ثانيا ـ الكون العابد

ثانيا ـ الكون العابد

الحياة لا تكفي وحدها لتعقد مواثيق الصداقة بيننا وبين الكون.. فكم من حي هو أشبه بميت، وكم من حي هو أعدى لنا من ميت..

ولذلك، فإن هناك مقاما آخر من مقامات الكون، وخاصة من خواصه ترفع الصداقة بيننا وبين الكون لتجعلها في مرتبة الأخوة في الله.. وتجعل المحبة بيننا وبينه محبة في الله.

هذه الخاصة.. وتلك الصفة الرفيعة هي العبودية لله..

وانطلاقا من النصوص المقدسة ـ التي هي مرجعنا الوحيد في هذا الباب ـ فإن الكون ليس حيا فقط، بل هو حي عابد، يعرف ربه، ويتوجه له بأنواع التسبيح والعبادة، تسبيحا يفقهه، ويدرك معانيه، قال تعالى:{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (الاسراء:44)

ومثلما ذكرنا في تسرب النظرة المادية للنصوص الدالة على حياة الكون، والتي تنطلق من النظرة الحسية أو العقلية المستعبدة للحس، فإن هذه النظرة، وما تستخدمه من فنون التأويل سرى إلى الكون العابد وذلك بقصر عبادته على عبودية الدلالة دون أن يكون له في ذاته عبودية يتوجه بها بوعيه إلى الله.

فقال هؤلاء:( إن تسبيح الجمادات أنها تدعو الناظر إليها إلى أن يقول: سبحان الله)، وذلك لعدم توفر الإدراك لها كما قال الشاعر:

تُلقى بتسبيحة من حيث ما انصرفت وتستقر حشا الرائي بترعاد

أي يقول من رآها: سبحان خالقها.

وهذه النظرة تخالف النصوص الصحيحة الصريحة الكثيرة التي تفيد بأن للكون تسبيحه وعباداته الخاصة.

بل إن النصوص لم تكتف بالحديث العام، الذي قد يحتمل التأويل، بل ذكرت أنواع العبادة التي يمارسها الكون.

وسنحاول التعرف على بعض هذه الشعائر التعبدية في هذا الفصل.

1 ـ القنوت :

أول هذه العبادات، وعلى رأسها، ويتربع ذروة سنامها: القنوت لله تعالى، كما قال تعالى:{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (البقرة:116)، وقال تعالى:{ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (الروم:26)

والقنوت هو دوام الطاعة، ولذلك يقال للمصلي إذا طال قيامه أو ركوعه أو سجوده هو قانت في ذلك كله، كما قال تعالى:{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)(الزمر: 9) فاعتبره تعالى قانتا في حال السجود والقيام.

ومثله ما ورد في الحديث حين سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الصلاة أفضل فقال:( طول القنوت)([1])، ولم يرد به طول القيام فقط، بل طول القيام والركوع والسجود([2]).

وعلى هذا يدل ـ كذلك ـ قوله تعالى:{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل:120) فقد كان إبراهيم تعالى يمارس جميع أنواع الطاعات وفي جميع الأوقات.

فالقنوت إذن هو دوام الطاعة واستمرارها وشمولها.

انطلاقا من هذا، فإن القرآن الكريم يخبرنا أن هذا الكون لم يتخل عن قنوته لله تعالى منذ ولادته، بل يخبر أن ولادته تمثل أعلى درجات القنوت لله تعالى، فكل ما نراه من أشياء ناتج عن الخضوع لأمر الله الواحد { كُنْ }:

قال تعالى:{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (البقرة:117)، وقال تعالى:{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (النحل:40)، وقال تعالى:{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يّـس:82)، وقال تعالى:{ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (غافر:68)

وقد أجاب العلماء على ما قد يسأله من يستعبده عقله، فيقول: في أي حال يقول له كن فيكون؟ أفي حال عدمه، أم في حال وجوده؟ فإن كان في حال عدمه استحال أن يأمر إلا مأمورا، كما يستحيل أن يكون الأمر إلا من آمر، وإن كان في حال وجوده فتلك حال لا يجوز أن يأمر فيها بالوجود والحدوث، لأنه موجود حادث؟

ومن تلك الإجابات أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه الموجود، كما أمر في بني إسرائيل أن يكونوا قردة خاسئين، ولا يكون هذا واردا في إيجاد المعدومات.

أو أن الله عز وجل عالم بما هو كائن قبل كونه، فكانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة بعلمه قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة، فجاز أن يقول لها: كوني، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود، لتصور جميعها له ولعلمه بها في حال العدم.

أو أن ذلك خبر من الله تعالى عام عن جميع ما يحدثه ويكونه إذا أراد خلقه وإنشاءه كان، ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله، وإنما هو قضاء يريده، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولا، واستدل هؤلاء على هذا التأويل بقولهم:( قد قالت الاتساع للبطن الحق) ولا قول هناك، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن.

أو قول الآخر:

فأصبحت مثل النسر طارت فراخه إذا رام تطيارا يقال له قع

أو ما قال الآخر:

قالت جناحاه لساقيه الحقا  ونجيا لحمكما أن يمزقا

وعن هذا المعنى عبر الغزالي بقوله:( ومن هذا القبـيل في كنايته عن الاقتدار قوله تعالى:{ إنَّما قَوْلُنَا لِشيءٍ إذَا أرَدْنَاهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، فإن ظاهره ممتنع إذ قوله (كن) إن كان خطاباً للشيء قبل وجوده فهو محال إذ المعدوم لا يفهم الخطاب حتى يمتثل وإن كان بعد الوجود فهو مستغن عن التكوين، ولكن لما كانت هذه الكناية أوقع في النفوس في تفهيم غاية الاقتدار عدل إليها)([3])

ومن الإجابات في هذا ما يسمى (بالأعيان الثابتة في العدم).. وأن ثبوت الأشياء في حال عدمها هو الذي جعلها أهلا لأن تخاطب وتكلف بالخروج من العدم إلى الوجود([4]).

 وكل ذلك يمكن أن يكون صحيحا، ولكن الأصح هو التسليم لله في قوله، واعتبار ما قاله حقيقة قد لا تستوعب عقولنا صورتها.. وليس للعقل المحدود أن يتجرأ على تصور اللامحدود.

وهذا التفسير لطريقة وجود الكون وصدوره عن خالقه يقي المؤمن من التصورات المختلفة التي حاول البشر بعقولهم الضعيفة أن يصوروا بها هذا الصدور، ثم يؤسسوا علاقة الكون بربه على أساسه.

يقول سيد قطب موضحا التصور الإسلامي حول هذه المسألة الخطيرة:( لقد صدر الكون عن خالقه، عن طريق توجه الإرادة المطلقة القادرة: كن، فيكون.. فتوجه الإرادة إلى خلق كائن ما كفيل وحده بوجود هذا الكائن، على الصورة المقدرة له، بدون وسيط من قوة أو مادة.. أما كيف تتصل هذه الإرادة التي لا نعرف كنهها، بذلك الكائن المراد صدوره عنها، فذلك هو السر الذي لم يكشف للإدراك البشري عنه)([5])

أما سبب عدم هذا الكشف، فراجع إلى أن طاقات البشر من المحدودية بحيث لا تصل إلى مثل هذا الإدراك.

فكيف تدرك الطاقات البشرية تفسير الصلة بين الأمر الإلهي والكينونة، وهي لا تدرك أسرار الصلات الموجودة في العوالم التي تعمرها، والتي تدعي أنها تفهمها وتبالغ في فهمها؟

وهل يمكن أن نشرح لصبي صغير نظرية النسبية ـ مثلا ـ أو أن نجيبه على الأقل على التساؤلات الكثيرة التي يبعثها فضوله؟

أما السبب في محدودية الطاقة البشرية فهو بكل بساطة ـ كما يقول سيد ـ أن ذلك ( لا يلزمها في وظيفتها التي خلقت لها وهي خلافة الأرض وعمارتها.. وبقدر ما وهب الله للإنسان من القدرة على كشف قوانين الكون التي تفيده في مهمته، وسخر له الانتفاع بها، بقدر ما زوى عنه الأسرار الأخرى التي لا علاقة لها بخلافته الكبرى)([6])

أما الفلسفات التي هي عصارة الفكر البشري المعتمد على نفسه، والمغتر بقوته، فقد ضربت ( في تيه لا منارة فيه، وهي تحاول كشف هذه الأسرار ؛ وتفترض فروضا تنبع من الإدراك البشري الذي لم يهيأ لهذا المجال، ولم يزود أصلا بأدوات المعرفة فيه والارتياد، فتجيء هذه الفروض مضحكة في أرفع مستوياتها، مضحكة إلى حد يحير الإنسان:كيف يصدر هذا عن فيلسوف! وما ذلك إلا لأن أصحاب هذه الفلسفات حاولوا أن يخرجوا بالإدراك البشري عن طبيعة خلقته، وأن يتجاوزوا به نطاقه المقدور له! فلم ينتهوا إلى شيء يطمأن إليه ؛ بل لم يصلوا إلى شيء يمكن أن يحترمه من يرى التصور الإسلامي ويعيش في ظله)([7])

وقد عصم الله المسلمين المهتدين بنور القرآن الكريم من الوقوع في هذه المتاهات، أو ( أن يحاولوا هذه المحاولة الفاشلة، الخاطئة المنهج ابتداء، فلما أن أراد بعض متفلسفتهم متأثرين بأصداء الفلسفة الإغريقية – على وجه خاص – أن يتطاولوا إلى ذلك المرتقى، باءوا بالتعقيد والتخليط، كما باء أساتذتهم الإغريق، ودسوا في التفكير الإسلامي ما ليس من طبيعته، وفي التصور الإسلامي ما ليس من حقيقته.. وذلك هو المصير المحتوم لكل محاولة العقل البشري وراء مجاله، وفوق طبيعة خلقته وتكوينه)([8])

فالقرآن الكريم إذن يفسر سر ولادة الكون الذي تاه فيه الفلاسفة وغيرهم، ثم خبطوا بعقولهم خبط عشواء، بهذا التفسير البسيط المعقول الذي تؤيده كل الأدلة، وهو أن كل شيء قانت لله.. ولا يمكنه إلا أن يقنت لله.

***

وقنوت الأشياء لله، وخضوعها لأمره (كن) مستمر في كل الأحوال، فالكون الذي أطاع الله ابتداء، فخرج إلى الوجود بأمر (كن) لا زال يجيب الله.. وسيظل يجيبه.

وإلى هذه الاستمرارية في القنوت الإشارة بقوله تعالى:{ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا)(هود: 56)، وقوله تعالى:{ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يّـس:83)

وقد أقرت الكائنات بهذه الطاعة لله تعالى، كما قال تعالى:{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت:11)

وهذا هو الجواب الإلهي عن كل التساؤلات المحيرة التي يتيه فيها الغافل، وينكرها الملحد.

فعندما تعجبت مريم ـ عليها السلام ـ أن تلد من غير زواج، أخبرها الله تعالى بأن أمره وحده كاف في ذلك، قال تعالى:{ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران:47)

وعندما تعجب النصارى من صدور خارقة ميلاد المسيح من غير حصول ما تعارف عليه الناس من أسباب، ودعاهم ذلك إلى الخطأ في تصور طبيعة المسيح تعالى، رد عليهم الله تعالى بقوله:{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران:59)

 وعندما تعجب المشركون من أمر البعث أخبرهم الله تعالى أن ذلك ليس عجبا، فالله تعالى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (الأنعام:73)

وهذا القنوت الذي يتصف به الكون، فيجعله في منتهى الخضوع لله لا يستثنى منه شيء حتى الكفار والملحدين، فإنهم يقنتون لله من حيث لا يعلمون.

وقد أخبر القرآن الكريم أن من قنوت أجسادهم ما تشهد به عليهم يوم القيامة، كما قال تعالى:{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النور:24)

وقد صور صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في مجلس من مجالسه مع الصحابة  نقله لنا أنس بقوله: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال: أتدرون ممَّ أضحك؟ قلنا: اللّه ورسوله أعلم، قال: من مجادلة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: لا أجيز عليَّ شاهداً إلا من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام عليك شهوداً، فيختم على فيه ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لكنَّ وسحقاً، فعنكن كنت أناضل)([9])

وقد أحصى ابن القيم لقنوت الكفار غير ما ذكرنا من قنوت جوارحهم خمسة أنواع كلها مما ورد به التنزيل، وهي:( قنوتهم لخلقه وحكمه وأمره قدرا واعترافهم بربوبيته واضطراهم إلى مسألته والرغبة إليه ودخولهم فيما يأمر به وإن كانوا كارهين وجزاؤهم على أعماله ودخولهم فيما يأمر به مع الكراهة)([10])

فالقنوت شامل للجميع، والفرق الوحيد في ذلك هو أن المؤمن يقنت له طوعا وغيره يقنت له كرها، كما قال تعالى:{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (الرعد:15)

ومثل القنوت الإسلام، فإنه دين الكون جميعا طوعا أو كرها، قال تعالى:{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (آل عمران:83)

فالكون جميعا يستسلم لرب واحد، يتلقى منه قوانينه وتوجيهاته، فلذلك حفظ من الفساد، ولم يدب إليه ما دب للبشر العاقل الذي اختار الكفر من فساد، كما قال تعالى:{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الانبياء:22)

2 ـ السجود:

ومن عبادات الكون التي نص عليها القرآن الكريم (السجود).. وهي عبودية تجعل من الكون كله مسجدا يقيم شعائره، كل بطريقته الخاصة، بحسب قابليته، ومدى نيله لتجليات الأسماء الحسنى.

قال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (الحج:18)

والسجود كما يعبر القرآن الكريم سجود شامل يشمل الشخوص والظلال، أو الجواهر والأعراض، كما قال تعالى:{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (الرعد:15)

وقد صور القرآن الكريم شكلا من أشكال السجود بقوله تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} (النحل:48)

وقد خاض بعض الناس بعقولهم المحدودة في هذا المجال، واستبعدوا أن تسجد الظلال، وهي أعراض تفتقر إلى الجوهر، وهو فهم محدود منشؤه تعميم المعارف البشرية على الكون جميعا، وما دروا أن للعرض عقله وكيانه وتميزه كما للجوهر عقله وكيانه وتميزه.

وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن للموت الذي هو عرض من الأعراض صورة تظهر يوم القيامة على هيئة كبش يذبح بين الجنة والنار([11]).

ولذلك فإن هذه الأمور تؤخذ تعقلا وتذوقا، لا تخيلا وتصورا، فحس الإنسان لا يدرك إلا ما هو في دائرته المحدودة، وهي من المحدودية بحيث لا يصح الاعتماد عليها في تصوير ما غاب عن الحس.

ومن ذلك ما عبر به صلى الله عليه وآله وسلم عن ظاهرة الكسوف التي نكتفي بتفسيرنا المادي لها، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم يخبر بأن لها تفسيرا روحيا نص عليه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:( إن الشمس والقمر خلقان من خلق الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن الله عز وجل إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له)([12])

فمعرفتنا بالمواقيت الدقيقة المحددة للكسوف، ومعرفتنا بالأسباب الظاهرة لحصوله لا تنفي هذا، فقد يكون للشيء الواحد الأسباب الكثيرة، فلا ينبغي أن ننكر ما نجهل من الأسباب، ولا ينبغي أن نكون من ضيق الأفق، وقصور الهمة بحيث نكتفي بما لدينا من معارف([13]).

وقد يرزق الله بعض خلقه ممن صفت مرآة قلوبهم رؤية سجود الكائنات لبارئها.

ومن ذلك ما روى ابن عباس قال: جاء رجل، فقال:( يا رسول الله إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها، وهي تقول: (اللهم اكتب لي بها عندك أجرا وضع عني بها وزرا واجعلها لي عندك ذخرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود) قال ابن عباس:( فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سجدة ثم سجد فسمعته، وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة)([14])

ولأجل هذه العبودية الخاشعة لله نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن إتخاذ ظهور الدواب منابر ( فرب مركوبة خيرا أو أكثر ذكرا لله تعالى من راكبها)([15])

وهذا ما يجعل المؤمن يخفف من غلواء كبرياه، وهو يمشي مطأطئ الراس بخطى وئيدة على الأرض الساجدة لله، ممتثلا قوله تعالى:{ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} (الاسراء:37)

أما هيئة السجود، والتي قد تستهوي الخيال، وقد تحجب العقل عن الحقائق إن وقف عندها، فإن لكل شيء سجوده الخاص الذي يعبر به عن منتهى خضوعه وذله لله تعالى.

قال ابن القيم:( والسجود من جنس القنوت، فإن السجود الشامل لجميع المخلوقات، وهو المتضمن لغاية الخضوع والذل، وكل مخلوق فقد تواضع لعظمته وذل لعزته واستسلم لقدرته، ولا يجب أن يكون سجود كل شيء مثل سجود الإنسان على سبعة أعضاء ووضع جبهة في رأس مدور على التراب، فإن هذا سجود مخصوص من الإنسان)([16])

بل إن الأديان تختلف شعائرها وطقوسها في سجودها، فلا يعني السجود بالضرورة ما يفعله المسلمون، قال ابن القيم:( من الأمم من يركع ولا يسجد وذلك سجودها.. ومنهم من يسجد على جنب كاليهود.. فالسجود اسم جنس، ولكن لما شاع سجود الآدميين المسلمين صار كثير من الناس يظن أن هذا هو سجود كل أحد)([17])

ومثل هذا سائر الألفاظ، فإنه ( لما كان المسلمون يصلون الصلاة المعروفة صار يظن من يظن أن كل من صلى فهكذا يصلي، حتى صار بعض أهل الكتاب ينفرون من قولنا: إن الله يصلي، وينزهونه عن ذلك، فإنهم لم يعرفوا من لفظ الصلاة إلا دعاء المصلي لغيره وخضوعه له، ولا ريب أن الله منزه عن ذلك لكن ليست هذه صلاته سبحانه)([18])

ومن هذا الباب ما روي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:(صوت الديك صلاته، وضربه بجناحيه سجوده وركوعه) ثم تلا هذه الآية:{ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } (الاسراء: 44)([19])

وعن ابن عباس قال: ينادي مناد من السماء، اذكروا الله يذكركم، فلا يسمعها أول من الديك، فيصيح فذلك تسبيحه([20]).

ومنه ما روي عن سهل بن عبدالله أنه سئل:( أيسجد القلب) قال:( نعم سجدة لا يرفع رأسه منها أبدا)

ومنه ما روي أن أهل الجنة في الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس في الدنيا([21]).

وعلى هذا ينبغي أن تفسر الآيات والأحاديث لترفع كل وهم أو إشكال أو شبهة قد يزرعها المغرضون.

ومع ذلك حاول بعض الناس أن يدخل بعقله إلى هذا الميدان، فذكر بعضهم هيئة سجود النبات والشجر، فذكر أن سجودها هو تفيؤ ظلالها، وهو ما لا دليل عليه، فللنبات سجوده كما للظلال سجودها.

ومع ذلك، فإن هؤلاء الذين تكلفوا هذا مقرين بالسجود متكلفين لهيئته خير من الذين راحوا يؤولون السجود، فيحولونه إلى سجود مجازي لا حقيقة له.

ومن هؤلاء من ذهب إلى أن السجود هو مجرد الخضوع الخالي من أي مظهر، كما قال الشاعر:

بجيش تضل البلق في حجراته  ترى الأكم فيه سجدا للحوافر

ومن ذلك ما ذكره الرازي عن بعضهم، فقال:( إن السجود عبارة عن الانقياد والخضوع وعدم الامتناع وكل من في السموات والأرض ساجد لله بهذا المعنى، لأن قدرته ومشيئته نافذة في الكل وتحقيق القول فيه أن ما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته هو الذي تكون ماهيته قابلة للعدم والوجود على السوية وكل من كان كذلك امتنع رجحان وجوده على عدمه أو بالعكس، إلا بتأثير موجود ومؤثر فيكون وجود كل ما سوى الحق سبحانه بإيجاده وعدم كل ما سواه بإعدامه، فتأثيره نافذ في جميع الممكنات في طرفي الإيجاد والإعدام، وذلك هو السجود وهو التواضع والخضوع والانقياد)([22])

ومن ذلك ما ذكر أن المراد من سجودها شهادتها ودلالتها على الخالق، كما قال أبو الفرج:( الساجدون على ضربين: أحدهما من يعقل فسجوده عبادة، والثاني من لا يعقل فسجوده بيان أثر الصنعة فيه والخضوع الذي يدل على أنه مخلوق)([23])

وهذه الأقوال ـ وإن كانت معانيها صحيحة في ذاتها ـ إلا أنه لا علاقة لها بمعنى السجود الذي ورد في النصوص.. وأدل دليل على هذه المنافاة هو أن النصوص الكثيرة دالة على طواعية سجود الأشياء، ولو كان الأمر كما ذكروا لما كانت في ذلك أي طواعية.

بل هذا يتنافى مع ما يدل على تجدد ذلك منها، كما قال تعالى:{ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ} (صّ:18)، وقوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (النور:41)، فقد أخبر تعالى أنه يعلم ذلك، بينما دلالتها على الله تعالى يعلمها جميع الناس.

ومن ذلك ما أخبر الله تعالى به من كلام الهدهد والنمل، وأن سليمان علم منطق الطير بما يدل على الإختصاص.

ومن ذلك ( أنه قسم السجود إلى طوع وكره، وانفعالها لمشيئة الرب وقدرته لا ينقسم إلى طوع وكره، ولا يوصف ذلك بطوع منها ولا كره، فإن دليل فعل الرب فيها ليس هو فعل منها ألبتة، والقرآن يدل على أن السجود والتسبيح أفعال لهذه المخلوقات، وكون الرب خالقا لها إنما هو كونها مخلوقة للرب ليس فيه نسبة أمر إليها، ويبين ذلك أنه خص الظل بالسجود بالغدو والآصال والظل متى كان وحيث كان مخلوق مربوب والله تعالى جعل الظلمات والنور)([24])

أما البيت الذي استشهدوا به، فلا يعتبر دليلا شرعيا له حجيته من ناحية، ومن ناحية ثانية، ( فهذا خضوع جماد لجماد، ولا يلزم أن يكون سائر أنواع الخضوع مثل هذا، وإنما يشترك في نوع الخضوع، وليس خضوع المخلوقات للخالق مثل هذا)([25])

3 ـ التسبيح:

ومن عبادات الكون، وهي أكثرها ورودا في القرآن الكريم، عبادة التسبيح لله تعالى.

وقد افتتحت خمس سور من القرآن الكريم بذكر تسبيح ما في السموات وما في الأرض لله، وهي قوله تعالى:{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الحديد:1) ونفس الآية في سورة الحشر، وقوله تعالى:{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الصف:1)، وقوله تعالى:{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (الجمعة:1)، وقوله تعالى:{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التغابن:1)

وتسبيح الأشياء دليل على معرفتها بالله معرفة تجعلها تنزهه عن كل ما لا يليق بجلاله.

والمعرفة التنزيهية هي الأصل للمعرفة الإثباتية.. بل إن المعرفة التنزيهية معرفة إثباتية.. فمن نزه الله عن الجهل أثبت له علما.. ومن نزل الله عن الجور أثبت له عدلا.. وهكذا.

وقد أخبرت النصوص أن الكائنات تنزه الله بحسب أحوالها، وأنواعها، فلكل مخلوق تسبيحه الخاص به، والذي قد لا يفقهه غيره ممن لم يذق ذوقه، أو يمر بتجربته.

ولذلك نفى الله تعالى عن أكثر الخلق إمكانية فقه هذه التسابيح التي يعج بها الكون، قال تعالى:{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (الاسراء:44)

وعدم الفقه والتصور لا يعني في المنهج العلمي السليم إنكار ما لم يتمكن من فقهه أو تصوره، كما قال تعالى:{ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الاسراء:36)

فمن أنكر ما لم يقف على سره وحقيقته كان مقتفيا ما ليس له به علم.

ومن الأخطاء في هذا، والناشئة من اقتفاء سبيل العقل المجرد عن نور الوحي، الزعم بأن المراد بالتسبيح مجرد تسبيح الدلالة، وقد رددنا على ذلك من قبل، وقد أفاض العلماء والربانيون في الرد على ذلك، فهو يسلب الكون خاصية مهمة من خصائصه، ويرفع عنه جلبابا من جلابيب الجمال التي كساه الله به.

وحسبنا من الرد، ونفي الشبهة هنا أن الله أخبر عن التسبيح الخاص للأشياء بوقت دون وقت، كالعشى والاشراق، كما قال تعالى:{ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ} (صّ:18)، فهل المراد بذلك أن دلالتها على خالقها تخص هذين الوقتين فقط؟

وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم مشيرا إلى توقيت تسبيح الكائنات:( ما تستقل الشمس فيبقي من خلق الله تعالى إلا سبح الله بحمده إلا ما كان من الشيطان وأغبياء بني آدم)([26])

ولعل في تحديد مواقيت العبادات ارتباطها بالعبادات التي يمارسها الكون، حتى يشكل المؤمنون مع الكون الواسع حلقة ذكر واحدة، فقد أمر المؤمنون مثلا بمراعاة هذين الوقتين، قال تعالى لزكريا u:{ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } (آل عمران: 41)، وقال لعموم المؤمنين:{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} (غافر:55)

وفي نفس الوقت الذي أخبر القرآن الكريم عن عبودية الكون في الغدو والآصال أمر وأخبر عن المؤمنين أنهم يراعون هذين الوقتين.

قال تعالى مخبرا عن عبودية الكون في هذين الوقتين:{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (الرعد:15)

وقال عن المؤمنين مخبرا:{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (النور:36 ـ 37)

وقال عنهم آمرا:{ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (لأعراف:205)

ولكن مع ذلك ـ ولزوما للمنهج العلمي ـ سنسوق بعض أدلة وردود عمدة من عمد هذا المنهج وهو الفخر الرازي، فقد نص على رأيه هذا بقوله:( اعلم أن الحي المكلف يسبح لله بوجهين: الأول: بالقول كقوله باللسان سبحان الله، والثاني: بدلالة أحواله على توحيد الله تعالى وتقديسه وعزته، فأما الذي لا يكون مكلفاً مثل البهائم، ومن لا يكون حياً مثل الجمادات فهي إنما تسبح لله تعالى بالطريق الثاني)([27])

 وقد استدل لذلك باستدلال بعيد منشؤه ما ذكرناه من توهم عدم حياة الكون أو تصور أن النطق يحتاج إلى آلة كآلة نطق الإنسان، وهو تغليب للخيال على العقل، وانتصار للوهم على الحقائق، قال الرازي في بيان وجه هذا الاستدلال:( لأن التسبيح بالطريق الأول لا يحصل إلا مع الفهم والعلم والإدراك والنطق وكل ذلك في الجماد محال، فلم يبق حصول التسبيح في حقه إلا بالطريق الثاني)

والعجب هو اعتباره ذلك محالا، فأي استحالة عقلية في ذلك، وهل العقل من الإحاطة بحيث يدرك سر الحياة حتى يهيه لمن يشاء ويسلبه عمن يشاء؟ وأي استحالة نقلية، والنصوص تعج بأدلة حياة الكائنات.

بل ذهب الرازي إلى أبعد من ذلك حين استلزم مما اعتبره دليلا أن اعتبار تسبيحها يقوض الاستدلال على اتصاف بالله بالحياة، قال:( واعلم أنا لو جوزنا في الجماد أن يكون عالماً متكلماً لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى عالماً قادراً على كونه حياً وحينئذ يفسد علينا باب العلم بكونه حياً وذلك كفر، فإنه يقال: إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات الله تعالى وصفاته وتسبحه مع أنها ليست بأحياء فحينئذ لا يلزم من كون الشيء عالماً قادراً متكلماً كونه حياً فلم يلزم من كونه تعالى عالماً قادراً كونه حياً وذلك جهل وكفر، لأن من المعلوم بالضرورة أن من ليس بحي لم يكن عالماً قادراً متكلماً)

وهذا الاستدلال يبين الخطأ الذي وقع فيه المنهج الكلامي في استدلالاته على صفات الله تعالى، فهو هنا يبني صفة الحياة التي تدل عليها ملايين الأدلة على دليل واحد، تنهد صفة حياة الله بانهداده.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الرازي يستعمل هنا أسلوب الفقهاء في سد الذرائع، وهو منهج لا يصح استعماله في الاستدلالات العقلية، فالعقل لا ينبغي أن يسد في وجهه أي باب، مهما كانت الذريعة المؤدية إليه، إلا إذا كانت تؤديه إلى معارف لا يطيقها، أو ليست لديه أدوات تحصيلها.

وقد أجاب الرازي على ما أوردناه من أدلة على تسبيح الكائنات بوجوه يقتضي المنهج العلمي إيرادها، وإن كنا نتجنب الجدل ما أمكن في هذه الرسائل:

أما الوجه الأول، فقد عبر عنه بقوله:( إذا أخذت تفاحة واحدة فتلك التفاحة مركبة من عدد كثر من الأجزاء التي لا تتجزأ، وكل واحد من تلك الأجزاء دليل تام مستقل على وجود الإله، ولكل واحد من تلك الأجزاء التي لا تتجزأ حفاة مخصوصة من الطبع والطعم واللون والرائحة والحيز والجهة، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات فلا يحصل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر حكيم.

إذا عرفت هذا فقد ظهر أن كل واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تام على وجود الإله وكل صفة من الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد فهو أيضاً دليل تام على وجود الإله تعالى، ثم عدد تلك الأجزاء غير معلوم، وأحوال تلك الصفات غير معلومة) ([28])

وكل هذا كلام صحيح لا حرج فيه، وهو من العبودية التي يمارسها الكون، والتي سميناها عبودية الدلالة، ولكن الخطأ هو اعتبار ذلك هو التفسير الوحيد لتسبيح الكون ولقوله تعالى:{ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } (الاسراء: 44)

أما الوجه الثاني، فهو قوله بأن الكفار وإن كانوا يقرون بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا يتفكرون في أنواع الدلائل، ولهذا المعنى قال تعالى:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (يوسف:105)

وهو وجه صحيح، ولكنه ليس دليلا على نفي تسبيح المقال، فلا تناقض بين المقالة والدلالة.

أما الوجه الثالث، وهو وجه يعتمد على السياق الذي وردت فيه الآية، فهو قوله بأن القوم وإن كانوا مقرين بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته، ولذلك استبعدوا كونه تعالى قادراً على الحشر والنشر فكان المراد ذلك، ثم إنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:{ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} (الاسراء:42) فهم ما كانوا عالمين بهذا الدليل، فلما ذكر هذا الدليل قال:{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنّ)(الاسراء: 44)

وكأن الآية تقول ـ كما يفهمها الرازي ـ:( فتسبيح السموات والأرض ومن فيهن يشهد بصحة هذا الدليل وقوته وأنتم لا تفقهون هذا الدليل ولا تعرفونه)

وهذا الوجه لا يتنافى أيضا مع التسبيح المقالي للكائنات، بل هو فهم من الفهوم الصحيحة للآية، والفهوم لا يلغي بعضها بعضا، فكلام الله يحتمل الجميع.

ولعل أقوى دليل ذكره هو ما عبر عنه بقوله:( مما يدل على أن الأمر كما ذكرناه قوله:{ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } (الاسراء: 44) فذكر الحليم والغفور ههنا يدل على أن كونهم بحيث لا يفقهون ذلك التسبيح جرم عظيم صدر عنهم، وهذا إنما يكون جرماً إذا كان المراد من ذلك التسبيح كونها دالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته، ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم ما عرفوا وجه دلالة تلك الدلائل.

أما لو حملنا هذا التسبيح على أن هذه الجمادات تسبح الله بأقوالها وألفاظها لم يكن عدم الفقه لتلك التسبيحات جرماً ولا ذنباً، وإذا لم يكن ذلك جرماً ولا ذنباً لم يكن قوله:{ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } (الاسراء: 44) لائقاً بهذا الموضع)

وهذا الاستدلال الأخير مع قوته إلا أن الفاصلة القرآنية لا تشمل آخر الآية فقط، بحيث يكون الحلم والمغفرة مرتبطان بعدم فقه التسبيح، بل هي مرتبطة بموضوع الآية جميعا([29])، وهو الإخبار عن تسبيح كل شيء في الوقت الذي يغفل فيه الإنسان.

والعتاب على الغفلة يتناسب مع الحلم والمغفرة.

وهذا يتناسب مع ما روي في الآثار من العتاب على الغفلة في الوقت الذي تسبح فيه الموجودات، كما ورد في الأثر:(الدابة والثوب يسبح، وأنت غافل)

وفي أثر آخر:( أما يستحي أحدكم أن تكون دابته أو ثوبه أكثر تسبيحا منه)

وفي أثر آخر:( ما ارتفعت الشمس قيد رمح إلى السماء فبقي لله شيء من خلقه إلا سبح لله إلا الشيطان وأعتى بني آدم)

ومن هذا الباب ما روي في الآثار عن داود u أنه قال:( يا رب اغفر لي فمن أكثر لذكرك مني) فقام على صخرة إلى جنب نهر حتى أصبح، فناداه ضفدع:( يا داود تمن على الله تعالى، وأنا ضفدع أسبح الله الليل مع النهار من خشيته، فنظر فإذا هي قائمة على الماء، فقال:( رب اغفر لي، فإن نعمك علي أفضل من ذكرك)

وذهب إلى نفس ما ذهب إليه الرازي المفسر الكبير ناصر مكارم الشيرازي، ولا بأس من إيراد ما ذكر من أدلة هنا، كما ذكرنا أدلة الرازي رغبة في تجلية الحقيقة.

قال الشيرازي في الأمثل:( هُناك كلام كثير بين العلماء والمفسّرين والفلاسفة حول تفسير حقيقة هَذا الحمد والتسبيح، فبعضهم اعتبر الحمد والتسبيح (حالا) والبعض الآخر (قولا))

ثم انتصر للقول الأول بقوله:( الكثير يعتقد أنَّ هَذا التسبيح والحمد هو على شاكلة ما نسميه بـ (لسان الحال) وَهو حقيقي غير مجازي إِلاَّ أنّهُ بلسان الحال وَليس بالقول. (تأمّل ذلك).

ولتوضيح ذلك تقول: قد يحدث أن نشاهد آثار عدم الإرتياح والألم، وَعدم النوم في وَجه أو عيني شخص ما وَنقول له: بالرغم مِن أنّك لم تتحدث عن شيء مِن هَذا القبيل، إِلاّ أن عينيك تقولان بأنّك لم تنم الليلة الماضية، وَوجهك يؤكّد بأنّك غير مرتاح ومتألم! وَقد يكون لسان الحال مِن الوضوح بدرجة بحيث أنَّهُ يُغطي على لسان القول لو حاول التستر عليها قولا، وهَذا هو المعنى الذي صرّح به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بقوله: (ما أضمر أحد شيئاً إِلاَّ ظهر في فلتات لسانُه وصفحات وَجهه)([30])

مِن جانب آخر هل يمكن التصديق بأنَّ لوحة فنية جميلة للغاية تدل على ذوق وَمهارة رسامها، لا تمدحُه أو تثني عليه؟ وهل يمكن انكار ثناء دواوين أشعار أساطين الشعر والادب وتمجيدها لقرائحهم واذواقهم الرفيعة؟.. أو يمكن انكار أن بناءً عظيماً أو مصنعاً كبيراً أو عقولا الكترونية معقدة أو أمثالها، أنّها تمدح صانعها وَمُبتكرها بلسان حالها غير الناطق؟

لذا يجب التصديق والتسليم بأنَّ عالم الوجود العجيب ذا الأسرار المتعدِّدة والعظمة الكبيرة، والجزئيات العديدة المُحيِّرة، يقوم بتسبيح وَحمد الخالق عزَّوجلّ، وإِلاَّ فهل (التسبيح) سوى التنزيه عن جميع العيوب؟ فنظام عالم الوجود ناطق بأنَّ خالقهُ ليسَ فيه أي نقص أو عيب:

ثمّ هل (الحمد) سوى بيان الصفات الكمالية؟ فنظام الخلق والوجود كلّه يتحدث عن الصفات الكمالية للخالق وعلمه وَقدرته اللامتناهية وَحكمته الوسيعة.

خاصّة وأنَّ تقدم العلوم البشرية وكشف بعض أسرار وَخفايا هَذا العالم الواسع، توضح هَذا الحمد والتسبيح العام بصورة أجلى. فاليوم مثلا ألّف علماء النبات المؤلفات العديدة عن أوراق الأشجار، وَخلايا هَذِهِ الأوراق، وَالطبقات السبع الداخلة في تكوينها، والجهاز التنفسي لها، وَطريقة التغذية وَسائر الأُمور الأُخرى التي تتصل بَهذا العالم.

لذلك، فإنَّ كل ورقة توحد الله ليلا وَنهاراً، وَينتشر صوت تسبيحها في البساتين والغابات، وَفوق الجبال وَفي الوديان، إِلاَّ أنَّ الجهلاء لا يفقهون ذلك، وَيعتبرونها جامدة لا تنطق.

إِنَّ هَذا المعنى للتسبيح والحمد الساري في جميع الكائنات يمكن دركه تماماً، وَليست هُناك حاجة لأن نعتقد بوجود إِدراك وَشعور لكل ذرات الوجود، لأَنَّه لا يوجد دليل قاطع على ذلك، والآيات السابقة يحتمل أن يكون مقصودها التسبيح والحمد بلسان الحال)

وقد رد على الاعتراض القائل:( إِذا كان الغرض مِن الحمد والتسبيح هو تعبير نظام الكون عن نزاهة وَعظمة وَقدرة الخالق عزَّوجلّ، وتبيان الصفات السلبية والثبوتية، فلماذا يقول القرآن: (لا تفقهون تسبيحهم) لأنّه إِذا كانَ البعض لا يفقه، فإنَّ العلماء يفقهون ويعلمون؟)

وقد أجاب على ذلك بجوابين:

الأوّل: إِنَّ الآية توجَّه خطابها إِلى الأكثرية الجاهلة مِن عموم الناس، خصوصاً إِلى المشركين، حيثُ أنَّ العلماء المؤمنين قِلَّة وَهم مستثنون مِن هَذا التعميم، وُفقاً لقاعدة ما مِن عام إِلاَّ وَفيه استثناء.

الثّاني: هو أنَّ ما نعلمهُ مِن أسرار وَخفايا العالم في مقابل ما لا نعلمُه كالقطرة في قبال البحر، وَكالذرة في قبال الجبل العظيم. وإِذا فكرنا بشكل صحيح فلا نستطيع أن نسمّي الذي نعرفه بأنَّه (علم). إِنّنا في الواقع لا نستطيع أن نسمع تسبيح وَحمد هَذِهِ الموجودات الكونية مهما أوتينا مِن العلم، لأنَّ ما نسمعهُ هو كلمة واحدة فقط مِن هَذا الكتاب العظيم!!

وَعَلى هذا الأساس تستطيع الآية أن تخاطب العالم بأجمعه وَتقول لهم: إنّكم لا تفقهون تسبيح وَحَمد الموجودات بلسان حالها، أمّا الشيء الذي تفقهوه فهو لا يساوي شيئاً بالنسبة إِلى ما تجهلون)([31])

وكل ما ذكره صحيح، ولكنه يدخل في نوع من أنواع التسبيح، أو يدخل بالأحرى في صفة من صفات الكون، سميناها (المقروئية) أو الدلالة.. وهو تسبيح سلبي، لا إيجابي لأن الذي يقوم به من يشاهد الموجودات لا عين الموجودات، والله تعالى في القرآن أثبت التسبيح لأعيان الموجودات.

والعجب أن يقول الشيرازي هذا مع أن الروايات الكثيرة الواردة عن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وسماعهم لتسبيح الموجودات تنفي هذا النوع من الفهم([32]).

ومن التفسير الذي يتنافى مع عموم النصوص ما ذهب إليه بعضهم حين قصر التسبيح على أحوال معينة للكائنات.

ومن ذلك قصره على كل حي ونام، فنفوا التسبيح عن الجمادات، ومن هذا قول عكرمة: (الشجرة تسبح، والاسطوان لا يسبح)، وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام وقد قدم الخوان:( أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد؟) فقال:( قد كان يسبح مرة)، يريد أن الشجرة في زمن ثمرها واعتدالها كانت تسبح، وأما الآن فقد صار خوانا مدهونا.

وقد ذكر النووي أن هذا مذهب الكثير من المفسرين، قال:( وهذا مذهب كثيرين أو الأكثرين من المفسرين في قوله تعالى:{ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } (الاسراء: 44) قالوا معناه وإن من شيء حي، ثم قالوا حياة كل شيء بحسبه، فحياة الخشب ما لم ييبس، والحجر ما لم يقطع)([33])

واستدل القائلون لهذا من السنة بما ثبت عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر على قبرين فقال:( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من البول) قال: فدعا بعسيب رطب فشقه اثنين، ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال: ( لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)([34])

ففهم هؤلاء من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ما لم ييبسا) أن ذلك إشارة إلى أنهما ما داما رطبين يسبحان، فإذا يبسا صارا جمادا.

ولسنا نرى في هذا النص أي دلالة، فالحديث لم يربط تسبيح العسيب بتخفيف العذاب، بل ربطه برطوبته، فلعل لتلك الرطوبة تأثيرا خاصا أدركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمشكاة النبوة، وليس لمن لم يطلع من تلك المشكاة أن يتطفل على مثل هذه الأسرار([35]).

* * *

وقد ورد في النصوص ما يدل على أن تسبيح الخلائق مصدر من مصادر رزقها، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه، إن نوحا قال لابنه يا بني. آمرك أن تقول: سبحان الله، فإنها صلاة الخلق، وتسبيح الخلق، وبها يرزق الخلق)([36])

وورد ما يدل على أن ما يحصل لها من المصائب هو بسبب تضييعها التسبيح، وفي ذلك أكبر الدلالة على وعيها التام ـ مع كونها غير مكلفة ـ فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ما صيد من صيد ولا وشج من وشج إلا بتضييعه التسبيح)([37])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:( ما اصطيد طير في بر ولا بحر إلا بتضييعه التسبيح)([38])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:( ما صيد من طير في السماء ولا سمك في الماء حتى يدع ما افترض الله عليه من التسبيح)([39])، وهذا الحديث إن صح يدل على الوعي التام للكائنات، فالفرائض لا تتوجه لغير العاقل الواعي.

وقد ورد في حديث آخر بعض التفاصيل في ذلك، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( آجال البهائم كلها وخشاش الأرض والنمل والبراغيث والجراد والخيل والبغال والدواب كلها وغير ذلك آجالها في التسبيح، فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها، وليس إلى ملك الموت منها شيء)([40])

* * *

 واستشعار المؤمن لتسبيح الكائنات مع غفلته يشعره الحياء، ويدفعه إلى الأدب معها، ولذا أمرنا بالتأدب معها احتراما وتعظيما لتسبيحها، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( لا تضربوا وجوه الدواب، فإن كل شيء يسبح بحمده)([41])

ونهى عن اتخاذ البهائم كراسي، فقد مر صلى الله عليه وآله وسلم على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل فقال لهم:( اركبوها سالمة، ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله منه)([42])

وقد قال بعضهم مصورا هذا:( ما أحد سب شيئا من الدنيا دابة ولا غيرها، ويقول: خزاك الله أو لعنك الله إلا قالت: بل أخزى الله تعالى أعصانا لله تعالى)

ولهذا نهي عن الذبح من غير ذكر لاسم الله، قال تعالى:{ وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (الأنعام:121)

وكأننا بذكر اسم الله عند ذبح الحيوان نعتذر له، أو نخبره بأننا إنما نفعل ذلك لإذن الله لنا، وإلا فهو أكرم من أن نسلبه حياته للإبقاء على حياتنا.

ولعل الحيوان، وهو يسمع ذكر الله عند ذبحه يشعر بأنس عظيم، بل يشعر بما يشعر به الشهيد، وهو يقرب روحه لله.

ومن هذا الباب أيضا ما ورد في السنة من النهي عن قتل بعض الحيوانات، وتعليل ذلك بتسبيحها لله، فقد نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل الضفدع، وعلل ذلك بقوله:( نعيقها تسبيح)([43])

ولعل تخصيص الضفدع وبعض الحيوانات بكونها مسبحة مع ورود النصوص الكثيرة الدالة على تسبيح كل شيء هو مبالغة الضفدع ونحوها وإكثارها من ذكر الله.

وقد ورد في الدلالة على ذلك بعض الآثار منها ما روي عن أنس قال: ظن داود عليه السلام أن أحدا لم يمدح خالقه أفضل مما مدحه، وأن ملكا نزل وهو قاعد في المحراب والبركة إلى جانبه فقال: يا داود افهم إلى ما تصوت به الضفدع، فأنصت داود عليه السلام فإذا الضفدع يمدحه بمدحة لم يمدحه بها داود عليه السلام فقال له الملك: كيف تراه يا داود؟ قال: أفهمت ما قالت؟ قال: نعم. قال: ماذا قالت؟ قال: قالت: سبحانك وبحمدك منهتى علملك يا رب. قال داود عليه السلام: والذي جعلني نبيه، إني لم أمدحه بهذا([44]).

ومثل هذا ما حدث به شهر قال: كان داود u يسمى النواح في كتاب الله عز وجل، وأنه انطلق حتى أتى البحر، فقال: أيها البحر، إني هارب. قال: من الطالب الذي لا ينأى طلبه، قال: فاجعلني قطرة من مائك، أو دابة مما فيك، أو تربة من تربتك، أو صخرة من صخرك. قال: أيها العبد الهارب الفار من الطالب الذي لا ينأى طلبه، ارجع من حيث جئت، فإنه ليس مني شيء إلا بارز، ينظر الله عز وجل إليه قد أحصاه وعده عدا فلست أستطيع ذلك.

ثم انطلق حتى أتى الجبل، فقال: أيها الجبل، اجعلني حجرا من حجارتك أو تربة من تربتك أو صخرة من صخرك أو شيئا مما في جوفك، فقال: أيها العبد الهارب الفار من الطالب الذي لا ينأى طلبه، إنه ليس مني شيء إلا يراه الله وينظر إليه وقد أحصاه وعده عدا، فلست أستطيع ذلك.

ثم انطلق حتى أتى على الأرض يعني الرمل فقال: أيها الرمل، اجعلني تربة من تربك أو صخرة من صخرك أو شيئا مما في جوفك. فأوحى الله إليه أجبه. فقال: أيها العبد الفار من الطالب الذي لا ينأى طلبه، ارجع من حيث جئت فاجعل عملك لقسمين: لرغبة أو لرهبة، فعلى أيهما أخذك ربك لم تبال.

وخرج فأتى البحر في ساعة، فصلى فيه، فنادته ضفدعة فقالت: يا داود، إنك حدثت نفسك أنك قد سبحت في ساعة ليس يذكر الله فيها غيرك، وإني في سبعين ألف ضفدعة كلها قائمة على رجل تسبح الله تعالى وتقدسه([45]).

ومثل هذا ما روي عن ابن عباس قال: صلى داود u ليلة حتى أصبح، فلما أن أصبح نادته ضفدعة: يا داود، كنت أدأب منك قد أغفيت إغفاءة ([46]).

* * *

 أما الكيفية التي تسبح بها الكائنات، وما تقوله في تسبيحها، فهي من علم الله الذي قد يطلع بعض خلقه على أسراره:

ومن ذلك ما ذكره ابن عباس من قوله:( الزرع يسبح بحمده، وأجره لصاحبه، والثوب يسبح. ويقول الوسخ: إن كنت مؤمنا فاغسلني إذا)([47])

وعن أبي صالح قال:( ذكر لنا أن صرير الباب تسبيحه)([48])

وعن أبي غالب الشيباني، قال:( صوت البحر تسبيحه، وأمواجه صلاته)([49])

عن أبي جعفر قال:( تدرون ما تقول العصافير قبل طلوع الفجر تسبح ربها وتسأل قوت يومها)

وعن عبد الحميد بن يوسف قال:( تسبيح الضفادع:( سبحان المعبود بكل مكان، سبحان المحمود بكل مكان، سبحان المذكور بكل لسان)

***

 وهذا التسبيح والعبودية التي تمارسها الكائنات بحب وشغف يكشف الله بعض وجوهها وأسرارها لمن شفت سرائرهم، وتطهرت قلوبهم، لتكون أنيسا لهم في ذكرهم.

ولا غرابة عقلية في هذا، فإن كل من توجه وجهة فتح له في تلك الوجهة، كالمرآة ينعكس فيها ما يقابلها.

فالموجه للتجارة يفتح له فيها بحسب توجهه، والمتوجه للعلوم المادية يفتح له فيها بحسب جده وانشغاله بها، والمتوجه لعوالم الروح بالمكابدات والتأملات ينفتح له من نوافذ هذا العوالم ما يرى به العجائب.

ولا يحق لمن لم يرزق مثل هذا أن ينكر على من رزقه، وإلا كان ظالما، ولهذا يجيب الصالحون على من ينكر عليهم قائلين:( سر سيرنا ترى ما رأينا)

وقد سئل الغزالي أسئلة أجاب عن بعضها، وسكت عن أخرى، قائلا لسائله:( اعلم أن بعض مسائلك التي سألتني عنها لا يستقيم جوابها بالكتابة والقول، إن تبلغ تلك الحالة تعرف ما هي! وإلا فعلمها من المستحيلات؛ لأنها ذوقية، وكل ما يكون ذوقيا، لا يستقيم وصفه بالقول، كحلاوة الحلو، ومرارة المر، لا تعرف إلا بالذوق)([50])

والسر الذي تنفتح به كوة التعرف على تسبيح الكائنات وعبوديتها هو الطهارة، فالعين المكتحلة بإثمد الخطيئة لا تستطيع رؤية أنوار الإيمان الساطعة، والقلب المغلف بأوزار المعاصي لا يبصر حقائق نفسه، ولا حقائق الكون.

ولهذا يشترط الربانيون الطهارة ـ بمعناها الشامل ـ للتحقق بمثل هذه المنازل، قال المناوي:( وذلك لأن الأرواح ذات طهارة ونزاهة ولها سمع وبصر وبصرها متصل ببصر العين، ولها سطوع في الجو تجول وتحول، ثم تصعد إلى مقامها الذي منه بدأت فإذا تخلصت من شغل النفس أدركت من أمر الله ما يعجز عنه البشر فهماً، ولولا شغلها رأت العجائب. لكنها تدنست بما تلبست فتوسخت بما تقمصت من ثياب اللذات وتكدرت بما تشربت من كأس حب الخطيئات)

وهذا التحقق يكون بالسير إلى الله، وقد قال الغزالي لتلميذه المحب:( بالله إن تسر تر العجائب في كل منزل)

انطلاقا من هذا اتفق الربانيون من هذه الأمة على أن في طاقة الإنسان أن يسمع تسبيح الكائنات، بل في طاقته أن يرى سجودها وقنوتها إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع.

وأخطر الموانع هي الغفلة، فقد قال بعضهم:( لولا ما غمي عليكم من تسبيح ما معكم في البيوت ما تقاررتم)([51])

يقول سيد قطب عن تأثير الشفافية الروحية في هذا النوع من الإدراك:( وإن الكون ليبدو في هذا المشهد الخاشع متجها كله إلى خالقه، مسبحا بحمده، قائما بصلاته ؛ وإنه لكذلك في فطرته، وفي طاعته لمشيئة خالقه الممثلة في نواميسه. وإن الإنسان ليدرك – حين يشف – هذا المشهد ممثلا في حسه كأنه يراه ؛ وإنه ليسمع دقات هذا الكون وإيقاعاته تسابيح لله. وإنه ليشارك كل كائن في هذا الوجود صلاته ونجواه.. كذلك كان محمد بن عبد الله – صلاة الله وسلامه عليه – إذا مشى سمع تسبيح الحصى تحت قدميه. وكذلك كان داود u يرتل مزاميره فتؤوب الجبال معه والطير)([52])

وقد ورد في النصوص الكثيرة ما يؤيد هذا القول، وهو من أكبر الأدلة والشواهد على أن الكائنات تسبح الله تسبيحا حقيقيا يليق بطبيعتها.

وأول من نستشهد به في هذا الباب ما حدث به ابن مسعود من قوله:( كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفا، بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس معنا ماء فقال لنا: (اطلبوا من معه فضل ماء)، فأتي بماء فوضعه في إناء ثم وضع يده فيه، فجعل الماء يخرج من بين أصابعه. ثم قال:( حي على الطهور المبارك والبركة من الله) فشربنا منه، قال عبد الله: كنا نسمع صوت الماء وتسبيحه وهو يشرب([53]).

وكانوا يسمعون تسبيح الطعام، عن ابن مسعود قال:( كنا نأكل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)([54])

ويروي أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطعام ثريد، فقال:( إن هذا الطعام يسبح) قالوا:( يا رسول الله، وتفقه تسبيحه؟ قال: نعم، ثم قال لرجل:( ادن هذه القصعة من هذا الرجل)، فأدناها منه فقال: نعم يا رسول الله، هذا الطعام يسبح! فقال:( ادنها من آخر)، وأدناها منه، فقال: هذا الطعام يسبح. ثم قال: ردها فقال رجل: يا رسول الله، لو أمرت على القوم جميعا، فقال:( لا إنها لو سكتت عند رجل لقالوا من ذنب.. ردها فردها)([55])

بل كانوا يسمعون تسبيح الحصى، قال أبو ذر:( تناول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبع حصيات فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينا)([56])

ومن هذا الباب ما روي عن سماع آل البيت المطهرين ـ عليهم السلام ـ فعن أبي حمزة الثمالي قال: قال محمد بن علي بن الحسين، وسمع عصافير يصحن قال: تدري ما يقلن؟ قلت: لا. قال: يسبحن ربهن تعالى ويسألن قوت يومهن([57]).

ويروي عن علي بن الحسين قال:( كنا معه فمر بنا عصافير يصحن فقال: أتدرون ما تقول هذه العصافير؟ فقلنا: لا. قال: أما أني ما أقول إنا نعلم الغيب، ولكني سمعت أبي يقول: سمعت علي بن أبي طالب أمير المؤمنين يقول: إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها، وسألته قوت يومها، وإن هذه تسبح ربها، وتسأله قوت يومها ([58]).

ومثل هؤلاء من سار سيرهم من الصالحين، ومما يروى من ذلك أنه كان بيد بعضهم سبحة يسبح بها، فنام والسبحة في يده، فاستدارت السبحة، فالتفت على ذراعه، وجعلت تسبح فاستيقظ والسبحة تدور في يده، وإذا هي تقول:( سبحانك يا منبت البنان ويا دائم الشأن)

ويروى عن آخر أنه كان إذا دخل بيته فسبح سبحت معه آنية بيته ([59]).

ويذكر النورسي أن أربع قطط كانت تلازمه، وكانت تقول في هريرها:( يا رحيم يا رحيم يا رحيم..)([60])

ويحدث آخر عن أبيه قال:( كان أبي إذا جاء الليل دخل البحر يسبح، فتجتمع إليه حيتان البحر يسبحون معه)

وبمثل هذا روي عن يونس u أنه لما التقمه الحوت، فتصدى به إلى الأرض سمعها تسبح فقال:( أرى ربي يسبح بكل مكان) فقال:{ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(الانبياء: 87)

***

 وقد يكون سماع تسبيح الكائنات وعبوديتها طريقا لجذبة ربانية، أو ليقظة روحية ترفع حجاب الغفلة كما يحدث هذا الصالح، فقد قال: بت ليلة في بعض أسواق القرى، فإذا فتى عليه سيما الصالحين، وكان كثيرا ما ينتبه من الليل، فيرفع صوته فيقول:( لا إله إلا الله) حتى أصبحنا، فلما أصبحنا أنست به وسألته عن فعله ذلك، فقال:( كنت أرعى غنما لأبوي فبت ذات ليلة في موضع، وهي معي، فانتبهت على أصواتها وهي رافعة رأسها إلى السماء وهي تقول:( لا إله إلا الله) فقلت معها:( لا إله إلا الله) فلما رجعت إلى القرية رددت الغنم على أصحابها، وأقبلت على الخير وحبب إلي)

ومثل ذلك، سئل بعضهم عن بدء زهده، فقال: كنت يوما مع إخواني في بستان لنا، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعا بضرب العود والطنبور، فقمت في بعض الليل، فضربت بصوت يقال له راشين السحر، وأراد سنان يغني، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد، وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان – يعني العود الذي بيده – ويقول:{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)(الحديد: 16) قلت: بلى والله! وكسرت العود، وصرفت من كان عندي، فكان هذا أول زهدي وتشميري.

ولهذا كانوا الصالحون يجمعون مع تسبيحهم لله تسبيح الكائنات ليتقربوا بالجميع إلى الله، قال أحدهم:( تباركت يا رب العالمين، يسبحك الليل والنهار، ويسبحك الثلج، ويسبحك الرعد، ويسبحك المطر، ويسبحك الندى، وتسبح لك السماء، وتسبح لك الأرض، وتسبحك النجوم، وتسبحك جنودك كلهم، تباركت أسماؤك المباركة المقدسة التي لك بهن نسبح ونقدس ونهلل، لا إله إلا أنت)

* * *

 أما عن لغة التسبيح ـ التي قد تستهوي المجادلين ـ وقد يستهزئون إن سمعوا الصالحين يرددون أبياتا عن تسبيح الكائنات، ويقولون:( ما علم هؤلاء بالعروض والقوافي)

فالجواب عليه بأن لغة الروح المدركة للتسبيح واحدة، لكن التعبير عن هذه اللغة يختلف باختلاف الألسن.

والله تعالى أخبر عن أقوال أنبيائه وغيرهم ـ مع عدم عربيتهم ـ بتلك البلاغة المعجزة، بل عبر عن القول الواحد بصيغ مختلفة، وكان الكل كلامهم من حيث الحقيقة، وإن لم يكن عين كلامهم من حيث اللفظ، فاللفظ مجرد مطية للمعاني.

وهكذا تسبيح الكائنات، أو كلامها، فلا نتصور أن النملة أو الطير ينطق ما ننطق به من حروف، فجهازه الصوتي مختلف عن أجهزتنا، ولكن الجهاز الروحي واحد، وهو ما يجعله يفهمنا، وما يجعلنا نفهمه.

أما تحقيق هذا الكلام، فلا يمكن إلا بمعرفة سر الروح، أو إدراك كنه جهاز الروح، والروح لا يمكن إدراكها بأجهزة الحس، وإلا كنا كبني إسرائيل الذين قالوا لموسى u:{ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } (البقرة: 55)

ومن هذا المنطلق تتجاوب روح المؤمن مع نغمات الكون وتسبيحاته، فيسمعها وتسمعه، وينتشر من سماعهما من الفرح والسرور ما يقصر عنه فرح المتنزهين في البساتين الناظرين للقشور الغافلين عن الأرواح.

وقد كان الإمام النورسي ـ بفعل ما مر به من عزلة إجبارية ـ فقيها بأسرار تسبيحات الكائنات، وهو يدعونا إلى التجاوب معه في ذلك، يقول مقارنا بين النظرة الإيمانية للكون، ونظرة الإلحاد والغفلة:( ارفع رأسك يا أخي، وألق نظرة في الكائنات، وحاورها، أما كانت موحشة في طريقنا الاولى والآن تبتسم وتنشر البشر والسرور؟ ألا ترى أن عيوننا قد أصبحت كالنحلة تطير الى كل جهة في بستان هذا الكون، وقد تفتحت فيه الازهار في كل مكان، وتمنح الرحيق الطهور. ففي كل ناحية انس وسلوان، وفي كل زاوية محبة ووئام.. فهي ترتشف تلك الهدايا الطيبة، وتقطّر شهد الشهادة، عسلاًِ على عسل)([61])

حتى ما نراه مما قد نتوهم قبحه، ونخاف من أذاه ليس إلا ترنيمة من ترانيم تسابيح الكون، يقول النورسي:( فلا تخيفنكم نعرات الزلازل وصيحات الحوادث، فهي ترنمات الاذكار ونغمات التسبيحات، وتهاليل التضرعات)([62])

وفي تعبير آخر جميل يصف النورسي بعض الأصوات التي تتلقفها أذن الإيمان بقوله:( لندع عيوننا لتخلد الى شئ من الراحة، ونسلّم آذاننا للايمان بدلاً منها، ولنستمع من الدنيا الى نغمات لذيذة.. فالاصوات التي كانت تتعالى في طريقنا السابقة [طريق الإلحاد والغفلة ] وظنناها اصوات مآتم عامة ونعيات الموت.. هي أصوات أذكار في هذه الطريق وتسابيح وحمد وشكر)([63])

فكل ما نراه من حركات، وكل ما نسمعه من أصوات صدى من أصداء تسبيح الكون لله ( فترنمات الرياح ورعدات الرعود ونغمات الامواج.. تسبيحات سامية جليلة وهزجات الامطار وسجعات الاطيار.. تهاليل رحمة وعناية)([64])

والقلب الواعي المؤمن تكون له الأذن التي تتلقف مثل هذه المعاني الرقيقة، التي يعبر عنها اللسان بمختلف لهجاته ولغاته.

يقول النورسي:( وهكذا تنطق الكائنات كلها معاً وتقول: أيها الانسان الغافل لا تحسبنا جامدات! فالطيور تنطق، في تذوق نعمةٍ، أو نزول رحمةٍ فتزقزق باصوات عذبة، بافواه دقيقة ترحاباً بنزول الرحمة المهداة. حقاً النعمة تنزل عليها، والشكر يديمها، وهي تقول رمزاً: ايتها الكائنات! يا اخوتي! ما اطيب حالنا! ألا نُربّى بالشفقة والرأفة.. نحن راضون عما نحن عليه من احوال.. وهكذا تبث اناشيدها بمناقيرها الدقيقة، حتى تحول الكائنات كلها الى موسيقى رفيعة)

قد يقال ـ بعد هذا ـ فالتسبيح إذن ليس تسبيح مقال، وهو على ماذكر من تسبيح الدلالة.

وقائل هذا لا يعرف الفرق بين المقال والدلالة، فالدلالة لا تحتاج إلى الوعي، بينما المقال يحتاجه، بل هو ركنه الأساسي.

والمقال لا يستدعي نطقا بحروف وأصوات معينة، وقد أخبر تعالى عن علمه بما تقوله الأفواه، وما تقوله الألسن، قال تعالى:{ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:284)

بل عبر عن ما يجول في الخواطر بأنه قول يمكن أن يؤاخذ عليه، قال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (المجادلة:8)

وقد يقال هنا، فكيف نسمع الصامت، وهل يمكن أن نستدل على معاني الخواطر من غير تعبيرات الألسن؟

والجواب ما ذكرناه من قدرة آذان الروح على استشفاف معاني الصمت الخاشع، وقد قال النورسي:( إن نور الايمان هو الذي يسمع أصداء الاذكار وانغام التسابيح، حيث لا مصادفة ولا اتفاقية عشواء)([65])

4 ـ الدعاء:

من عبادات الكون التي ورد النص عليها في النصوص المقدسة (الدعاء).. والدعاء هو مخ العبادة.. ولا يمكن صدوره إلا من ذات واعية تعي حاجتها، وتعرف من تتوجه إليه بطلب هذه الحاجة.

وقد ورد في النصوص ما يشير إلى أن الكائنات قد منحت من الوعي بالواقع وما يرتبط به من مرضاة الله وسخطه حتى صارت كالملائكة تدعو للصالحين وتلعن غيره.

ومما ورد من ذلك ما ورد في أحاديث كثيرة من استغفار الأشياء لطالب العلم، فعن قبيصة بن المخارق قال:( أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي:( يا قبيصة ما جاء بك) قلت:( كبرت سني ورق عظمي، فأتيتك لتعلمني ما ينفعني الله تعالى به) قال:( يا قبيصة، ما مررت بحجر ولا شجر ولا مدر إلا استغفر لك، يا قبيصة إذا صليت الفجر، فقل ثلاثا: سبحان الله العظيم وبحمده تعافى من العمى والجذام والفالج، يا قبيصة قل: اللهم إني أسألك مما عندك وأفض علي من فضلك وانشر علي رحمتك وأنزل علي من بركاتك)([66])

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( إن الله وملائكته حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر يصلون على معلم الناس الخير)([67])

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال إذا ركب دابة: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء، سبحانه ليس له سميّ، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كما له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعليه وسلم، قالت الدابة: بارك الله عليك من مؤمن خففتَ عن ظهري، وأطعتَ ربك، وأحسنتَ إلى نفسك، بارك الله في سفرك، وأنجح مقصدك} ([68]).

ومن هذا الباب ما روي أن سليمان u خرج يستسقي، فمر على نملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول:( اللهم إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك، فإن لم تسقنا وترزقنا تهلكنا) فقال سليمان:( ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم)

ومنه ما روي أن بعضهم مر على أبي ذر وهو قائم عند فرس له، فسأله: ما تعالج من فرسك هذا؟ فقال: إني أظن أن هذا الفرس قد استجيب له دعوته، قال: وما دعاء البهيمة من البهائم قال: والذي نفسي بيده ما من فرس إلا وهو يدعو كل سحر فيقو: اللهم أنت خولتني عبدا من عبادك وجعلت رزقي بيده فاجعلني أحب إليه من أهله وماله وولده.

ولهذا كله ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (مهلًا عن الله مهلًا، فإنه لولا شباب خُشَّع، وبهائم رُتَّع، وشيوخ رُكَّع، وأطفال رضَّع، لصب عليكم العذاب صبًّا)([69])

وعلى عكس هذا ما روي من دعاء هذه الكائنات على من أساء إليها، ومن هذا الباب ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(كان فيمن كان قبلكم رجل يأتي وكْرَ طائر، إذا أفرخ يأخذ فرخيه، فشكا ذلك الطائر إلى الله عز وجل ما يصنع ذلك الرجل به، فأوحى الله عز وجل إليه: إن هو عاد فسأهلكه، فلما أفرخ خرج ذلك الرجل كما كان يخرج، وأخذ سُلمًا، فلما كان في طريق القرية لقيه سائل فأعطاه رغيفًا من زاده، ثم مضى حتى أتى ذلك الوكر، فوضع سلمه، ثم صعد فأخذ الفرخين وأبواهما ينظران، فقالا: يا رب إنك وعدتنا أن تهلكه إن عاد، وقد عاد فأخذها فلم تهلكه، قال: فأوحى الله إليهما، ولم تعلما أني لا أغلب أحدًا تصدَّق في يوم –بصدقة ذلك اليوم- بميتة سوء)([70])

ومن هذا الباب ما روى من التأثير الدنيوي للإساءة الحيوان، فقد روي أن رجلا ذبح عجلا له بين يدي أمه، فخبل، فبينما هو تحت شجرة فيها وكر فيه فرخ فوقع الفرخ إلى الأرض فرحمه، فأعاده في مكانه، فرد الله عليه قوته.

وهذا يتفق مع ما ورد عن نهيه صلى الله عليه وآله وسلم أن توله والدة عن ولدها وهو ـ كما ذكر العلماء ـ عام في بني آدم وغيرهم.

ومن هذا الباب ما رواه الدينوري في (المجالسة): أن قومًا كانوا في سفر، فكان فيهم رجل يمرُّ الطائرُ فيقول: تدرون ما تقول هذه؟ فيقولون: لا، قال: فأتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها وهو يرغو ويحنو عنقه إليها، قال: أتدرون ما يقول هذا البعير؟ قلنا: لا. قال: فإنه يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مِخْيَط فهو مؤثر في سنامه. قال: فانتهينا إليهم فقلنا: يا هؤلاء إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته، ويزعم أنها رحلته على مخيط وأنه في سنامه، قال: فأناخوا البعير، فحطوا عنه، فإذا هو كما قال)

ولهذا كان الصالحون يستشعرون خطر الإساءة للحيوان من هذا الجانب، وقد روي عن بعضهم أنه قال لبعير له عند الموت: (يا أيها البعير لا تخاصمني عند ربك، فإني لم أكن أحملك فوق طاقتك)

وعن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لى خلفه ذات يوم..فدخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حنّ وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمسح ذفراه فسكت، فقال: (من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟) فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: (أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكى إليّ أنك تجيعه وتدئبه)([71])


([1])    رواه مسلم.

([2])    قال ابن حجر:( طول  الصلاة يستلزم طول القيام، كالركوع مثلا لا يكون أطول من القيام، كما عرف بالاستقراء من صنيعه a، ففي حديث الكسوف: فركع نحوا من قيامه) فتح الباري:3/19.

([3])    الإحياء.

([4])    وهذا كما هو معلوم قول ابن عربي، وقد ذكر مثله بعض المعتزلة، وليس في هذا القول ما يمكن أن يبدع أو يكفر به أحد من الناس، فالصفر.. وإن لم يكن له وجود عيني إلا أن له وجودا ذهنيا اعتباريا، بالإضافة إلى كل ما نحلم به من أشياء ليست موجودة، فلولا ثبوتها مع عدمها ما أمكننا توهمها.

هذا عن القول أما ما قد يستلزمه هذا القول من مفاهيم خاطئة.. فذلك شيء آخر، والتوجه بالتخطئة حينئذ يكون للاستلزام لا للقول.

([5])    في ظلال القرآن: 1/106.

([6])    في ظلال القرآن: 1/106.

([7])    في ظلال القرآن: 1/106.

([8])    في ظلال القرآن: 1/106.

([9])    أحمد: 3/94، أبو يعلى: 7/55، الحاكم: 4/644.

([10])    رسالة في قنوت الأشياء: 27.

([11])    نص الحديث:( إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون ويقولون: نعم هذا الموت وكلهم قد رآه، فيؤمر به فيذبح، ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار! خلود ولا موت) رواه البخاري ومسلم.

([12])   رواه البخاري ومسلم.

([13])    انظر ما يرتبط بهذا من تفاصيل علمية، ومن دلائل الإعجاز العلمي: رسالة (معجزات علمية)

([14])    الترمذي: 2/472.

([15])    رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.

([16])    رسالة في قنوت الأشياء: 27.

([17])    رسالة في قنوت الأشياء: 27.

([18])    رسالة في قنوت الأشياء: 27، وقد ذكرنا رد هذه الشبهة في رسالة (معجزات حسية)

([19])    رواه ابن مردويه وأبو نعيم في فضائل الذكر.

([20])    رواه ابن أبي حاتم.

([21])    رواه مسلم.

([22])    التفسير الكبير.

([23])    رسالة في قنوت الأشياء: 43.

([24])    رسالة في قنوت الأشياء: 43.

([25])    رسالة في قنوت الأشياء: 43.

([26])    مسند الشاميين: 2/84، الفردوس بمأثور الخطاب: 4/76.

([27])   تفسير الرازي: 20/218.

([28])   تفسير الرازي: 20/218.

([29])    اعتبر السيوطي هذه الفاصلة من الفواصل التي لا يظهر فيها ارتباطها بموضوع الآية بادي الرأي، قال:( الختم بالحلم والمغفرة عقب تسابيح الأشياء غير ظاهر في بادى الرأي، وذكر في حكمته أنه لما كانت الأشياء كلها تسبح ولا عصيان في حقها وأنتم تعصون ختم به مراعاة للمقدر في الآية وهو العصيان، كما جاء في الحديث:( لولا بهائم رتع وشيوخ ركع وأطفال رضع لصب عليكم العذاب صبا ولرص رصا)، وقيل التقدير حليما عن تفريط المسبحين غفورا لذنوبهم، وقيل حليما عن المخاطبين الذين لا يفقهون التسبيح بأهمالهم النظر في الآيات والعبر ليعرفوا حقه بالتأمل فيما أودع في مخلوقاته مما يوجب تنزيهه) الإتقان: 2/276، وانظر: البرهان: 1/92.

([30])    نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 26.

([31])    انظر: الأمثل، للشيرازي.

([32])   من ذلك ما روي عن بعض أصحاب الإمام الصادق قال: سألت الإمام عن تفسير قوله تعالى: وإن من شئ إلا يسبح بحمده فقال: (كل شئ يسبح بحمده وإنا لنرى أن ينقض الجدار وهو تسبيحها)

وعن الإمام محمد الباقر قال:  نهى رسول الله a أن توسم البهائم في وجوهها، وأن تضرب وجوهها لأنها تسبح بحمد ربها.

وعن الإمام الصادق:  ما من طير يصاد في بر ولا بحر، ولا شئ يصاد من الوحش إلا بتضييعه التسبيح.

وروي أن الإمام الباقر ، فعندما سمع يوما صوت عصفور، فقال لأبي حمزة الثمالي – وكان من خاصة أصحابه -: ( يسبحن ربهن عز وجل ويسألن قوت يومهن)

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق نقرأ قوله ( عليه السلام):  للدابة على صاحبها ستة حقوق: لا يحملها فوق طاقتها، ولا يتخذ ظهرها مجلسا يتحدث عليها، ويبدأ بعلفها إذا نزل، ولا يسمها في وجهها، ولا يضربها فإنها تسبح، ويعرض عليها الماء إذا مر بها) انظر: نور الثقلين: 3/168.

([33])    مع كون هذا قول أكثر المفسرين إلا أن المحققين على خلافه، قال النووي:( وذهب المحققون من المفسرين وغيرهم إلى أنه على عمومه، ثم اختلف هؤلاء هل يسبح حقيقة أم فيه دلالة على الصانع فيكون مسبحاً منزهاً بصورة حاله، والمحققون على أنه يسبح حقيقة) النووي على مسلم:3/201.

([34])    البخاري: 1/88، مسلم: 1/240.

([35])    ولذلك نرى أن يكتفى من فهم الحديث الذي استدلوا به بما ذكر منه من الناحية العملية، فلا جدوى من الناحية النظرية لارتباطها بأمر غيبي ليس لدينا وسائل التعرف على كنهه.

والناحية العملية في هذا الحديث هي ما ذكره العلماء من استحباب قراءة القرآن عند القبر لهذا الحديث، لأنه إذا كان يرجى التخفيف بتسبيح الجريد، فتلاوة القرآن أولى، وقد ذكر البخاري في صحيحه أن بريدة بن الحصيب الأسلمي الصحابي  أوصى أن يجعل في قبره جريدتان، ففيه أنه  تبرك بفعل مثل فعل النبي a.انظر: النووي على مسلم: 3/201.

([36])    رواه أحمد والنسائي.

([37])    رواه أبو نعيم في الحلية وابن مردويه.

([38])    رواه أبو نعيم في الحلية وابن مردويه.

([39])    رواه ابن عساكر.

([40])    رواه العقيلي في الضعفاء وأبو الشيخ والديلمي.

([41])    رواه أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه.

([42])    رواه أحمد.

([43])    رواه النسائي وأبو الشيخ وابن مردويه.

([44])    رواه ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان، وهذا النص ينبغي فهمه ـ كما يفهم عتاب الله تعالى لنبيه a على معنى التربية والتأديب لا على أن الضفدع أو غيره أعرف بالله وأكثر ذكرا له من أنبيائه ، فرتبة النبوة لا تدانيها رتبة.

ومن هذا الباب أيضا ما روى البيهقي في شعب الإيمان، عن صدقة بن يسار  قال: كان داود u في محرابه، فأبصر درة صغيرة ففكر في خلقها وقال: ما يعبأ الله بخلق هذه؟ فأنطقها الله فقالت: يا داود أتعجبك نفسك؟ لأنا على قدر ما آتاني الله، أذكر لله وأشكر له منك، على ما آتاك الله.

([45])    رواه أحمد في الزهد وأبو الشيخ.

([46])    رواه أحمد وأبو الشيخ.

([47])    رواه أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه.

([48])    ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والخطيب.

([49])    رواه ابن أبي حاتم.

([50])    رسالة أيها الولد المحب، الغزالي.

([51])    رواه أبو الشيخ.

([52])    الظلال.

([53])    رواه النسائي وابن مردويه.

([54])    رواه أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه.

([55])    رواه أبو الشيخ.

([56])    رواه البـزار والطبراني في الأوسط،  وفي رواية الطبراني:( فسمع تسبيحهن من في الحلقة)، وفيه:( ثم دفعهن إلينا فلم يسبحن مع أحد منا)

([57])    رواه أبو الشيخ وأبو نعيم في الحلية.

([58])    رواه الخطيب.

([59])    رواه أبو الشيخ.

([60])    وقد ذكر النورسي بعض بركات هذه القطط، فقال:( كانت لي حصة من الغذاء كل يوم ـ كما يعلم أحبائي القريبون ـ قبل سنتين أو ثلاث وهي نصف رغيف، وكان رغيف تلك القرية صغيراً، وكثيراً ما كان لا يكفيني.. ثم جاءني أربع قطط ضيوفاً، وقد كفاني ذلك الغذاء وكفاهم. بل غالباً كانت تبقى منه فضلة وزيادة.

هذه الحالة قد تكررت عندي بحيث أعطتني قناعة تامة من أنني أنا الذي كنت استفيد من بركات تلك القطط! وأنا اعلن اعلاناً قاطعاً الان ان تلك القطط ما كانت حملاً ولا عبئاً عليّ ولم تكن تبقى تحت منتي، وانما انا الذي كنت ابقى تحت منّتها) انظر: المكتوب الحادي والعشرون.

([61])    الكلمة الثالثة والثلاثون.

([62])    الكلمة الثالثة والثلاثون.

([63])    الكلمة الثالثة والثلاثون.

([64])    الكلمة الثالثة والثلاثون.

([65])   الكلمة الثالثة والثلاثون.

([66])    رواه أحمد.

([67])   رواه الترمذي.

([68])   رواه  الطبراني.

([69])   رواه البيهقي في سننه، وأبو يعلى في مسنده.

([70])   أخرجه ابن النجار في تاريخه.

([71])  رواه أحمد وأبو داود.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *