ثانيا ـ حصن الأمل

ثانيا ـ حصن الأمل

دخلنا الحصن الثاني من حصون الروح.. وقد كانت تفوح منه روائح عطرة تنشرح لها الصدور.. وتشع من جنباته أنوار تسر لها العين، ويبتهج لها القلب.

وقد شد انتباهي في هذا الحصن وجود مرضى فيه، وهو ما لم أره في القسم السابق، ولكنهم مرضى، لا كالمرضى.. يجلسون مسترخين ـ كما نسترخي أمام شواطئ البحار ـ ولكن البحار التي كانوا ينظرون إليها، والتي كان نسيمها يهب عليهم لم تكن كالبحار.. كان كل شيء ليس ككل شيء.

قلت: ما هذا القسم يا معلم؟

قال: هذا حصن الأمل.

قلت: فهل ينتظر هؤلاء المرضى دورهم في العلاج؟.. إني لا أرى الضيق في وجوههم كما أراه في عيون المرضى الذين ينتظرون في قاعات الانتظار عندنا.

قال: هؤلاء يتنعمون بانتظارهم.

قلت: يتنعمون!؟.. لم أعلم إلا أن الانتظار ضيق للصدر، وقتل للوقت، فكيف يكون نعمة؟

قال: انتظاركم ضيق للصدر وقتل للوقت، أما انتظار أهل السلام فهو عمل وعبادة وقرب.. وهو لذلك روح من روح الجنة، وعطر من عطرها.

بينما أنا كذلك سمعت صوتا جميلا مادت لجماله أجساد المرضى المسترخين، وكان ينشد:

إذا ضاق أمر فانتظر فرجا

  فأصعب الأمرأدناه من الفرج

فلما سكت هب صوت آخر يردد بلحن عذب:

كن عن أمورك معرضا

  وكل الأمور إلى القضا

فلربما اتسع المضيق:

  وربما ضاق الفضا

ولرب أمر متعب

  لك في عواقبه رضا

الله يفعل ما يشاء

  فلا تكن متعرضا

الله عودك الجميل

  فقس على ما قد مضى

فلما سكت هب صوت ثالث يردد بلحن عذب:

رب أمر ضاقت النفس
به
  جاءها من قِبَل الله فرج

لا تكن في وجه روح آيسا

  ربما قد فرجت تلك الرتج

بينما المرء كئيب دنف

  جاءه الله بروح وفرج

قلت: أهذا مجلس إنشاد.. أم مجلس علاج؟

قال: في هذا القسم يعالج المرضى بكل المراهم.. كل ما يزيد في أملهم في الله، وفي تحقيق مرادهم يذكر هنا.

قلت: ولكن هؤلاء بجلوسهم هذا واسترخائهم وقعودهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويضيعون ما أمر الله به أن يؤدى، ألم يعرفوا أن وظيفة الإنسان في الحياة هي عبادة الله؟

قال: بلى.. وهم يعبدون الله في استرخائهم، كما يعبدون الله بقيامهم.

قلت: لم أعلم أن هناك عبادة تسمى الاسترخاء.

قال: ألم تقرأ قوله تعالى:{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آل عمران:191)

قلت: بلى.. فالله يثني على هؤلاء خير ثناء.

قال: فإن العابد لله حقا من لا يغفل عن عبادته في كل محل.. فالله لا يعبد فقط بالقيام.

قلت: نعم.. هو يعبد بالركوع والسجود.

قال: وبالاسترخاء والقعود والانتظار كما ينتظر هؤلاء المرضى.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج)([1])، فقد اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم انتظار الفرج عبادة، وما الانتظار إلا جلوس لا يختلف عن هذا الجلوس.

قلت: ولكن ما سر اعتبار هذا الانتظار عبادة.. بل أفضل عبادة؟

قال: لأن القصد من العبادة هو خلاص القلب من كل الشوائب، وقطعه لكل العلائق..  أيمكن للشخص أن يصلي، وهو يحادث صاحبه؟

قلت: لا.. إن الصلاة يبطلها هذا الشغل وغيره.. فهي أفعال تتنافى مع روح الصلاة.

قال: فكذلك العبد إذا خلص قلبه لله منتظرا فرجه.. فهو في ذلك الحال لا ينظر إلا لله.. ولا ينتظر إلا من الله.

قلت: عرفت كونه عبادة.. ولكن كيف يكون أفضل العبادة؟

قال: لأنك في الصلاة قد تغفل عن صلاتك.. قد لا تحدث صاحبك، ولكنك تحادث نفسك وتمازحها.. ولكن القلب المتعلق بالله قلب عارف.. لا يغفل عن الله لحظة.. وأنت في الصلاة قد تشوب صلاتك بنوازع الشرك.. بينما في هذا الانتظار لا تحدثك نفسك بأي رياء أو مسمعة.. وأنت في الصلاة..

قلت: فهمت هذا يا معلم.. وقد عرفت سر تفضل الله على عباده الصالحين بقطع العلائق عنهم.

قال: لقد ورد في بعض الكتب الإلهية: (لأقطعن أمل من أمل سواي وألبسه ثوب المذلة بين الناس، أتقرع بالفقر باب غيري وبابي خير لك؟)

قلت: هذا صحيح، فإن كل أمل في غير الله يأس، وكل رجاء في غيره طمع، وكل استعانة بغيره خذلان.

قال: ولهذا لم تجد خبرتكم الطبية العظيمة، ولا مستشفياتكم الضخمة، ولا جيوشكم الهائلة من الأطباء في دحر جيش اليأس القاتل الذي يدفع أعدادا هائلة منكم إلى الانتحار.

قلت: هذا صحيح.. ولكن ما عسى الأطباء أن يفعلوا.. لقد استعملوا كل قواهم العقلية.

قال: فلم لا يبعثونهم إلى هذا المستشفى؟

ضحكت، وقلت: ومن يسمع بهذا المستشفى.. إنني أقف فيه.. ولكن لا أعلم عنه شيئا.. ففي أي مكان هو؟.. لعلي أفلح في إقناعهم بالإرشاد إليه.

قال: هو في كل مكان..

قلت: ولكنا لا نراه..

قال: لأنكم لا تبصرون..

قلت: نحن نبصر.. بل نزيد في قوة أبصارنا كل يوم بما نخترعه من ألوان العدسات المكبرة.. فنحن نرى المجرات كما نرى دقائق الميكروبات.

قال: أنتم تبصرون بأبصاركم، ولا تبصرون ببصائركم.. فلذلك تعشى عيونكم عن رؤية مثل هذه الأدوية.

بينما أنا كذلك إذ سمعت صوتا عذبا تميد له قلوب الجالسين يردد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة، فإذا سألت، فسل الله، وإذا استعنت، فاستعن بالله، جف القلم بما كان وما هو كائن، فلو جهد العباد أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عز وجل لك، لم يقدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل لله بالصدق واليقين، فافعل، فإن لم تستطع، فإن في الصبر على ما تكره، خيراً كثيراً، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)([2])

قلت: الله !.. لكأني أسمع هذا الحديث لأول مرة.. ما أحسن قراءة هذا الصوت لهذا الحديث.

قال: هذا صوت القلب..

قلت: أليس هذا صوتا للسان؟

قال: هو صوت اللسان النابع من القلب.

قلت: لقد رأيت هؤلاء المسترخين يميدون كما تميد السنابل تحركها الأعاصير.

قال: أرواحهم تبع لأجسادهم.. ومن يسمع مثل هذا ولا يميد!؟.. أتعلم لمن قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحديث؟

قلت: بلى.. لقد قاله لابن عباس .

قال: فأي شيخ هو؟

قلت ضاحكا: شيخ.. لا.. لقد كان غلاما صغيرا.

قال: أرأيت كيف يربي صلى الله عليه وآله وسلم الأمل في الله في قلوب الأطفال.. سمعت أنكم تلقحون صبيانكم في صغرهم لتحفظوهم من شرور الأوبئة.

قلت: بلى، فنحن نلقحهم ضد السِلِّ والتيتانس، وشلل الأطفال، والجدري، والشاهوق، والحميراء، والخناق.. وقد نلقحهم في حال الضرورة ضد التهاب السحايا، والكوليرا، والتيفوئيد، والحمَّى الصفراء، والكَلَب..

قال: فلا تنسوا أن تضيفوا هذا اللقاح.

قلت: أي لقاح؟

قال: لقاح الأمل في الله.. وفي حفظ الله.. وفي فرج الله.. فهذا اللقاح هو الذي يقي أرواحهم من فيروسات اليأس القاتلة.

قلت: فهمت كل هذا ـ يا معلم ـ ولكني لا أعرف أن مثل هذا يمكن اعتباره علاجا؟

قال: لم؟

قلت: لأن العلاج هو الذي يقضي على المرض، أما هذا، فلا يفعل شيئا.. بل المرض هو المرض.

قال: فهل جميع أدويتكم تقضي على الأمراض؟

قلت: منها ما يقضي، ومنها ما يخدر.

قال: أفلا تلجأون إلى هذا النوع من الأدوية المخدرة في كثير من الأمراض؟

قلت: بلى.. نلجأ إليها.. بل لا تكاد تخلو وصفة منها.

قال: فاعتبروا هذا من ذاك.

قلت: ولكني أعتبر هذا نوعا من الكذب على النفس.. وكأني أقول لها: لقد شفيت، مع أن الطعنات التي يواجهها بها المرض لا تزال تنخر قواها.

قال: لا.. ليس هذا من الكذب.. بل هو من سياسة النفس.

قلت: ما معنى هذا؟

قال: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل، فإن ذلك لا يرد شيئا، وهو يطيب بنفس المريض)([3])

قلت: بلى..

قال: فقد شرع صلى الله عليه وآله وسلم في عيادة المريض أن ننفس عنه، ونبسط له جناح الأمل، فالأمل وحده سعادة، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل([4]).

قلت: ولكن الجسد ـ مع ذلك ـ يبقى عليلا، فهو كالتبن الذي يخفي النار التي تلتهمه.

قال: والأمل هو الماء الذي يطفئ تلك النار، فلذلك قد يكون فيه من القوة بحيث يستطيع القضاء على المرض..

قلت: إذن دور هو القسم من أقسام المستشفى هو البحث عن كل ما يشرح صدر المريض من الأعشاب والأغذية.

قال: لا.. ليس هذا فقط.. وهذا ميدان أطباء هذا القسم من المختصين.. ولكن هناك شيء آخر، وهو أهم من تلك الأدوية.

قلت: أهم من تلك الأدوية!؟

قال: أجل.. فتلك الأدوية قد يفلح مفعولها، وقد لا يفلح.. بينما هذه الأدوية التي سنزور أقسامها لا شك في جدواها.

قلت: فما هو منبع هذه الأدوية؟

قال: حسن الظن بالله.

قلت: لم كان حسن الظن منبع الأمل؟

قال: لأنه يجعل القلب متوجها لخير الله منتظرا فضله، والله عند ظن عبده، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في الأثر الإلهي: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني)([5])

***

 سمعت أصواتا جميلة تترنم بلحن، لست أدري هل كان من السماء أم من الأرض، تقول:

أحسن الظن برب عودك

  حسنا أمس وسوى أودك

إن ربا كان يكفيك الذي

  كان بالأمس سيكفيك غدك

قلت: الله ! ما هذا لصوت الجميل.. ومن أين يصدر.. لا أرى مذياعا هنا.. ولا آلة تسجيل.

قال: أصوات البصائر لا تحتاج إلى الآلات.

قلت: فمن لحن هذا اللحن؟

قال: ألحان القلوب لا تحتاج إلى ملحنين، فهي عذبة بذاتها.

قلت: فلم كان حسن الظن بالله منبع انتظار الفرج وأساسه؟

قال: لأن الشعور بقرب الله ورحمته، والتفكر في فضله ورأفته، يجر إلى إحسان الظن به، وإحسان الظن به، سبيل للاستعانة به.. فلا يمكن أن تستعين بمن تشك في فضله أو قدرته.

بينما أنا كذلك إذ رأيت شخصا يربت على كتفي، لعله أول شخص ينتبه لي في هذا المستشفى، فالكل كان غارقا في توحده، قال لي: (استعمل في كل بلية تطرقك حسن الظن بالله عز وجل، في كشفها، فإن ذلك أقرب بك إلى الفرج)، ثم مضى.. لا يهتم بردي.. ولا ينتظر سؤالي.

بعدها سمعت صوتا جميلا.. لا يقل عن الصوت السابق جمالا يردد:

يا صاحب الهم إن الهم منفرج       أبشر  بخير  فإن   الفارج   اللهُ

إذا بليت فثق بالله وارض به         إن الذي يكشف البلوى هو اللهُ

اليأس يقطع أحيانا بصاحبه          لا   تيأسن  فإن   الفارج   اللهُ

الله يحدث بعد العسر ميسرة         لا   تجزعنّ  فإن   الكافي    اللهُ

والله ما لك غير الله من أحد        فحسبك  الله  في  كلّ  لك  اللهُ

قلت: الله.. ما أجمل هذه القصيدة.. كثيرا ما كنا نترنم بها.. ولكني أسمعها بلحن لم أسمعه من قبل..

قال: هذه ألحان القلوب كما قلت لك.

قلت: لقد اكتفى الشاعر بذكر أوصاف الله ليغرس الأمل في القلوب.

قال: حسن الظن بالله يستدعي التعرف على الله، فلا يمكن أن تحسن الظن بمن لا تعرفه.

قلت: هذا صحيح، فالمريض المتألم لا يرتاح إلا إذا وصف له الطبيب الخبير النطاسي، والسائل المحتاج لا يطمع إلا إذا أخبر عن الغني الكريم.

قال: وهكذا، فإن المتألم لا يشعر بالأمل فيما عند الله إلا بمعرفته.

قلت: ولكن معرفة الله بحر لا ساحل له.

قال:  ولهذا سنكتفي ـ هنا ـ بالاغتراف من بعض أسماء الله الحسنى التي ورد التنصيص عليها، والتي تدل على قدرة الله التي لا يعجزها شيء، وعلى فضله العظيم الذي لا يحده شيء.

قلت: تعني أن حسن الظن يعتمد على معرفة القدرة والفضل.

قال: أجل.. فقد يكون العاجز كريما.. فيقف عجزه حائلا بينه وبين كرمه.. وقد يكون البخيل مالكا القدرة على التكرم عليك، ولكن بخله يحول بينه وبين ذلك.

قلت: ولهذ كان حسن الظن لا يكتمل إلا فيمن له القدرة المطلقة، والفضل العظيم.

قال: وليس ذلك إلا الله.

قلت: فكيف أتحقق بهذا؟

قال: بترتيل أسماء قدرته وفضله.

قلت: فهل لهذه الأسماء أقسام في هذا المستشفى؟

قال: أجل.. هلم بنا إليها.

القدرة المطلقة

دخلنا القسم الأول من أقسام حسن الظن بالله، وقد كتب على بابه ـ بحروف تحمل قوة عظيمة، ممزوجة بلطف عظيم ـ:{ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (آل عمران:40)

قلت للمعلم: لا شك أن هذا هو قسم القدرة المطلقة.

قال: أجل، وهو من الأقسام الهامة التي يحتاج المرضى اليائسون من المرور عليها.

قلت: لم؟.. وأي داء يعالجون؟

قال: أول ما ينفخه الشيطان من بذور اليأس في نفسك هو إخبارك باستحالة إصلاح ما حل بك، فلذلك كان علاج هذا الداء بقتل هذه البذور في مهدها قبل أن تنبت.

قلت: وما تنبت؟

قال: شجرة اليأس القاتل.

قلت: وكيف تقطع هذه الشجرة إن نبتت؟

قال: بدلالاتها على القادر الذي لا يستحيل معه شيء.

قلت: أالله؟

قال: وهل هناك قادر غيره.. فاعتقاد المؤمن بقدرة الله المطلقة، والتي لا يقف المستحيل أمامها تجعله يشعر باستناده إلى ركن عظيم، وهذا الشعور هو الذي يولد فيه الأمل من جهة، ويحضه على التوجه إلى الله من جهة أخرى، وفي كلا الأمرين يبتسم أنينه، وتنفرج أسارير قلبه.

***

 بينما كنت أستمع للمعلم رأيت رجلا يمر على المرضى، ويقول لهم: (اذكروا زكريا.. اذكروا زكريا)

قلت: أرغب هذا عن دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى دين زكريا u.. ما باله لا يدعوهم إلى ذكر الله.. ويدعوهم إلى ذكر زكريا؟

قال: ذكر زكريا هو ذكر لمحمد.. وذكرهم جميعا هو ذكر لله.. فلا يحجب أهل الله عن الله.. الصراع هو الذي تكون فيه الحجب.

قلت: أستغفر الله.. لكن لماذا خص زكريا u؟

قال: هو ينبههم إلى التدبر في قصة زكريا u عندما رأى مريم ـ عليها السلام ـ وعندها من رزق الله ما احتار في سببه، فقال لها:{ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَت هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران:37)

ففي ذلك الحين امنزج الشعوران لدى زكريا u: الشعور بقدرة الله المطلقة التي لا يقف في وجهها الزمن ولا المستحيل، والشعور بفضل الله العظيم، فهو يرزق من يشاء بغير حساب.

وعندما امتزج الشعوران توجه لله طالبا ما كان يتصوره مستحيلا يستحي أن يسأل الله تحقيقه، قال تعالى مؤرخا لتلك اللحظة التي كانت فتحا عظيما على زكريا u:{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (آل عمران:38)

قلت: حينها جاءته الملائكة ـ عليهم والسلام ـ بالبشارة، وبتحقيق الأمل الذي كان حبيس القلب، واستحيا اللسان من إبرازه، قال تعالى:{ فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران:39)

قال: وحينها ـ كذلك ـ انحلت عقدة لسان زكريا u متعجبا من هذا، لا منكرا له، فسأل الله عن كيفية ذلك كما سأله الخليل u من قبل عن كيفية إحياء الموتى، فرده الله إلى مشيئته المطلقة، قال تعالى:{ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ } (آل عمران:40)

قلت: وحينها أجابه الملك:{ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (آل عمران:40)

قال: أعرفت الآن لم كتبت هذه الآية في مدخل هذا القسم؟

قلت: أجل..

قال: ولهذا يملأ القرآن الكريم نفوسنا وضمائرنا بقدرة الله المطلقة، لنتوجه بكل كياننا إليه، فلا نعتقد أن هناك مستحيلا أمام الله، وأمام قدرة الله، قال تعالى:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} (فاطر:44)

***

مر رجل آخر على المرضى، وهو يقول لهم: (اذكروا السموات والأرض.. اذكروا العرش والكرسي)

قلت: لم يذكرهم بهذا؟

قال: لينبههم إلى قدرة الله المطلقة.

قلت: يا معلم، لم نرى القرآن الكريم يمتلئ بذكر السموات والأرض في مواضع الحديث عن القدرة؟

قال: لأن أكبر ما ترونه هو السموات والأرض، وهما ماهما.

قلت: يا معلم.. نحن نرى الأرض، ولكنا لا نرى إلا جزءا بسيطا من السماء.

قال: نعم.. أنتم لا ترون إلا جزءا بسيطا من السماء الدنيا، وهي لا تساوي شيئا أمام ملك الله الواسع.

قلت: لقد ورد في النصوص ذكر الكرسي، وهو خلق غير السموات والأرض، بل أخبر تعالى أنه أوسع منهما، قال تعالى:{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (البقرة:255)

قال: ومع ذلك، فإنه لا يساوي شيئا أمام العرش([6])، فعن أبي ذر الغفاري أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الكرسي، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة)([7])

قلت: ولكن الله مع ذلك يخاطب عباده بما تعيه عقولهم.

قال: ليقرب لهم الحقيقة التي لا يمكن تقريبها.. لأن تقريبها يؤدي إلى التشبيه، والله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى:11)

قلت: ولهذا يضرب الله تعالى المثل على قدرته بإمساك السموات والأرض وحفظهما، تقريبا لعظمة القدرة من القلوب، وإلا فإن قدرة الله لا نهاية لها، ولا حدود تحدها، ألم تسمع قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (فاطر:41)

قلت: لقد أخبر تعالى أنه لا يؤوده ولا يثقله حفظهما، قال تعالى:{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة:255)

وعندما افترى الغافلون من اليهود ما افتروا على الله من ركونه إلى الراحة بعد خلق السموات والأرض([8]) رد عليهم قائلا:{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} (قّ:38)

وعندما تعجب الغافلون من إمكانية إحياء الموتى بعد أن يصبحوا رمما بالية، رد عليهم الله تعالى بقوله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الروم:27)

قال: سبب ذلك أن هؤاء المتعجبين قارنوا قدرتهم بقدرة الله، وعلمهم بعلم الله، ونسوا أن ينظروا إلى أنفسهم ليروا الآيات العظيمة التي ينطوي عليها وجودهم، فلذلك نرى القرآن الكريم ينبه كثيرا إليها، قال تعالى:{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (يّـس:78)

ثم أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالرد عليهم بإعادة النظر إلى منشئها الأول، فقال تعالى:{ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يّـس:79)

أو بتقليب أطرافهم في السماء والأرض، قال تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الاحقاف:33)

والقرآن الكريم لا يسوق هذه التنبيهات لهؤلاء الغافلين وحدهم من اليهود والمنكرين للبعث، بل يسوقها لكل ضمير قد توسوس له خواطر السوء أن هناك شيئا ما من شئون الحياة قد يعجز الله، أو قد يستحيل على الله.

ولذلك يخبر تعالى أن الخلق ما قدروه حق قدره حين نسبوا العجز له في أي محال من المحال، قال تعالى:{ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:74)، وقال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } (الأنعام:91)

فلذلك يذكرهم بقدرته التي لا تحد، قال تعالى:{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر:67)

بل يقسم الله تعالى على قدرته التي لا تحد، ليؤكد هذا المعنى في الضمير المؤمن، قال تعالى:{ فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ((المعارج:40)

***

سرت مع معلم السلام في أرجاء هذا القسم، فرأيت بابا قد كتب عليه (باب معاينة مظاهر القدرة)

قلت للمعلم: هيا بنا ندخل إلى هذه القاعة ففيها معاينة مظاهر القدرة.

قال: أخاف أن لا تخرج منها.

قلت: لم؟

قال: كثير ممن دخل هذه القاعة وعاين بعض مظاهر قدرة الله لم يطق فراقها، فلم يخرج منها منذ دخلها.

قلت: لا تخف ـ يا معلم ـ فقد أخبرتك أني لا أسكن إلا لغاية الغايات وقدس الأقداس.

قال: فادخل، ولا تطل المكث، فالأقسام الأخرى في انتظارنا.

دخلت القاعة، وهي كقاعات السنما إلا بفارق بسيط هو أن السينما تنقل الصور إلى العيون، أما هذه القاعة، فتنقل العيون إلى الصور، كانت صورا كثيرة مزدحمة تملتئ بها القلوب والعقول.

أما الحضور.. فقد كانت أفواههم مشدوهة لعظم ما يرون.. وقد غابوا عن كل الآلام التي لا تخفيها الإعاقات التي  تنم بها جوارحهم.

سألت المعلم: من هؤلاء؟

قال: هؤلاء مرضى يئس أطباؤكم من علاجهم.. فهداهم الله لهذا المستشفى.

قلت: ولكن عللهم لا تزال تنخر في أجسادهم.

قال: وما يهمهم من عللهم.. هم يعيشون في سعادة لا يعيشها أعظم ملوككم.

أشار إلى أحدهم، فقال: أتعلم من هذا؟

قلت: لا.. ولكن يبدو أن المشيب بدأ يشتعل في شعره ليقضي على سواد شبابه.

قال: هذا الرجل الذي تراه، جلس هنا منذ ثمانين سنة، ولم يفارق مجلسه.

قلت: ثمانين.. عجيب هذا.. لا يبدو عليه التقدم في العمر.

قال: إنما يعمر الجسد البالي.. أما المعاينون، فقد ذاقوا إكسير الشباب الدائم، فلا ينشغلون بشيخوخة ولا هرم.

قلت: يا معلم.. دعني أجلس معهم.

قال: ألم نتفق على عدم السكون لشيء؟

قلت: أجل..

قال: فهيا.. فبالله إن تسر ترى العجائب.

***

 خرجت من القاعة، وعند خروجي ربت على كتفي شيخ وقور بحنان، وقال: (أليس في قدرة هذا الذي خلق كل هذا أن يخفف عني ما أنا فيه، أو يرمي بدائي إلى الهاوية التي لا حدود لها!؟)

قلت: نعم.. فمن أنت؟.. فما أعظم وقارك؟

تركني وانصرف، قال المعلم: هذا نزيل أقنعه الأطباء بكل أجهزتهم أنه ميئوس منه، وقد جاء إلى هنا.. وهو يعيش في سلام منذ جاء.

***

 بعد خروجي لقيني شاب لا يقل عن الشيوخ وقارا، وقال: بعد هذه المظاهر التي تدل على قدرة الله المطلقة، والتي لا يعجزها شيء،  هل تظل أيها المتألم حبيس آلامك، متصورا استحالة تفريجها.

أليس الذي خلق السموات والأرض، ودبر أمر الدقيق والجليل، أعظم من أن يقف المستحيل في طريقه، وأكبر شأنا من أن يعجزه ما نفخه شيطان اليأس في نفسك.

أردت أن أسأله عنه، فقاطعني، وقال: قد تقول: (نعم إنه قادر على كل شيء، ولكن من أنا حتى يتوجه إلي فاكا أزمتي، مفرجا كربتي، وما أنا إلا قطرة من بحر محيطه، أو هباءة في فضاء أثيره.. إذا راودك هذا الخاطر، وأوحت لك شياطين الإنس والجن بهذه الوساوس، فاذهب إلى ذلك القسم، فستجد فيه ضالتك)

الفضل الواسع

دخلنا القسم الثاني من أقسام حسن الظن بالله، وقد كتب على بابه ـ بحروف تحمل رحمة ممزوجة بحكمة ـ قوله تعالى:{ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (البقرة:105)

قلت للمعلم: لا شك أن هذا هو قسم الفضل الواسع.

قال: أجل، وهو من الأقسام الهامة التي يحتاج المرضى اليائسون إلى المرور عليها.

قلت: لم؟.. وأي داء يعالجون؟

قال: الفضل مكمل للقدرة.. ولا تبرز القدرة إلا بالفضل.. ولا يكتمل الفضل إلا بقدرة.

قلت: اشرح لي هذا، فإني أرى القدرة منفضلة عن الفضل انفصالا تاما.

قال: من كان قادرا، ولكنه بخيل، فإنه لا يصدر منه شيء، فإن صدر كان محفوفا ببخله.. ومن كان متفضلا، ولكنه عاجز كتم عجزه فضله، أو رماه عجزه بالبخل.

قلت: ففضل الله عظيم كقدرته؟

قال: لا يوازي قدرته إلا فضله، ألم تقرأ قوله تعالى:{ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (البقرة:105)

قلت: هذه الآية هي آية هذا الباب، وهي تذكر فضل الله الواسع العظيم.. ولكن القرآن الكريم يذكر أن فضل الله موزع حسب مشيئة الله، فهو:{ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (آل عمران:74)

قال: لا  تفهم من هذه الآية غير ما تريد.. فضل الله واسع، ولكن من الخلق من تعرض له، فصار مخصوصا بالرحمة، ومنهم من أعرض فصار مخصوصا بالشقاوة.. فضل الله كالمطر من تعرض له ترابا أنبت طيبا، وأثمر طيبا، ومن تعرض له صخورا قاسية، فإن المطر ينزل عليه، ولكنه لا يؤثر فيه.

قلت: أرى القرآن الكريم يقصر الفضل على الله، كما قال تعالى:{ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الحديد:29)

قال: أجل ففضل الله بيد الله.. وهذا معنى جميل، تطرب له النفوس، لأنه ينفي الوسائط بين عباد الله، وفضل الله، فيكفي العبد أن يتوجه لله صادقا مخلصا ليرى يد الله، وهي تمتد إليه بالفضل والكرم والجود، كما قال تعالى:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } (البقرة:186)

وهذا الشعور هو الذي يتولد منه الرجوع إلى الله والاستمداد منه..

بينما نحن كذلك مر علينا رجل، والابتسامة تشع من عينيه، وهو يقول: الله ! ما أعظم فضل الله !..إنه الجدار الذي تتحطم أمامه كل الآلام.

ثم قصدني، وكأنه يعرفني، وربت على كتفي، وقال: ابتسم ـ أيها المتألم لأناتك ـ وطالع أسماء ربك التي تنطق بها حروف المكونات، وتضرع إليه بها كما يتضرع الكون جميعا، ففي نفس تضرعك تكمن الاستجابة، وفي نفس طلبك تتحقق الأماني.

قلت: من هذا؟، ومن أين خرج؟

قال: هذا الرجل كان في أقسام أسماء الفضل.. وهي أقسام تعرف بفضل الله انطلاقا من أسماء الله.

قلت: أهناك أقسام غير هذه؟

قال: أجل.. فهناك أقسام تعرف فضل الله من خلال أكوان الله.

قلت: فأي القسمين نزور؟

قال: سنقتصر من زيارتنا في هذا المحل على أسماء وردت في أكثرها النصوص المتعلقة بتفريج الكروب، وإجابة الدعوات وتنزل الفضل، لنزرع في قلوبنا قرب الله منا، وفضله العظيم علينا.

قلت: والفضل الذي تختزنه أكوان الله متى نراه.. أو متى نزوره؟

قال: سنزوره في درس آخر من دروس السلام، عندما نسبح في (بحار النعم)

الحي القيوم:

دخلنا قسما من أقسام الأسماء المرتبطة بفضل الله، وقد كتب على بابه: (الحي القيوم)

قلت للمعلم: هذان اسمان من أسماء الله الحسنى.

قال: نعم.. هما اسمان.. وهما اسم واحد؟

قلت: ما هذا التناقض؟

قال: كل واحد منهما إذا انفرد كان اسما من أسماء الله الحسنى، وفي اجتماعهما يتشكل اسم جديد له دلالة جديدة.

قلت: فما هي الدلالة الجديدة التي يحملها؟

قال: لا تعرفها إلا إذا عرفت دلالة كل اسم منفردا.

قلت: فما الحي.. ولماذا كان من أسماء الفضل؟

قال: هو من الأسماء الدالة على الفضل وغيره، فلا يمكن للقادر أن يكون قادرا إلا إذا كان حيا.. فالحياة هي الصفة التي تعتمد عليها جميع الصفات.

قلت: عرفت هذا.. فنحن لا يمكن أن نقوم بأي عمل إلا إذا كنا أحياء.

قال: مع فارق عظيم بين حياتكم البدائية البسيطة وحياة الله.. ألا تعلم أن الله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى:11)

قلت: فما علاقة الحياة بفضل الله؟

قال: لا يمكن أن تدعو ميتا.. ولا أن يستجيب لك ميت.

قلت: صدقت.. لقد عبر الشاعر عن ذلك، فقال:

لقد أسمعت لو ناديت حيا       ولكن لا حياة لمن تنادي

قال: بل عبر الحق تعالى عن ذلك، فقال:{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ } (الفرقان:58)، فقد ربط بين التوكل والحياة.. والتوكل هو استعانة بالله واستسلام مطلق لله ناتج عن ثقة عظيمة بفضل الله.

قلت: ألهذا إذن يقترن هذا الاسم بالأمر بدعاء الله، كما قال تعالى:{ هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (غافر:65)؟

قال: أجل، أي لأنه حي، فادعوه، لأن الدعاء لا يكون إلا لحي، وقد ورد الدعاء بهذا الاسم في هذا الباب، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما كربني أمر إلا تمثل لي جبريل، فقال يا محمد: قل توكلت على الحي الذي لا يموت والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرا)([9])

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ( ألا أعلمك كلمات تذهب عنك الضر والسقم، قل: توكلت على الحي الذي لا يموت، والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرا)([10])

وقد روي في الاستعاذات المأثورة: (أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا تموت والجن والإنس يموتون)([11])

قلت: فما القيوم.. ولماذا كان من أسماء الفضل؟

قال: هو القائم بنفسه المقيم لغيره.

قلت: فما القائم بنفسه؟

قال: هو الذي عظمت صفاته، فاستغنى عن جميع مخلوقاته.

قلت: فكيف قام غيره به؟

قال: هو الذي أوجد الأشياء، وأمدها وأعدها لكل ما فيه بقاؤها وصلاحها وقيامها.

قلت: فالقيوم إذن هو الغني عن الأكوان من كل وجه، وهي التي افتقرت إليه من كل وجه.

قال: ومن كان كذلك، فحري أن يستغاث به، ويلجأ إليه، ويطرق بابه.

قلت: فلهذا الاسم إذن تأثيره الخاص في زرع الثقة بقدرة الله المطلقة، وفضله العظيم.

قال: أجل.. فقد جمع هذا الاسم بين المعنيين جميعا، ولذلك كان من الأسماء التي ورد الدعاء بها في الكربات.

قلت: عرفت المفردات، فما معنى التركيب؟

قال: يتشكل من ذينك الاسمين اسم جديد([12]) له دلالته الخاصة والمؤثرة.

قلت: فما هي؟

قال: هي مثل دلالة اجتماع القدرة مع الفضل، فقد يكون قادرا غير متفضل، أو متفضلا غير قادر.

قلت: وهنا: قد يكون حيا غير قيوم، أو قيوما غير حي.

قال: أجل، فإذا كان حيا لم ترجه لحياته فقط، فقد يكون حيا ضعيفا.. ولو كان قيوما غير حي، لا ترجوه كذلك، لأنه لا يسمعك إلا إذا كان حيا.

قلت: وبكونه حيا قيوما تجتمع فيه جميع مواصفات من يدعى فيجيب.

قال: أجل، ولهذا ورد في النصوص ما يشير إلى كون هذا الاسم المقترن يحمل معنى اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى([13])، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع رجلاً يقول: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك المنان يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار)، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب) ([14])

قلت: فما السر في هذه الأفضلية؟

قال: لأن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، ولا يتخلف عنها صفة منها إلا ضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة، لذلك اقترن هذا الاسم بالتوكل في قوله تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ } (الفرقان:58).. وأما القيوم: فهو متضمن كمال غناه، وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، القائم على غيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته. 

ِولهذا، كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أهمَّهُ الأَمْرُ، رفع طرفه إلى السماء فقال: (سُبْحَانَ الله العظيمِ)، وإذا اجتهد فى الدعاء قال: (يا حَىُّ يا قَيُّومُ)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يستغيث بالله مستنجدا متوسلا بهذا الاسم، ففي الحديث أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا حَزَبَهُ أمرٌ قال: (يا حَىُّ يا قَيُّومُ برحمتِكَ أستغيثُ)([15])

رأيت كثيرا من الناس يجتمعون في حلقة رجل يبدو عليه الوقار، قلت للمعلم: من هذا؟

قال: هذا طبيب من أطباء هذا المستشفى.

قلت: هلم نستفيد منه..

قال: حسبك بهذا هنا.. فالأقسام الأخرى في انتظارنا.

الصمد:

دخلنا قسما آخر من أقسام الأسماء المرتبطة بفضل الله، وقد كتب على بابه: (الله الصمد)

قلت للمعلم: لقد ورد ذكر هذا الاسم في القرآن الكريم مرة واحدة، قال تعالى:{ اللَّهُ الصَّمَدُ} (الاخلاص:2)؟

قال: ولكن في سورة اختصت بالتعريف بالله، وهي تعدل ثلث القرآن([16])، فلذلك كانت له لذلك مزية خاصة.

قلت: لقد ورد في اللغة  لهذا الاسم دلالات كثيرة جدا، ولذلك ورد اختلاف كبير في تحديد معناه.

قال: ما نحتاج إليه هنا دلالة واحدة وهو الصمد الذي يعني في اللغة القصد، فيكون الصمد بذلك بمعنى المصمود أي المقصود في الحوائج والنوازل، المستحق أن يُلجَأ إليه لتحقيق الحاجات ونيل الرغبات وتفريج الكربات ودفع الملمات.

قلت: لقد قرأت كلاما جميلا لابن عباس في تعريف هذا الاسم.

قال: وما قال؟

قلت: قال: (هو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو اللّه سبحانه، ليس له كفء وليس كمثله شيء، سبحان اللّه الواحد القهار)

قال: ولهذا ورد في النصوص ما يدل على أن هذا الاسم هو الاسم الأعظم، فقد سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم  رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد فقال: (لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب)([17])

وهو من الأسماء التي كان صلى الله عليه وآله وسلم يتوسل بها في علاج المرضى، ففي الحديث أن رسول الله عاد رجلا، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم أعيذك بالله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد من شر ما تجد)  ثلاث مرات ([18]).

الكافي:

دخلنا قسما آخر من أقسام الأسماء المرتبطة بفضل الله، وقد كتب على بابه (الكافي)

قلت للمعلم: ما الكافي([19]

قال: هو الذي يكفي عباده ما يحتاجون إليه، بحيث يستغنون به عن غيره، كما قال تعالى:{ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} (الزمر:36)

قلت: لم كان كذلك؟

قال: لأنه حي قيوم  عالم بجميع المعلومات، قادر على كل الممكنات، غني عن كل الحاجات، يعلم حاجات العباد، ويقدر على دفعها، وهو ليس بخيلا ولا محتاجا حتى يمنعه بخله وحاجته عن إعطاء ذلك المراد.

قلت: ألهذا وعد الله كل من ينصره بكفاية الله فقال تعالى:{ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة:137)

قال: بل أخبر تعالى بأنه كفى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أمر المستهزئين، قال تعالى:{ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} (الحجر:95)

قلت: فما يكفينا الله؟

قال: كل شيء.. فكفاية الله لعباده شاملة لكل شيء، فالله هو الذي يكفي عباده كل ما يهمهم من العظيم والحقير، ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أوى إلى فراشه؛ قال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا؛ فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي)([20])

وقد ورد في قصة الغلام مع الساحر والراهب: أنه كلما ذهبوا به إلى مكان لقتله؛ قال: (اللهم اكفنيهم بما شئت)([21])

قلت: فهذا يدعو العارفين إلى الاكتفاء بالله.

قال: أجل.. ولذلك أخبر الله تعالى عن اكتفاء المؤمنين بالله وبحفظ الله، قال تعالى:{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران:173)

وقال عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم:{ إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:40)

قلت: ولهذا إذن ورد الدعاء بهذا الاسم في السنة، وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن تأثيره العجيب في دفع الضرر، فقال صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة الزهراء : (إذا أخذت مضجعك فقولي: (الحمد الله الكافي، سبحان الله الأعلى، حسبي الله وكفى، ما شاء الله قضى، سمع الله لمن دعا، ليس من الله ملجأ ولا وراء الله ملتجأ، توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم، الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا)، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من مسلم يقولها عند منامه ثم ينام وسط الشياطين والهوام فتضره)([22])

***

بينما نحن كذلك إذ سمعت حركات في القاعة، فسألت المعلم: فقال: هذا عبد الوكيل قد جاء، ومعه عبد الحسيب.

قلت: ومن عبد الوكيل.. ومن عبد الحسيب.. فلا أعلم في الأسماء التي تختزنها ذاكرتي هذين الاسمين؟

قال: هما طبيبان من أطباء هذه القاعة.

قلت: وما علاقتهما باسم الله الكافي؟

قال: سيشرحانها لك، فهذه وظيفتهما.

قال عبد الوكيل:  (الوكيل) من الأسماء القريبة من اسم الله الكافي.

قلت: فما يعني؟ وما وجه القرابة بينهما؟

قال: الوكيل هو من توكل إليه الأمور، وتفوض إليه، كما قال تعالى:{ وكفى بالله وكيلاً}(الأحزاب:3) أي القائم بأمور عباده، المتكفل بمصالحهم، الكفيل بأرزاقهم، فالخلق والأمر له، لا يملك أحد من دونه شيئاً.

قلت: فما علاقته بالكافي؟

قال: من توكل لك، فقد كفاك، ولهذا ورد هذا الاسم في ذكر من الأذكار العظيمة التي تتعلق بهذا الجانب، وهو (حسبنا الله ونعم الوكيل)

قلت: هو ذكر قرآني أثنى الله على من قاله، فقال تعالى:{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران:173)

قال: وكان هذا الالتجاء سببا في حصول خير عظيم للمؤمنين، قال تعالى:{ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (آل عمران:174)

قلت: كان هذا الذكر هو الذي نطق به إبراهيم u في أحرج مواقف حياته، قال ابن عباس في الآية السابقة: (قالها: إبراهيم u حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين قال لهم الناس { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} (آل عمران:173))([23])

قال: ولهذا أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن لهذا الذكر تأثيره العميق في النفس بإعطائها القوة وتخليصها من العجر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن الله تعالى يحمد على الكيس ويلوم على العجز فإذا غلبك الشيء فقل: حسبي الله ونعم الوكيل)([24])

وقد ورد في النصوص استعمال هذا الذكر في الموضع الذي نحن فيه، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أصابه غم أو كرب يقول: (حسبي الرب من العباد، حسبي الخالق من المخلوقين، حسبي الرازق من المرزوقين، حسبي الله الذي هو حسبي، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم)([25])

***

بمجرد انتهاء عبد الوكيل قال عبد الحسيب: الحسيب([26]) من كفاك جميع ما أهمك من أمر دينك ودنياك، وهو الذي يجلب لك المنافع، ويدفع عنك المضار، وهو الذي يحميك من كل المخاطر، ويؤمن لك كل السبل، وهو الذي..

قلت للمعلم: ألهذا قال تعالى:{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ((الطلاق:3)

قال: أجل.. من توكل على الله فهو حسبه.

الشافي:

دخلنا قسما آخر من أقسام الأسماء المرتبطة بفضل الله، وقد كتب على بابه (الشافي)

قلت للمعلم: الله ! ما أجمل هذا الاسم.. وما أعظم تفريجه لكربات المعتلين.. فإن المريض لا يحن لاسم كما يحن للطبيب؟

قال: ولهذا ورد اسم (الطبيب) مقترنا بالله، فالله هو الطبيب: طبيب القلوب والنفوس والأجساد، فقد ورد في الحديث عن أبي رمثة قال: دخلت مع أبي على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فرأى أبي الذي بظهره([27])، فقال: (دعني أعالجه فإني طبيب)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( اللّه الطبيب)([28])

وقد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم علة كون الله هو الطبيب الحقيقي، فقال: (الله الطَّبِيبُ، بل أنت رجلٌ رفيقٌ، طَبِيبُها الذي خلقها)

قلت: ما سر هذا؟، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل اسم الطبيب خاصا بالله.

قال: لأن الطبيب هو العالم بحقيقة الدواء والداء، والقادر على الصحة والشفاء، وليس ذلك إلا اللّه، فهو العالم وحده بتفاصيل العلل، جميع العلل، والعالم وحده بعلاجها:{ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ((الملك:14)

قلت: ولهذا توسل إبراهيم u إلى الله بالشفاء، فقال:{ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء:80)

قال: أجل.. يشفي من كل شيء.. من أمراض الحس وأمراض المعنى، هو خالق الدواء، وملهم الأطباء، ورازق الشفاء، فما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء.

قلت: لقد ورد في النصوص ما يدل على هذا، فقد وورد في القرآن الكريم التنصيص على ما جعل الله في العسل من الشفاء، فقال تعالى:{ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل:69)

وورد طلب الشفاء من الله تعالى في الأمراض الحسية، قالصلى الله عليه وآله وسلم: (من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض)([29])

وأما المعنوية والنفسية، فقد قال تعالى في بيان خصائص كلامه:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس:57)

قال: ولهذا ورد هذا الاسم في أدعية الاستشفاء، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعوِّذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: (اللهم رب الناس أذهب البأس واشفه وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً)([30])

المغيث:

دخلنا قسما آخر من أقسام الأسماء المرتبطة بفضل الله، وقد كتب على بابه (المغيث)

قلت للمعلم: الله ! ما أجمل هذا الاسم.. لكأني به يمد يده إلى ضعف الإنسان وقصوره وحاجاته الكثيرة لينقذه منها؟

قال: أجل.. فله هذه الدلالة النفسية العميقة التي تشهد لها كل الحقائق، وكل الفطر، وكل الموجودات:

فالله تعالى هو الذي يغيث عباده عندما تنزل بهم الكربات، وعندما تمتد أيديهم إليه طالبة نجدته، قال تعالى:{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (لأنفال:9)

ولله تعالى هو الذي يغيث البشر بإنزال الغيث، قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ } (لقمان:34)، وقال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (الشورى:28)

قلت: ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم في الاستسقاء يصرخ مستغيثا بالله، فقد روي أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب، ثم قال يا رسول الله: هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يديه ثم قال: (اللهم أغثنا.. اللهم أغثنا.. اللهم أغثنا)

بينما نحن كذلك إذ ظهرت أنوار عظيمة تحمل صورا مختلفة تملأ القلوب أنسا وثقة، قلت للمعلم: ما هذه الصور؟

قال: هذه بعض مظاهر اسم الله المغيث، وهي تدعوا للتأمل فيها لامتلاء القلب معانيها.

قلت: فهيا نلبي نداءها.. فما أعظم أن تمتلئ قلوبنا بالثقة بالله.. وفي إغاثة الله.

قال: سنقتصرعلى أربعة مظاهر لاسم الله المغيث وردت بها النصوص، ولها علاقة بهذا الباب، أما ما عداها فسنمر بالكثير منها في دروس السلام، فلا تعجل، { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طـه:114)

فارج الكرب:

رأيت صورة سواد عظيم يغمر الكون فيملأه بالكآبة، وإذا بإغاثة إلهية تنزل على ذلك السواد، فترفع ما علاه من الظلام، وتحوله إلى نور تمتلئ بجماله أرجاء القاعة.

سألت المعلم عن سر هذه الصورة، فقال: هذا مظهر من مظاهر الإغاثة أرسله فارج الكروب، ليمحو الغين الذي ران على الكون والقلوب.

قلت: وما الكروب؟

قال: الكرب هو الغم الشديد، والمصيبة العظيمة، ولذلك لم يرد في النصوص المقدسة إلا في مواضع الشدة الشديدة، والدواهي العظيمة.

قلت: نعم، فقد ورد في حديث الشفاعة الطويل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون)([31])

قال: وورد قبل ذلك في قوله تعالى مخبرا عن إنجائه لنوح u من الكرب:{ وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} (الانبياء:76)، وقال تعالى:{ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ((الصافات:76)

وأخبر عن إنجائه لموسى وهارون ـ عليهما السلام ـ، فقال تعالى:{ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} (الصافات:115)

قلت: الله !.. ما أعظم رحمة الله بأنبيائه !

قال: وبجميع خلقه، ألم يخبر تعالى عن سنته في إنجاء كل الخلق من كل الكربات، فقال تعالى:{ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} (الأنعام:64)

قلت: بلى.. واستشعار هذا المعنى ينفي اليأس من قلب المؤمن عندما تحل به المصيبة العظيمة التي يرى استحالة حلها بالأسباب التي لديه.

قال: ولهذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذكارا نقولها عند الكرب تذكرنا بالله وبقدرة الله التي لا يعجزها شيء، قال صلى الله عليه وآله وسلم لأسماء بنت عميس : ( ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب؟ الله الله ربي لا أشرك به شيئا)([32])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( يا بني عبد المطلب، إذا نزل بكم كرب أو جمة أو جهد أو لأواء فقولوا: الله الله ربنا لا شريك له)([33])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من قرأ آية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة عند الكرب أغاثه الله تعالى)([34])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (دَعَواتُ المكروبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرجُو، فَلا تَكِلْنِى إلى نَفْسى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وأصْلِحْ لى شَأنى كُلَّهُ، لا إله إلا أنْتَ)([35])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عز وجل عنه، كلمة أخي يونس:{ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الانبياء:87))([36])

قلت: الله ! الله ! ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه.

قال: أجل.

قلت: هذا ترياق عجيب، فكيف نغفل عنه؟

قال: وهل تغفلون عن هذا فقط؟.. من نسي الله غفل عن كل شيء.

قلت: فما سر ارتباطها بتفريج الكربات؟

قال: سنرحل إلى هذا في درس من دروس السلام([37]).

باعث اليسر:

رأيت صورة عقد كثيرة يستحيل على أي يد أن تفكها.. وفجأة وجدت هذه العقد تنحل عقدة عقدة.. بل يذهب كل ما بها من آثار العقد.

سألت المعلم عن سر هذه الصورة، فقال: هذه مظاهر العسر الذي يعقد القلوب بعقده.. فإذا علمت القلوب شدة عقدها، ويئست منها بعث الله بيسره، فالله هو الذي يعقب العسر باليسر، ألم تسمع إلى قوله تعالى:{ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق:7)

تدخل رجل من الحاضرين، وقد سمع هذا الكلام من المعلم، فقال: بل يعقب العسر بيسرين([38])، قال تعالى:{ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} (الشرح:5، 6)، قال ابن عباس يفسر هذه الآية: (يقول اللّه تعالى خلقت عسرا واحدا، وخلقت يسرين، ولن يغلب عسر يسرين)

وقال ابن مسعود: (والذي نفسي بيده، لو كان العسر في حجر، لطلبه اليسر حتى يدخل عليه؛ ولن يغلب عسر يسرين)

بل ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج يوما مسرورا وهو يضحك ويقول: (لن يغلب عسر يسرين { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} (الشرح:5، 6)([39])

تدخل آخر، فقال: والله تعالى واضع المخارج، فهو الذي يضع المخارج عندما تنسد الأبواب، وتضيق المسالك، قال تعالى:{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} (الطلاق:2)

ولذلك أمرنا أن نقول:{ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} (الاسراء:80)

قلت للمعلم: من هذين؟

قال: هذان مقيمان بهذا القسم لا يبرحانه.. يعبدان الله بهذين الاسمين.

كاشف الضر:

رأيت صورة قروح وأدواء كثيرة تمزق لها قلبي.. ثم رأيت مرهما ينزل من السماء.. فيقع على تلك القروح، فيشفيها شفاء تاما، ولا يدع أثرا لعلة.

سألت المعلم عن سر هذه الصورة، فقال: هذا مظهر من مظهر الإغاثة أرسله كاشف الضر، ليمحو القروح التي تجثم على القلوب والأجساد.. فالله تعالى هو كاشف الضر، بل لا يكشف الضر غيره، ألم تسمع قوله تعالى:{ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأنعام:17)، وقوله تعالى:{ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (يونس:107)

قلت: بلى، ولهذا كان من دواعي تسليم المؤمنين لله وإذعانهم له وحده ما نص عليه العبد الصالح بقوله:{ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} (يّـس:23)

قال: بل هذا ما أمر كل مؤمن أن يقوله، قال تعالى:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (الزمر:38)

تدخل رجل من نزلاء المستشفى، فقال: إن هذه الحقيقة يذعن لها الكل حتى أولئك الذين يجهلون الله عند الرخاء، فإنه إذا ما حلت بهم الشدائد لا يجدون غير باب الله، قال تعالى:{ وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (يونس:12)، وقال تعالى:{ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} (الروم:33)، وقال تعالى:{ وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} (الزمر:8)، وقال تعالى:{ فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (الزمر:49)

تدخل آخر، فقال: والله تعالى لا يعاتب هؤلاء على تذكرهم إياه وقت الكرب والشدة، بل يعاتبهم على نسيانهم وغفلتهم حال الأمن والعافية.

جاء ثالث، وهو يقول: يخبرنا القرآن الكريم عن رجل من الزمن السالف رأى قرية قد دب إليها الخراب، وكساها الموت بسرابيله، بل كفنها بأكفانه، فتأسف حزنا عليها، فأماته الله مائة عام، ليراها وقد دبت إليها الحياة، فلا يحزن ولا ييأس، قال تعالى:{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:259)

شارح الصدور:

رأيت صورة غيوم كثيرة لكنها غير ممطرة، ولا تبقى في السماء، بل كانت تنزل إلى الأرض، ثم تدخل إلى الصدور، فيصيح أصحابها من الألم والضيق.. فيأتي نسيم عليل يذهب ما بها من ضيق، ويملأها انشراحا وعافية.

قلت للمعلم: لا شك أن هذه صورة بعض الغازات السامة التي يتفنن قومي في اختراعها.. ولكن ما سر ذلك النسيم؟

قال: لا.. هذه صورة الضيق الذي يملأ القلوب والصدور، وذلك النسيم، هو مظهر من مظاهر الإغاثة الإلهية، فالله تعالى هو شارح صدر المتألمين، قال تعالى:{ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} (طـه:25)، وقال تعالى:{ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الزمر:22)، وقال تعالى:{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (الشرح:1)

والله تعالى هو المنجي من الهم والغم، قال تعالى:{ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً } (آل عمران:154)، وقال تعالى:{ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ } (طـه:40)، وقال تعالى:{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (الانبياء:88)

تدخل أحد الحاضرين، فقال: ولهذا أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نستعين بالله في دفع الهم والغم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجا) فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: (بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها)([40]


([1])  الترمذي.

([2])  الحديث بهذا اللفظ رواه الطبراني في الكبير وابن حبان.

([3])  الترمذي وابن ماجة.

([4])  ويدل لهذا قوله تعالى  ـ وهو يبين قيمة الأمل وثمرته النفسية ـ:) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (آل عمران:126)،  أي وما أنزل اللّه الملائكة وأعلمكم بإنزالهم إلا بشارة لكم وتطييباً لقلوبكم وتطميناً، وإلا فإنما النصر من عند اللّه الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم. فمع أن النصر من عند الله، إلا أن إحبار المؤمنين بمدد الله من الملائكة كان له تأثيره الجميلة في نفوس العصبة المؤمنة.

([5])  البخاري ومسلم، وتتمته:(فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)

([6])  النصوص الكثيرة تدل على أن العرش مخلوق يدار الكون منه بأمر الله تعالى ، فهو أشبه بـ (سنترال) الكون، وليس كما يتصورالمشبهون أنّه مكان يجلس عليه الله تعالى !

([7])  ابن حبان، وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر.

([8])  ذكر المفسرون في سبب نزول الآية أنّ اليهود كانوا يتصوّرون أنّ الله خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام (ستّة أيّام من أيّام الأسبوع)! ثمّ استراح في اليوم السابع (السبت) فوضع رجلا على رجل أُخرى.

([9])  ابن أبي الدنيا في الفرج والبيهقي في الأسماء.

([10])  ابن السني في عمل يوم وليلة.

([11])  البخاري.

([12])  انظر في اقتران الأسماء ودلالاتها رسالة (أسرار الأقدار)

([13])  اختلف العلماء في (الاسم الأعظم) الذي إذا دُعي به لا يرد، اختلافا عظيما:

فمنهم من أنكره مثل أبي جعفر الطبري، وأبي الحسن الأشعري، وجماعة بعدهما كأبي حاتم ابن حبان، والقاضي أبي بكر الباقلاني، فقالوا: لا يجوز تفضيل بعض الأسماء على بعض، وحملوا ما ورد من ذلك على أن المراد بالأعظم العظيم، وجعلوا اسم التفضيل على غير بابه، وهو أسلوب معروف عند علماء العربية، وأن أسماء الله كلها عظيمة.

ومنهم من ذكر أن الأعظمية الواردة في الأخبار إنما يراد بها مزيد ثواب الداعي بذلك، كما إذا أطلق ذلك في القرآن، المراد به مزيد ثواب القارئ.

ومنهم من ذكر أن المراد بالاسم الأعظم، كل اسم من أسماء الله تعالى دعا العبد به مستغرقاً بحيث لا يكون في فكره حينئذ غير الله تعالى، فإن من تأتى له ذلك استجيب له، ونقل معنى هذا عن جعفر الصادق، وعن الجنيد وعن غيرهما.

ومنهم من ذهب إلى أن الله تعالى  استأثر بعلم الاسم الأعظم، ولم يُطْلِعْ عليه أحداً من خلقه وأثبته آخرون، واضطربوا في ذلك.

ومنهم من ذهب إلى تحديد الاسم، واختلفوا في ذلك اختلافا شديدا، منها هذا الاسم المركب، وسنعرض للمسألة بتفاصيلها في محلها الخاص من هذه الرسائل.

([14])  أهل السنن الأربع وابن حبان وأحمد والحاكم.

([15])  الترمذىّ.

([16])  لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:( أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة فإنه من قرأ قل هو الله أحد الله الصمد في ليلة فقد قرأ ليلته ثلث القرآن) أحمد والترمذي والنسائي.

([17])  أبو داود والترمذي وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم،.

([18])  ابن زنجويه في ترغيبه، والعقيلي، والبغوي.

([19])  كـلـمة (كافي) مأخوذة من (كفاية)، وهي تـعـنـي الإقدام على عمل معين والتمكن منه ، قال الراغب في مفرداته: (الكفاية) هي رفع حاجة والوصول إلى المقصود، وكفية على وزن كنية تعني الغذاء الكافي ، وكفي على وزن خفي تعني المطر.

([20])  مسلم.

([21])  مسلم.

([22])  ابن السني.

([23])  البخاري.

([24])  الطبراني في الكبير.

([25])  ابن أبي الدنيا في الفرج من طريق الخليل بن مرة عن فقيه أهل الأردن بلاغا.

([26])  قد يحمل هذا الاسم معنى الكفاية ومعنى المحاسبة، كما في قوله تعالى:) وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} (النساء:6)

([27])  وهو خاتم النبوة.

([28])  الترمذي والنسائي مختصرا ومطولا، وقال الترمذي: حسن غريب.

([29])  أبو داود، والترمذي، وقال: حسن غريب، والحاكم عن ابن عباس.

([30])  البخاري وغيره.

([31])  البخاري ومسلم.

([32])  أحمد وأبو داود.

([33])  الطبراني في الكبير.

([34])  ابن السني.

([35])  أبو داود.

([36])  ابن السني في عمل يوم وليلة.

([37])  انظر:رسالة (كنوز في بطن الحوت)

([38])  نص المفسرون على أن من عادة العرب إذا ذكروا اسما معرفا ثم كرروه، فهو هو، وإذا نكروه ثم كرروه فهو غيره. وهما اثنان، ليكون أقوى للأمل، وأبعث على الصبر.

([39])  عبد الرزاق وابن جرير والحاكم والبيهقي.

([40])  أحمد.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *