أله علاقة هو الآخر بالحضارة؟

قال: أجل.. له علاقة عظمى بالحضارة.. فالحيوانات شركاء لنا في الأرض.. وينبغي أن لا نطعمهم سموما وإلا أصابونا بلعناتهم.

قلت: وهل أطعمتهم هذه الحضارة سموما؟

قال: أجل.. لقد دنست هذه الحضارة فطرهم كما لم تدنس شيئا آخر.

قلت: فما فعلت؟

قال: لقد ذكر القرآن أنواع الرزق التي أفاضها على الأنعام، فقال:{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إلى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ((السجدة:27)، وقال بعد أن ذكر ما أخرج لعباده من أصناف الرزق:{ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى((طـه:54).. ولكنهم أبوا إلا أن يطعموها سموما.

قلت: ولكن ما حصل من جنون البقر جعلهم يثوبون إلى رشدهم.

قال: ومن قال ذلك؟.. لقد وردتنا الأخبار بأن المزارعين، ومثلهم الشركات المنتجة للأعلاف بدأوا في استخدام أو محاولة استخدام فضلات الأطعمة الجافة المستخرجة من حاويات القمامة، ومخلفات المطاعم من الشحوم وزيت القلي والشحوم المتجمعة في محابس الشحوم والغبار المتصاعد من مصانع الإسمنت.. وحتى أوراق الجرائد والورق المقوى المستخرج من النباتات، كما أجرى الباحثون بعض التجارب على سماد المواشي والخنازير والرواسب الطينية.

ولا تتوافر في الوقت الراهن أي إحصائيات دقيقة حول عدد المزارعين الذين يطعمون مواشيهم بفضلات الدواجن، لكن يعتقد بأن هذه الظاهرة قد عمت في نصف الولايات المتحدة أو ثلاثة أرباعها، وبالرغم من الرائحة الكريهة المنبعثة من فضلات الدجاج والديك الرومي، فإنه يمكن استخدامها كعلف بعد تكديسها على نحو سليم وإخضاعها لمدة تتراوح ما بين 4 ـ 8 أسابيع لدرجة حرارة تتراوح ما بين 160 ـ 170 درجة فهرينهايت، وهي درجة عالية تكفي لقتل البكتيريا، وقد ذكر بعض المزارعين بأنهم يقدمون لدواجنهم سماد المواشي الخام دون إخضاعها لأي تصنيع.

وقد ازداد الاهتمام بمكونات أعلاف الحيوانات في الولايات المتحدة مؤخراً في أعقاب الضجة التي قد أثارها في بريطانيا موضوع جنون البقر والمخاوف التي انتابت الشعب الأمريكي من أن تنتقل العدوى إليهم، وقد لقي مئات من البريطانيين حتفهم نتيجة تناولهم لحوم الأبقار الملوثة.

وتفيد الإحصائيات بأن 75 بالمائة من رؤوس المواشي في أمريكا والبالغ عددها 90 مليون رأس ظلت تأكل مخلفات المسالخ، وأن الحظر المفروض على تقديم المنتجات الثانوية لمصانع اللحوم قد يدفع مربي المواشي ومصانع الأعلاف إلى اللجوء إلى مضافات مثل السماد ومخلفات أخرى مشكوك فيها.

  نظر إلى العمال الذين يقومون بتقطيع الأشجار بأسى، ثم قال: البشر في هذه الحضارة الملعونة لم يشوهوا فطر الحيوانات وحدها.. بل ذهبوا يشوهون أنفسهم..

لقد ذكر القرآن مقالة الشيطان عندما أطلق تهديداته على تضليل بني آدم.. يقول القرآن حاكيا ذلك:{ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)} (النساء)

وعلى هذا الأساس نهى محمد عن كل تغيير للفطرة التي فطر عليها جسد الإنسان، إلا ما كان منه لضرورة شرعية حدد ظروفها وشروطها، فقال: (لعن الله الواصلة والموصولة)([7]

وفي الحديث: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صبياً قد حُلِق بعض شعر رأسه وترك بعضه فنهاهم عن ذلك وقال: (احلقوه كله أو اتركوه كله)([8])  

قلت: فهل حدث تشويه لفطرة أجساد البشر؟

قال: أجل.. لقد أقيمت مستشفيات خاصة بذلك.. لعلك سمعت بـ (بياولا يندسكو)

قلت: تقصد الممثلة الإيطالية المعروفة.

قال: أجل.. هي مثال على هذا الشذوذ.. لقد أقدمت ـ بطلب من هذه الحضارة المسمومة ـ على عملية تجميل الأنف، وعللت ذلك بقولها: (أقدمت على عملية تجميل الأنف بوصفي ممثلة، وليس بوصفي امرأة، وقد انقضى الآن شهران على ذلك.. كان الجميع قبل ذلك يقولون: إن عيبي الوحيد هو ذلك التقوس البسيط الذي يظهر في أنفي، فما إن لاحت لي فرصة إجراء العملية حتى أقبلت عليها بنفس مطمئنة، وخاصة أن الطبيب أكد لي أنه ليس هناك أي خطر منها)

قلت: كونها ممثلة هو الذي دعاها إلى هذا؟

قال:  أجل.. وقد أقرت بذلك.. أقرت بأن هذا مخالف لفطرتها، فقالت: (على أن الشيء الذي أود أن أسر به إلى سائر النساء هو أنه لو لم تكن مهنتي هي التمثيل في السينما لما جرؤت على هذه العملية خاصة أن فيها بعض المتاعب.. ومن ذلك: أني أمضيت أسبوعين أتنفس ليلا ونهار من فمي، ولا أستطيع أن أنقلب على الوسادة عند النوم يمينا أو يسارا، وإلا ضاع أثر العملية)

قلت: فالمرأة كانت تحت سيطرة المخرجين الذين أرادوا أن تكون على صورة مقبولة لأذواقهم؟

قال: أجل.. هذه الحضارة الشاذة صارت تفرض قوانينها البشر، وتغير جميع الأنماط التي عرفتها الحياة من قبل.. لقد قالت شبيلا جابل: (كنت في بداية العمل في السينما، وكان ذلك حوالي عام 1960 م ولم أكن اسمع من المخرجين الذين قدموني إلا العبارة التالية: (لن تمهري في السينما، ولك هذا الأنف).. فإذا كان أنفي يحد من انطلاقي ويمنعني من الظهور أمام الجمهور،وفكرت طويلا في الأمر، ثم عزمت على الإطاحة بهذا الأنف، وأسلمت نفسي لجراح مشهور، وأجريت لي الجراحة)

سكت قليلا، ثم قال: أتعرف الرحمة؟

قلت: أجل.. فليس بشرا من لا يعرف الرحمة.

قال: ولكن هذه الحضارة الشاذة انتكست الرحمة عندها..

قلت: لم أفهم قصدك.

قال: لعلك رأيت الذين يأسفون ويمتلئون حزنا عندما يرون المسلمين، وهم يذبحون ضحاياهم من الكباش.

قلت: أجل.. ويعتبرونها مظهرا للقسوة.

قال: ولكنهم هم أنفسهم الذين يذبحون البشر آلاف البشر في وقت واحد وبملايين القنابل دون أن يهتز لهم عرق واحد.

قلت: أتقصد أن البشر وجهوا الرحمة للحيوانات بدل البشر؟

قال: ليس مطلقا.. هم يعذبون الحيوانات كما يعذبون البشر.. ولكن منطق الرحمة الذي انتكس عندهم جعلهم يتعاملون مع الحيوانات معاملات شاذة ([9])..

في الغرب عندنا تصرف البلايين على الكلاب والقطط.. في الوقت الذي يعيش فيه الملايين تحت مستوى الفقر.

يقول خبراء اجتماعيون من جامعة بنسلفانيا: إن محبي الحيوانات في الولايات المتحدة وحدها ينفقون أكثر من ثمانية بلايين دولار للاعتناء بحيواناتهم من القطط والكلاب.. أي أكثر من الدخل الوطني في أكثر من دولة من دول العالم النامي([10]).

هذا ما ينفقه الشعب الأمريكي المتحضر على الكلاب والقطط سنوياً.. يتم هذا في الوقت الذي يموت فيه الآلاف من الجوع والأمراض الناتجة عن سوء التغذية في كثير من الدول الأفريقية والآسيوية وغيرها.. بل إن هذه البلايين من الدولارات تصرف على الكلاب في أمريكا رائدة الحضارة الغربية في الوقت الذي يعيش فيه الملايين من الشعب الأمريكى نفسه في فقر مدقع.. فلو قدر لك أن تدخل حياً من الأحياء الفقيرة في مدينة نيويورك أو غيرها من كبريات المدن الأمريكية ـ وخصوصاً الأحياء التي تقطنها أغلبية سوداء ـ لحدثتك نفسك أنك في بلدٍ من أفقر بلدان العالم الثالث.. وما الدول الغربية الأخرى عن هذا ببعيدة إن لم تكن أسوأ حالاً منها…

الصراع:

قلت: عرفت شذوذ هذه الحضارة، فحدثني عن صراعها.

قال: هذه الحضارة قامت على الصراع.. لقد بدأت بصراع الكنيسة، وانتهت بصراع الإنسان.. وهي الآن لا تزال تصارعه.

وسبب ذلك أنها حضارة مليئة بالمتناقضات([11]): تناقض في الأفكار، وتناقض في القيم، وتناقض في المواقف، وتناقض بين الأقوال والأفعال.

وأخطر أنواع تناقضها هو ذلك التناقض بين ضجتها الصوتية العالية عن حرية الأفراد والشعوب، في الحين الذي تسلك فيه كل السبل لفرض قيمها الخُلُقية، وتجربتها السياسية، ونظمها الاقتصادية، بل ومعتقداتها الدينية على سائر شعوب الأرض، ووصم كل ما يخالفها، بل كل ما يتعارض مع مصالحها، بكونه انتهاكاً للحقوق الإنسانية، أو إضراراً بالمصالح العالمية، أو ممارسة للإرهاب، أو سبباً للتخلف، وما شاءت من تهم جائرة.

نظر إلى العمال الذين يقطعون الأشجار بحزن، ثم قال: إن المجرمين من أهل هذه الحضارة مصابون بنوع من المرض الثقافي الذي يجعل على بصر صاحبه غشاوة تهول له قيم ثقافته، بل وأباطيلها، حتى يراها هي القيم الإنسانية التي يجب على كل الأمم أن تؤمن بها وتطبق مقتضياتها، بل وهي المعيار الذي تقاس به إنسانية الأمم، ويحدد على أساسها استحقاقها للمصالحة والمساعدة أو المشاقَّة والإعنات.

لقد عبر عن شيء من هذا مندوب أو مندوبة باكستان في جلسة الأمم المتحدة الخاصة بقضية المرأة، فقد قالت لهم المندوبة كلاماً نقلته بعض الصحف الأمريكية فحواه أن مشكلة المرأة في باكستان هي أن تشرب ماءً نقياً، لا أن تتزوج امرأة مثلها، ولا أن تكون لها حرية الاتصال بمن شاءت من الرجال.

قلت: إن الحضارة الغربية تطرح أفكارها في هذه الجوانب، ولا تفرضها.

قال: بل هي تحاول كل السبل لتفرضها..

إن أولئك المجانين الذين يعتلون عرش القوة في العالم.. وبعد أن قضوا على المعسكر الشيوعي تصوروا أن لهم القدرة على القضاء على كل منافس لهم.. وقد كان الإسلام أحد أهم منافسيهم، فلذلك راحوا يوجهون رماحهم إلى نحره.

لعلك سمعت بـ (صراع الحضارات)([12])

قلت: أجل.. وقد ولد هذا المصطلخ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان العدو الأول للغرب ـ وخصوصا الغرب الأمريكي ـ من عام  1947 م  إلى عام 1990م، ثم دارت الدائرة على هذا (الخطر الأحمر) ـ كما يسميه الغرب ـ  وانهار، وتفتتت هذه الإمبراطورية الضخمة إلى مجموعــة من الدول والدويلات، وانتهى بذلك عصر (الحرب البادرة)

قال: لقد وجدت الولايات المتحدة الأمريكية، وأتباعها ومن يدورون في فلكها من دول أوربا، نفسها بلا عدو تمارس الصراع ضده وتطور عدتها وآلاتها لمهاجمته، فأوعز نفر من كبار المفكرين الاستراتيجيين هناك إلى أصحاب القرار باتخاذ الإسلام جبهة صالحة لتصويب آليات الصراع نحوها، واعتباره (الخطر الأخضر) بحسب تعبيرهم.

وذلك للحفاظ على تماسك واندفاع الحضارة الغربية ضد هذا (الزحف الإسلامي)، وخصوصاً بعدما نما الإسلام في أوربا، وظهرت فيه دويلات تحمل اسم الإسلام، كما تزايدت أعداد المسلمين في الولايات المتحدة، سواء المهتدين من أهلها، أم النازحين إليها من خارجها..وأصبح من الحاقدين  من يحذر حكام أوروبا من الانتشار المتزايد للإسلام.

لقد ظهرت فكرة (صراع الحضارات)، أو نظرية (صدام الحضارات)، وخصوصاً الصراع الحتمي بين الإسلام كحضارة وبين الحضارة الغربية التي تتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية  في العقود الأخيرة.

وإذا كان هنتنجتون يتحدث في كتابه المشبوه عن ثماني حضارات في العالم الآن، فإنه ركز على حتمية الصدام بين الحضارة الغربية والحضارة الإســـلامية، وهو صراع قائم ـ حسب زعمه ـ وسيصبح أكثر خطرا على الحضارة الغربية، أما الصراع بين الحضارات الأخرى والحضارة الغربية فهو ضعيف ولا يستحق الاكتراث([13]).

قلت: أهذا هو صراع الحضارة الغربية؟

قال: هذا بعض صراعها.. وهي لا تكف عن الصراع.. فجميع إنتاج هذه الحضارة ينطلق من الصراع، وينتهي به.. أفلامها.. ألعابها.. موسيقاها..

نظر إلى الأفق البعيد، ثم قال([14]): حينما نادى أفلاطون في جمهوريته المثالية منذ ألوف السنين بتربية النشء على حب الموسيقى والرياضة وجعل من الموسيقى والرياضة حصصا ثابتة في منهج الطالب، كان صاحب فلسفة وكانت له وجهة نظر، فالموسيقى هي الوسيلة لتربية الذوق وتنمية الحس الجمالي، والرياضة هي الوسيلة لكمال الجسد وتنمية الشجاعة والخلق الكريم.

وقد عشنا ورأينا ألوانا من الموسيقى الرفيعة تربي الحس الجمالي وترفع الذوق.. كما رأينا على أيامنا ما تفعله الرياضة في كمال الأجسام وفي كمال الأخلاق.. ولكن يبدو أن العصر اختلف.. والموسيقى اختلفت.. والرياضة اختلفت..

لقد أصبحنا نقرأ عن مباراة عالمية في دور تشستر يسقط فيها عشرات القتلى ويتقاتل فيها المشجعون بالسكاكين والعصي والزجاجات الفارغة، ورأينا معارك أشد في مباراة عالمية أخرى في إيطاليا وثالثة في الدنمارك وتحول الملعب الرياضي إلى مسرح جرائم.

وفي كل أوليمبياد تكتشف اللجنة أبطالا مشهورين يلجأون إلى الغش وتعاطي الحقن الممنوعة ليتفوق كل واحد على منافسيه بدون وجه حق.

وفي آخر خبر جاء من أمريكا رأينا بطلة أوليمبياد التزلج على الجليد تونيا هارودنج ترشو زوجها جيف جالوا ليقوم بعمل كمين لمنافستها نانسي كاريجان ويضربها على مفصل الركبة اليمنى ضربة تكسحها و تمنعها من دخول الملعب.

و يعترف الزوج على زوجته، ويقول إنه تلقى منها رشوة خمسة آلاف دولار ووعودا بآلاف أخرى إذا أنجز مهمته على الوجه الأكمل.. و انفجرت فضيحة تناولتها كل الصحف..

ثم إن الرياضة نفسها تحولت إلى تجارة مفترسة، و أصبح لها سماسرة و أصبح لكل بطل مدير محترف ومكتب دعاية وملحق صحفي وعصابة تتحرك لحراسته أينما ذهب، و أصبحت البطولة بابا مفتوحا لملايين الدولارات.. ونجوم التنس والملاكمة و السباحة والجري والقفز أصبحوا أصحاب ملايين ونجوم شهرة، وأصبح العرف السائد هو الوصول إلى الكأس.. بأي سبيل ولو بالغش والتدليس والإجرام.. وأصبحت الرياضة شيئا آخر غير الذي تكلم عنه أفلاطون.

بل رأينا نجوما مثل مارادونا يسقطون من قمة النجومية إلى هاوية الإجرام والمخدرات ثم يفقدون كل شيء.

وكان ما حدث للموسيقى أكثر.. فسيمفونيات بيتهوفن وشوبان وفاجنر.. تراجعت لتحتل المسرح راقصات و راقصون يهزون الصدور و الخصور، وظهر الديسكو الغربي الذي حول الغناء إلى زار و صراخ و ضجيج و عجيج.

ونفس الشيء حدث في السينما و المسرح..

وأبطال كمال الأجسام الآن تلتقطهم السينما لأفلام الرعب و الإجرام..

والرياضة والموسيقى والغناء والسينما والمسرح وباقي الفنون تحولت في ظل الصراع إلى المواصفات الأمريكية، واتجهت إلى القبلة التي تفرضها بورصة هوليوود ويحكمها الدولار.

ولو أن أفلاطون بعث اليوم حيا لأنكر ما يرى و ما يسمع و لسحب كلامه و حل جمهوريته، وفضل عليها بيع الخضار في الأسواق. فلم تعد هناك علاقة بين الموسيقى وتنمية الذوق، ولا بين الرياضة وتنمية الأخلاق الحميدة.

قلت: ألا ترى أنك تبالغ في تشاؤمك من هذه الحضارة؟

قال: لست وحدي في ذلك.. كل العقلاء لديهم تشاؤم كبير من هذه الحضارة التي تريد أن تمحو آخر رسم للإنسان..

لعلك تعرف (الدكتور ألكسيس كاريل)

قلت: أجل.. وكيف لا أعرفه.

قال: لقد كان صديقا لي.. وقد وضع يده على الأسباب الحقيقية لهذا الضياع.. فقد قال: (إن الحضارة العصرية تجد نفسها فى موقف صعب، لأنها لا تلائمنا، لقد أنشئت دون أية معرفة بطيعتنا الحقيقية، إذ أنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس، وأوهامهم، ونظرياتهم ورغباتهم. وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا، إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا)([15])  

ويقول: (لقد أهمل تأثير المصنع على الحالة الفسيولوجية والعقلية للعمال إهمالاً تاماً عند تنظيم الحياة الصناعية. إذ أن الصناعة العصرية تنهض على مبدأ: الحد الأقصى من الإنتاج بأقل قدر من التكاليف، حتى يستطيع فرد أو مجموعة من الأفراد أن يحصلوا على أكبر مبلغ مستطاع من المال..  وقد اتسع نطاقها دون أى تفكير فى طبيعة البشر الذين يديرون الآلات، ودون أى اعتبار للتأثيرات التى تحدثها طريقة الحياة الصناعية التى يفرضها المصنع على الأفراد وأحفادهم)([16])

ويقول: (وهؤلاء النظريون يبنون حضارات، بالرغم من أنها رسمت لتحقيق خير الإنسان، إلا أنها تلائم فقط صورة غير كاملة أو مهولة للإنسان. إن نظم الحكومات التى أنشأها أصحاب المذاهب فى عقولهم عديمة القيمة.. فمبادئ الثورة الفرنسية وخيالات ماركس ولينين، تنطبق فقط على الرجال الجامدين (غير الأحياء أو المتحركين)، فيجب أن نفهم بوضوح أن قوانين العلاقات البشرية ما زالت غير معروفة. فإن علوم الاجتماع والاقتصاديات علوم تخمينية افتراضية)([17])

نظر إلي، وقال: لم يكن ألكسيس كاريل وحده هو الذي نطق بذلك.. بل قامت في سوق الفكر كتب كثيرة تحذر من هذا السلوك الذي تسلكه هذه الحضارة.. وتنبئ بالعواقب الخطيرة التي تنتظرها.

وكمثال على ذلك كتاب صدر قبل سنوات أطلق عليه صاحبه (فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي) لمؤلفه المؤرخ الأكاديمي: آثر هيرمان.

لقد ناقش هذا الكتاب آراء العديد من المفكرين والفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد وغيرهم من أمثال هيزيود، سوفوكليس، تيرجوت، فيخته، جينون جوزيف، آرثر دو جويينو.. إلى أن وصل إلى الفصل الرابع، ليناقش فيه قضية الانحلال بوصفها نهاية الليبرالية الغربية (وهو يقصد الحضارة الغربية)، واستند في ذلك إلى أطروحات عدد من المفكرين والمتخصصين، وعلى رأسهم الطبيب الإيطالي (سيزار لومبروزو) الذي أكد في عام 1870م، أن الأوربــيين (لم يعودوا قادرين جسمانيا على الاحتفاظ بمتطلبات الحياة المتحضرة)

وفي الجزء الثاني من الكتاب، تحدث المؤلف عما كان سائداً من اعتقاد، في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، بأن أمريكا هى أرض المستقبل، بل أنيط بها حمل رسالة تخليصية لبقية العالم و(إمبراطورية الحرية) هو الاسم الذي كان يطلق عليها، إشارة إلى رسالة نشر الفضيلة والسيادة الشعبية التي أنيط بها حملها العلم ومنذ ذلك التاريخ، وقبل أن يتحقق هذا أعلن (جي كيو، آدمز) في عام 1785م، بعد أن تبدد أمله في أن يحافظ الأمريكيون على فضائلهم واستقلالهم قائلا: (إن الأمريكيون لم يكونوا أبداً أهلا لفضيلة رفيعة) واعترف بغبائه لأنه قال فيما سبق من حياته: (إنهم سيصبحون أفضل من غيرهم) مؤكداً أن أمريكا محكوم عليها بالهلاك

وفي باقي فصول الكتاب يناقش المؤلف آراء كثير من العلماء والمفكرين، من أنحاء متفرقة من العالم منهم: آدمزش، جاكوبي، هنري آدمز، دوبوا، أوزوالد شبنجلر، إدوارد سعيد، اليجا بول (أو اليجا محمد ـ بعد إسلامه).. إلى أن وصل إلى الفصل الذي ألقى فيه الضوء على (شبنجلر) في كتابه الشهير (أفول الغرب) كما ناقش فكر المؤرخ البريطاني الشهير (توينبى) الذي حدد لاضمحلال الحضارة الغربية ثلاث مراحل.

كما أن توينبي تنبأ بقيام الولايات المتحدة كحضارة جديدة، فإنه رأى ـ مثل غيره من المفكرين الأوربيين ـ أنها تمثل الجانب المظلم للغرب الحديث نفسه وبقدر ما اعتبر الشيوعية هرطقة غربية، وصحف منزوعة من العهد القديم، اعتبر الولايات المتحدة وإسرائيل أخطر قوتين استعماريتين في عالم الحرب الباردة (التي امتدت من النهاية الحرب العالمية الثانية إلى مطلع التسعينات حين انفرط عقد الاتحاد السوفيتي)ومكمن الخطر فيهما ـ كما يقول توينبي ـ ليس لأنهما قوتان عسكريتان فقط، بل لأنهما تمثلان ـ أيضا ـ غربا منحلا وشدد توينبي على أن أعمال الولايات المتحدة وإسرائيل في لاوس، وفيتنام، وفلسطين، ليست مجرد جرائم، بل جرائم ومفارقة تاريخية أخلاقية في الوقت نفسه.

وفي الفصل العاشر تناول المؤلف أطروحات سارتر، فوكو، وفانون، وهو يشرح آراء ومواقف سارتر التي كانت تعد (الأمريكية) الخطر الحقيقي على أوروبا كمرحلة أخيرة للقيم البرجوازية الغربية وذهب سارتر ـ الذي كان على عداء واضح مع الهيمنة الأمريكية ـ إلى أن الفيتناميين كانوا يقاتلون نيابة عن كل البشر، وأن الأمريكيين يقاتلون ضد كل البشر.

وينقل المؤلف آراء (نعوم تشوميسكي) الذي يرى أمريكا (تديرها القوى التآمرية الخبيثة للرأسمالية الكبيرة)، أقامت إمبراطورية شاسعة بالتحالف مع المصالح الرأسمالية العالمية من خلال دول إرهابية في أمريكا اللاتينية، وأعمال عـــنف تؤدي إلى إبادة جماعية في آسيا والشرق الأوسط ويسوى تشوميسكي بين ألمانيا النازية في الداخل، والاحتفاظ بشبكة عالمية من القوة والإرهاب الوحشي ويقول تشوميسكي: إن الإمبراطورية الأمريكية مؤسسة محكوم عليها بالفناء.

وبالاستناد إلى آراء كل من نعوم تشومسكي، بارنتي، بارنت، وريتشارد سلوتكن، فإن الثقافة الأمريكية تمجد العنف، والاستعمار، والإبادة الجماعية..

التفت إلي، وقال: هذه بعض الشهادات.. وإذا أردت المزيد.. فاذهب إلى وكالات الأنباء.. وتتبع جرائم هذه الحضارة.. فليس هناك شهادة أخطر من شهادة الإنسان على نفسه.

حضارة الإسلام

قلت: عرفت حضارتنا وما فيها من عيوب.. فحدثني عن حضارة الإسلام.. أو بالأحرى: هل للإسلام حضارة.. فأنا لم أر للمسلمين الأوائل أهرامات كأهرامات المصريين، ولا مسارح كمسارح الرومان.

بل إن المسلمين ظلوا يسكنون في بيوت الطين البسيطة إلى أن تداركتهم هذه الحضارة بالخراسانة المسلحة وبأنواع الرقي الحضاري.

ابتسم، وقال: لقد ذكرتني بعمر بن عبد العزيز، فقد كتب إليه أحد ولاته يستأذنه في أن يبني لمدينته سورًا يحفظها من اللصوص، فقال عمر: حصن مدينتك بالعدل.

قلت: لو أن هذا الحاكم كان بيننا لأقيل.. أينهى عن بناء يحفظ المدينة؟

قال: وقد أمر ببناء هو أشد حفظا للمدينة من جميع الأسوار..

قلت: ما تقصد؟

قال: لقد عرفت ما كان يمتلكه الاتحاد السوفيتي من أسلحة جبارة لا يكاد أحد يفكر في غزوها.

قلت: أجل.. وقد كان ذلك سببا لكون الحرب بينه وبين أمريكا باردة، ولو أن أسلحته كانت ضعيفة لكانت الحرب حارة ساخنة.

قال: ولكن كل تلك الأسلحة.. وكل تلك الشرطة التي قامت عليها دولته البوليسية لم تستطع أن تحفظ كيانه.

قلت: ذلك صحيح.. فما سره؟

قال: لأنهم توجهوا إلى البنيان، ولم يتوجهوا إلى الإنسان.. والحضارة لا تبنى إلا على الإنسان.

ولذلك فإن أهم مزايا الحضارة الإسلامية أنها حضارة قيم ومبادئ إنسانية رفيعة..

نعم لم يترك المسلمون مسارح كمسارح الرومان.. ولكنهم تركوا مقابل ذلك من القيم ما لا تقوم معه جميع مسارح الرومان وأبنيتهم، بل وأبنية هذه الحضارة جميعا.

نعم.. لم يبن محمد وورثته أهرامات كأهرامات المصريين.. ولكن الأكواخ التي كانوا يسكنونها كانت أشرف بكثير من جميع الأهرامات.. بل من جميع قصور الدنيا.

قلت: فما مبادئ الحضارة الإسلامية؟

قال: ما ذكرته لك من مقاييس الحضارة: الفطرة.. والسلام.

فالحضارة الإسلامية هي الحضارة الوحيدة في العالم التي اجتمع لها هذان الركنان، ولم يتفرقا طيلة تاريخها.

قلت: فكيف انسجمت حضارة الإسلام مع الفطرة والسلام؟

قال: إن المفهوم الإسلامي للحضارة ينطلق من تصوره لوظيفة الإنسان في هذا الوجود.. والذي يسميه الإسلام (العبادة)([18]).. فالعبادة هي غاية الوجود الإنساني التي حددها القرآن:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات)

فتحقيق غاية الوجود الإنساني هو الذي نشأت عنه الحضارة في الواقع البشري، وهو المعيار الذي تقوّم به صعودا أو هبوطا، واستقامة أو انحرافا.

وحين تختلف النظرة إلى غاية الوجود الإنساني تختلف النظرة إلى الحضارة، وتختلف النظرة كذلك إلى التاريخ.

فحين تكون غاية الوجود الإنساني هي الفناء في الكائن الأعظم كما تقول (النرفانا) أو الخلاص من ربقة الجسد وإطلاق الروح لتتحد مع الخالق.. تصبح الحضارة هي تحقيق عالم الروح على حساب الجسد، وعلى حساب الجانب المادي من عمارة الأرض.

وحين تكون غاية الوجود الإنساني هي الاستمتاع بما في الأرض من متاع، بصرف النظر عن القيم المصاحبة لهذا المتاع من حلال وحرام، وخير وشر، وفضيلة ورذيلة، ورفعة وانتكاس.. تكون الحضارة هي العمارة المادية للأرض، وهي تيسير الحياة الأرضية وتزيينها، والانكباب على متعها ولذائذها، وتكون في الوقت ذاته هي محاولة التغلب على الآخرين للاستئثار بأكبر قدر من المتاع، ومحاولة إخضاعهم بالقوة والقهر، سواء بالقوة المادية أو القوة العسكرية أو القوة السياسية أو القوة الاقتصادية أو القوة العلمية.. أو كلها جميعا..

وحين تكون الغاية هي عبادة الله يكون مفهوم الحضارة مختلفا عن هذا المفهوم وذاك، وكذلك يكون تفسير التاريخ، لأن المعيار الذي يقوم على أساسه التفسير، هو مدى تحقيق الإنسان لغاية وجوده، ومدى تفوقه أو تخلفه في تحقيق هذا الوجود.

قلت: لكل دين من الأديان شعائره التعبدية الخاصة به.. ولا يمكن أن نقيم الحضارات على هذه الأسس.

قال: مفهوم العبادة في الإسلام ـ والذي هو غاية الوجود الإنساني كما يرى الإسلام ـ مختلف تماما عن كل المفاهيم.. ذلك أن له علاقة كبرى بفطرة الإنسان، وفطرة الوجود.

قلت: لم أفهم.

قال: الوجود في التصور الإسلامي كله متوجه لله توجها فطريا، فهو لا يعرف إلا الله، ولا يعبد إلا الله..:{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}  (البقرة:116)،:{ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (الروم:26)

وبما أن الإنسان فرد في هذا الوجود، فإنه من الشذوذ الخطير أن ينفصل عن هذه العبادة التي يمارسها الكون، ويستمر بها وجوده.

قلت: ما محل الخطر في ذلك؟

قال: أرأيت لو أن القمر بدا له أن ينفصل بمسار خاص.. ومثل ذلك الشمس.. ومثل ذلك جميع النجوم والكواكب.. أيمكن للوجود أن يظل وجودا؟

قلت: لا.. ستدب الفوضى للوجود.. وسيفنى العالم.

قال: فعبودية الكواكب وسجودها لله هو الذي حفظ كيان الكون.

قلت: والإنسان؟

قال: لا يحفظ الإنسان إلا بالقوانين التي تحفظ الكون.. إلا إذا اعتبرنا الإنسان كائنا غير كوني.

قلت: فكيف ينتظم الإنسان في حلقة الكون؟

قال: بممارسة العبودية التي طلبت منه، والتي تحفظ له فطرته.. أو التي يمارس بها ما تتطلبه فطرته.

قلت: لا شك أنك لا تقصد بالعبودية الشعائر التعبدية.

قال: الشعائر التعبدية جزء من هذه العبادة.. أما كل العبادة فهو أن تتوجه الحياة كلها إلى الله.. لقد عبر القرآن عن ذلك، فقال:{ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الأنعام:162)

وهذا هو معنى الإسلام الذي جاء محمد للدعوة إليه..

لقد جاء محمد لا ليقاوم النشاط البشري.. وإنما جاء ليوجهه الوجهة التي يسير بها الكون جميعا حتى يقي المجتمع ويقي الإنسان ويقي الكون من عواقب الشذوذ والصراع.

إن إقامة الحياة كلها – بكل ألوان النشاط فيها – على قاعدة أخلاقية مدارها تقوى الله وخشيته هي الأساس الذي تقوم عليه الحضارة الإسلامية.

لتصير السياسة ذات أخلاق قائمة على حكم الحاكم بالعدل والشورى والنصيحية، والتعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان.

ويصير الاقتصاد له أخلاق، تبتعد به عن كل ما يتنافى معها من ربا واحتكار وغش وسلب ونهب، وسرقة وغصب، وأكل مال الأجير، وأكل أموال الناس بالباطل، والشح بحقوق الفقراء والمساكين..

وتصير العلاقات الاجتماعية ذات أخلاق قائمة على التواد والتحاب والتكافل، والتعاون على البر والتقوى، وحرمة الدم والعرض والمال، وكظم الغيب والعفو عن الناس، والكف عن الغمز واللمز والغيبة والنميمة والتجسس والاطلاع على العورات..

وتصير علاقات الأسرة ذات أخلاق.. وعلاقات الجنسين ذات أخلاق.. والحياة كلها قائمة على قواعد أخلاقية رفيعة.

وتصير الفنون ذات أخلاق.. تلتفت إلى الجمال في الكون وفي الحياة البشرية وتعبر عنه في أداء جميل.. فنون لا تزين الفاحشة لأن الفاحشة ليست جمالا ولكنها هبوط.. ولا تزين لحظة الضعف لأنها ليست جمالا إنما هي لحظة غفلة عن إدراك غاية الوجود الإنساني، أو لحظة تقصير في تحقيق ذلك الوجود. ولا تزين الانحراف والشذوذ لأنه ليس جمالا، وإنما هو نشاز نافر عن الجمال، ولا تزين عبادة الشيطان وعبادة الهوى والشهوات، لأنها ليست جمالا، وإنما هي حطة للإنسان الذي كرمه الله وفضله، وأراد له أن يتحرر من كل عبودية زائفـة تزري بكيانه وتستذله.

هذه هي العبادة التي جاء الإسلام بها ليحفظ الإنسان ويحفظ الأرض من الشذوذ الذي يريد فرضه هؤلاء الدجالون..

قلت: إن كل ما ذكرته جميل.. ولكن هل يتنافى ذلك مع التطور المادي العظيم الذي وصلت إليه هذه الحضارة.

قال: أنا لا أنكر على هذه الحضارة تطورها المادي.. ولكن أنكر بطرها وكبرياءها وانحرافها بسبب هذا التطور.. إني أصيح في هذه الحضارة كما صاح هود:{ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)} (الشعراء)

فهو لم ينكر عليهم اهتمامهم بالعمران.. ولكن أنكر عليهم ذلك الطغيان والشذوذ الذي وقعوا فيه بسبب ذلك العمران.

لقد ذكر القرآن مثالا لإنسان هذه الحضارة المملوء بالكبرياء بسبب أمواله.

قلت: تقصد قارون.

قال: أجل.. لقد نبهه المؤمنون إلى الطريقة التي ينبغي أن يتعامل بها مع ماله، فقالوا:{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص:77)

لكنه أبى كما أبت هذه الحضارة، وصاح كما صاحت:{ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}  (القصص:78)

أتدري ما مصيره؟

قلت: لقد خسف به.

قال: وكذلك هذه الحضارة سيخسف بها.

قلت: ولكن حضارة المسلمين سقطت.

قال: ولكن القيم التي قامت عليها حضارة الإسلام لا تزال باقية.. ويمكنها أن تنبت من جديد.. فلا يمكن للبشر أن يستمر لهم وجود بدونها.

***

ما إن وصل (كوستاف لوبون) من حديثه إلى هذا الموضع حتى سمعنا صراخا عظيما من العمال، فحثثت خطاي أبحث عن سببه، وإذا بي أرى قتيلين مشوهين غاية التشويه.

أما أحدهما، فقد سقطت عليه شجرة من تلك الأشجار الضخمة، وأما الثاني، فقطعه منشار ضخم من تلك الآلات..

أسرعت إلي (كوستاف لوبون) لأخبره، فبكى، وقال: هذا ما تفعله الحضارة.. وهذا هو مصيرها.. ستحطَِّم هذه الحضارة بفطرة الأشجار التي ستنتصر على كل مصانع الدنيا.

وستكون الآلات التي يصنعها البشر هي السيوف التي تغمد في قلوبهم لتطهر الأرض من شرهم.

قال ذلك.. ثم انصرف إلى وجوم جعلني أبتعد عنه..

لم يمض وقت طويل حتى عاد العمال إلى عملهم، منشغلين عن الجثتين اللتين أزيحتا جانبا في انتظار سيارات الإسعاف.

وقفت أمامهما بحزن لأرى ما جنت عليهما هذه الحضارة اللئيمة.. وأنظر في نفس الوقت إلى يدي (كوستاف لوبون) المقيدتين.

وفي ذلك الحين تنزل علي بصيص جديد من النور اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.


([1])  هو  كوستاف لوبون Dr. G. Lebon ولد عام 1841م، وهو طبيب، ومؤرخ فرنسي، عني بالحضارات الشرقية.

من آثاره: (حضارة العرب) (باريس 1884)، و(الحضارة المصرية)، و(حضارة العرب في الأندلس)

([2]) الكلام التالي لهذا منقول من (سواح في دنيا الله)، لمصطفى محمود.. ببعض التصرف.

([3])  هذا ما زعمه المفكر الأمريكي الياباني فرانسيس فوكوياما ( Francis Fokoyama  الذي طرح نظريته، أو فكرته، حول ( نهاية التاريخ )، وهو يختلف مع كل من لويس، هنتنجتون، ودانيال بايبس ( Danial Pipes ) في ديمومة الصراع.

وهو يرى أن هذا الصراع كان قائماً بالفعل بين هذه الحضارات، ثم انتهى الآن لصالح الحضارة الغربية، بعد وصول البشرية إلى المرحلة الأخيرة من اكتمالها، أي بعد وصولها إلى النموذج الأوحــد، وهو الحضارة الغربية.. وقد انتهت زعامة العالم إلى هذه الحضارة، لذا وجب على جميع شعوب الأرض أن تنطاع لها.

أي أن النظام الغربي: الليبرالي في السياسة، والرأسمالي في الاقتصاد هما وحدهما النظامان اللذان يتناسبان مع الفطرة الإنسانية ؛ لأنهما اللذان يحققان ما في تلك الفطرة من نشْدَانٍ للكرامة ؛ فهما يمثلان لذلك نهاية التاريخ في هذا المجال، مجال النظم السياسية والاقتصادية، وأن هذا هو الذي يفسر سير العالم كله نحوهما.

 وقد طرح هذه النظرية العنصرية في صيف 1989م  بمقال نشره في مجلة National Interest ، وإن كان قد سبقه بها هيجل بقوله: ( إن تاريخ العالم يتجه من الشرق إلى الغرب، لأن أوروبا هى نهاية التاريــــخ عــــلى نحو مطلق، كما كانت آســـيا هى بدايته.. )

وقد  كتب  بعد عشر سنوات من صدور كتابه  ذاك مقالاً تراجع فيه عن تلك الفكرة، وعزا تراجعه إلى أن فكرة الكتاب كانت قائمة على افتراض الثبات في الفطرة الإنسانية، وأن تتبعه للتطورات التي حدثت في علم الأحياء في هذه السنوات العشر، ولا سيما في مجال هندسة الجينات، أقنعته بأن العلم الطبيعي يمكن أن يغير الطبيعة البشرية! وإذا كانت الطبيعة البشرية متغيرة فإن النظم السياسية والاقتصادية المناسبة لها ستكون أيضاً متغيرة!!!

([4]) استفدنا الكثير من المعلومات حول هذا العنصر من مقال جيد للكاتب الكبير فتحي يكن بعنوان (فـقـــه الـفـطـــرة) نشرته  مجلة المجتمع، 1414.

([5])  الشرق الأوسط: العدد ـ 6247.

([6])  الدكتور صبري القباني في كتابه (طبيبك معك)

([7])  البخاري ومسلم.

([8])  رواه أبو داود بإسناد صحيح.

([9])  انظر الإحصائيات التالية في (الحضارة المعاصرة.. الوجه الآخر)، مجلة البيان، العدد2، ص84.

([10])  جريدة الرياض 30/12/1406هـ

([11])  الحضارة الغربية: ضجة عن الحرية.. وممارسة للهيمنة الثقافية، أ. د. جعفر شيخ إدريس، رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة، مجلة البيان.

([12])  روج لهذه الفكرة مجموعة من المستشرقين والمؤرخين والمفكرين المشبوهين بارتباطاتهم بالدوائر الصهيونية العنصرية، ومن أبرزهم المؤرخ اليهودي برنارد  لويس ( Bernard Lewis )الذي روج لهذه الفكرة بمقال نشره في مجلة Atlantic Monthlyـ عدد سبتمبر 199.م. ثم سار على دربه ونسج على منواله المؤرخ اليهودي الأمريكي صموئيل هنتنجتون  ( Samuel Huntington ) في مقالة نشرها في مجلة Forein  Affairs  عام 1993م، ثم طورها ووضع لها كتابا حمل نفس العنوان (صدام الحضارات) The Clash of Civilizations وهو الكتاب الذي تنـــاولته أجهزة الإعلام في الدول الغربية، ومنها الولايات المتحدة، بالشرح والتحليل وتســليط الأضواء عليه بشكل مــكثف، منذ ظهرت طبعته الأولى.

([13])  انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري، وكتاباته الأخرى.

([14])  من سواح في دنيا الله لمصطفى محمود، ببعض التصرف.

([15])  الإنسان ذلك المجهول: 38.

([16])  الإنسان ذلك المجهول: 40.

([17])  الإنسان ذلك المجهول: 43.

([18])  انظر: مذاهب فكرية معاصرة لمحمد قطب وغيره من كتبه وكتب سيد قطب.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *