سادسا ـ المتسامي

سادسا ـ المتسامي

قلت: عرفت السر الخامس من أسرار الإنسان.. فما السر السادس؟

قال: إنه السر الذي يشير إليه قوله تعالى :{ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} (التين)، وقوله تعالى :{ وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (70)} (غافر)

قلت: هذه الآيات تتحدث عن كرامة الإنسان، وما من الله به عليه من ألطافه.

قال: كرامة الإنسان مرتبطة بتساميه وترفعه.. فلا كرامة للإنسان المدنس بدنس أهوائه، المختوم على قلبه بختم كبريائه.

قلت: فما التسامي؟.. وكيف يتسامى الإنسان؟

قال: التسامي هو أن يعيش الإنسان بجسده في الأرض من غير أن يلطخ قلبه ومشاعره ووجدانه بأوحالها.

قلت: هل يمكن ذلك؟

قال: أجل.. بالتسامي يصعد الإنسان إلى السموات العلا، ويعرج إلى الملأ الأعلى..

قلت: من غير أن يفارق جسده الأرض.. ومن غير حاجة إلى مركبات فضائية.

قال: الإنسان كائن سماوي.. وهو لا يحتاج لذلك لأي مركبات.. فالمركبات للطين لا للروح.

قلت: أراك تملؤني فخرا بحقيقتي..

قال: حقيقتك لن تظل كذلك حتى تحافظ عليها..

قلت: فحدثني كيف أحافظ عليها..

قال: هذا هو سر التسامي الذي رزقني الله تعلمه في تلك المدينة العجيبة التي فتح لي فيها من أسرار الإنسان ما كان منغلقا([1]) ..

في ذلك اليوم، قصدت جبلا من جبال تلك المدينة العالية، وقد صممت أن أصل إلى قمته.. تلك القمة التي يحن الكل للوصول إليها.. ولكن الحجب تحول بينهم وبينها..

في ذلك اليوم خطر لي أن أسير إليها..

وكنت أردد أثناء سيري قصيدة ابن سينا في النفس، والتي يقول فيها:

هبطت إليك من المحل الأرفع

   ورقاء ذات تعزز وتمنع

محجوبة عن كل مقلة عارف

   وهي التي سفرت ولم تتبرقع

وصلت على كره إليك وربما

   كرهت فراقك فهي ذات تفجع

أنفت وما أنست فلما واصلت

   ألفت مجاورة الخراب البلقع

وأظنها نسيت عهوداً بالحمى

   ومنازلاً بفراقها لم تقنع

حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها

   عن ميم مركزها بذات الأجرع

علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت

   بين المعالم والطاول الخضع

تبكي وقد ذكرت عهوداً بالحمى

   بمدامع تهوى ولم تتقطع

وتظل ساجعة على الدمن التي

   درست بتكرار الرياح الأربع

إذ عاقها الشرك الكثيف وصدها

   قفص عن الأوج الفسيح المربع

حتى إذا قرب المسير من الحمى

   ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع

وغدت مفارقة لكل مخلف

   عنها حليف البرق غير مشيع

سجعت وقد كشف الغطا فأبصرت

   ما ليس يدرك بالعيون الهجع

وغدت تغرد فوق ذروة شاهق

   والعلم يرفع كل من لم يرفع

فلأي شيء أهبطت من شامخ

   عالٍ إلى قعر الحضيض الأوسع

إن كان أهبطها الإله لحكمةٍ

   طويت على الفذ اللبيب الأروع

وهبوطها إن كان ضربة لازب

   لتكون سامعة بما لم تسمع

وتعود عالمة بكل خفية

   في العالمين فخرقها لم يرقع

وهي التي قطع الزمان طريقها

   حتى لقد غربت بغير المطلع

فكأنها برق تألق بالحمى

   ثم انطوى فكأنه لم يلمع

أنعم برد جواب ما أنا فاحص

   عنه فنار العلم ذات تشعشع

***

عندما اقتربت من الجبل رأيته مشكلا من سبع طبقات.. وقد كانت السدود الكثيرة تحول دون الانتقال من طبقة إلى طبقة.. وقد امتلأت حينها أسفا وألما.. فقد عرفت أن العجز سيحول بيني وبين تلك القمة الجميلة التي هفت إليها نفسي..

1 ـ الإخلاص

لكني ما إن قلت هذا، أو ما خطر هذا الخاطر على خاطري حتى رأيت شيخا كبيرا متربعا على سفح ذلك الجبل، وهو يقول لي: لا تيأس.. فكما أن الله جعل الأبواب المغلقة جعل المفاتيح الفاتحة.

قلت: وأنى لي أن أصل إلى مفاتيح الأبواب.. وأنا لست بوابا، ولا علاقة لي بالبوابين.

قال: في كل طبقة من الطبقات التي رأيت بوابا يعطيك من المفاتيح ما يمكنك أن تتجاوز به الطبقة التي ولي حراستها.

قلت: ما أسهل الأمر إذن.. بورك فيك.

قلت ذلك، ثم سرت مهرولا، وقد استخفني الطرب، فاستوقفني، وقال: مهلا.. كيف تريد أن تقطع الطبقة الأولى من غير أن تحمل معك مفاتيحها؟

قلت: لقد نسيت.. أين أجد مفاتيح هذه الطبقة؟

قال: هي عندي..

قاطعته قائلا: هيا افتح لي إذن.. أو سلمني المفاتيح لأفتحها بنفسي.

ابتسم، وقال: أهكذا.. بهذه السهولة؟

قلت: فأنت تريد أن تعيقني عن السير إذن؟

قال: معاذ الله.. أنا أريد أن أنبهك إلى أن القمة الجميلة تحتاج نفوسا جميلة.. نفوسا في منتهى الرقة والسمو والكمال، فلا يمكن للحقير أن يطمع في الجميلة، ولا يمكن للوضيع أن يصل إلى الرفيعة.

قلت: فأنت تطلب مالا إذن؟

قال: لا يمكن للمال أن يحقق شيئا.

قلت: فما تطلب إن كنت لا تطلب مالا؟

قال: أنا أطلب الإخلاص.. فمفتاح الطبقة الأولى هو الإخلاص.. ولا يمكن لمن فقد هذه الجوهرة النفيسة أن يطأ درجة واحدة من درجات هذا الجبل الرفيع.

قلت: الإخلاص لمن؟

قال: هذا الجبل النفيس.. وتلك القمة الرفيعة.. لم يكتسبا نفاستهما ولا رفعتهما إلا لكونهما منتستبين لله.. فلذلك لا يرتفع إلى مقامات هذا الجبل الرفيع إلا من طلق كل نسبة إلا نسبته لربه.. فلا يحظى بالانتساب لله من حجب بهواه.

قلت: فهذا طور سيناء إذن.. ذلك الذي تجلى الرب فيه لموسى، كما قال تعالى :{ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)} (الأعراف)

أو هو الجبل الذي رفعه الله على رؤوس بني إسرائيل.. كما قال تعالى :{ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)} (الأعراف)

أو هو الجبل الذي أحبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:( أحد جبل يحبنا ونحبه)([2]

قال: بل هذا الجبل هو جبل الإنسان الذي تسامى عن أوحال الطين، وأدران المستنقعات، وراح يرفع قامته السامقة نحو السماء.. تلك التي ولد فيها..

قلت: فهذا جبل السوبرمان إذن؟

قال: أجل.. فلا يمكن للإنسان أن يصير كاملا دون أن يقطع طبقات هذا الجبل جميعا.

قلت: فهذا الجبل يكشف سرا من أسرار الإنسان التي أبحث عنها.

قال: أجل.. هذا الجبل يكشف سر التسامي.. فلا يمكن للإنسان أن يصير إنسانا ما لم يفكر في التسامي، وما لم يسر ليتسامى.

قلت: فمن أنت من أهل الله؟.. فأنا أعلم أن أسرار مفاتيح الإنسان لا يملكها إلا أهل الله.. أولئك الذين جعلهم الله عيونا للفيوضات والبركات.

قال: أنا كل الأولياء.. فلا يمكن للولي أن يصير وليا دون أن يقطع الأهواء، ويترفع إلى الأجواء.

قلت: فما اسمك من بينهم؟

قال: أنا سمي ذلك النبي الذي ذكره الله، فقال :{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)} (مريم)

قلت: مرحبا بموسى.. لقد كانت حياته كلها رمزا للإخلاص لله.

قال: وهكذا كل الأنبياء والأولياء.. فالحياة التي يلفها الزور حياة متثاقلة للطين، مستسلمة للرغبة، مدفونة في الأنا.

قلت: فالإخلاص هو السكين التي تقطع حبال الأنا التي تشدها إلى السفل؟

قال: أجل.. فلا يمكن للمقيد بقيود أهوائه أن يحلق مع العارفين في سموات الأنس.

قلت: فعلمني من أسرار الإخلاص ما أقطع به هذه الحبال التي تشدني إلى السفل، وتمنعني من التحليق.

قال: أي إخلاص تريد؟

قلت: أليس الإخلاص واحدا؟

قال: الإخلاص عند المخلصين إخراج الخلق من معاملة الحق، وأول الخلق النفس.. والإخلاص عند المحبين أن لا يعملوا عملاً لأجل النفس، وإلا دخل عليها مطالعة العوض، أو الميل إلى حظ النفس.. والإخلاص عند الموحدين خروج الخلق من النظر إليهم في الأفعال وعدم السكون والإستراحة إليهم في الأحوال.

قلت: حدثني عن الإخلاص الذي نص عليه قوله تعالى:{ قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)} (البقرة)، وقوله:{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)} (الأعراف)، وقوله:{ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3)} (الزمر)، وقوله:{ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)} (الزمر)، وقوله:{ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15)} (الزمر)، وقوله:{ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14)} (غافر)، وقوله:{ هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)} (غافر)، وقوله:{ وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} (البينة)، وقوله:{ إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)} (النساء)

قال: إن هذه الآيات الكريمة التي قرأتها تقصد جميع أنواع الإخلاص.. إخلاص المخلصين، وإخلاص المحبين، وإخلاص الموحدين.

قلت: فحدثني عن الإخلاص الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (ثلاث لا يغلّ([3]) عليهنّ قلب امريء مسلم: إخلاص العمل للّه، والنّصح لأئمّة المسلمين ولزوم جماعتهم)([4])، وقال: (ما قال عبد لا إله إلّا اللّه قطّ مخلصا، إلّا فتحت له أبواب السّماء حتّى تفضي إلى العرش ما اجتنب الكبائر)([5]

قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقصد ذلك جميعا.

قلت: كيف ذلك؟

قال: إن كل مقام من مقامات الدين منازل مختلفة.. والإخلاص كذلك.

قلت: لم أفهم ما تعني؟

قال: لقد ذكر الله في كتابه الكريم مراتب الناس.

قلت: أجل.. وذلك في مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى :{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} (فاطر)

قال: فكل هؤلاء ورثوا الكتاب؟

قلت: أجل.

قال: فهل ورثوه بدرجة واحدة؟

قلت: لا.. إن الفروق بينهم كما بين السماء والأرض.

قال: فأنبئني عن الصلاة.. هل صلاة جميع الناس متشابهة؟

قلت: هي متشابهة في الشكل.. ولكنها مختلفة في الحقيقة وفي التأثير وفي الأجر الذي ينال صاحبها، وفي الدرجة التي يترقى إليها.

قال: وهكذا الإخلاص.. فهو في معناه العام واحد.. ولكنه في حقيقته العميقة مختلف.

قلت: فحدثني عن معناه العام..

قال([6]): اعلم أن كل شيء يتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وخلص عنه سمي خالصاً، ويسمى الفعل المصفى المخلص: إخلاصاً، كما قال تعالى :{ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)} (النحل)، فخلوص اللبن أن لا يكون فيه شوب من الدم والفرث ومن كل ما يمكن أن يمتزج به.

وهكذا الإخلاص فإن فرثه ودمه هو الإشراك، فمن ليس مخلصاً فهو مشرك..

وبما أن الشرك  منه خفي ومنه جلي، فهكذا الإخلاص، فمنه خفي وجلي.. فمهما كان باعثه في جميع الأمور هو التقرب إلى الله تعالى، ولكن انضاف إليه خطرة من الخطرات، حتى صار العمل أخف عليه بسببها، فقد خرج عمله عن حد الإخلاص وخرج عن أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى وتطرق إليه الشرك، وقد قال تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)([7]

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (تضمّن اللّه لمن خرج في سبيله. لا يخرجه إلّا جهادا في سبيلي، وإيمانا بي، وتصديقا برسلي- فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنّة، أو أرجعه إلى مسكنه الّذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة)([8]

وقال: (تكفّل اللّه لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلّا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته بأن يدخله الجنّة أو يرجعه إلى مسكنه الّذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة)([9]

وجاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذّكر، ما له؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (لا شيء له)، فأعاد ثلاث مرّات يقول له رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (لا شيء له)، ثمّ قال: (إنّ اللّه لا يقبل من العمل إلّا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه)([10]

وقال في شأن الصلاة: (صلاة الرّجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة، وذلك أنّ أحدهم إذا توضّأ فأحسن الوضوء ثمّ أتى المسجد لا ينهزه إلّا الصّلاة لا يريد إلّا الصّلاة، فلم يخط خطوة إلّا رفع له بها درجة وحطّ عنه بها خطيئة حتّى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في الصّلاة ما كانت الصّلاة هي تحبسه، والملائكة يصلّون على أحدكم مادام في مجلسه الّذي صلّى فيه، يقولون: اللّهم ارحمه، اللّهم اغفر له، اللّهم تب عليه، ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه)([11]

وهكذا في كل الأعمال.. فكل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس ويميل إليه القلب – قل أم كثر – إذا تطرق إلى العمل تكدر به صفوه وزال به إخلاصه.

وبما أن الإنسان مرتبط في حظوظه منغمس في شهواته فإنه قلما ينفك فعل من أفعاله وعبادة من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة من هذه الأجناس، ولذلك قيل: (من سلم له من عمره لحظة واحد خالصة لوجه الله نجا)، وذلك لعزة الإخلاص وعسر تنقية القلب عن هذه الشوائب.

قلت: فقد رجع أمر الإخلاص إلى النية الباعثة على العمل؟

قال: أجل.. وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّما الأعمال بالنّيّة، وإنّما لكلّ امريء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)([12]

قلت: فلا مناص لك إذن أن تحدثني عن حقيقة النية..

قال: النية هي حالة أو صفة للقلب يحيط بها أمران: علم، وعمل.. فالعلم يسبقها لأنه أصلها وشرطها.. والعمل يتبعها لأنه ثمرتها وفرعها.

وذلك لأن كل عمل اختياري لا يتم إلا بثلاثة أمور: علم، وإرادة، وقدرة.. فلا يريد الإنسان ما لا يعلمه، ولا يعمل ما لم يرد.. فوجبت الإرادة في كلا الأمرين.

قلت: فقد آل أمر النية إلى الإرادة.. فما هي؟

قال: الإرادة هي انبعاث القلب إلى ما يراه موافقاً للغرض إما في الحال أو في المآل، فقد خلق الإنسان بحيث يوافقه بعض الأمور ويلائم غرضه، ويخالفه بعض الأمور، فيحتاج إلى جلب الملائم الموافق إلى نفسه ودفع الضار المنافي عن نفسه.. فافتقر لذلك إلى معرفة الشيء المضر والنافع حتى يجلب هذا ويهرب من هذا، فإن من لا يبصر الغذاء ولا يعرفه لا يمكنه أن يتناوله.. ثم لو أبصر الغذاء وعرف أنه موافق له فلا يكفيه ذلك لنتناول ما لم يكن فيه ميل إليه ورغبة فيه وشهوة باعثة عليه، فخلق الله تعالى له الميل والرغبة والإرادة.. ثم ذلك لا يكفيه، فخلقت له القدرة والأعضاء المتحركة حتى يتم به التناول.

قلت: فالقدرة – بحسب تحليلك هذا- خادمة للإرادة، والإرادة تابعة لحكم الاعتقاد والمعرفة.

قال: أجل..

قلت: فالنية – إذن- هي تلك الصفة المتوسطة التي هي الإرادة أو انبعاث النفس بحكم الرغبة والميل إلى ما وافق الغرض إما في الحال وإما في المآل.

قال: أجل.. فالمحرك الأول هو الغرض المطلوب وهو الباعث، والغرض الباعث هو المقصد المنوي، والانبعاث هو القصد والنية، وانتهاض القدرة لخدمة الإرادة بتحريك الأعضاء هو العمل.

قلت: فما علاقة الإخلاص بكل هذا؟

قال: إن انتهاض القدرة للعمل قد يكون بباعث واحد، وقد يكون بباعثين اجتمعا في فعل واحد.. وإذا كان بباعثين فقد يكون كل واحد بحيث لو انفرد لكان كافيا لإنهاض القدرة.. وقد يكون كل واحد قاصراً عنه إلا بالاجتماع؟ وقد يكون أحدهما كافياً لولا الآخر لكن الآخر انتهض عاضداً له ومعاوناً.

قلت: إن حديثك هذا يحصر الأمر في أربعة أقسام؟

قال: أجل.. وبفهمك لها تفهم سر الإخلاص.

قلت: فما أولها؟

قال: أولها فهو أن ينفرد الباعث الواحد ويتجرد، كما إذا هجم على الإنسان سبع فقام من موضعه، فلا غرض له إلا الهرب من السبع.. ذلك أنه يعلم خطورته، فانبعثت نفسه إلى الهرب ورغبت فيه، فانتهضت القدرة عاملة بمقتضى الانبعاث.. وهذه النية تسمى خالصة ويسمى العمل بموجبها إخلاصاً بالإضافة إلى الغرض الباعث.

قلت: وعيت هذا.. فما الثاني؟

قال: الثاني هو أن يجتمع باعثان كل واحد مستقل بالإنهاض لو انفرد، ومثاله من المحسوس أن يتعاون رجلان على حمل شيء بمقدار من القوة كان كافياً في الحمل لو انفرد.. ومثاله فيما نحن فيه أن يسأله قريبه الفقير حاجة فيقضيها ناظرا لفقره وقرابته، وعلم أنه لولا فقره لكان يقضيها بمجرد القرابة، وأنه لولا قرابته لكان يقضيها بمجرد الفقر..

قلت: وعيت هذا.. فما الثالث؟

قال: الثالث هو أن لا يستقل كل واحد لو انفرد.. ومثاله في المحسوس أن يتعاون ضعيفان على حمل ما لا ينفرد أحدهما به.. ومثال ذلك الرجل يتصدق بين يدي الناس لغرض الثواب ولغرض الثناء، ويكون بحيث لو كان منفرداً لكان لا يبعثه مجرد قصد الثواب على العطاء، ولو كان الطالب فاسقاً لا ثواب في التصدق عليه لكان لا يبعثه مجرد الرياء على العطاء، ولو اجتمعا أورثا بمجموعهما تحريك القلب.

قلت: وعيت هذا.. فما الرابع؟

قال: الرابع أن يكون أحد الباعثين مستقلاً لو انفرد بنفسه والثاني لا يستقل.. ولكن لما انضاف إليه لم ينفك عن تأثير بالإعانة والتسهيل.. ومثاله أن يكون للإنسان ورد في الصلاة وعادة في الصدقات، فاتفق أن حضر في وقتها جماعة من الناس، فصار الفعل أخف عليه بسبب مشاهدتهم، وعلم من نفسه أنه لو كان منفرداً خالياً لم يفتر عن عمله، وعلم أن عمله لو لم يكن طاعة لم يكن مجرد الرياء يحمله عليه، فهو شوب تطرق إلى النية.

قلت: فالباعث – بهذه القسمة- إما أن يكون رفيقاً أو شريكاً أو معيناً؟

قال أجل.

قلت: فما الإخلاص العالي من بينها؟

قال: هو الذي لا يلاحظ صاحبه غير مولاه، كما لا يلاحظ من خاف السبع إلا السبع.. لقد قال بعض الصالحين يشير إلى هذا: (لا يتحقق الإخلاص حتى يسقط من عين الناس، ويسقط الناس من عينه)، وقال آخر: (ما دام العبد يراقب الناس ويهابهم لا يتحقق إخلاصه أبداً)، وقال آخر: (لا تجتمع مراقبة الحق مع مراقبة الخلق أبداً، إذ محال أن تشهده وتشهد معه سواه)

وعلى هذا اتفق جميع أولياء الله.. فقد قال أحدهم: (الإخلاص فقد رؤية الإخلاص، فإن من شاهد في إخلاصه الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص)، وقال آخر: (الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة)، وقيل له: أي شيء أشد على النفس؟ فقال: (الإخلاص إذ ليس لها فيه نصيب)، وقال آخر: (الإخلاص صدق النية مع الله تعالى)، وقال آخر: (الإخلاص في العمل هو أن لا يريد صاحبه عليه عوضاً في الدارين)، وقال آخر: (الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق فقط)، وقال آخر: (الإخلاص هو إخراج الخلق عن معاملة الرب)، وقال آخر: (الإخلاص تصفية العمل من الكدورات)، وقال آخر: (ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص بأن يعافيك الله منهما)

بل هذا ما وردت به النصوص المقدسة، فالله تعالى يقول:{ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} (الكهف)

وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أدنى الرياء شرك، وإن أحب العباد إلى الله ، عز وجل ، الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن شهدوا لم يعرفوا، أولئك أئمة الهدى مصابيح العلم)([13]

قلت: فما تقول فيمن يعمل لأجل أن يظفر بالجنة، أو لأجل أن ينجو من النار.. هل يقدح ذلك في إخلاصه؟

قال: ذلك يقدح في إخلاص المقربين.. وهو لا يقدح في إخلاص أهل اليمين.. لقد عرفت أن لكل مقام أحكامه الخاصة به.

قلت: فكيف يقدح في إخلاص المقربين؟

قال: أرأيت لو أن شخصا تحبه وتقربه إليك قال لك يوما: أنا لا أحب الجلوس إليك، ولا المكث معك إلا لأجل ذلك الطعام الذي تطعمني إياه، أو لأجل أنك تستضيفني.. أو لأجل أن أستفيد منك شيئا.. هل ترى مثل هذا الشخص لائقا بالمحل الذي وضعته فيه؟

قلت: لا.. إن كلامه هذا يدل على لؤمه.. بل إنه بكلام هذا يدعوني إلى أن أبعده عني.

قال: فهذا ما لا حظه الصديقون.. فقد رأوا أن الذي يعمل لرجاء الجنة وخوف النار مخلص بالإضافة إلى الحظوظ العاجلة، وإلا فهو في طلب حظوظ آجلة.. والمطلوب الحق لذوي الألباب وجه الله تعالى فقط.

ولذلك يقول العارفون:( ليس خوفنا من نار جهنم ولا رجاؤنا للحور العين وإنما مطالبنا اللقاء ومهربنا من الحجاب فقط)

وقالوا:( من يعبد الله بعوض فهو لئيم كأن يعبده لطلب جنته أو لخوف ناره، بل العارف يعبده لذاته فلا يطلب إلا ذاته فقط، فأما الحور العين والفواكه فقد لا يشتهيها، وأما النار فقد لا يتقيها. إذ نار الفراق إذا استولت ربما غلبت النار المحرقة للأجسام، فإن نار الفراق نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، ونار جهنم لا شغل لها إلا مع الأجسام، وألم الأجسام يستحقر مع ألم الفؤاد)

وقالوا:

وفي فؤاد المحبِّ نار جوى       أحرّ نار الجحيم أبردُها

وقيل لرابعة العدوية:( كيف رغبتك في الجنة؟)، فقالت:( الجار ثم الدار)

وهي في هذا تردد ما رددته امرأة فرعون من قبلها عندما قالت:{ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ } (التحريم:11) فقدمت الجار قبل الدار.

قلت: أيمكن هذا.. أيمكن أن يصل الإخلاص بصاحبه إلى هذه الدرجة؟

قال: إنما يصل إلى هذه الدرجة المحبون الذي شغلهم محبوبهم عن كل شغل.. إن حال هؤلاء كحال العاشق المستهتر بمعشوقه المستوفي همه بالنظر إلى وجهه والفكر فيه، فإنه في حال الاستغراق غافل عن نفسه لا يحس بما يصيبه في بدنه، لم يبق في قلبه متسع لغير محبوبه حتى يلتفت إليه لا نفسه ولا غير نفسه.

لقد أشار الله تعالى إلى هذا عندما ذكر النسوة في قصة يوسف، فقال :{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)} (يوسف)

قلت: وعيت هذا.. وبورك لأولياء الله ما فتح الله عليهم من معرفته ومحبته.. فحدثنا عني وعن الظالمين لأنفسهم من أمثالي.

قال: ما تريد أن أحدثك؟

قلت: حدثني عن العمل الذي شيب ببعض الحظوظ.. هل أنال عليه ثوابا، أم أنال عليه عقابا، أم أني لا أنال عليه شيئا؟

قال: لقد اختلف العلماء في ذلك اختلافا شديدا بناء على ما فهموه من النصوص المقدسة..

قلت: فما ترى من الترجيح بينهم في هذا الخلاف؟

قال: هو ما نص عليه قوله تعالى :{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (الزلزلة)، وقوله تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} (النساء)

قلت: فكيف تطبق الموازين التي نصت عليها هذه الآيات على ما نحن فيه؟

قال: أرى أنه ينظر إلى قدر قوة الباعث.. فإن كان الباعث الديني مساوياً للباعث النفسي تقاوماً وتساقطا، وصار العمل لا له ولا عليه، وإن كان باعث الرياء أغلب وأقوى فهو ليس بنافع، وهو مع ذلك مضر ومفض للعقاب.. نعم العقاب الذي فيه من عقاب العمل الذي تجرد للرياء ولم يمتزج به شائبة التقرب.. وإن كان قصد التقرب أغلب بالإضافة إلى الباعث الآخر فله ثواب بقدر ما فضل من قوة الباعث الديني.

قلت: فهل لك مرجع في هذا غير ما ذكرت من الآيات؟

قال: أجل.. تعالى :{ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} (هود)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب. فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه)، قيل: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: (غشه وظلمه، ولا يكسِبُ عبد مالا حراما فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زادَه إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث)([14]

قلت: تقصد من الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن)؟

قال: أجل..

قلت: فما فيه من العلم المرتبط بهذا؟

قال: لاشك أنك تعلم أن للأعمال تأثيرها في القلوب بتأكيد صفاتها.. فداعية الرياء من المهلكات، وإنما غذاء هذا المهلك وقوته العمل على وفقه.. وداعية الخير من المنجيات، وإنما قوتها بالعمل على وفقها.. فإذا اجتمعت الصفتان في القلب فهما متضادتان، فإذا عمل على وفق مقتضى الرياء فقد قوي تلك الصفة، وإذا كان العمل على وفق مقتضى التقرب فقد قوي أيضاً تلك الصفة، وأحدهما مهلك والآخر منج، فإن كان تقوية هذا بقدر تقوية الآخر فقد تقاوما، فكان كالمستضر بالحرارة إذا تناول ما يضره ثم تناول من المبردات ما يقاوم قدر قوته، فيكون بعد تناولهما كأنه لم يتناولهما..

وإن كان أحدهما غالباً لم يخل الغالب عن أثر، فكما لا يضيع مثقال ذرة من الطعام والشراب والأدوية ولا ينفك عن أثر في الجسد بحكم سنة الله تعالى، فكذلك لا يضيع مثقال ذرة من الخير والشر ولا ينفك عن تأثير في إنارة القلب أو تسويده وفي تقريبه من الله أو إبعاده.. فإذا جاء بما يقربه شبراً مع ما يبعده شبراً فقد عاد إلى ما كان فلم يكن له ولا عليه، وإن كان الفعل مما يقربه شبرين والآخر يبعده شبراً واحداً فضل له لا محالة شبر، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها)([15])، فإذا كان الرياء المحض يمحوه الإخلاص المحض عقيبه، فإذا اجتمعا جميعاً فلا بد وأن يتدافعا بالضرورة.

قلت: فما تقول فيما في ورد في النصوص المقدسة من أن شوب الرياء محبط للثواب، وفي معناه شوب طلب الغنيمة والتجارة وسائر الحظوظ.. ومن ذلك ما روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، إني أقف المواقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزلت هذه الآية:{.. فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} (الكهف)([16])  

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم : (يقول الله يوم القيامة: أنا خير شريك، من أشرك بي أحدًا فهو له كله)([17]

وقال فيما يرويه عن ربه، عز وجل: (أنا خير الشركاء، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري، فأنا منه برئ، وهو للذي أشرك)([18]

قال: إن هذه الأحاديث لا تناقض ما ذكرته لك، لأن المراد منها أن صاحبها لم يرد بذلك إلا الدنيا، أو كان ذلك هو الأغلب على همه.. وقد ذكرت لك أن ذلك عصيان وعدوان.. لا لأن طلب الدنيا حرام، ولكن طلبها بأعمال الدين حرام لما فيه من الرياء وتغيير العبادة عن موضعها.

أما لفظ الشركة حيث ورد فمطلق للتساوي، وقد ذكرت لك أنه إذا تساوى القصدان تقاوما ولم يكن له ولا عليه، فلا ينبغي أن يرجى عليه ثواب، ثم إن الإنسان عند الشركة أبداً في خطر فإنه لا يدري أي الأمرين أغلب على قصده فربما يكون عليه بالاً ولذلك قال تعالى:{.. فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} (الكهف)، أي لا يرجى اللقاء مع الشركة التي أحسن أحوالها التساقط.

قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن البواعث الصالحة، والتي تجعلني من المخلصين، فقد علمت أنه بقدر نية المرء يكون جزاؤه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك: (إنّما الأعمال بالنّيّات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)([19]

قال: أنت تعلم أن الأعمال مهما تنوعت، فهي لا تعدو – من حيث حكمها الشرعي – ثلاثة أقسام: معاص وطاعات ومباحات..

قاطعته قائلا: هل يمكن للنية أن تغير من المعصية، فتحولها إلى طاعة.. فإن هناك من يغتاب ليؤنس جلساءه، أو يطعم فقيراً من مال غيره، أو يبني مدرسة أو مسجداً بمال حرام، وقصده الخير من كل ذلك؟

قال: لا.. هذا كله جهل.. فالنية لا تؤثر في إخراج الظلم عن كونه ظلماً وعدواناً ومعصية.. بل إن من قصد الخير بالشر – على خلاف مقتضى الشرع – يكون قد ارتكب شرا آخر.. فإن عرفه فهو معاند للشرع.. وإن جهله فهو عاص بجهله إذ طلب العلم فريضة على كل مسلم، والخيرات إنما يعرف كونها خيرات للشرع، فكيف يمكن أن يكون الشر خير؟ هيهات.

بل المروج لذلك على القلب خفي الشهوة وباطن الهوى، فإن القلب إذا كان مائلاً إلى طلب الجاه واستمالة قلوب الناس وسائر حظوظ النفس توسل الشيطان به إلى التلبيس على الجاهل، ولذلك قال بعض الصالحين: (ما عصي الله تعالى بمعصية أعظم من الجهل!) قيل: هل تعرف شيئاً أشد من الجهل؟ قال: (نعم الجهل بالجهل)

قلت: لا بأس.. فحدثني عن النيات المرتبطة بالطاعات.

قال: هذا هو ميدان النيات الصالحة الأكبر.. فبها تصح، وبها تتضاعف.

قلت: كيف ذلك؟

قال: أما صحتها فإنه يكفي فيها أن ينوي بها عبادة الله تعالى لا غير، فإن نوى الرياء صارت معصية.

وأما تضاعف الفضل: فبكثرة النيات الحسنة، فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوي بها خيرات كثيرة فيكون له بكل نية ثواب، إذ كل واحدة منها حسنة ثم تضاعف كل حسنة عشر أمثالها كما وردت بذلك النصوص المقدسة.

قلت: ما أجمل هذا.. فهلا ضربت لي عنه مثالا.

قال: للقعود في المسجد – مثلا، والذي هو طاعة كسائر الطاعات – نيات كثيرة يمكن أن ترفعه إلى فضائل أعمال المتقين، بل يمكن أن تبلغ به درجات المقربين:

فمن ذلك مثلا أن يعتقد أنه بيت الله، وأن داخله زائر الله، فيقصد به زيارة مولاه رجاء لما وعد به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: (من قعد في المسجد فقد زار الله تعالى وحق على المزور أن يكرم زائره)([20]

ومن ذلك أن ينوي انتظار الصلاة بعد الصلاة فيكون من المرابطين الذين نص عليهم قوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} (آل عمران)، وذكرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (ألا أدلّكم على ما يمحو اللّه به الخطايا، ويرفع به الدّرجات؟ قالوا: بلى، يا رسول اللّه قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصّلاة بعد الصّلاة فذلكم الرّباط)([21]

ومن ذلك الترهب بكف السمع والبصر والأعضاء عن الحركات والترددات، فإن الاعتكاف نوع صوم، ونوع ترهب.

ومن ذلك عكوف الهم على الله ولزوم السر للفكر في الآخرة ودفع الشواغل الصارفة عنه بالاعتزال إلى المسجد.

ومن ذلك التجرد لذكر الله أو لاستماع ذكره وللتذكر به.

ومن ذلك أن يقصد إفادة العلم بأمر بمعروف ونهي عن منكر، إذ المسجد لا يخلو عمن يسيء في صلاته أو يتعاطى ما لا يحل له فيأمره بالمعروف ويرشده إلى الدين فيكون شريكاً معه في خيره الذي يعلم منه فتتضاعف خيراته.

ومن ذلك أن يستفيد أخاً في الله فإن ذلك غنيمة وذخيرة للدار الآخرة، والمسجد محل أهل الدين المحبين لله وفي الله.

ومن ذلك أن يترك الذنوب حياء من الله تعالى وحياء من أن يتعاطى في بيت الله ما يقتضي هتك الحرمة، وقد قال الحسن بن علي: (من أدمن الاختلاف إلى المسجد رزقه الله إحدى سبع خصال: أخاً مستفاداً في الله، أو رحمة مستنزلة، أو علماً مستظرفاً، أو كلمة تدل على هدى، أو تصرفه عن ردى، أو يترك الذنوب خشية أو حياء)

قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن كيفية تأثير النيات في المباحات.

قال: ما من شيء من المباحات إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات وينال بها معالي الدرجات.

قلت: ما أجمل هذا وأعظمه.. فاضرب لي مثالا عنه يقربه لي..

قال: أليس التطيب من المباحات؟

قلت: أجل.. بل إن حبه فطره في النفوس.. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحبه.. ولم يرد أي نص بتحريمه.. ولكن ما الذي يمكن أن ينوي بالطيب وهو حظ من حظوظ النفس؟

قال: من تطيب وهو يقصد التنعم بلذات الدنيا، أو يقصد به إظهار التفاخر بكثرة المال ليحسده الأقران، أو يقصد به رياء الخلق ليقوم له الجاه في قلوبهم ويذكر بطيب الرائحة.. كل هذا يجعل التطيب معصية، فبذلك يكون أنتن من الجيفة في القيامة إلا القصد الأول وهو التلذذ والتنعم فإن ذلك ليس بمعصية إلا أنه يسأل عنه، ومن نوقش الحساب عذب، ومن أتى شيئاً من مباح الدنيا لم يعذب عليه في الآخرة ولكن ينقص من نعيم الآخرة له بقدره.

قلت: حدثني عن النية الحسنة فيه.

قال: من ذلك مثلا أن ينوي به اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التطيب، أو ينوي تعظيم المسجد واحترام بيت الله فلا يرى أن يدخله زائراً لله إلا طيب الرائحة، أو يقصد به ترويح جيرانه ليستريحوا في المسجد عند مجاورته بروائحه، أو يقصد به دفع الروائح الكريهة عن نفسه التي تؤدي إلى إيذاء مخالطيه، أو يقصد جسم باب الغيبة عن المغتابين إذا اغتابوه بالروائح الكريهة فيعصون الله بسببه، فمن تعرض للغيبة وهو قادر على الاحتراز منها فهو شريك في تلك المعصية.

قلت: ما أجمل هذا.. فهل يمكن تعميم هذا على سائر المباحات؟

قال: أجل..ولذلك قال بعض الصالحين: (إني أستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلي وشربي ونومي ودخولي إلى الخلاء)، وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى، لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب من مهمات البدن فهو معين على الدين.

ورؤي بعضهم في المنام فقيل له: كيف وجدت أعمالك؟ فقال: (كل شيء عملته لله وجدته، حتى حبة رمان لفظتها من طريق، وحتى هرة ماتت لنا رأيتها في كفة الحسنات، وكان في قلنسوتي خيط من حرير فرأيته في كفة السيئات، وكان قد نفق حمار لي قيمته مائة دينار فما رأيت له ثواباً فقلت: موت سنور في كفة الحسنات وموت حمار ليس فيها؟ فقيل لي: إنه قد وجه حيث بعثت به، فإنه لما قيل لك: قد مات، قلت: في لعنة الله، فبطل أجرك فيه، ولو قلت: في سبيل الله، لوجدته في حسناتك. وفي رواية قال: وكنت قد تصدقت بصدقة بين الناس فأعجبني نظرهم إلي فوجدت ذلك لا علي ولا لي)

قلت: ما أجمل ما تذكره.. إن الإنسان بهذا يمكن أن يحول من حياته كلها إلى مضمار طاعة.

قال: أجل.. ولذلك الإشارة بقوله تعالى :{ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} (الأنعام)

قلت بيني، وبين نفسي: ما أيسر أمر النية.. فمن اليوم وصاعدا كلما أردت أن آكل أقول: نويت أن آكل لله.. وكلما أردت النوم، أقول: نويت أن أنام لله.. وهكذا.

ابتسم، وقال: لا.. ليس الأمر كما تتصور.

قلت: ما تقصد؟

قال: أرأيت لو أن جائعا قال: نويت أن أشبع.. أو أن شبعانا قال: نويت أن أشتهي الطعام وأميل إليه.. هل يمكن أن يتحقق لهما ذلك بمجرد القول؟

قلت: لا.. لا يمكن لهما ذلك.

قال: فهكذا النية.. فليست هي مجرد حديث نفس أو حديث لسان أو فكر أو انتقال من خاطر إلى خاطر.

قلت: فما هي إذن؟

قال: النية ما ذكرت لك من انبعاث النفس وتوجهها وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها إما عاجلاً وإما آجلاً.. وإنما تنبعث النفس إلى الفعل إجابة للغرض الباعث الموافق للنفس الملائم لها، وما لم يعتقد الإنسان أن غرضه منوط بفعل من الأفعال فلا يتوجه نحوه قصده.

وذلك مما لا يقدر على اعتقاده في كل حين، وإذا اعتقد فإنما يتوجه القلب إذا كان فارغاً غير مصروف عنه شاغل أقوى منه، وذلك لا يمكن في كل وقت، والدواعي والصوارف لها أسباب كثيرة بها تجتمع، ويختلف ذلك بالأشخاص وبالأحوال وبالأعمال.

ولهذا امتنع جماعة من الصالحين من جملة من الطاعات إذ لم تحضرهم النية، وكانوا يقولون: ليس تحضرنا فيه نية.. ونادى بعضهم امرأته وكان يسرح شعره أن هات المدري، فقالت: أجيء بالمرآة؟ فسكت ساعة، ثم قال: نعم، فقيل له في ذلك، فقال: كان لي في المدري نية ولم تحضرني في المرآة نية فتوقفت حتى هيأها الله تعالى.. وكان أحدهم إذا سئل عملاً من أعمال البر يقول: إن رزقني الله تعالى نية فعلت..

وكانوا لا يرون أن يعملوا عملاً إلا بنية لعلمهم بأن النية روح العمل وأن العمل بغير نية صادقة رياء وتكلف وهو سبب مقت لا سبب قرب، وعلموا أن النية ليست هي قول القائل بلسانه: نويت، بل هو انبعاث القلب يجري مجرى الفتوح من الله تعالى، فقد تتيسر في بعض الأوقات وقد تتعذر في بعضها.

***

ما وصل موسى من حديثه معي إلى هذا الموضع حتى رأيت سلما من نور لم أكن أراه من قبل، فقلت من غير أن أشعر: ما أجمل هذا السلم.. وما أبهاه.. وما أعظم نوره!

قال: هل رأيته؟

قلت: أجل.. فما أجمله من سلم!

قال: ما دمت قد رأيته، فقد فتح لك – إذن – باب هذه الطبقة.. وقد أذن لك في أن ترقى هذا السلم لتصل إلى الطبقة الأخرى من هذا الجبل المقدس.

2 ـ الصدق

اقتربت من السلم، ورقيت درجاته إلى أن وصلت إلى أرض ممتلئة بالجمال والنور والصفاء.. ما سرت فيها قليلا حتى وجدت رجلا طويلا قد كساه جلال ووقار، فسألته: من أنت؟

قال: أنا سمي ذلك الذي وصفه الله بأنه :{ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)} (مريم)

قلت: ذاك إسماعيل.

قال: فقد شرفني الله بأن أتسمى باسمه، وبأن أسير على قدمه في الطريق المقدسة لأهل الله.

قلت: فهل أنت من أصحاب المفاتيح؟

قال: أجل.. لدي المفتاح الذي تفتح به جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وبه تميز سكان الجنان من أهل النيران.. وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال، ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكنهم  في الجنات تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين([22]).

قلت: لاشك أن لديك مفتاح الصدق؟

قال: أجل.. إنه المقام الذي أمر الله أهل الإيمان أن يكونوا مع أهله، كما قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} (التوبة)

وأخبر الله تعالى أنه منزل المؤمنين الذي يؤون إليه في الدنيا، قال تعالى:{ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)} (آل عمران)، وقال :{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)} (الأحزاب)

وأخبر أنه منزلهم الذي يؤون إليه في الآخرة، قال تعالى:{ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)} (المائدة)، وقال:{ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)} (الأحزاب)، وقال :{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} (القمر)

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الصدق هو الباب الذي تفتح به أبواب البر، فقال: (إنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وإنّ الرّجل ليصدق حتّى يكون صدّيقا، وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وإنّ الرّجل ليكذب حتّى يكتب عند اللّه كذّابا)([23]

قلت: فكيف كان الصدق هو الدليل الذي يهدي إلى البر؟

قال: لأن أصول البر التي ترجع إليها جميع أعمال البر من إيمان.. وإحسان.. وتقوى.. وتوكل.. وخوف.. ورجاء.. وإنابة.. وتسليم وغيرها ترجع إلى الصدق.. فكل عمل صالح ظاهر وباطن فمنشؤه الصدق.

وأضداد ذلك من أعمال القلوب المنهي عنها من الرياء.. والعجب.. والكبر.. والفخر.. والخيلاء.. والبطر.. والأشر.. والعجز.. والكسل.. والجبن، وغيرها كلها نوع من أنواع الكذب.

وبذلك فإن كل عمل فاسد ظاهر وباطن يرجع إلى الكذب ويؤول إليه.

قلت: لم كان الأمر كذلك؟

قال: لذلك أسباب عديدة، أولها، وهو أهمها أنه لا يسك سالك إلى الله إلا بتوفيق الله وإذنه.. والكاذب أهل للخذلان لا للتوفيق.. ولهذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:{ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)} (الإسراء)

قلت: فما الطريق إلى الصدق؟

قال: عندما تمتلئ محبة وشوقا لربك.. فإنك ستكون صادقا.. فلا يحق لكاذب أن يحظى بصحبة الله، وهو أصدق الصادقين.

قلت: أجل.. فقد وصف الله تعالى نفسه بالصدق في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، قال تعالى:{ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ(95)} (آل عمران)، وقال :{ اللَّهُ لا إِلَهَ إلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً (87)} (النساء)، وقال :{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً (122)} (النساء)، وقال :{ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)} (الحجر)، وقال :{ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمْ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ(9)} (الأنبياء)

قال: ولهذا، فقد وصف الله أنبياء الكرام، وهم أقرب خلقه إليه بالصدق، فقال: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً (41)} (مريم)، وقال :{ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً (50)} (مريم)، وقال :{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} (مريم)

قلت: صدقت .. وقد ذكر الله تعالى أن الصدق من صفات عباد الله المؤمنين المتقين، فلا يكتمل لهم الإيمان ولا التقوى إلا بتحقيق الصدق، قال تعالى : { الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)} (آل عمران)، وقال:{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)} (الأحزاب)، وقال :{ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)} (الزمر)، وقال :{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (15)} (الحجرات)، وقال :{ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8)} (الحشر)

قال: فهل وعيت قيمة الصدق إذن؟

قلت: أجل.. ولكن كيف السبيل إليه؟

قال: من تعلم الإخلاص تعلم الصدق.. ومن جعل الإخلاص باعثه على كل عمل، جعل الصدق صاحبه فيه.

قلت: لم أفهم ما تعني.

قال: الصادق هو الذي يصحب الصدق في كل مقام من مقامات الدين، فيصدق في الإخلاص.. وفي الصبر.. وفي الورع .. و في الزهد.. و في التوكل .. وفي كل شيء.

قلت: ما تعني؟

قال: في أول تلمذتي على بعض الصالحين، قال لي: (اجعل الصدق مطيتك والحق سيفك والله تعالى غاية طلبتك) .. وقال لي: (وجدنا دين الله تعالى مبنيا على ثلاثة أركان: على الحق والصدق والعدل، فالحق على الجوارح، والعدل على القلوب، والصدق على العقول).. وقال لي: (أجمع الفقهاء والعلماء على ثلاث خصال أنها إذا صحت ففيها النجاة ولا يتم بعضها إلا ببعض: الإسلام الخالص عن البدعة والهوى، والصدق لله تعالى في الأعمال، وطيب المطعم) .. وقال لي: (إذا طلبت الله بالصدق آتاك الله تعالى مرآة بيدك حتى تبصر كل شىء من عجائب الدنيا والآخرة) .. وقال لي: (احفظ الصدق فيما بينك وبين الله تعالى والرفق فيما بينك وبين الخلق)

قلت: وعيت كل هذا.. وكل ذلك مما دلت عليه النصوص المقدسة.. لكن ما معنى الصدق، وكيف أتحقق به؟

قال([24]) : لن تكون صادقا حتى تكون صادقا في ستة معان: صدق في القول، وصدق في النية والإرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها.

قلت: فحدثني عن الصدق الأول.. صدق اللسان.

قال: لهذا الصدق كمالان.

قلت: فما أولهما؟

قال: الاحتراز عن المعاريض، وذلك لأنها تقوم مقام الكذب، إذ المحذور من الكذب تفهيم الشي‏ء على خلاف ما هو عليه في نفسه.. فمن اضطر إلى شي‏ء من ذلك فصدقه فيه أن يكون نطقه فيه لله فيما يأمره الحق به ويقتضيه الدين، فإذا نطق به فهو صادق وإن كان كلامه مفهما غير ما هو عليه.

وفي مثل هذا الموضع ينبغي أن يعدل إلى المعاريض ما وجد إليه سبيلا، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا توجه إلى سفر ورى بغيره([25]) ، وذلك كي لا ينتهى الخبر إلى الأعداء فيقصد.

وليس هذا من الكذب في شي‏ء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (ليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيرا أو أنمى خيرا)([26])

وطريقه ما حكي عن بعضهم أنه كان يطلبه بعض الظلمة وهو في داره، فقال لزوجته. خطي بإصبعك دائرة، وضعى الإصبع على الدائرة، وقولي ليس‏ هو هاهنا. واحترز بذلك عن الكذب، ودفع الظالم عن نفسه، فكان قوله صدقا، وأفهم الظالم أنه ليس في الدار.

قلت: وعيت الكمال الأول، وهو أن يحترز عن صريح اللفظ وعن المعاريض أيضا إلا عند الضرورة .. فما الكمال الثاني؟

قال: الكمال الثاني أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه، كقوله: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض)، فإن قلبه إن كان منصرفا عن الله تعالى، مشغولا بأمانى الدنيا وشهواتها. فهو كذب..

قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن الصدق الثاني.. حدثني عن الصدق في النية والإرادة.

قال: الصدق في النية والإرادة يرجع إلى الإخلاص، وهو أن لا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى، فإن ما زجه شوب من حظوظ النفس بطل صدق النية، وصاحبه يسمى كاذبا.. كما قال الله تعالى عن المنافقين: (وَ الله يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)  وقد قالوا: (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ)، وهذا صدق، ولكن كذبهم لا من حيث نطق اللسان، بل من حيث ضمير القلب.

قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن الصدق الثالث.. حدثني عن الصدق في العزم.

قال: الصادق والصديق هو الذي تصادف عزيمته في الخيرات كلها قوة تامة، ليس فيها ميل ولا ضعف ولا تردد، بل تسخو نفسه أبدا بالعزم المصمم الجازم على الخيرات.

قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن الصدق الرابع.. حدثني عن الصدق في الوفاء بالعزم.

قال: النفس قد تسخو بالعزم في الحال، إذ لا مشقة في الوعد والعزم، والمؤنة فيه خفيفة، فإذا حقت الحقائق، وحصل التمكن، وهاجت الشهوات انحلت العزيمة، وغلبت الشهوات، ولم يتفق الوفاء بالعزم. وهذا يضاد الصدق فيه. ولذلك قال الله تعالى:‏ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } [الأحزاب: 23]

قلت: لقد ذكرتني في ذلك بما روى أنس أن عمه أنس بن النضر لم يشهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فشق ذلك على قلبه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غبت عنه، أما والله لئن أرانى الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليرين الله ما أصنع. قال فشهد أحدا في العام القابل، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو إلى أين؟ فقال ولها لريح الجنة، إنى أجد ريحها دون أحد. فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون، ما بين رمية، وضربة، وطعنة. فقالت أخته بنت النضر: ما عرفت أخي إلا بثيابه([27]).

قال: وقد روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (الشهداء أربعة: رجل مؤمن جيد الإيمان لقى العدو فصدق الله حتى قتل فذلك الذي يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة هكذا ـورفع رأسه حتى وقعت قلنسوته ـ و رجل جيد الإيمان إذا لقي العدو فكأنما يضرب وجهه بشوك الطلح أتاه سهم عاثر فقتله فهو في الدرجة الثانية، ورجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك في الدرجة الثالثة، ورجل أسرف على نفسه لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذاك في الدرجة الرابعة)([28])

قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن الصدق الخامس.. حدثني عن الصدق في الأعمال.

قال: رب‏ واقف على هيئة الخشوع في صلاته، ليس يقصد به مشاهدة غيره، ولكن قلبه غافل عن الصلاة، فمن ينظر إليه يراه قائما بين يدي الله تعالى، وهو بالباطن قائم في السوق بين يدي شهوة من شهواته.. فهذه أعمال تعرب بلسان الحال عن الباطن إعرابا هو فيه كاذب وهو مطالب بالصدق في الأعمال.

ومثله من يمشى الرجل على هيئة السكون والوقار، وليس باطنه موصوفا بذلك الوقار، فهذا غير صادق في عمله، وإن لم يكن ملتفتا إلى الخلق، ولا مرائيا إياهم.

قلت: إن هذا الصدق لعسير.

قال: أجل.. فلا ينجو من هذا إلا باستواء السريرة والعلانية، بأن يكون باطنه مثل ظاهره أو خيرا من ظاهره..

قلت: لقد ذكرتني بقول بعض الشعراء في ذلك:

إذا السر والإعلان في المؤمن استوى

  فقد عز في الدارين واستوجب الثنا

فإن خالف الإعلان سرا فما له‏

  على سعيه فضل سوى الكد والعنا

فما خالص الدينار في السوق نافق

  و مغشوشه المردود لا يقتضي المنى

قال: ولهذا عظم خوف الصالحين من اختلاف العلانية عن السر، وقد قال بعضهم، وهو يبكي: إلهى، عاملت الناس فيما بيني وبينهم بالأمانة وعاملتك فيما بيني وبينك بالخيانة.

قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن الصدق السادس.. حدثني عن الصدق في مقامات الدين.

قال: الصدق في مقامات الدين هو أعلى درجات الصدق وأعزها، الصدق في مقامات الدين، في الخوف، والرجاء، والتعظيم، والزهد، والرضا، والتوكل، والحب، وسائر هذه الأمور فإن هذه الأمور لها مباد ينطلق الاسم بظهورها، ثم لها غايات وحقائق، والصادق المحقق من نال حقيقتها.

لقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [الحجرات: 15]، وقوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]

***

بقيت مدة في صحبة إسماعيل يشرح لي كيفية مصاحبة الصدق لكل عمل أو مقام من مقامات الدين إلى أن رأيت سلما من نور لم أكن أراه من قبل، فقلت من غير أن أشعر: ما أجمل هذا السلم.. وما أبهاه.. وما أعظم نوره!

قال: هل رأيته؟

قلت: أجل.. فما أجمله من سلم!

قال: ما دمت قد رأيته، فقد فتح لك – إذن – باب هذه الطبقة.. وقد أذن لك في أن ترقى هذا السلم لتصل إلى الطبقة الأخرى من هذا الجبل المقدس.

 3 ـ الصبر

اقتربت من السلم، ورقيت درجاته إلى أن وصلت إلى أرض ممتلئة بالجمال والنور والصفاء.. ما سرت فيها قليلا حتى وجدت رجلا ممتلئا نورا، فسألته: من أنت؟

قال: أنا سمي ذلك الذي جعله الله نموذجا للصبر العالي.

قلت: تقصد أيوب.. ذلك الذي ذكره الله، فقال :{ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} (ص)

قال: أجل.. وليس أيوب عليه السلام وحده في ذلك.. فكل الأنبياء والأولياء كانوا كذلك.. بل لا يكون النبي نبيا، ولا الولي وليا حتى يكون صابرا.

قلت: من أين لك هذه الدعوى؟

قال: لقد قال تعالى مبينا ذلك: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة: 24]، فقد أخبر الله تعالى أن استحقاقهم للإمامة كان بسبب صبرهم ويقينهم.. ولا يكون يقين إلا بصبر.. ولا صبر إلا بيقين.

قلت: أراك تعطي الصبر قيمة كبيرة.

قال: لست أنا من يفعل ذلك.. فالله رب الإنسان، والعليم بأسراره هو الذي أخبرنا أنه لا يمكن للإنسان أن يرقى في مراتب الكمال، ولا أن ينال حظه من السعادة والقرب إلا بالصبر.. ألم تقرأ قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا } [الأعراف: 137]، وقوله: { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 111]، وقوله: {ولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 75، 76]، وقوله: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [القصص: 54]، وقوله: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا } [الإنسان: 12]

قلت: بورك فيك.. وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك في أحاديث كثيرة.. كقوله: (الصّبر نصف الإيمان)([29]) وقوله: (لو كان الصّبر رجلا لكان كريما واللّه يحبّ الصّابرين)([30])

وقد روي أنّ ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاهم، ثمّ سألوه فأعطاهم. حتّى إذا نفد ما عنده قال: (ما يكن عندي من خير فلن أدّخره عنكم. ومن يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله. ومن يصبر يصبّره الله وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصّبر)([31])

قال: وقد روي عن أمير المؤمنين الإمام علىّ قوله: (بنى الإيمان على أربع دعائم اليقين، والصبر، والجهاد، والعدل)، وقال: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا جسد لمن لا رأس له، ولا إيمان لمن لا صبر له)

قلت: وعيت هذا.. لكن ما سر كون الصبر بهذه الدرجة من الأهمية.

قال: لتفهم ذلك تحتاج أن تعرف حقيقة الصبر..

قلت: فما حقيقة الصبر؟

قال: لن تعرف حقيقة الصبر حتى تعرف كيفية الترتيب بين الملائكة، والإنس، والبهائم، فإن الصبر خاصية الإنس. ولا يتصور في البهائم ولا الملائكة؟

قلت: فاشرح لي ذلك..

قال: البهائم سلطت عليها الشهوات، وصارت مسخرة لها، فلا باعث لها على الحركة والسكون إلا الشهوة، وليس فيها قوة تصادم الشهوة وتردها عن مقتضاها، حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبرا.

وأما الملائكة عليهم السلام. فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية، والابتهاج بدرجة القرب منها، ولم تسلط عليهم شهوة صارفة صادة عنها حتى تحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر يغلب الصوارف.

وأما الإنسان فإنه خلق في ابتداء الصبا ناقصا مثل البهيمة، لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه، ثم تظهر فيه شهوة اللعب والزينة، ثم غيرها من الشهوات..

وبما أن اللّه تعالى بفضله وسعة جوده، أكرم بني آدم، ورفع درجتهم عن درجة البهائم، فقد وكل بهم عند كمال شخصهم بمقاربة البلوغ ملكين، أحدهما يهديهم، والآخر يقويهم. فتميز بمعونة الملكين عن البهائم، واختص بصفتين إحداهما معرفة اللّه تعالى، ومعرفة رسوله، ومعرفة المصالح المتعلقة بالعواقب. وكل ذلك حاصل من الملك الذي إليه الهداية والتعريف.

فصار الإنسان بنور الهداية يعرف أن اتباع الشهوات له مغبات مكروهة في العاقبة، ولكن لم تكن هذه الهداية كافية ما لم تكن له قدرة على ترك ما هو مضر، فافتقر إلى قدرة وقوة يدفع بها في نحر الشهوات، فيجاهدها بتلك القوة حتى يقطع عداوتها عن نفسه. فوكل اللّه تعالى به ملكا آخر يسدده، ويؤيده ويقويه بجنود لم تروها. وأمر هذا الجند بقتال جند الشهوة. فتارة يضعف هذا الجند وتارة يقوى. وذلك بحسب إمداد اللّه تعالى عبده بالتأييد،  كما أن نور الهداية أيضا يختلف في الخلق اختلافا لا ينحصر.

قلت: فالصراع القائم إذن موجود بين شهوات الإنسان التي تطلبها نفسه الأمارة وجند الله الذي أيد به.

قال: أجل.. وقد أطلق الصالحون على هذه الصفة التي بها فارق الإنسان البهائم في قمع الشهوات وقهرها باعثا دينيا.. وأطلقوا على مطالبة الشهوات بمقتضياتها باعث الهوى.

قلت: فالصبر إذن هو ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الهوى.

قال: أجل.. فإن اختار الإنسان تأييد باعث الدين حتى يقهر باعث الهوى واستمر على مخالفة الشهوة، فقد نصر حزب اللّه، والتحق بالصابرين.. وإن تخاذل وضعف حتى غلبته الشهوة ولم يصبر في دفعها، التحق باتباع الشياطين.

قلت: وعيت هذا.. فكيف كان الصبر نصف الإيمان‏، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال: إذا كان الإيمان هو التصديقات والأعمال جميعا، فإن للإيمان ركنان: اليقين، والصبر.. أما  اليقين، فهو المعارف القطعية الحاصلة بهداية الله تعالى‏ .. وأما الصبر، فهو  العمل بمقتضى اليقين.

قلت: هلا وضحت لي هذا.

قال: اليقين يعرف المؤمن أن المعصية ضارة، والطاعة نافعة.. ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر، وهو استعمال باعث الدين في قهر باعث الهوى والكسل. فيكون الصبر نصف الإيمان بهذا الاعتبار.

قلت: وعيت هذا.. فإن أريد بالإيمان الأحوال المثمرة للأعمال لا على المعارف.

قال: عند ذلك ينقسم جميع ما يلاقيه العبد إلى ما ينفعه في الدنيا والآخرة، أو يضره فيهما.. وله بالإضافة إلى ما يضره حال الصبر، وبالإضافة إلى ما ينفعه حال الشكر. فيكون الشكر أحد شطرى الإيمان بهذا الاعتبار كما أن اليقين أحد الشطرين بالاعتبار الأول.

قلت: بهذا الاعتبار فإن جميع مقامات الدين لها علاقة بالصبر.

قال: أجل، فالصبر تختلف أساميه باختلاف المكروه الذي غلب عليه .. فإن كان في مصيبة اقتصر على اسم الصبر، وتضاده حالة تسمى الجزع والهلع.. وإن كان في احتمال الغنى سمى ضبط النفس، وتضاده حالة تسمى البطر.. وإن كان في حرب ومقاتلة سمى شجاعة، ويضاده الجبن.. وإن كان في كظم الغيظ والغضب سمى حلما، ويضاده التذمر.. وإن كان في نائبة من نوائب الزمان مضجرة سمى سعة الصدر ويضاده الضجر والتبرم وضيق الصدر.. وإن كان في إخفاء كلام سمى كتمان السر، وسمى صاحبه كتوما.. وإن كان عن فضول العيش سمى زهدا، ويضاده الحرص.. وإن كان صبرا على قدر يسير من الحظوظ سمى قناعة، ويضاده الشره.

قلت: فأكثر أخلاق الإيمان بهذا داخلة في الصبر.

قال: أجل.. فمن يأخذ المعاني من الأسامي يظن أن الأحوال مختلفة في ذواتها وحقائقها.. والذي يسلك الطريق المستقيم وينظر بنور اللّه، يلحظ المعاني أولا، فيطلع على حقائقها، ثم يلاحظ الأسامي فإنها وضعت دالة على المعاني. فالمعاني هي الأصول، والألفاظ هي التوابع.

قلت: بورك فيك.. فهل الصبر شيء واحد.. أم أنه يختلف قوة وضعفا؟

قال: بحسب قوة باعث الدين أمام باعث الهوى تكون قوة الصبر.. وله في ذلك ثلاثة أحوال.

قلت: فما الحال الأولى؟

قال: أن يقهر داعي الهوى فلا تبقى له قوة المنازعة.. و يتوصل إلى ذلك بدوام الصبر.. وهذا صبر الصديقين المقربين، الذين لازموا الطريق المستقيم، واستووا على الصراط القويم، واطمأنت نفوسهم على مقتضى باعث الدين. وإياهم ينادى المنادى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 – 30]

قلت: وعيت هذا.. فما الحال الثانية؟

قال: أن تغلب دواعي الهوى‏، وتسقط بالكلية منازعة باعث الدين، فيسلم نفسه إلى جند الشياطين، ولا يجاهد ليأسه من المجاهدة. وهؤلاء هم الغافلون الذين استرقتهم شهواتهم، وغلبت عليهم شقوتهم، فحكموا أعداء اللّه في قلوبهم التي هي سر من أسرار اللّه تعالى ..وهؤلاء هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فخسرت صفقتهم وقيل لمن قصد إرشادهم‏: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى } [النجم: 29، 30]

قلت: فما علامة من هذا حاله؟

قال: صاحب هذه الحالة إذا وعظ قال: أنا مشتاق إلى التوبة ولكنها قد تعذرت علىّ، فلست أطمع فيها.. أو يقول: إن اللّه غفور رحيم كريم، فلا حاجة به إلى توبتي.. وهذا المسكين قد صار عقله رقيقا لشهوته، فلا يستعمل عقله إلا في استنباط دقائق الحيل التي بها يتوصل إلى قضاء شهوته. فقد صار عقله في يد شهواته كمسلم أسير في أيدي الكفار، فهم يستسخرونه في رعاية الخنازير، وحفظ الخمور وحملها، ومحله عند اللّه تعالى محل من يقهر مسلما ويسلمه إلى الكفار، ويجعله أسيرا عندهم.

قلت: وعيت هذا.. فما الحال الثانية؟

قال: أن يكون الحرب سجالا بين الجندين‏، فتارة له اليد عليها، وتارة لها عليه.. وأهل هذه الحالة هم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، عسى اللّه أن يتوب عليهم.

***

بقيت مدة في صحبة أيوب يشرح لي ضرورة الصبر وأهميته ودرجاته، ويعلمني كيفية التدرب عليه إلى أن رأيت سلما من نور لم أكن أراه من قبل، فقلت من غير أن أشعر: ما أجمل هذا السلم.. وما أبهاه.. وما أعظم نوره!

قال: هل رأيته؟

قلت: أجل.. فما أجمله من سلم!

قال: ما دمت قد رأيته، فقد فتح لك – إذن – باب هذه الطبقة.. وقد أذن لك في أن ترقى هذا السلم لتصل إلى الطبقة الأخرى من هذا الجبل المقدس.

 4 ـ الشكر

اقتربت من السلم، ورقيت درجاته إلى أن وصلت إلى أرض ممتلئة بالجمال والنور والصفاء.. ما سرت فيها قليلا حتى وجدت رجلا ممتلئا نورا، فسألته: من أنت؟

قال: أنا سمي ذلك الذي جعله الله وأهله نموذجا للشكر.

قلت: تقصد داود.. ذلك الذي ذكره الله، فقال :{ لَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)} (سبأ)

قال: أجل.. وقد أخبر الله تعالى أن هذا هو مقام أهل الله من أنبياء الله ورسله وأوليائه، قال تعالى عن إبراهيم u:{ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (ابراهيم:37)

وقال عن يوسف u:{ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} (يوسف:38)

وقال عن سليمان u:{ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (النمل:19)، وقال عنه:{ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل:40)

وقال عن لقمان u:{)وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (لقمان:12)

وأخبر عن الفضل العظيم الذي خصصه لأهل هذا المنزل العظيم، فقال:{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (ابراهيم:7)

 قلت: لقد وردت الروايات الكثيرة تحدث عن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ بفعله وقوله ـ لهذا المقام العظيم من مقامات الدين.. ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم:(خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا، من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به عليه كتبه الله شاكرا صابرا، ومن نظر في دينه إلى من هو دونه، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فاسف على ما فاته منه لم يكتبه الله لا شاكرا ولا صابرا)([32])

قال: وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر)([33]).. وقال:(قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما ذكرتني شكرتني وإذا ما نسيتني كفرتني)([34])

قلت: عرفت فضل الشكر.. فما هو الشكر؟.. هل هو تلك الكلمات التي تقولها ألسنتنا، وقلوبنا غافلة عن معناها؟.. أم هو معاني معينة في القلب.. وما هي تلك المعاني؟.. ولم حكم الله بقلة الشاكرين؟.. ولم كانت لهم الزيادة دون غيرهم؟.. ولم كان هذا مقاما من مقامات التقديس؟.. ولم..

قاطعني، وقال: رويدك.. لا العلم ينال بالعجلة .. ولا السلوك .. أنسيت أنك مررت بمقام الصبر؟

قلت: أجل فاعذرني.. لقد ذكر لي من قبلك أن كل مقام ينتظم من علم وحال وعمل.. فهل الشكر مثل غيره من المقامات في هذا؟

قال: أجل.. فكل شيء ينتظم من علم وحال وعمل..

قلت: فما علم الشكر؟

قال: هو ينتظم من ثلاثة أمور: عين النعمة، ووجه كونها نعمة في حقه، وبذات ‏المنعم ووجود صفاته التي بها يتم الإنعام ويصدر الإنعام منه عليه.

قلت: هذا ما تقتضيه القسمة العقلية، ذلك أنه في كل نعمة من النعم لابد من هذه الثلاثة: نعمة، ومنعم، ‏ومنعم عليه تصل إليه النعمة من المنعم بقصد وإرادة.

قال: هذا في الشكر عموما.. أما في حق الله تعالى، فلا يتم الشكر إلا بأن يعرف أن النعم كلها من الله تعالى، وأنه هو المنعم الوحيد، ‏وأن الوسائط مسخرون من جهته.

وتتأسس هذه المعرفة على التقديس، وذلك بأن يعرف أن الله هو القدوس، وأنه لا مقدس إلا واحد، وما عداه غير مقدس.. ثم يعلم أن كل ما في العالم فهو موجود من ذلك الواحد فقط، فالكل نعمة منه، فتقع ‏هذه المعرفة في الرتبة الثالثة، إذ ينطوي فيها مع التقديس والتوحيد: كمال القدرة والانفراد بالفعل. ‏

وقد عبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا، فقال:(من قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر كتب له بكل حرف عشر حسنات)([35])، وقال:(أفضل الذكر لا اله الا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله)([36])، وقال:(والحمد لله تملأ الميزان)([37])

‏فسبحان الله كلمة تدل على التقديس، ولا إله إلا الله كلمة تدل على التوحيد، والحمد لله كلمة تدل ‏على النعمة من الواحد الحق.. والحسنات بإزاء هذه المعارف التي هي من أبواب الإيمان واليقين.

وتمام هذه المعرفة ينفي الشرك في الأفعال، فمن أنعم عليه ملك من الملوك بشيء، فإن ‏رأى لوزيره أو وكيله دخلاً في تيسير ذلك وإيصاله إليه فهو إشراك به في النعمة، فلا يرى ‏النعمة من الملك من كل وجه، بل منه بوجه ومن غيره بوجه، فيتوزع فرحه عليهما فلا يكون ‏موحداً في حق الملك.

قلت: وعيت هذا، فلا يشكر إلا من أفرد الله بالشكر، واعتقد أن الخير كله بيده.. فما يثمر هذا من الأحوال؟

قال: لقد اختلفت تعابير أهل الله عن تلك الحال اللذيذة التي يجدونها عند حصول هذه المعرفة في قلوبهم.. فقال بعضهم:(لست بشاكر مادمت تشكر، وغاية الشكر التحير، وذلك أن الشكر نعمة من الله يجب الشكر عليها وهذا لا يتناهى).. وقال آخر:(شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليا).. وقال آخر:(الشكر معرفة العجز عن الشكر).. وقال آخر:(الشكر أن لا ترى نفسك أهلا للنعمة)

قلت: فما تقول أنت؟

قال: إن الملك الذي يريد الخروج إلى سفر، فيهدي فرسا لبعض الناس.. فإن هؤلاء الناس سينقسمون في فرحهم بالفرس إلى ثلاثة أقسام:

أما  الأول، فيفرحون بالفرس من حيث إنه فرس.. وهذا فرح من لاحظ له في الملك، بل غرضه الفرس ‏فقط، ولو وجده في صحراء فأخذه، لكان فرحه مثل ذلك الفرح.

أما الثاني، فيفرحون به لا من حيث إنه فرس، بل من حيث يستدلون به على عناية الملك بهم، وشفقته ‏عليهم واهتمامه بجانبهم، ولو وجد هؤلاء هذا الفرس في صحراء أو أعطاهم إياه غير الملك لكانوا لا يفرحون به ‏أصلاً لاستغنائهم عن الفرس أصلاً أو استحقارهم له بالإضافة إلى خلوه من نيل المحل في قلب ‏الملك.

أما الثالث، فيفرحون به لأجل الخروج به في خدمة الملك، فيتحملون مشقة السفر لينالوا بخدمته القرب ‏منه، وهم لا يريدون من ذلك إلا مشاهدة الملك والقرب منه، حتى ‏لو خيروا بين القرب منه دون الوزارة وبين الوزارة دون القرب لاختاروا القرب.

قلت: عرفت أحوال الشاكرين للملك الذي أهدى فرسا، فما حال الشاكرين لله الذي أعطى من النعم ما لا يحصى؟

قال: هم كذلك ثلاثة.. وبينهما درجات لا يعلمها إلا الله:

أما الأولون، فحالهم كحال الذي يفرح ‏بالفرس لا بالمعطى، وهذا حال كل من فرح بنعمة من حيث إنها لذيذة وموافقة لغرضه، وهو بعيد ‏عن معنى الشكر.

وأما الثانية، فهي داخلة في معنى الشكر من حيث إنه فرح بالمنعم، ولكن لا من حيث ذاته ‏بل من حيث معرفة عنايته التي تستحثه على الإنعام في المستقبل، وهذا حال الصالحين الذين ‏يعبدون الله ويشكرونه خوفاً من عقابه ورجاءً لثوابه.

أما الشكر التام فهو في الفرح الثالث، وهو أن ‏يكون فرح العبد بنعمة الله تعالى من حيث إنه يقدر بها على التوصل إلى القرب منه تعالى ‏والنزول في جواره والنظر إلى وجهه على الدوام، فهذا هو الرتبة العليا.

قلت: وعيت هذا، فما الأعمال التي تثمرها هذه الأحوال؟

قال: لقد عبر الشاعر عن ذلك وأحسن، فقال:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة
 
يدي ولساني والضمير المحجبا
  

وقد قيل للجنيد ـ وهو ابن سبع سنين ـ: يا غلام ما الشكر؟ فقال: (أن لا يعصى الله بنعمه)

قلت: ما يعني هذا؟

قال: من فرح بشيء فرحا استولى على كيانه، فإنه لا محالة سيتحرك بموجب ما يهديه إليه فرحه.. فمن فرح بمركوب ركبه، ومن فرح بمأكول أكله.. ومن فرح بشيء ارتبط به.

وهكذا فرح من رأى نعم الله عليه، فإنه لا محالة يستعملها.. ولكن الفرق بين استعماله لها واستعمال غيره هو أنه يستعملها في طاعة مولاه الذي أهداها له.. فلا يحق لمن أهديت له هدية أن يستعملها في مضادة من أهداها له.

قلت: فاضرب لي أمثلة على ذلك.

قال: شكر القلب ـ مثلا ـ وهو تصور النعمة، والاعتراف بها للمنعم، والعزم على طاعته، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(عجبا لأمر ‏المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، ‏وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له)([38])

وشكر اللسان ـ مثلا ـ هو الثناء على المنعم بفضله، ومما يروى في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماءٍ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (أصبح من عبادي مؤمنٌ بي، وكافرٌ، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكب)([39])

وهكذا شكر سائر الجوارح، فشكرها هو مكافأة النعمة بفعل الجوارح من خلال خضوعها واستجابتها ‏لأمر الله تعالى ونهيه، كما قال تعالى:{ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سـبأ: 13)

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقيل له: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: (أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟)([40])

قلت: سلمت بهذا، ووعيته.. ولكن شبهة ترد على خاطري.. وربما ترد على خواطر الكثير، وهي أن في الشكر حظا للمشكور.. وبما أن الله غني عن عباده غنى مطلقا، فكيف يطلب منا أن نشكره، وكيف يعتبر الشكر مقاما من مقامات الوصول إليه؟

قال: تعالى الله عن الحظوظ.. فالله هو الغني الحميد، وكل ما نفعله ليس إلا لمصالحنا.. فالله الكريم الجواد الحكيم اللطيف بعباده، اقتضى جوده وحكمته أن يرتبا لطفه بعباده على أسباب من العبادة والسلوك.. وليس لله من ذلك شيء.

لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي يشير إلى ذلك:(يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضالٌ إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائعٌ إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ، فسألوني فأعطيت كل إنسانٍ مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)([41])

قلت: شبهة أخرى تعرض لي، كما تعرض لغيري.. ولست أدري الجواب فيها.. أنا أعلم أن كل ما نتعاطاه باختيارنا نعمة من نعم الله.. ‏فكيف نشكر نعمة بنعمة، وهل يمكن أن يشكر أحد نعمة بنعمة أخرى؟

قال: لقد خطر هذا الخاطر لداود وموسى ـ عليهما السلام ـ فقال كلا منهما لله: يا رب كيف أشكرك، وأنا لا ‏أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك؟ فأوحى الله تعالى إلى كل منهما: (إذا عرفت هذا فقد شكرتني)

***

ما وصل داود من حديثه معي إلى هذا الموضع حتى رأيت سلما من نور لم أكن أراه من قبل، فقلت من غير أن أشعر: ما أجمل هذا السلم.. وما أبهاه.. وما أعظم نوره!

قال: هل رأيته؟

قلت: أجل.. فما أجمله من سلم!

قال: ما دمت قد رأيته، فقد فتح لك – إذن – باب هذه الطبقة.. وقد أذن لك في أن ترقى هذا السلم لتصل إلى الطبقة الأخرى من هذا الجبل المقدس.

5 ـ الزهد

اقتربت من السلم، ورقيت درجاته إلى أن وصلت إلى أرض ممتلئة بالجمال والنور والصفاء.. ما سرت فيها قليلا حتى وجدت رجلا ممتلئا نورا، فسألته: من أنت؟

قال: أنا سمي ذلك الحصور الذي امتلأ رغبة عن الدنيا وشهواتها..

قلت: تقصد يحي ذلك الذي وصفه الله، فقال :{ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)} (آل عمران)

قال: أجل.. فيحي وزكريا والمسيح وكل الأنبياء وكل الأولياء لم ينالوا تلك المقامات العالية لولا زهدهم.

قلت: فما الزهد؟

قال: إنه الذي أمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال :{ فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131)} (طه)

وذكر همة أهله، فقال:{ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)} (الشورى)

وذكر مواقفهم من الأعراض الحادثة، فقال :{ ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23)} (الحديد)

قلت: لقد قرأت علي آيات من القرآن الكريم.. لكني لم أفهم ما الذي تقصده منها.

قال: لقد شرحها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله وفعله.. فقد كان أعظم داعية للزهد.. بل كان أعظم الزاهدين.. ففي الحديث أن رجلا أتى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول اللّه، دلّني على عمل، إذا أنا عملته، أحبّني اللّه، وأحبّني النّاس، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : (ازهد في الدّنيا يحبّك اللّه، وازهد فيما في أيدي النّاس، يحبّوك)([42]

وذكر صلى الله عليه وآله وسلم شعار أهله، فقال مرتجزا:

اللّهمّ لا عيش إلّا عيش الآخره      فاغفر للأنصار والمهاجره ([43])

 وعبر عن القانون الذي يحكم أهله، والقيم التي توجههم، فقال بعد أن قرأ قوله تعالى: { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} (التكاثر): (يقول ابن آدم: مالي، مالي.. وهل لك يا بن آدم من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت)([44]

وقال: (أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كلّ شيء ما خلا اللّه باطل)([45]

وعن ابن عمر قال: أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدّنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل)([46]

وعن جابر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مرّ بالسّوق، داخلا من بعض العالية والنّاس كنفته فمرّ بجدي أسكّ ميّت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثمّ قال: (أيّكم يحبّ أنّ هذا له بدرهم؟)، فقالوا: ما نحبّ أنّه لنا بشيء، وما نصنع به؟. قال: (أتحبّون أنّه لكم؟)، قالوا: واللّه لو كان حيّا، كان عيبا فيه، لأنّه أسكّ. فكيف وهو ميّت؟ فقال: (فو اللّه! للدّنيا أهون على اللّه من هذا عليكم)([47]

وهو الذي مثله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سلوكه ومواقفه، فقد عرضت عليه الدنيا بحليها وحللها، فأعرض عنها.. ففي الحديث: (لقد مات رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرّتين)([48]

قلت: لا زلت أحتاج منك حدودا حقيقية أو رسمية تبين لي حقيقته، وتفسر لي معناه.

قال([49]): الزهد مقام من مقامات الدين الشريفة.. والتي لا تنال الدرجات العليا إلا بارتقائها.

قلت: لقد تعودت من مشايخي الذين مررت عليهم، وسلكت على أيديهم، أن يذكروا لي عند كل مقام العلوم التي تحض عليه، والأحوال التي يجدها السالك عنده، والثمرات العملية التي يثمرها..

قال: وهكذا الزهد.. فهو ينتظم من علم وحال، وعمل .. فالعلم هو السبب في الحال، وهو يجرى مجرى المثمر، والعمل يجرى من الحال مجرى الثمرة.

قلت: فهلا وضحت لي العلم الذي يدعو إلى الزهد.

قال: لن تفهمه حتى تفهم الحال التي تسمى زهدا.

قلت: أنبدأ باللاحق قبل السابق، وبالمتأخر قبل المتقدم.

قال: إن توقف فهم المتقدم على المتأخر، والسابق على اللاحق، فلا حرج عليك أن تبدأ به.. بل عليك أن تبدأ به.

قلت: لا بأس .. فحدثني عن حال الزهد.

قال: حال الزهد هو عبارة عن انصراف رغبات النفس عن الشي‏ء إلى ما هو خير منه.. فكل من رغبت نفسه عن شي‏ء إلى غيره بمعاوضة وبيع وغيره فإنما عدل عنه لرغبته عنه.. وإنما عدل إلى غيره لرغبته في غيره، فحاله بالإضافة إلى المعدول عنه يسمى زهدا، وبالإضافة إلى المعدول إليه يسمى رغبة وحبا.

قلت: وعيت هذا.. أي أن الزهد يستدعى مرغوبا عنه، ومرغوبا فيه هو خير من المرغوب عنه.

قال: أجل بشرط واحد، وهو أن يكون المرغوب عنه أيضا مرغوبا فيه بوجه من الوجوه.. فمن رغب عما ليس مطلوبا في نفسه لا يسمى زاهدا .. فتارك الحجر والتراب وما أشبهه لا يسمى زاهدا.. وإنما يسمى زاهدا من ترك الدراهم والدنانير، لأن التراب والحجر ليسا في مظنة الرغبة .. وشرط المرغوب فيه أن يكون عنده خيرا من المرغوب عنه، حتى تغلب هذه الرغبة.

قلت: وعيت هذا.. وقد أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى عن يوسف عليه السلام: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20]، فقد وصف الله تعالى إخوة يوسف بالزهد فيه، إذ أرادوا بذلك أن يخلو لهم وجه أبيهم، وكان ذلك عندهم أحب إليهم من يوسف، فباعوه طمعا في العوض.

قال: أجل.. ولهذا فإن الزهد يشمل جميع الناس .. من زهد منهم في الدنيا، ومن زهد في الآخر.. فمن باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد في الدنيا.. وكل من باع الآخرة بالدنيا فهو أيضا زاهد، ولكن في الآخرة.

قلت: ما دام الأمر كذلك.. فلم خصصتم الزهد بالزهد في الدنيا؟

قال: هكذا جرى العرف، وإلا فإن الزاهد الحقيقي هو ذلك الذي باع آخرته بدنياه.. أما من آثر أخراه على أولاه، فهو أكثر الناس حرصا، وأعظمهم رغبة.

قلت: وعيت هذا.. والزهد بهذا الذي وصفت مراتب عديدة ودرجات كثيرة.

قال: أجل.. وأعلاها درجة، وأرفعها منزلة من رغب عن كل ما سوى الله تعالى، حتى الفردوس الأعلى، فلا يحب إلا الله، ولا يرغب إلا في القرب منه.. وبعده الذي يرغب في حظوظ الآخرة، ويقدمها على حظوظ الدنيا.. وبعده الذي يترك من حظوظ الدنيا البعض دون البعض، كالذي يترك المال دون الجاه، أو يترك التوسع في الأكل ولا يترك التجمل في الزينة.. وهكذا.

قلت: كيف يعتبر ذلك زاهدا، وقد آثر الفاني على الباقي.

قال: كما أن التوبة عن بعض المعاصي صحيحة.. فكذلك الزهد في بعض الحظوظ صحيح.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لأنه لا فرق بينهما سوى أن التوبة عبارة عن ترك المحظورات، والزهد عبارة عن ترك المباحات التي هي حظ النفس .. ولا يبعد أن يقدر على ترك بعض المباحات دون بعض، كما لا يبعد ذلك في المحظورات.

قلت: وعيت هذا، وأحسبني عرفت حقيقة حال الزهد.. فما العلم الذي يدعو إليه؟

قال: هو كعلم التاجر بأن العوض خير من المبيع فيرغب في العوض، ويسلم النقود التي امتلأ قلبه محبة لها..

قلت: هلا وضحت لي هذا.

قال: من عرف أن الدنيا مهما كانت جميلة وممتعة، فهي لا تختلف عن الثلج الموضوع في الشمس، والذي لا يزال في الذوبان إلى الانقراض.. وعرف أن الآخرة كالجوهر الذي لا فناء له.. فبقدر قوّة اليقين والمعرفة بالتفاوت بين الدنيا والآخرة، تقوى الرغبة في البيع والمعاملة حتى أن من قوي يقينه يبيع نفسه وماله، كما قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]، ثم بين أن صفقتهم رابحة، فقال: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 111]، فليس يحتاج من العلم في الزهد إلا إلى هذا القدر، وهو أن الآخرة خير وأبقى.

قلت: وعيت هذا.. فما الركن الثالث من أركان الزهد؟

قال: العمل الصادر عن حال الزهد.. فكما أن العمل الصادر من عقد البيع هو ترك المبيع، وإخراجه من اليد، وأخذ العوض، فكذلك الزهد يوجب ترك المزهود فيه بالكلية، وهي الدنيا بأسرها مع أسبابها، ومقدماتها، وعلائقها، فيخرج من القلب حبها، ويدخل حب الطاعات، ويخرج من العين واليد ما أخرجه من القلب، ويوظف على اليد والعين وسائر الجوارح وظائف الطاعات.

قلت: إن هذا يتنافى مع ما أرادت به الشريعة من عدم نسيان نصيبنا من الدنيا.. هل تراك نسيت قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]

قال: وهل تراك نسيت قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } [النساء: 66] ؟

قلت: ما تعني هذه الآية؟

قال: إنها تعني الزهد في كل شيء حتى في النفس.. فالزاهد هو الذي يسلمها له متى طلبها.

قلت: وإذا لم يطلبها.

قال: الزاهد هو الذي يعتبر كل شيء لله طلبه أو لم يطلبه.. ولذلك يقدمه راضيا مطمئنة به نفسه.

***

بقيت مدة مع يحي يحدثني عن الزهد وأركانه، ويرغبني فيه، وفي كيفية تنظيم حياتي على أساسه، حتى رأيت سلما من نور لم أكن أراه من قبل، فقلت من غير أن أشعر: ما أجمل هذا السلم.. وما أبهاه.. وما أعظم نوره!

قال: هل رأيته؟

قلت: أجل.. فما أجمله من سلم!

قال: ما دمت قد رأيته، فقد فتح لك – إذن – باب هذه الطبقة.. وقد أذن لك في أن ترقى هذا السلم لتصل إلى الطبقة الأخرى من هذا الجبل المقدس.

6 ـ التوكل

اقتربت من السلم، ورقيت درجاته إلى أن وصلت إلى أرض ممتلئة بالجمال والنور والصفاء.. ما سرت فيها قليلا حتى وجدت رجلا ممتلئا نورا، فسألته: من أنت؟

قال: أنا سمي ذلك الذي جعله الله نموذجا للتوكل العالي.

قلت: من تعني؟

قال: ذلك الذي وضع في المنجنيق ليرمى به إلى ما أضْرَم له أعداء الله من النار، فلم يتحرك قلبه، ولم ترتعد فرائصه، بل بقي كالطود الأشم لا تزعزعه الرياح، بل سرت السكينة من باطنه إلى ظاهره إلى ما حوله، فأطفأت ببرودتها وسلامها نار أعدائه.

قلت: تقصد إبراهيم الذي ذكره الله، فقال :{ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} (الأنبياء)

وذكر توكله، فقال :{ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)} (الشعراء)

قال: أجل.. فالتوكل منزل من منازل الدين، ومقام من مقامات الموقنين.. بل هو من معالى درجات المقربين.. ولذلك فإنه مقام كل الأنبياء والأولياء والورثة.

قلت: فحدثني عنه وعن حقيقته، فإني أرى الناس يختلفون فيه اختلافا شديدا..

قال: التوكل باب من أبواب الإيمان.. وهي جميعا لا تنتظم إلا بعلم، وحال، وعمل.

قلت: أعرف ذلك.. وأعرف أن العلم هو الأصل، وأن العمل هو الثمرة، وأن الحال هو المراد باسم التوكل.. فهل ستبدأ بتعريف السابق، أم تراك تبدأ باللاحق؟

قال: بل نبدأ بالسابق، نبدأ بالعلم، الذي هو أصل التوكل.

قلت: فما العلم الذي نصل به إلى حال التوكل.

قال: التوحيد، الذي يترجمه قولك: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. والإيمان بالقدرة التي يترجم عنها قولك: له الملك .. والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليه قولك: وله الحمد.. فمن قال (لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شي‏ء قدير)، تمّ له الإيمان الذي هو أصل التوكل.

رحت أصيح بهذه الكلمات، وأنا ممتلئ فرحا، وقلت: ها أنا الآن قد أصبحت متوكلا، فلم لم يظهر سلم النور الذي أرتقي به إلى المقام التالي.

ابتسم، وقال: لو كان الدين ينال باللسان وحده، لكان كل الناس أولياء وصديقين وشهداء..

قلت: فقد قلت تلك الكلمات بكل لطائفي، واستشعرها جميع وحداني، وأنا الآن أشعر بأن الله واحد.. وليس معه إله ثان.

ابتسم، وقال: وهذا الشعور وحده لا يكفي لتحقيق التوكل.. فعلم التوكل أعظم من ذلك.

قلت: هلا وضحت لي.

قال: للتوحيد أربع مراتب، فأولها: أن يقول الإنسان بلسانه لا إله إلا اللّه، وقلبه غافل عنه، أو منكر له، كتوحيد المنافقين.. والثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه، كما صدق به عموم المسلمين، وهو اعتقاد العوام.. والثالثة: أن يشاهد ذلك بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة، ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار.. والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحدا، وهي مشاهدة الصديقين، وهذا الذين نسميه هنا الفناء في التوحيد.

قلت: إن ما تقوله عجيب.. فكيف يتصور أن لا يشاهد إلا واحدا، وهو يشاهد السماء، والأرض، وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة، فكيف يكون الكثير واحدا؟

قال: كم من شخص يشاهد إنسانا ولا يخطر بباله كثرة أمعائه، وعروقه، وأطرافه، وتفصيل روحه، وجسده، وأعضائه.. بل لا يخطر على باله إلا أنه إنسان واحد.. ذلك أنه في حالة الاستغراق والاستهتار به مستغرق بواحد ليس فيه تفريق.

قلت: قد يصعب علي فهم هذا.. ولكن لا بأس حدثني عن التوحيد الذي يمكنني أن أتحقق بمقام التوكل.

قال: عندما ينكشف لقلبك انكشافا يقينيا أن لا فاعل إلا اللّه تعالى، وأن كل موجود من خلق، ورزق، وعطاء، ومنع، وحياة، وموت، وغنى، وفقر.. وغيرها بيد الله تعالى، وأنه المنفرد بإبداعه واختراعه، لا شريك له فيه.. إذا انكشف لك هذا لم تنظر إلى غيره، بل كان منه خوفك، وإليه رجاؤك، وبه ثقتك، وعليه اتكالك.. تحققت بعلم التوكل.

قلت: أنى ينكشف لي هذا.. وأنا أرى خروج الزرع ونباته ونمائه يعتمد على المطر، وعلى الغيم في نزول المطر، وعلى البرد في اجتماع الغيم، وعلى الريح في استواء السفينة وسيرها..

قال: فأغمض عينيك عن كل ذلك، لترى الله هو المدبر لكل شيء.. فلولاه لما كان الماء ولا الغيم ولا النبات.. ألم تسمع قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)} [الواقعة: 63، 64] .. ألم تسمع قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة: 68، 69] .. ألم تسمع قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ } [الواقعة: 71، 72]؟

قلت: بلى .. قد سمعت كل ذلك.

قال: من سمع كل ذلك بقلبه وروحه وكل لطائفه علم أن الريح هو الهواء، والهواء لا يتحرك بنفسه ما لم يحركه محرك، وكذلك محركه، وهكذا إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له، ولا هو متحرك في نفسه الله تعالى.

قلت: وعيت هذا.. لكن ما علاقته بالتوكل؟

قال: التفات العبد في النجاة إلى أي سبب من الأسباب يضاهي التفات من أخذ لتحز رقبته، فكتب الملك توقيعا بالعفو عنه وتخليته، فأخذ يشتغل بذكر الحبر والكاغد والقلم الذي به كتب التوقيع يقول: لو لا القلم لما تخلصت، فيرى نجاته من القلم لا من محرك القلم.. ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه، وإنما هو مسخر في يد الكاتب، لم يلتفت إليه، ولم يشكر إلا الكاتب.. بل ربما يدهشه فرح النجاة، وشكر الملك والكاتب، من أن يخطر بباله القلم، والحبر، والدواة. والشمس، والقمر، والنجوم، والمطر، والغيم، والأرض، وكل حيوان وجماد .. فكلها مسخرات في قبضة القدرة، كتسخير القلم في يد الكاتب.

قلت: وعيت هذا، ولكن كيف تريدني أن أرى الكل من الله تعالى، وأنا أرى أن هذا الإنسان يعطيك رزقك باختياره، فإن شاء أعطاك، وإن شاء قطع عنك .. وهذا الشخص هو الذي يحز رقبتك بسيفه، وهو قادر عليك، إن شاء حزّ رقبتك، وإن شاء عفا عنك، فكيف لا تخافه، وكيف لا ترجوه، وأمرك بيده، وأنت تشاهد ذلك ولا تشك فيه؟

قال: عباد الله المخلصين، الذين لا سلطان للشيطان عليهم شاهدوا بنور البصائر أن الكاتب مسخر مضطر، كما شاهد جميع الضعفاء كون القلم مسخرا، وعرفوا أن غلط الضعفاء في ذلك كغلط النملة لو كانت تدب على الورق، فترى رأس القلم يسود الورق! ولم يمتد بصرها إلى اليد والأصابع فضلا عن صاحب اليد، فغلطت وظنت أن القلم هو المسود للبياض، وذلك لقصور بصرها عن مجاوزة رأس القلم لضيق حدقتها.

 قلت: وعيت هذا.. ولكن كيف نجمع بين ما قلت وبين الشريعة التي تثبت الأفعال للعباد، فإن كان العبد فاعلا فكيف يكون اللّه تعالى فاعلا، وإن كان اللّه تعالى فاعلا فكيف يكون العبد فاعلا، ومفعول بين فاعلين غير مفهوم، بل غير معقول؟

قال: ألا يقال قتل الأمير فلانا، ويقال قتله الجلاد؟

قلت: بلى..

قال: إذا فهمت هذا أجبت عن سؤالك.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ذلك أن تلك العبارة تفيد أن الأمير قاتل بمعنى، والجلاد قاتل بمعنى آخر..

قلت: فكيف نقيس هذا على ما نحن فيه؟

قال: العبد فاعل بمعنى، واللّه عز وجل فاعل بمعنى آخر.. فمعنى كون اللّه تعالى فاعلا أنه المخترع الموجد. ومعنى كون العبد فاعلا أنه المحل الذي خلق فيه القدرة؛ بعد أن خلق فيه الإرادة بعد أن خلق فيه العلم فارتبطت القدرة بالإرادة، والحركة بالقدرة ارتباط الشرط بالمشروط، وارتبط بقدرة اللّه ارتباط المعلول بالعلة، وارتباط المخترع بالمخترع.

ومثال ذلك قوله تعالى في الموت: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]، ثم قال عز وجل:‏ {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } [الزمر: 42] .. وقال تعالى‏:  {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] أضاف ذلك إلينا، ثم قال تعالى:‏ {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا } [عبس: 25 – 28]

وهكذا قال الله تعالى:‏ {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14]، فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه، والتعذيب هو عين القتل.. بل صرح، فقال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } [الأنفال: 17] ، وقال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] وهو جمع بين النفي والإثبات ظاهرا، ولكن معناه وما رميت بالمعنى الذي يكون الرب به راميا إذ رميت بالمعنى الذي يكون العبد به راميا.

قلت: وعيت هذا.. فما حال التوكل؟

قال: إن ثبت في نفسك بقين صادق أنه لا فاعل إلا الله تعالى، واعتقدت مع ذلك تمام العلم والقدرة على كفاية العباد، ثم تمام العطف والعناية والرحمة بجملة العباد والآحاد، وأنه ليس وراء منتهى قدرته قدرة، ولا وراء منتهى علمه علم، ولا وراء منتهى عنايته بك ورحمته لك عناية ورحمة، اتكل لا محالة قلبك عليه وحده، ولم يلتفت إلى غيره بوجه، ولا إلى نفسه وحوله وقوته، فإنه لا حول ولا قوة إلا باللّه.

قلت: فإن لم أجد هذه الحال؟

قال: يبحث عن أسباب ذلك..

قلت: فما تراها؟

قال: ذلك يعود لأحد علتين: إما ضعف اليقين بالعلوم التي يقتضيها التوكل.. وإما ضعف القلب ومرضه باستيلاء الجبن عليه، وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة عليه. فإن القلب قد ينزعج تبعا للوهم، وطاعة له، عن غير نقصان في اليقين. فإنه لو كلف العاقل أن يبيت مع الميت في فراش، أو بيت، نفر طبعه عن ذلك، وإن كان متيقنا بكونه ميتا، وأنه جماد في الحال، وأن سنة اللّه تعالى مطردة بأنه لا يحشره الآن ولا يحييه وإن كان قادرا عليه.. وذلك جبن في القلب، وهو نوع ضعف قلما يخلو الإنسان عن شي‏ء منه وإن قلّ، وقد يقوى فيصير مرضا.

قلت: وعيت هذا.. فما مراتب المتوكلين في هذا؟

قال: مراتب التوكل لا تحصى.. ولكن يمكن تقسيم مجامعها الكبرى إلى ثلاث.

قلت: فما المرتبة الأولى؟

قال: أن يكون حاله في حق اللّه تعالى، والثقة بكفالته وعنايته، كحاله في الثقة بالوكيل الذي توفرت له جميع القدرات.

قلت: وما الثانية؟

قال: أن يكون حاله مع اللّه تعالى كحال الطفل مع أمه. فإنه لا يعرف غيرها، ولا يفزع إلى أحد سواها، ولا يعتمد إلا إياها. فإذا رآها تعلق في كل حال بها، ولم يخلها. وإن نابه أمر في غيبتها كان أول سابق إلى لسانه يا أماه، وأول خاطر يخطر على قلبه أمه، فإنها مفزعه. فإنه قد وثق بكفالتها، وكفايتها، وشفقتها.. فمن كان باله إلى اللّه عز وجل، ونظره إليه، واعتماده، عليه، كلف به كما يكلف الصبي بأمه، فيكون متوكلا حقا. فإن الطفل متوكل على أمه. والفرق بين هذا وبين الأول أن هذا متوكل وقد فني في توكله عن توكله، إذ ليس يلتفت قلبه إلى التوكل وحقيقته‏، بل إلى المتوكل عليه فقط، فلا مجال في قلبه لغير المتوكل عليه. وأما الأول فيتوكل بالتكلف والكسب. وليس فانيا عن توكله، لأن له التفاتا إلى توكله وشعورا به، وذلك شغل صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده.

قلت: وعيت هذا.. فما المرتبة الثالثة؟

قال: أن يكون بين يدي اللّه تعالى في حركاته وسكناته مثل الميت بين يدي الغاسل، لا يفارقه إلا في أنه يرى نفسه ميتا تحركه القدرة الأزلية كما تحرك يد الغاسل الميت.. وهو الذي قوى يقينه بأنه سبحانه وتعالى مجرى للحركة، والقدرة، والإرادة، والعلم، وسائر الصفات.. وهو مثل الصبي الذي علم أنه وإن لم يزعق بأمه فالأم تطلبه، وأنه وإن لم يتعلق بذيل أمه فالأم تحمله، وإن لم يسألها اللبن فالأم تفاتحه وتسقيه.

قلت: وعيت هذا.. فما الأعمال التي يقتضيها التوكل؟

قال: لكل درجة من درجات التوكل ثمراتها الخاصة بها..

قلت: فهل درجة التوكل العليا، والتي يتحول فيها المتوكل بين يدي ربه كالميت بين يدي الغسال، تقتضي السكون المطلق وعدم العمل أو الحركة.

قال: لا.. ذلك حرام في الشرع.. وقد روي أن بعض الزهاد فارق الأمصار وأقام في سفح جبل سبعا، وقال: لا أسأل أحدا شيئا حتى يأتيني ربي برزقي، فقعد سبعا، فكاد يموت ولم يأته رزق. فقال: يا رب إن أحييتنى فأتني برزقي الذي قسمت لي، وإلا فاقبضنى إليك. فأوحى اللّه جل ذكره إليه. وعزتي لا رزقتك حتى تدخل الأمصار وتقعد بين الناس.. فدخل المصر وقعد، فجاء هذا بطعام، وهذا بشراب، فأكل وشرب، وأوجس في نفسه من ذلك، فأوحى اللّه تعالى إليه: أردت أن تذهب حكمتى بزهدك في الدنيا. أما علمت أنى أن أرزق عبدي بأيدي عبادي أحب إلى من أن أرزقه بيد قدرتى.

***

بقيت مدة مع إبراهيم يحدثني عن التوكل، ويدربني عليه إلى أن رأيت سلما من نور لم أكن أراه من قبل، فقلت من غير أن أشعر: ما أجمل هذا السلم.. وما أبهاه.. وما أعظم نوره!

قال: هل رأيته؟

قلت: أجل.. فما أجمله من سلم!

قال: ما دمت قد رأيته، فقد فتح لك – إذن – باب هذه الطبقة.. وقد أذن لك في أن ترقى هذا السلم لتصل إلى الطبقة الأخرى من هذا الجبل المقدس.

7 ـ المحبة

اقتربت من السلم، ورقيت درجاته إلى أن وصلت إلى أرض ممتلئة بالجمال والنور والصفاء.. ما سرت فيها قليلا حتى وجدت رجلا ممتلئا نورا، فسألته: من أنت؟

قال: أنا سمي ذلك الذي كان يردد كل حين: (أسألك حبّك وحبّ من يحبّك، وحبّ عمل يقرّب إلى حبّك)([50]

قلت: تقصد محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ..

قال: أجل.. فكما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أشرف المرسلين، وسيد الخلق أجمعين.. فإن محبة الله هي الغاية القصوى من المقامات، والذروة العليا من الدرجات فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة، من ثمارها، وتابع من توابعها، ولا قبل المحبة، مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها.

قلت: ألهذا كان هذا المقام في قمة هذا الجبل؟

قال: أجل.. فمن لم يصل إلى هذا المقام لا يمكنه أن يعرج إلى سماء الحقائق.. فالحقائق عزيزة، ولا ينالها إلا من باعوا قلوبهم لله، فلم يسكن فيها غيره.

قلت: لقد سمعت بعض الصالحين يقول: (إن من خلق اللّه خلقا ما يشغلهم الجنان وما فيها من النعيم عنه؛ فكيف يشتغلون عنه بالدنيا)

قال: صدق.. فالمؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه، وإذا أحبه أقبل إليه، وإذا وجد حلاوة الإقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة، ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة، وهي تحسره في الدنيا وتروحه في الآخرة.

قلت: فحدثني عن حقيقة الحب.. وكيف أعرج بقلبي إلى مقامه السامي.

قال: لن تعرف حقيقة الحب حتى تعرف حقيقة الجمال والكمال الذي يتوجه إليه الحب.

قلت: فما حقيقة الجمال والكمال؟

قال: لن تعرفها حتى تطهر قلبك وعقلك من تلك الكثافة التي تجعلك محبوسا في قمقم الحس.. فتكون كذلك المسجون الذي لا يرى للحسن والجمال معنى إلا تناسب الخلقة والشكل، وحسن اللون، وكون البياض مشربا بالحمرة، وامتداد القامة.

قلت: فكيف أتخلص من هذا؟

قال: عندما تدرك أن جمال كل شي‏ء وحسنه في أن يحضر كماله اللائق به، الممكن له.. فإذا كان جميع كمالاته الممكنة حاضرة فهو في غاية الجمال، وإن كان الحاضر بعضها فله من الحسن والجمال بقدر ما حضر.

قلت: لم أفهم ما تقصد.. فهلا شرحت لي.

قال: الفرس الحسن هو الذي جمع كل ما يليق بالفرس من هيئة وشكل، ولون، وحسن عدو، وتيسر كرّ وفرّ عليه.. والخط الحسن هو كل ما جمع ما يليق بالخط من تناسب الحروف، وتوازيها واستقامة ترتيبها وحسن انتظامها..

قلت: هذه الأشياء التي ذكرتها لا تنفك عن إدراك الحواس لها.. وإنما ينكر ذلك في غير المدرك بالحواس.

قال: الحسن والجمال ليس قاصرا على المحسوسات.. ألا ترى أنك تقول: هذا علم حسن، وهذه سيرة حسنة، وهذه أخلاق جميلة، وإنما الأخلاق الجميلة.

قلت: بلى..

قال: ألا ترى أن العلم، والعقل، والعفة، والشجاعة، والتقوى، والكرم، والمروءة، وسائر خلال الخير، لا تدرك بالحواس، ومع ذلك فإن الموصوف بها محبوب بالطبع عند من عرف صفاته؟

قلت: بلى.. ولذلك نرى الطباع مجبولة على حب الأنبياء والأولياء ممن اتصفوا بهذه الصفات العظيمة.

قال: ألا ترى أن البشر مع بعد المسافة بينهم وبين من يعظمونهم من الناس لا يزالون يمتلئون محبة وتقديسا لهم، مع أنهم لم يروا أجسادهم ولا صورهم؟

قلت: بلى.. فقد كفتهم صورتهم الباطنة عن صورتهم الظاهرة.

قال: فالمحبوب إذن هو تلك السير الجميلة، والأخلاق الحميدة، والفضائل الشريفة.

قلت: أجل .. ذلك صحيح.

قال: إذا عرف العبد هذا.. وتخلص من سجون الكثافة، وقيود البصر.. يمكنه أن يعرج في معراج محبة الله.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ما مرجع كل ما ذكرته من صفات الجمال الباطني؟

قلت: عند تحليل كل ما ذكرته من صفات يمكن إرجاعها إلى العلم والقدرة والتنزه عن العيوب والنقائص..

قال: فأين علم الأولين والآخرين من علم اللّه تعالى الذي يحيط بالكل إحاطة خارجة عن النهاية، حتى لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض.. بل لو اجتمع أهل الأرض والسماء على أن يحيطوا بعلمه وحكمته في تفصيل خلق نملة أو بعوضة لم يطلعوا على عشر عشير ذلك، ولا يحيطون بشي‏ء من علمه إلا بما شاء.

فإن كان جمال العلم وشرفه أمرا محبوبا، وكان هو في نفسه زينة وكمالا للموصف به، فلا ينبغي أن يحب بهذا السبب إلا الله تعالى. فعلوم العلماء جهل بالإضافة إلى علمه..

قلت: والقدرة؟

قال: يستحيل أن يحب عبدا من عباد اللّه تعالى لقدرته، وسياسته، وتمكينه، واستيلائه، وكمال قوته، ولا يحب اللّه تعالى لذلك، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، فهو الجبار القاهر، والعليم القادر، السموات مطويات بيمينه، والأرض وملكها وما عليها في قبضته، وناصية جميع المخلوقات في قبضة قدرته، إن أهلكهم من عند آخرهم لم ينقص من سلطانه وملكه ذرة، وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعي بخلقها، ولا يمسه لغوب ولا فتور في اختراعها، فلا قدرة ولا قادر إلا وهو أثر من آثار قدرته، فله الجمال والبهاء، والعظمة والكبرياء، والقهر والاستيلاء فإن كان يتصور أن يحب قادر لكمال قدرته فلا يستحق الحب بكمال القدرة سواه أصلا.

قلت: وصفة التنزه عن العيوب والنقائص، والتقدس عن الرذائل والخبائث؟

قال: لا يتصور كمال التقدس والتنزه إلا للواحد الحق الملك القدوس، ذى الجلال والإكرام.. وأما كل مخلوق فلا يخلو عن نقص .. بل كونه عاجزا، مخلوقا، مسخرا، مضطرا، هو عين العيب والنقص، فالكمال للَّه وحده‏، و ليس لغيره كمال إلا بقدر ما أعطاه الله، وليس في المقدور أن ينعم بمنتهى الكمال على غيره فإن منتهى الكمال أقل درجاته أن لا يكون عبدا مسخرا لغيره، قائما بغيره، وذلك محال في حق غيره، فهو المنفرد بالكمال، المنزه عن النقص، المقدس عن العيوب.

قلت: فقد بان بذلك أن صاحب الجمال والكمال المطلق هو الله تعالى.

قال:  الجميل المطلق هو الواحد الذي لا ندّ له، الفرد الذي لا ضدّ له، الصمد الذي لا منازع له، الغني الذي لا حاجة له، القادر الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه، العالم الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات والأرض، القاهر الذي لا يخرج عن قبضة قدرته أعناق الجبابرة، ولا ينفلت من سطوته وبطشه رقاب القياصرة، الأزلي الذي لا أول لوجوده، الأبدي الذي لا آخر لبقائه، الضروري الوجود الذي لا يحوم إمكان العدم حول حضرته، القيوم الذي يقوم بنفسه ويقوم كل موجود به، جبار السموات والأرض، خالق الجماد والحيوان والنبات، المنفرد بالعزة والجبروت، المتوحد بالملك والملكوت، ذو الفضل والجلال، والبهاء والجمال، والقدرة والكمال، الذي تتحير في معرفة جلاله العقول، وتخرس في وصفه الألسنة، الذي كمال معرفة العارفين الاعتراف بالعجز عن معرفته، ومنتهى نبوة الأنبياء الإقرار بالقصور عن وصفه.

قلت: فكيف احتجب كل هذا الجمال عن بصائر الغافلين.. وكيف تاه الخلق في الحب المدنس، وفروا من الحب المدنس؟

قال: سبحان من احتجب عن بصائر العميان غيرة على جماله وجلاله أن يطلع عليه إلا من سبقت له منه الحسني، الذين هم عن نار الحجاب مبعدون، وترك الخاسرين في ظلمات العمى يتيهون وفي مسارح المحسوسات وشهوات البهائم يترددون، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.

بقيت مدة في صحبة محمد يعلمني المحبة وأسرارها، ويشوقني إلى معانيها السامية إلى أن لاح لي سلم نوراني لا يمكن وصفه عرج بي إلى عوالم لا يمكن أن يسطر وصفها في كتاب، فقد وضع بينها وبين الحروف والأصوات كل أنواع الحجاب.


([1]) نحب أن نشير هنا إلى أنا ذكرنا بعض المقامات المذكورة في هذا الفصل في رسالة (النبي الهادي)، فصل (المربي) عند بيان وظيفة التربية.. وسنذكرها هنا لغرض آخر، وبأسلوب آخر، وقد يتفق بعض ما ذكرنا هنا مع ما ذكرنا هناك، وليس ذلك من باب التكرار، ولكن لكل غرضه.

([2]) رواه البخارى، ومسلم.

([3]) لا يغلّ: لا يغلّ عليه قلب مؤمن أي لا يكون معها في قلبه غش وزغل ونفاق ولكن يكون معها الإخلاص في ذات اللّه- عز وجل- وهو في الإغلال بمعنى الخيانة ويروى يغلّ من الغلّ وهو الحقد.

([4]) رواه أحمد والبزار وابن ماجة.

([5]) رواه الترمذي وحسنه.

([6]) استفدنا المعاني الواردة هنا في حقيقة الإخلاص وغيرها من (كتاب النية والإخلاص والصدق)، وهو الكتاب السابع من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين بالتصرف الذي ألفناه في هذه السلسلة.

([7]) رواه مسلم.

([8]) رواه البخاري ومسلم.

([9]) رواه البخاري ومسلم.

([10]) رواه النسائي والبيهقي.

([11]) رواه البخاري ومسلم.

([12]) رواه البخاري ومسلم.

([13]) رواه أحمد بن منيع.

([14]) رواه أحمد.

([15]) رواه أحمد، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والدارمي، الحاكم وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

([16]) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب السنة والحاكم نحوه من رواية طاوس مرسلا.

([17]) رواه البزار.

([18]) رواه أحمد وابن خزيمة في صحيحه.

([19]) رواه البخاري ومسلم.

([20]) رواه أبو نعيم.

([21]) رواه مسلم.

([22]) هذا الوصف لمنزلة الصدق مقتبس من كلام جميل لابن القيم في (مدارج السالكين)، وننبه إلى أن تناولنا هذا المقام في رسالة (النبي الهادي) بأسلوب مختلف، ولغرض مختلف.

([23]) رواه البخاري ومسلم.

([24])  الكلام الوارد هنا مقتبس من إحياء علوم الدين، وغيره من كتب الأخلاق والسلوك.

([25])  رواه البخاري ومسلم.

([26])  رواه البخاري ومسلم.

([27])  رواه الترمذي وقال حسن صحيح والنسائي في الكبرى وهو عند البخاري مختصرا.

([28])  رواه الترمذي.

([29])  رواه أبو نعيم والخطيب.

([30])  رواه الترمذي.

([31])  رواه البخاري ومسلم.

([32])   رواه الترمذي.

([33])   رواه أحمد والترمذي وأبو داود والحاكم.

([34])   رواه الطبراني في الأوسط.

([35])   رواه ابن أبي الدنيا بإسناد لا بأس به.

([36])   رواه الترمذي وحسنه والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه وابن حبان.

([37])   رواه مسلم.

([38])   رواه مسلم.

([39])   رواه البخاري ومسلم.

([40])   رواه البخاري ومسلم.

([41])   رواه مسلم.

([42]) رواه ابن ماجة.

([43]) رواه البخاري ومسلم.

([44]) رواه مسلم.

([45]) رواه البخاري ومسلم.

([46]) رواه البخاري.

([47]) رواه مسلم.

([48]) رواه مسلم والترمذي.

([49])   اقتبسنا الكثير من المادة المرتبطة بهذا من كتاب الفقر والزهد من جملة كتب إحياء علوم الدين بتصرف.

([50]) الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *