ثانيا ـ الفداء

ثانيا ـ الفداء

لا يهمكم أن تعرفوا اسمي.. ولا مدى دقة ما حصل لي مما سأحكيه لكم.. بل كلوا البقلة، ولا تسألوا عن البقال..واستمتعوا بالنور، ولا يهمكم السراج الذي صدر منه.

بداية قصتي تبدأ من نهاية القصة الأولى التي سمعتموها من صاحبي المختفي الذي لا يكاد يرى.. فأنا كنت مثله مسيحيا، ثم بعد أن سمعت قصته خرجت من الثالوث إلى الوحدة.. ومن المسيحية المحرفة إلى المسيحية المصححة..

لكني وفي بداية إسلامي.. ومع إخلاصي فيه.. كانت في عقلي بعض لوثة من عقيدة الفداء التي غرست جذورها في أعماق كياني.. ولذلك كنت أسأل الله دائما أن يقيض لي من الأشعة ما يرفع منها كل أثر، ويمحو منها كل دنس.

وقد استجاب الله دعوتي..

فبينما كنت أسير في تلك المدينة العجيبة أمام بعض السجون بثياب رجال الدين.. التي كنت ألبسها لأصد عني كل شبهة.. سمعت سجينا يصيح بملء فيه : ( أنا بريء.. أنا بريء..)

لم ألتفت في البدء لهذا الصياح.. فأنا أعلم أن كل السجناء يرددون مثل هذا.. فمن الصعب على المجرم أن يعتقد أنه مجرم.. ولو اعتقد أنه مجرم لربما كان ذلك سببا لتوبته وإقلاعه عن إجرامه.

لكن صياحه اشتد.. وصرت أسمعه يقول: ( نعم.. الجريمة وقعت.. ووقعت في بيتي.. لكن أبي هو المسؤول عنها.. لقد أقر أمامكم بذلك.. فلماذا أخذتموني بدله؟)

عندما قال هذا بدأت الوساوس تخطر على بالي، وقلت لنفسي: تعالي معي.. لعل لهذا المجرم من الشأن ما يستدعي أن أقف بجانبه.

دخلت إلى السجن.. وطلبت مقابلة السجين.. وبما أني رجل دين، فقد لقيت استقبالا حارا من إدارة السجن.. بل إن المدير نفسه عندما سمع بقدومي هرع لاستقبالي، ثم أدخلني مكتبه..

وفي مكتبه سألته عن سر ذلك السجين، فقال: أي سجين؟

قلت: ذلك الذي يصيح ببراءته.. وبأن أباه هو الذي ارتكب الجريمة بدله.

قال: آ.. تقصد (أوغسطينوس)([1])

قلت: من (أوغسطينوس)؟

قال: ذلك السجين الذي تتحدث عنه.. إنه لا يكف عن ذلك الصياح.. لقد حاولنا أن نستعمل معه كل الوسائل لإسكاته فلم نفلح..

ثم ابتسم، وقال: لطالما أثار عطف من يمر بهذا الشارع.. كلهم يأتيني راجيا أن يفرج عنه.

ثم ثتاءب، وقال: ومع ذلك.. فإن السجن استفاد من صياحه هذا.. لقد صار هذا السجن أشهر سجن في هذه المنطقة جميعا بسببه.

قلت: فما جريمته؟.. ولم يصيح بهذا الصياح؟ 

قال: هذا رجل متهم بجريمة كبيرة.. وعقابها قد لا يقل عن الإعدام.. ولم يبق لإعدامه إلا أيام معدودة.. ولذلك تراني شديد الحزن عليه.

قلت: لم؟

قال: هكذا.. لست أدري.. لقد جبلت مذ كنت صبيا على رحمة شديدة.. قد لا تناسب الوظيفة التي وكلت إلي..

قلت: أليس من الممكن التخفيف عنه.. كأن تحكموا عليه بالمؤبد بدل الإعدام؟

قال: لا.. لا يمكن ذلك.. لقد ورد القرار النهائي.. ولا يمكن الطعن فيه ولا التغيير..

قلت: أليس هناك من حل؟

قال: ليس هناك إلا حل واحد.

قلت: ما هو؟

قال: أن أقدم ولدي الوحيد فداء له..

قلت: كيف تقول هذا.. وما ذنب ولدك المسكين.. وكيف تزعم الرحمة وأنت تريد أن تفعل هذا بولدك؟

قال: لقد قال لنا أصحاب القرار الذين طلبنا منهم أن يراجعوا قرارهم بشأن السجين: ( ليس هناك من حل إلا إذا تطوع السجان بأن يقدم ولده فداء له وبدلا عنه)

قلت: لكني سمعت الرجل يخبر أنه ليس مجرما.. وأن الذي قام بالجريمة والده.. ألا يمكن أن تعيد المحكمة التحقق من هذا الكلام؟

قال: ولماذا تعيد المحكمة التحقق؟

قلت: ربما يكون كلامه صادقا.. قد لا يكون هو الذي ارتكب الجريمة.. وقد يكون والده بالفعل هو الذي ارتكبها.

قال: المحكمة لا تحتاج للتحقيق في هذا.

قلت: لم؟

قال: لأنها حققت.. ولم تحكم عليه إلا بعد تحقيقها.

قلت: هل عرفت المحكمة أنه هو الذي ارتكب الجريمة لا أبوه؟

قال: لا.. بل عرفت أن أباه هو الذي ارتكب الجريمة.. لقد أقر أبوه بذلك.. بل طلب العفو لذلك.. فعفي عنه.

قلت: ولماذا تعاقبون الولد المسكين ما دام والده هو الذي ارتكب الجريمة.. بل أقر بها فوق ذلك؟

قال: لا شك أنك لا تعرف هذه المحكمة..

قلت: كيف لا أعرف المحاكم؟

قال: هذه المحكمة محكمة خاصة.. إنها محكمة تطبق الشريعة المسيحية.. بل إنها تطبق الشريعة الربانية.

قلت: الرب يأمر بالعدل.. لا بالظلم.. وبالرحمة لا بالقسوة.. وبأن يلاقي كل مجرم جزاءه، لا بأن يلاقيه ابنه بدلا عنه.

ثم العجب فوق ذلك أن تربط هذه المحكمة الممتلئة بالجور العفو عنه بأن يقدم ولد السجان البريء روحه فداء له.

نهضت غاضبا، وأنا أردد: أي محكمة هذه؟.. هذه عصابة لا محكمة.

قال بغضب لا يقل عن غضبي: ولماذا إذن تذكرون بأن المسيح ـ الذي هو ابن الله الوحيد ـ صلب لأجل فداء البشرية من خطيئة لم يفعلوها.. ؟

أليس الوضع واحدا؟

ارتدت إلي نفسي، وجلست، وقد أيقنت بأن الله قد يرفع عني على لسان هذا السجان ما يملؤني بالوساوس، ولذلك تظاهرت بمسيحية مخلصة صادقة، فقلت: لقد اجتمع رأي القديسين وآباء الكنيسة على هذا..

قال السجان، وقد اعتدل في الجلسة: يسرني أن أسمع من أهل الكنيسة ما قال آباء الكنيسة.. فاشرح لي عقيدة الفداء.. فلا يزال ذهني كليلا دون فهم أسرارها.

قلت: لقد كان سانت أوغسطينوس في مقدمة القديسين الذين قدموا تفسيراً متكاملاً لهذه العقيدة..

قاطعني، وقال: تقصد أن هذا السجين هو الذي قال هذا..

ابتسمت، وقلت: لا.. أقصد القديس أوغسطينوس.. لقد مضى على وفاته قرونا طوالا.

قال: فما ذكر في كشف أسرار هذه العقيدة؟

قلت: اسمعني خطوة خطوة.. وستفهم هذه العقيدة بجميع أبعادها.

قال: كلي سمع لك.. فتحدث.. ولكن لا تتحدث إلا باللغة التي أفهمها.

قلت: لكي تفهم العقيدة المسيحية في هذا الباب تحتاج إلى التعرف على سبع عقائد كبرى تقوم عليها المسيحية لا يمكنها أن تفهم المسيحية، ولا أن تدين بها من دونها.. أن تعرف الخطيئة الأولى.. ثم العقوبة الخاصة المرتبطة بها.. ثم تعرف كيف ورث آدم الخطيئة لذريته.. ثم تعرف العقوبة العامة لأجل تلك الخطيئة الموروثة.. ثم تعرف القانون الذي وضعه الله لتكفير الخطايا.. ثم تعرف أن المسيح صلب.. ثم تعرف أنه صلب لأجل أن يفتدى المسيح البشرية بصلبه..

1 ـ الخطيئة الأولى

قال: فحدثني عن العقيدة الأولى.. حدثني عن الخطيئة الأولى.

قلت: حدثت الخطيئة الأولى عندما خلق الله آدم وحواء.. وأدخلهما جنته.. ونهاهما عن الأكل من أحد أشجارها.. فأغوى إبليس حواء.. فوقعت هي وزوجها في شراك كيده.. وأكلا من الشجرة المحرمة..

لقد نص على هذا سفر التكوين.. ففيه:( وأخذ الرب الإله آدم، ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها، وأوصى الرب الإله آدم قائلاً: من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً.. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل أكلاً.. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت..

وكانت الحية أحيَل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله؟، فقالت للمرأة: أحقاً قال الله: لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه، ولا تمساه لئلا تموتا.

فقالت الحية للمرأة لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر، فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر، فأخذت من ثمرها، وأكلت، وأعطت رجلها أيضاً معها، فأكل فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان. فخاطا أوراق تين، وصنعا لأنفسهما مآزر.

وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم، وقال له: أين أنت؟

فقال: سمعت صوتك في الجنة، فخشيت لأني عريان، فاختبأت، فقال: من أعلمك أنك عريان ؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت.

فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: الحية غرّتني فأكلتُ.

فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم. ومن جميع وحوش البرية على بطنك تسعين، وتراباً تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينكِ وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه.

وقال للمرأة: تكثيراً أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولاداً، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك.

وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك، وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلاً: لا تأكل منها. ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكاً وحسكاً تنبت لك، وتأكل عشب الحقل، بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب، وإلى تراب تعود…

وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر، والآن لعله يمد يده، ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً، ويأكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها، فطرد الإنسان، وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم، ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة ) (التكوين 2/15-3/24)

هذا هو الأمر الأول الذي تنبني عليه عقيدة المسيحيين في الفداء.. أما العقيدة الثانية..

قاطعني، وقال: دعنا نفهم هذا النص أولا.. فلا يصح أن نمر على الكلمات المقدسة من دون تثبت وتدبر..

قلت: لك الحق في ذلك.. فكل كلمة في الكتاب المقدس تحوي من المعاني ما يحتاج إلى تأمل طويل.

قال: لقد نسبت هذه الفقرات التي كنت تقرؤها الإغواء إلى الحية.. فهل هي حية حقيقية أم أنها رمز للشيطان (انظر الرؤيا 20/2)؟

قلت: أظن أنها حية حقيقية.. فإن سفر التكوين كان يتحدث عن حية حقيقية، وليس عن معنى رمزي، فقد وصف الحية بأنها من البهائم.. فقد قال عنها : ( الحية أحيل جميع حيوانات البرية)، وقال عنها: ( ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تسعين)

فهذه النصوص تدل على أنها حية حقيقية.. وأنها التي نراها إلى يومنا هذا وهي تسعى على بطنها، عقوبة للعصيان، كما جاء في السفر التوراتي.

التفت إلي، وقلت: ما مرادك من هذا السؤال؟

قلت: هو مجرد تساؤل.. فكثيرا ما خطر على بالي السؤال عن الحيوان.. وهل يكلف ويعاقب أم لا؟.. وهل تكليفه قبل آدم أم بعده؟..، وهل أرسل الله له رسلا من جنسه أم لا؟.. وغير ذلك من التساؤلات.

دعنا منها جميعا.. وعد بنا إلى المعصية التي وقع فيها آدم.. ما هي معصية آدم؟

قلت: لقد أجاب سفر التكوين عن ذلك.. لقد ذكر أن آدم أكل من الشجرة المحرمة، شجرة معرفة الخير والشر، لقد عرف هو وزوجه الخير والشر.

قال: وما في ذلك؟.. أليست المعرفة هي السلم الوحيد للوصول إلى الحقيقة؟.. فهل كان بحث آدم عنها وتشوقه إليها جريمة؟.. أليس ذلك تحقيقاً للمشيئة الإلهية في إقامة الجنس البشري؟.. ثم ألا ترى من الظلم أن يعاقب آدم – حسب النص – على ذنب ما كان له أن يدرك قبحه، إذ لم يعرف بعدُ الخير من الشر؟

قلت: أرى أنك تسأل تساؤلات خطيرة.. قد تؤثر على عقيدتك كمسيحي؟

قال: اعذرني.. أنا لم أعرفك بنفسي.. نعم أنا مسيحي.. ولكني في الأصل كنت مسلما.. ولهذا فإن التساؤلات التي أسألها نابعة من عقائدي السابقة التي أحاول أن أتخلص منها.. أنا لا أسألك لأنكر عليك، وإنما أسألك لترد الشبهات التي تحاول أن تنحرف بعقلي عن الدين الوحيد الصحيح الذي رضيه الله للبشرية.

لقد رأيت القرآن الكريم يذكر ما وقع فيه آدم من أكل الشجرة.. ولكنه مع ذلك لا يبالغ مثل هذه المبالغة في شأنها.. بل نجده يكاد يلتمس الأعذار لآدم في ذلك..

فقد ذكر القرآن الكريم نسيانه للأمر الإلهي، قال تعالى :{ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } (طـه:115)

وورد في الحديث:( حاجَّ موسى آدم فقال له: (أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟)، قال آدم:( يا موسى أنت الذي اصطفاك اللّه برسالاته وبكلامه؟ أتلومني على أمر كتبه اللّه عليّ قبل أن يخلقني، أو قدره اللّه عليَّ قبل أن يخلقني؟)، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم:( فحج آدم موسى)([2])

وأجد فيه أنه بمجرد أن تاب تاب الله عليه.. ففي القرآن :{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة:37)

قلت: ألا ترى أن آدم بتصرفه ذلك قد وضع قوته الإرادية في غير موضعها عندما تناول ما حرم عليه..

قال: أجل.. أعلم ذلك.. وكل إنسان قد يكون معرضا لذلك..

قلت: وهو بتصرفه ذلك قد ارتكب ـ حسبما ينص القديسون وآباء الكنيسة ـ على جرائم عظيمة:

أولها.. أنه كفر.. إذ اختار أن يعيش محكوماً بسلطته، بدل أن يعيش في ظل الحكم الإلهي.

وثانيها.. أنه أساء الأدب مع الله.. لأنه لم يتيقن في الله.

وثالثها.. أنه قتل نفسه.. إذ جعل حكمها الموت.

ورابعها.. أنه زنا زنا معنويا.. لأن إخلاص الروح الإنسانية قد ضاع من أجل التصديق بقول الحية المعسول.

وخامسها.. أنه سرق.. إذ نال ما لا يحل له.

وسادسها.. أنه طمع.

وفوق ذلك كله.. فإنه فعل المعصية بإصرارا وتعمد.. فلم يكن صعباً عليه تحاشي المعصية.. إذ لم يكن يعرف يومذاك عواطف الهوس والشهوة.

لقد كانت هذه الخطيئة بالجرائم الكثيرة التي تحملها أمَّاً لكل الأخطاء البشرية.. فمهما أمعنت في حقيقة أي إثم، فستجد له انعكاساً في هذه الخطيئة الواحدة.

2 ـ العقوبة الخاصة

قال: لا بأس.. سلمت لك بهذه العقيدة.. فآدم قد أخطأ خطأ كبيرا..

قلت: وقد استحق بذلك أن تنزل عليه العقوبة..

قال: وهذه هي العقيدة الثانية.. فحدثني عنها.

قلت: لقد تحدث سفر التكوين ـ كما قرأنا من قبل ـ على عقوبات ثلاث طالت آدم وحواء والحية:

أما الحية فكانت عقوبتها هي ما نص عليه في قول الرب لها: ( ملعونة أنت من جميع البهائم، ومن جميع وحوش البرية على بطنك تسعين، وتراباً تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه )

وأما عقوبة حواء، فهي ما نص عليه في قول الرب لها:  ( تكثيراً أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولاداً، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك )

وأما عقوبة آدم، فهي ما نص عليه في قول الرب له: ( ملعونة الأرض بسببك، وبالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكاً وحسكاً تنبت لك، وتأكل عشب الحقل، بعرق وجهك تأكل خبزاً )

قال: اسمح لي أن أبدي بعض الملاحظات.. لقد ذكرت لك أني إنسان مجادل.. وأني يصعب إقناعي.. فاصبر علي..

ابتسمت، وقلت: قل ما تشاء.. فلن تجد في إلا الصدر الواسع.

شجعه ذلك على الحديث، فقال: اسمح لي أن أبدأ بالحية.. أنا مغرم بالحيات.. وبعالم الحيات.. ولدي في بيتي منها الكثير.. أنا كلما نظرت إليها أتساءل: هل كانت الحية قبلُ مستوية القامة.. حسناء جميلة.. لا تأكل التراب.. بل تبلع الحيوان؟

وأتساءل بعد ذلك.. هل كانت الحيات قبل المسيح تأكل التراب.. وأن الذي رفعه عنها هذه العقوبة هو المسيح بعد صلبه؟

لست أدري..

التفت إلي، وقال: هل لديك علم يرتبط بهذا؟ 

أردت أن أجيب، فقال: دعنا من الحيات.. فلنتحدث عن الإنسان.. فنحن ـ كما ترى ـ بشر، ولسنا حيات.

قلت: أجل.. فهل لديك إشكالات ترتبط بالإنسان؟.. قلها.. فأنا رجل دين متفتح تماما..

قلت ذلك لأستحثه.. فقد كان لكلامه من المنطق العقلي ما كانت نفسي تهفو إليه.

قال: أجل.. لقد ذكرت أن المرأة عوقبت بأمرين: أحدهما جسماني، وهو أتعاب الحمل والولادة.. وثانيهما: معنوي نفسي، وهو دوام اشتياقها للرجل، وأنه يسود عليها.

قلت: أجل.. ذلك صحيح.. وهو ما نص عليه سفر التكوين.

قال: ألا ترى أن هذه العقوبة تختلف عن العقوبة التي هدد بها من يأكل من الشجرة.. لقد ورد في نفس السفر:( وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت)؟

قلت: قد يفسر الموت بالموت المعنوي.. 

قال: ولكن السياق لا يدل عليه.. بالإضافة إلى أني وجدت بولس يقول: ( كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع ) ( رومية 5/23 )

بالإضافة إلى أن النص يقول: ( لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت)، فكأن هذا يصرف الموت عن المجاز إلى الحقيقة، فكما أن الأكل حقيقي، فإن الموت حقيقي أيضا.

قلت: أنا أيضا.. أرى ما ترى، فالنص يكاد يكون صحيحا في دلالته على هذا..

قال: لا بأس.. هناك مسألة أخطر من هذا.. لطالما راودتني..

قلت: ما هي؟

قال: لطالما تساءلت.. من يتحمل وزر الذنب آدم أم حواء؟

قلت: الكتاب المقدس ينص على أن الذي يتحمله هو حواء.. ففيه أن حواء التي أغوتها الحية فأكلت (وأعطت رجلها أيضاً معها، فأكل)، ولما سئل عن فعلته قال آدم: ( المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة، فأكلت)،

لقد صرح بولس ببراءة آدم، فقال: (وآدم لم يغو، لكن المرأة أغويت، فحصلت في التعدي) (تيموثاوس(1) 2/14 )، لأنه (كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم ) (رومية 5/12)

قال: اسمح لي أن أذكر بأن القرآن يخالف الكتاب المقدس في هذا.. فعندما تحدث القرآن عن خطيئة آدم حمّل آدم وهو الرجل المسؤولية الأولى.. ففيه :{ فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (طـه:121)

أردت أن أغير مجرى الحديث، فقلت: بالمناسبة.. لقد عرفت ما ذكره الكتاب المقدس عن عقوبة آدم وزوجه والحية.. فما ذكر القرآن من ذلك.. ألم تقل لي بأنك كنت مسلما؟

قال: بلى.. لقد رأيت القرآن تناول هذه الناحية بما يربطها بالحياة البشرية على الأرض.. لقد نص القرآن على عقوبتين:

أما إحداهما، فتوجهت إلى الشيطان.. وقد توجهت إليه مباشرة بعد رفضه السجود لآدم ومجادلته لله في ذلك.. لقد نص على هذه العقوبة في القرآن الكريم في مواضع منه.. منها هذا النص الذي يبين سبب العقوبة ونوعها:{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ ألا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)} (الأعراف)

أنت ترى من خلال هذا النص أن إبليس كان مصرا على معصيته.. وأنه مع ذلك طلب أن ينظر ليمارس معاصي جديدة هي إغواء آدم وذريته.. وقد وفى بما وعده عندما وسوس لآدم.. أما عقوبته فهي العذاب في نار جهنم، هو ومن اتبعه من بني آدم.

وأما الثانية.. فقد توجهت لآدم وزوجه.. وقد اختلفت كثيرا عن عقوبة الشيطان.. لأن آدم وزوجه بمجرد أن وقعا في الخطيئة تابا إلى الله.. ولذلك، فإن عقوبتهما ارتبطت بالدنيا.. ففي القرآن :{ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} (طه)

قلت: لقد ذكر القرآن عقوبة مرتبطة بالآخرة في الآيات التي قرأتها.

قال: العقوبة المرتبطة بالآخرة لا تتعلق بأكل آدم من الشجرة.. بل تتعلق بما سيسلكانه في الحياة.. فإن سلكا طريق الله عادا إلى جنة أشرف وأكمل.. وإن سلكا طريق الشيطان حشرا معه في نار جهنم.

قلت: والحية.. ما عقوبة الحية؟

قال: لم يذكر القرآن أي حية.. القرآن ذكر إبليس وأنه وسوس لآدم وزوجه.

قلت: عن طريق الحية.

قال: لم ينص القرآن على ذلك..

قلت: فكيف وصلت وساوس إبليس لآدم وزوجه؟

بمجرد أن سألت هذا السؤال رن الهاتف، فاستأذنني.. وبعد أن أنهى المكالمة قال لي: اعذرني.. هذا صديق لي في أمريكا دائم الاتصال بي.. عد بنا إلى ما كنا فيه.

قلت: لقد سألتك عن الكيفية التي وصلت بها وساوس إبليس لآدم وزوجه.

ابتسم، وقال: وما الكيفية التي وصلت بها كلمات صديقي من أمريكا لي؟

قلت: عبر الموجات.. فالموجات هي التي أوصلت كلامه إلى جهاز استقبالك.

قال: أفترى البشر أقدر على صناعة مثل هذه الأجهزة من الشياطين؟

ابتسمت، وقلت: ألهم هواتف مثلنا؟

قال: لا تسأل عن الكيفية.. ففي الكيفية تحتار العقول.. وتخطئ العقول.

3 ـ وراثة الخطيئة

قلت: دعنا من هذا.. وهلم نتحدث عن العقيدة الثالثة.. عقيدة وراثة الخطيئة.. ألديك تساؤلات حولها؟.. قل ولا تهب.. فصدري واسع لكل ما تذكره.

قال: لدي تساؤلات كثيرة حولها.. ولكني لن أذكرها لك حتى تشرح لي ما تراه فيها.. فربما كان سبب تساؤلاتي أني أحمل نظرة خاطئة عنها.

قلت: لقد شرحها آباء الكنسية وقديسوها بما لا مزيد عليه..

قال: فما ذكروا؟

قلت: لقد ذكروا أنه بعد أن هزمت الخطيئة آدم سلب الله منه الحرية الإرادية، فأصبح حراً في إتيان الإثم، وغير حرٍ في صنع المعروف، فالعقاب المعقول للذنب هو الذنب بعده، بعد تخلي رحمة الله عنه.

وهكذا أصبحت الخطيئة مركبة من طبيعة الأبوين، وانتقلت منهما وراثة إلى سائر أبنائهما.. فيولد الطفل وهو مذنب، لأن وباء الخطيئة قد سرى إلى هذا الطفل وراثة.. 

لقد قال القديس أوغوسطينوس يشرح ذلك: ( إن آدم هو ـ كما يروي سفر التكوين ـ أول إنسان خلقه الله على الأرض، وهذا الإنسان قد ارتكب الخطيئة الأولى التي يروي الفصل الثالث من سفر التكوين أحداثها، وبسبب وضعه المميّز في الفردوس ومسؤوليته الشاملة كجدّ للبشرية كلها، فقد انتقلت الخطيئة بالوراثة منه إلى جميع الناس)

وصور القديس (توماس أكويناس) (1274م) ذلك بالذنب تذنبه الروح، لكنه ينتقل إلى أعضاء وجوارح الإنسان.

وهكذا أصبح البشر جميعاً خطاة، وكما يقول عوض سمعان في كتابه ( فلسفة الغفران في المسيحية): (وبما أن آدم الذي ولد منه البشر جميعاً كان قد فقد بعصيانه حياة الاستقامة التي خلقه الله عليها، وأصبح خاطئاً قبل أن ينجب نسلاً، إذن كان أمراً بدهياً أن يولد أبناؤه جميعاً خطاة بطبيعتهم نظيره، لأننا مهما جُلنا بأبصارنا في الكون لا نجد لسنة الله تبديلاً أو تحويلاً، ولذلك قال الوحي: ( بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم ) ( رومية 5/12 – 21 ).

وقد شبه (كالوني) أحد علماء البروتستانت انتقال الخطيئة لبني آدم بانتقال الوباء، فقال:(حينما يقال: إننا استحققنا العذاب الإلهي من أجل خطيئة آدم، فليس يعني ذلك أننا بدورنا كنا معصومين أبرياء، وقد حملنا ظلماً ذنب آدم.. الحقيقة أننا لم نتوارث من آدم العقاب فقط، بل الحق أن وباء الخطيئة مستقر في أعماقنا، على سبيل الإنصاف الكامل، وكذلك الطفل الرضيع تضعه أمه مستحقاً للعقاب، وهذا العقاب يرجع إلى ذنبه هو، وليس من ذنب أحد غيره)

وبرر (ندرة اليازجي) هذه العقيدة تبريرا حسنا، فقال: ( آدم هو مثال الإنسان، الإنسان الذي وجد في حالة النعمة وسقط، إذن سقوط آدم من النعمة هو سقوط كل إنسان، إذن خطيئة آدم هي خطيئة كل إنسان، فليس المقصود أن الخطيئة تنتقل بالتوارث والتسلسل لأنها ليست تركة أو ميراثاً.. إنما المقصود أن آدم الإنسان قد أخطأ، فأخطأ آدم الجميع إذن، كل واحد قد أخطأ، وذلك لأنه إنسان)

ابتسم، وقال: هل تأذن لي في أن أطرح تساؤلاتي الثقيلة؟.. اسمح لي فأنا ثقيل بطبعي.. لا أستطيع أن أجامل، ولا أن أكتم.. ربما كان هذا من دلائل إخلاصي وصدقي في البحث.. وربما كان نوعا من الهرطقة..

على العموم.. أنا لا أقصد إلا البحث عن الحقيقة..

قلت: تحدث كما يحلو لك.. فقد ذكرت لك أني مستعد لأسمع كل ما تقول.

قال: أنا أرى أن ما ذكره هؤلاء الآباء الكرام، وهؤلاء القديسون المبجلون ـ مع احترامي لهم ـ لا يعدو أن يكون مجرد تبريرات متهافتة.. هي أقرب إلى لغة الدبلوماسية منها إلى لغة العقل..

أعجبتني صراحته، وقد دعاني ذلك إلى استفزازه ليقول كل ما عنده، فقلت: ألا ترى أنك تظلمهم بذلك؟

قال: لا.. هم الذين يظلمون عقولهم بذلك.. ألا ترى أن تشبيههم لوراثة الذنب بعدوى المرض لا أساس له من الصحة.. ذلك أن المرض شيء غير اختياري.. فلا يقاس الذنب عليه، كما أن المرض لا يعاقب عليه الإنسان.

ومثل ذلك فصل (أكونياس) بين الروح والجسد وقوله بـ (أن الخطيئة تسري من الروح للجوارح).. إن هذا غير صحيح.. لأن الخطأ عندما يقع فيه الإنسان، فإنما يقع فيه بروحه وجسده.. فالإنسان مركب منهما، ويمارس حياته من خلالهما معاً.. أما آدم فهو غير مركب من آدم وأبنائه.

قلت: لعلك لم تقرأ ما ورد في القرآن.. فقد ورد فيه :{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (لأعراف:172)

قال: بلى..

قلت: إن هذه الآية تنص على أن الله استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم.. وهذا يعني أن ذرية آدم كانوا مع آدم في الجنة.. وكانوا معه حين ارتكب الخطيئة.. وبالتالي يتحملون معه وزرها.

ابتسم، وقال: إن ما تنص عليه الآية مختلف تماما.. إنها تذكر أن الله أودع في الفطر الإنسانية معرفته.. لقد وردت الأحاديث تدل على هذا.. ففي الحديث : ( كل مولود يولد على الفطرة – وفي رواية: على هذه الملة – فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء)([3])

إن هذا حقيقة من حقائق الإسلام الكبرى.. فالأصل في الإسلام براءة الإنسان من كل ذنب لم يفعله..

لقد ورد في القرآن الآيات الكثيرة الدالة على هذا.. سأسوق لك منها ما يكفي لدلالتك على ذلك.. ففيه :{ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} (الأعراف).. أي لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يجني جانٍ إلا على نفسه.

وفي آية أخرى :{ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ } (فاطر: 18)

وفي آية أخرى:{ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلا مَا سَعَى} (لنجم:39)

وفي آية أخرى:{ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} (مريم:80)

وفي آية أخرى :{ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} (مريم)

إن هذه النصوص وغيرها كثير تقرر المسؤولية الفردية، وأن كل إنسان مسؤول عن خاصة نفسه في عمله وسلوكه وحياته، ثم هو نتيجة هذه المسؤولية سيحاسب وحده، وسيلقى الله وحده.

قلت: ولكن ألم تقرأ هذه الآية :{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ } (العنكبوت: 13).. وهذه الآية :{ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } (النحل: 25)

قال: هاتان الآيتان لا تعارضان النصوص السابقة.. بل هي تؤيدها وتقويها.

قلت: كيف ذلك.. أنا أراهما متعارضتان.

قال: أجبني.. أرأيت لو أن شخصا أخطأ فشرب الخمر أو ارتكب أي معصية.. ألا يحاسب على ذلك؟

قلت: بلى..

قال: أرأيت لو أنه لم يكتف بشربه ولا بمعصيته.. بل راح ينشر المعاصي ويدعو إليها ويستعمل كل الأساليب لذلك، فغر بسببه ناس كثيرون.

قلت: يحاسبون جميعا على ما فعلت أيديهم.

قال: ألا ترى أنه سيتميز عنهم بمزيد من العقاب؟

قلت: بلى.. فهو لم يكتف بأن يعصي.. بل راح يحرض عليها.. وربما كان التحريض أكبر من الخطيئة نفسها.

قال: ولذلك نصت تينك الآيتين على أن الإنسان قد يتحمل أوزار غيره إن كان سببا فيها..

وقد وردت النصوص الكثيرة تدل على هذا.. وتعتبر أن الداعية للأعمال حسنة أو سيئة ينال جزاء دعوته أو إثمها:

ففي الحديث عن جرير قال: كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء قوم عراة مجتابي([4]) النمار([5]) ـ أي لابسيها ـ قد خرقوها في رءوسهم مقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى ما بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء:1)، والآية التي في سورة الحشر :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر:18) تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال : ولو بشق تمرة.. فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تهلل كأنه مدهنة([6]) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء )([7])

وفي حديث آخر:( إن هذا الخير خزائن، ولتلك الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحا للخير مغلاقا للشر، وويل لعبد جعله الله مفتاحا للشر مغلاقا للخير)([8]

ابتسمت، وقلت: فأنت تريد أن تنسخ ما ذكره الآباء والقديسون بما ورد في القرآن..

قال: لا.. لم أقصد ذلك.. ليس القرآن وحده هو الذي يقرر هذا.. لقد قرأت الكتاب المقدس.. فوجدته يقرر هذه الحقيقة تقريرا قطعيا لا شك فيه.. ولست أدري كيف غاب ذلك عن قديسينا الأجلاء..

سأقرأ عليك بعض ما أحفظه من نصوص الكتاب المقدس التي تدل على هذا، كما قرأت لك من القرآن ما يدل عليه:

لقد ورد في (حزقيال 18/20 – 21 ): (النفس التي تخطيء هي تموت، الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن، بر البار عليه يكون، وشر الشرير عليه يكون )

وفي ( التثنية 24/16 ): ( لا يقتل الآباء عن الأولاد، ولا يقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيئته يقتل )

وفي (إرمياء 31/30 ): ( بل كل واحد يموت بذنبه، كل إنسان يأكل الحصرم تضرس أسنانه )

وفي ( إرميا 32/19): ( الذي عيناك مفتوحتان على كل طرق بني آدم لتعطي كل واحد حسب طرقه، وحسب ثمرة أعماله )

وفي ( الأيام (2) 25/4 ): ( لا تموت الآباء لأجل البنين، ولا البنون يموتون لأجل الآباء، بل كل واحد يموت لأجل خطيته )

وفي ( حزقيال 18/17 ): ( فإنه لا يموت بإثم أبيه )

وفي ( التكوين 18/23 – 25): ( أفتهلك البار مع الأثيم، عسى أن يكون خمسون باراً في المدينة، أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين باراً الذين فيه، حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر: أن تميت البار مع الأثيم، فيكون البار كالأثيم. حاشا لك، أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً )

كما أنكر المسيح الخطيئة الأصلية بقوله ـ كما في ( يوحنا 15/22 – 24 ) ـ: ( لو لم آت وأكلمهم، لم تكن لهم خطيئة، وأما الآن فليس لهم حجة في خطيئتهم.. لو لم أعمل بينهم أعمالاً لم يعملها آخر، لما كانت لهم خطيئة، أما الآن فقد رأوا وأبغضوني ).. إن هذا النص لا يتحدث عن خطأ سابق عن وجوده، بل عن خطأ وقع فيه بنو إسرائيل تجاهه، هو عدم الإيمان بالمسيح، وليس فيه أي ذكر للخطيئة الموروثة، بل هو ـ كما يبدو ـ لا يعرف شيئاً عنها.

سكت قليلا، ثم قال: أنا أعلم أن العقيدة المسيحية لا تستند فقط للنصوص المقدسة.. فهناك أيضا رجال الدين الذين لهم سلطة لا تقل عن سلطة المقدس..

هؤلاء أيضا بحثت فيما ذكروا.. فوجدت الكثير منهم ينكر هذا..

لقد رأيت بعيني مخطوطات نجع حمادي المكتشفة بعد الحرب العالمية الثانية، وقد رأيت أنها خلت تماما من الحديث عن الخطيئة والغفران الذي يتحدث عنه آباء الكنيسة.

وفوق ذلك رأيت منكرين محترمين لهذه العقيدة من المسيحيين أنفسهم:

أذكر منهم ـ على سبيل المثال ـ الراهبان في روما في مطلع القرن الخامس (بيلاجوس) و(سليتوس) وأصحابهما، فقد أنكروا سريان الخطيئة الأصلية إلى ذرية آدم، واعتبروه مما يمنع السعادة الأبدية، وقالوا بأن الإنسان موكول بأعماله.

ومنهم (كوائيليس شيس) الذي نقلت عنه دائرة المعارف البريطانية أنه قال: ( ذنب آدم لم يضر إلا آدم، ولم يكن له أي تأثير على بني النوع البشري، والأطفال الرضعاء حين تضعهم أمهاتهم يكونون كما كان آدم قبل الذنب)

ومنهم الميجور جيمس براون الذي وصف فكرة وراثة الذنب الأول بقوله: (فكرة فاحشة مستقذرة، لا توجد قبيلة اعتقدت سخافة كهذه)

قلت: أرى أن لك اطلاعا واسعا على الكتاب المقدس وعلى ما يقول رجال ديننا.. فما الذي دعاك إليه؟

قال: وكيف لا أطلع.. إن هذه المسائل تتقرر من خلالها سعادتي الدائمة وشقائي الدائم.. إنها ليست مسائل لهو ولعب.. بل هي مسائل حياة أو موت.

قلت: فكيف ظهر لك أن تبحث في هذا خصوصا، وتنكره؟

قال: أنا لا أنكر.. وإنما أتعجب وأتساءل.. وأبث إليك بما تمتلئ به نفسي من شبهات..

لقد كان أول ما دعاني للبحث في هذا رجال من الناس.. كنت أبشرهم بالمسيح.. وعندما ذكرت لهم وراثة الخطيئة قام أحدهم وسألني بأدب، قائلا : ( هل ذنب آدم هو الذنب الوحيد الذي يسرى في ذريته أم أن جميع الخطايا تتوارث؟).. فقلت له: بل ذنب آدم وحده.. فقال: لم خص آدم دون غيره.. ولم خص ذنب آدم دون غيره؟

وقام آخر، وقال: ألا ترى أن هناك فرقا بين وراثة الصفات.. ووراثة الأفعال المكتسبة التي لا يتم توراثها.. فالابن مثلاً يرث من أبية ومن أمه وأجداده صفات كالطول ولون العينين وشكل أجزاء جسمه وحجمها، ولكنه لا يرث الخطيئة.. فلو أن أباك المباشر اقترف إثما، فهل ترث إثمة كما ترث لون عينية؟ ولو أن الأب اختار أن يكون مجرماً، فهل يعني ذلك أن ابنه سيرث منه هذه الطبيعة؟  ومثل ذلك، فإن الاب إن كان صالحاً.. فإن ذلك لا يعنى بالضرورة أن الابن سيكون مثله، لأنه ورث طبيعة والده؟

كان معنا في ذلك الحين مسلم، فقام، وقال: لقد ذكر القرآن هذا.. ليبين أن كل إنسان لا يمكن أن يؤثر فيه غيره مهما كان ذلك الغير..

لقد ذكر نموذج نوح u وخلافه مع ابنه، فقال :{ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)} (هود)

وذكر نموذج إبراهيم، وخلافه مع أبيه، فقال :{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى ألا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)} (مريم)

وذكر نموذج المرأة الصالحة تكون زوجة للكافر، ومع ذلك لا يضرها، فقال :{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا امرأة فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)} (التحريم)

 وذكر نموذج المرأة المنحرفة تكون زوجة للرجل الصالح، ومع ذلك لا ينفعها، فقال :{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امرأة نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)} (التحريم)

وقام آخر، وكان مسلما ملتزما، وقال: لقد ذكرت أن قابيلة الخطأ متوارثة من آدم.. فكيف يكون ذلك، ونحن نرى في الإنسان قابليته للخطأ باعتبار الطبيعة التي طبع عليها، والظروف التي يوجد فيها..

لقد ذكر القرآن ذلك.. فقد قال يصف الإنسان، وما وهب من القوى والطاقات :{ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)} (البلد)

وقال :{ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} (الإنسان)

وقال يصف تحمل البشر جميعا للمسؤولية الثقيلة مسؤولية التكليف بما تحمله من نزوع للخير وللشر :{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)} (الأحزاب)

لم أجد ما أجيبهم به.. فلذلك رحت أبحث في الكتاب المقدس، وفيما تركه آباء الكنيسة وقديسوها لعلي أظفر بأي جواب.. وقد ظفرت ببعض ما ذكرت لك.

4 ـ العقوبة العامة

قلت: دعنا من هذا.. وهلم نتحدث عن العقيدة الرابعة.. عقيدة العقوبة العامة.. ألديك تساؤلات حولها؟.. قل ولا تهب.. فصدري واسع لكل ما تذكره.

قال: لدي تساؤلات كثيرة حولها.. ولكني لن أذكرها لك حتى تشرح لي ما تراه فيها.. فربما كان سبب تساؤلاتي أني أحمل نظرة خاطئة عنها.

قلت: لقد شرحها آباء الكنسية وقديسوها بما لا مزيد عليه..

قال: فما قالوا؟

قلت: لقد ذكروا أن الخطيئة المتوارثة لا بد أن تؤدي إلى العقوبة العامة.

قال: أتقصد أن العموم الذين ورثوا الخطيئة من أبيهم سينالهم حظهم من العقاب؟

قلت: أجل.. فبما أن جميع الجنس البشري مولودون وهم يحملون وزر الخطيئة، فإن عدالة الله تقتضي دفع الثمن لكل خطيئة.. ولن يسمح الله، بل ولا يقدر أن يسمح لخطيئة دون قصاص.

 لقد قال بولس في رسالته إلى رومية (5 : 12): ( من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ اخطأ الجميع)

التفت إليه، وقلت: ألديك إشكالات ترتبط بهذا؟

قال: أجل.. إن العقد السابقة لم تزدها هذه العقيدة الجديدة إلا تعقيدا.. واسمح لي أن أبث لك بما في نفسي منها، فإني أراك واسع الصدر.

لطالما تساءلت بيني وبين نفسي، أقول: إذا كان بسبب خطيئة آدم اجتاز الموت إلى جميع الناس، فلماذا ما يزال الموت مستمراً بعد أن فدى المسيح العالم وصالحنا مع الله ؟

ولماذا سار اخنوخ مع الله ولم ير الموت كما يقول الكتاب مع أنه لم ينعم في ذلك الحين بالفداء؟

ولماذا صعد إيليا النبي أيضاً إلي السماء ولم ير الموت، مع أنه لم ينعم في ذلك الحين بالفداء؟

ولماذا أثنى الكتاب المقدس على الكثير ممن لم ينعموا بالفداء.. ولم يذكر لهم أي عقوبة.. بل إنه فوق ذلك نص على براءتهم من الخطيئة الأصلية..

التفت إلي، وقال: أنت تعرف أن الكتاب المقدس ـ بأسفاره جميعا ـ يشهد لكثيرين بالخيرية ويثني عليهم، ولو كانوا مسربلين بالخطيئة الأصلية لما استحقوا هذا الثناء:

منهم الأطفال الذين قال فيهم المسيح في إحدى وصاياه ـ كما في ( متى 18/3 – 4 )، ( وانظر مرقس 10/13/16 ) ـ : (الحق أقول لكم، إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات، فمن وضع نفسه مثل هذا الولد، فهو الأعظم في ملكوت السماوات)

وعندها نهر تلاميذه أطفالاً قال ـ كما في ( متى 19/13 – 14 ) ـ: (دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات )

إن هذين النصين يشيران بصراحة إلى طهارة الأطفال من الخطيئة الأصلية.. ولذلك جعلهم المسيح مثلاً للأبرار الذين يدخلون الجنة.

التفت إلي مبتسما، وقال: هذا ما يقوله المسيح.. لكن القديس الكبير أوغسطينوس كان يحكم بالهلاك على جميع الأطفال غير المعمدين، وكان يفتي فوق ذلك بأنهم يحرقون في نار جهنم.

المسيح لم يكتف ببراءة الصغار.. بل ذكر براءة الأبرار.. فهو يقول ـ كما في ( لوقا 5/32 ) ـ: (لم آت لأدعو أبراراً، بل خطاة إلى التوبة )، فكيف يوجد أبرار، ولما يصلب المسيح؟

وهؤلاء الأبرار ذكرتهم نصوص التوراة وأثنت عليهم ولم تتحدث عن قيدهم بالخطيئة الموروثة: ففي ( حزقيال 18/19 – 23): (كان كلام الرب إلى قائلاً: ما لكم أنتم تضربون هذا المثل على أرض إسرائيل قائلين: الآباء أكلوا الحصرم، وأسنان الأبناء ضرست، حي يقول السيد الرب.. الإنسان الذي كان باراً وفعل حقاً وعدلاً، لم يأكل على الجبال، ولم يرفع عينيه إلى أصنام بيت إسرائيل، ولم ينجس امرأة قريبه، ولم يقرب طامثاً، ولم يظلم إنساناً.. فهو بار، حياة يحيا يقول السيد الرب).. إن هذا النص يشير إلى أن كل من يعمل الصالحات يكون باراً، ولا تؤثر فيه خطية آدم أو غيره.

لم يكتف الكتاب المقدس بهذا الكلام المجمل.. بل إنه ذكر الأمثلة الكثيرة عن الأبرار الذين لم تكبلهم الخطيئة:

فمن الأنبياء الذين أثنت عليهم التوراة أخنوخ.. ففي ( التكوين 5/24 ): ( وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد لأن الله أخذه).. و قال عنه بولس ـ كما في (عبرانيين 11/5) ـ : ( بالإيمان نقل أخنوخ لكيلا يرى الموت، ولم يوجد لأن الله نقله، إذ قبل نقله شهد له بأنه قد أرضى الله)

ومنهم نوح.. ففي( التكوين 6/9): ( وكان نوح رجلاً باراً كاملاً في أجياله، وسار نوح مع الله )

ومنهم  إبراهيم فقد قيل له ـ كما في ( التكوين 11/1) ـ : ( لا تخف يا إبرام أنا ترس لك، أجرك كثير جداً)، وقيل عنه ـ كما في ( التكوين 24/1) ـ: ( بارك الرب إبراهيم في كل شيء )

ومنهم أيوب.. ذلك الذي قيل فيه ـ كما في (أيوب 33/8-9 ـ : (قد قلت في مسامعي، وصوت أقوالك سمعت. قلت: أنا بريء بلا ذنب، زكي أنا ولا إثم لي)

ومنهم يوحنا المعمدان الذي قيل فيه  ـ كما في ( متى 11/11) ـ: ( الحق أقول لكم: لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان ).. وقال عنه لوقا ـ كما في (لوقا 1/15) ـ: (لأنه يكون عظيماً أمام الرب، وخمراً ومسكراً لا يشرب)

لم يكتف الكتاب المقدس بالثناء على هؤلاء الأنبياء.. بل إنه كال ثناء كثيرا على بعض من لم يكونوا أنبياء..

منهم هابيل بن آدم الذي تقبل الله منه ذبيحته لصلاحه، ولم يقبلها من أخيه، فلم تمنعه الخطيئة الأصلية عن أن يكون عند الله مقبولاً كما (التكوين 4/4).. وقد قال عنه بولس ـ كما في (عبرانيين 11/4) ـ : (بالإيمان قدم هابيل للّه ذبيحة أفضل من قايين، فبه شهد له أنه بار، إذ شهد الله لقرابينه)

ومنهم الناجون مع نوح كلهم من الأبرار ففي ( التكوين 6/12-7/23 ): ( ورأى الله الأرض، فإذا هي فسدت، إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض فقال الله لنوح: نهاية كل بشر أتت أمامي… وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط).. ولو كانت الخطيئة موروثة لما كان ثمة مبرر لهذا التفريق.

ومنهم لاوي بن يعقوب، والذي اختص وسبطه بالكهانة، حيث قال الله عنه ـ كما في (ملاخي 2/5-7) ـ: (عهدي معه للحياة والسلام، وأعطيته إياهما للتقوى، فاتقاني، ومن اسمي ارتاع هو، شريعة الحق كانت في فِيه، وإثم لم يوجد في شفتيه، سلك معي في السلام والاستقامة، وأرجع كثيرين عن الإثم، لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة، ومن فمه يطلبون الشريعة، لأنه رسول رب الجنود)

ومنهم البقية المؤمنة في بني إسرائيل.. كما قال الرب في خطاب أورشليم محدثاً إياها عنهم ـ كما في (صفنيا 3/12-13) ـ: (وأبقي في وسطكِ شعباً بائساً ومسكيناً، فيتوكلون على اسم الرب، بقيةُ إسرائيل لا يفعلون إثماً، ولا يتكلمون بالكذب، ولا يوجد في أفواههم لسان غش، لأنهم يرعون ويربضون).. فهؤلاء اليهود الباقون في أورشليم ـ كما ذكر هذا النص المقدس ـ منزهون عن الإثم والخطية.

5 ـ كفارة الخطيئة

قلت: دعنا من هذا.. وهلم نتحدث عن العقيدة الخامسة .. عقيدة كفارة الخطيئة.. ألديك تساؤلات حولها؟

قال: لدي تساؤلات كثيرة حولها.. ولكني لن أذكرها لك حتى تشرح لي ما تراه فيها.. فربما كان سبب تساؤلاتي أني أحمل نظرة خاطئة عنها.

قلت: لقد ذكر هذه العقيدة بولس في رسالته إلى العبرانيين ( 9 : 22 ) عندما قال : ( وكل  شيء تقريبا يتطهر حسب الناموس بالدم، وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة)

فهذا النص يدل على أن كفارة الخطيئة تحتاج إلى دم يسفك.. وبقدر عظم الخطيئة يكون قدر الدم..

التفت إليه، وقلت: هذا ما قرره بولس.. وهذا ما جرى عليه قديسونا.. فهل لديك اعتراض عليه؟

قال: حاشا.. فمن أنا ومن بولس.. أنا عبد ضعيف فقير أحن إلى الخلاص.. ولولا حاجة الخلاص إلى البحث الصادق، والتحري الدقيق ما كنت لأطرح هذه التساؤلات.. التي لا أطرحها معترضا.. بل أطرحها، وأنا أتحرى الحق، وأطلبه..

قلت: فما تساؤلاتك حول ما قال بولس؟

قال: لقد رأيت بولس يعتمد على شريعة العهد القديم في تقرير هذا.

قلت: أجل.. فقد ذكر الناموس..  والناموس لم يقرر إلا في العهد القديم.

قال: وقد نص على أن الكفارة لا تكون إلا بالدم.

قلت: ذلك صحيح.

قال: لكني وجدت العهد القديم ينص على خلاف هذا.. نعم هو يذكر الدم.. ولكنه يذكر معه التوبة.. بل إنه يعتبر التوبة أعظم من الدم..

لقد قرأت في (هوشع 6 : 6-7):( إني أطلب رحمة لا ذبيحة، ومعرفتي أكثر من المحرقات ولكنكم مثل آدم، نقضتم عهدي)

وقرأت فيه (هوشع 14 : 1-3):( ارجع تائبا ياإسرائيل إلى الرب إلهك، لأنك قد تعثرت بخطيئتك. احملوا معكم كلام ابتهال وارجعوا إلى الرب قائلين له: انزع إثمنا، وتقبلنا بفائق رحمتك، فنزجي إليك حمد شفاهنا كالقرابين. إن أشور لن تخلصنا، ولن نعتمد على خيول مصر لإنقاذنا، ولن نقول للأوثان صنعة أيدينا: (أنتم آلهتنا) لأن فيك وحدك يجد اليتيم رحمة)

وقرأت في (ميخا 6 : 6-8):( يارب: بماذا أتقدم عندما أمثل أمام الرب وأسجد في حضرة الله العلي؟ هل أتقدم منه بمحرقات وبعجول حولية ؟ هل يسر الرب بألوف أنهار زيت ؟ هل أقرب بكري فداء إثمي وثمرة جسدي تكفيرا عن خطيئة نفسي؟ لقد أوضح لك الرب أيها الإنسان ما هو صالح. وماذا يبتغي منك سوى أن تتوخى العدل، وتحب الرحمة، وتسلك متواضعا مع إلهك)

وقرأت في (مزمور 40: 6 : ( لم ترد أو تطلب ذبائح ومحرقات عن الخطيئة، لكنك وهبتني أذنين صاغيتين مطيعتين )

وقرأت في (مزمور: 51 : 16 – 17):( فإنك لا تسر بذبيحة، وإلا كنت أقدمها. بمحرقة لا ترضى إن الذبائح التي يطلبها الله هي روح منكسرة. فلا تحتقرن القلب المنكسر والمنسحق ياالله)

وقرأت في (مزمور 69 : 30 –31 ): ( أسبح اسم الله بنشيد وأعظمه بحمد. فيطيب ذلك لدى الرب أكثر من محرقة: ثور أو عجل )

وقرأت في في (إرمياء: 7 : 22 ) : ( هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل : ضموا محارقكم إلى ذبائحكم وكلوا لحماً، لأني لم أكلم آبائكم ولا أوصيتكم يوم أخرجتهم من أرض مصر بشأن محرقة وذبيحة، بل إنما أوصيتهم بهذا الأمر قائلاً: أطيعوا صوتي فأكون لكم إلهاً وأنتم تكونون لي شعباً، وسيروا في الطريق الذي أوصيتكم به ليحسن إليكم)

التفت إلي، وقال: إن هذه العقائد تتوافق تماما مع ما ذكره القرآن.. فهو يذكر أن التوبة هي التي تكفر الخطيئة، لا القرابين..

لقد ورد فيه :{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم } (التوبة: 104).. وفيه :{ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيما } (النساء :110).. وفيه :{  قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (الزمر: 53).. وفيه :{ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} (هود:3).. وفيه :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التحريم:8)

وأخبر القرآن أن كل الرسل جاءوا بهذا.. ففيه :{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} (النساء:64)

وأخبر عن نوح أنه قال لقومه :{ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (هود:52)

وعن صالح أنه قال لقومه :{ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (هود:61)

وعن شعيب أنه قال لقومه :{ وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) } (هود)

وبمثل ذلك وردت الأحاديث الكثيرة عن محمد.. وإن شئت رويت لك منها ما يؤكد لك ذلك.

قلت: يسرني ذلك.. فحدثني.. فقد ذكرت لك أني واسع الصدر.. وأني لا يهمني إلا الحقيقة..

انطلق وجهه بابتسامة عذبة، ثم قال: لقد ورد في الحديث قول محمد : ( إن الله عز و جل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)([9]

 وفي حديث آخر قال : ( من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)([10])

 وفي حديث آخر قال : (إن من قبل المغرب لبابا مسيرة عرضه أربعون عاما أو سبعون سنة فتحه الله عز وجل للتوبة يوم خلق السماوات والأرض، فلا يغلقه حتى تطلع الشمس منه)([11]

 وفي حديث آخر قال : ( للجنة ثمانية أبواب سبعة مغلقة وباب مفتوح للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه)([12]

 وفي حديث آخر قال : (لو أخطأتم حتى تبلغ السماء ثم تبتم لتاب الله عليكم)([13]

 وفي حديث آخر قال : (من سعادة المرء أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة)([14]

وفي حديث آخر قال : (المؤمن واه راقع([15])، فسعيد من هلك على رقعه)([16]

وفي حديث آخر قال : (مثل المؤمن ومثل الإيمان كمثل الفرس في آخيته([17]) يجول ثم يرجع إلى آخيته، وإن المؤمن يسهو ثم يرجع، فأطعموا طعامكم الأتقياء، وأولوا معروفكم المؤمنين)([18]

 وفي حديث آخر قال : (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)([19]

 وفي حديث آخر قال : (إن عبدا أصاب ذنبا، فقال يا رب إني أذنبت ذنبا فاغفره، فقال له ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ به، فغفر له، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبا آخر، فقال: يا رب إني أذنبت ذنبا آخر، فاغفره لي، قال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، فغفر له، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبا آخر فقال: يا رب إني أذنبت ذنبا فاغفره لي، فقال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به فقال ربه: غفرت لعبدي فليعمل ما شاء)([20]

 وفي حديث آخر قال : (إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها، وإن زاد زادت حتى يغلف بها قلبه فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه :{ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (المطففين:14)([21])

وفي حديث آخر أن بعضهم سأله، فقال: يا رسول الله أوصني، قال:( عليك بتقوى الله ما استطعت، واذكر الله عند كل حجر وشجر، وما عملت من سوء، فأحدث له توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية)([22]

وفي حديث آخر قال:( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر([23]))([24]

وفي حديث آخر قال : (إذا تاب العبد من ذنوبه أنسى الله عز و جل حفظته ذنوبه، وأنسى ذلك جوارحه ومعالمه من الأرض حتى يلقى الله يوم القيامة وليس عليه شاهد من الله بذنب)([25]

وفي حديث آخر قال : (النادم ينتظر من الله الرحمة، والمعجب ينتظر المقت، واعلموا عباد الله أن كل عامل سيقدم على عمله ولا يخرج من الدنيا حتى يرى حسن عمله وسوء عمله، وإنما الأعمال بخواتيمها، والليل والنهار مطيتان، فأحسنوا السير عليهما إلى الآخرة، واحذروا التسويف، فإن الموت يأتي بغتة، ولا يغترن أحدكم بحلم الله عز وجل، فإن الجنة والنار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله)، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (الزلزلة)([26])

وفي حديث آخر قال : (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)([27]

وفي حديث آخر قال : (الندم توبة)([28]

وفي حديث آخر قال : (ما علم الله من عبد ندامة على ذنب إلا غفر له قبل أن يستغفره منه)([29]

وفي حديث آخر قال : (ليس أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه وليس أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش وليس أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل)([30]

وفي حديث آخر قال : (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)([31]

وفي حديث آخر قال : (قال الله عز و جل أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإذا أقبل إلي يمشي أقبلت إليه أهرول)([32]

وفي حديث آخر قال : (من تقرب إلى الله عز و جل شبرا تقرب إليه ذراعا ومن تقرب إليه ذراعا تقرب إليه باعا ومن أقبل إلى الله عز و جل ماشيا أقبل إليه مهرولا والله أعلى وأجل والله أعلى وأجل والله أعلى وأجل)([33]

وفي حديث آخر قال : ( قال الله عز و جل يابن آدم قم إلي أمش إليك وامش إلي أهرول إليك)([34]

وفي حديث آخر قال : (من أحسن فيما بقي غفر له ما مضى ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وما بقي)([35]

وفي حديث آخر قال : ( إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة أخرى فانفكت أخرى حتى تخرج إلى الأرض)([36]

وفي حديث آخر أن بعضهم أراد سفرا، فقال: يا رسول الله أوصني، فقال: (اعبد الله ولا تشرك به شيئا) قال: يا رسول الله زدني قال : ( إذا أسأت فأحسن وليحسن خلقك)([37]

وفي حديث آخر روي أن قريشا قالت لمحمد : ( ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا، فإن أصبح ذهبا اتبعناك)، فدعا ربه فأتاه جبريل u فقال: إن ربك يقرئك السلام، ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا، فمن كفر منهم عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة،  قال: (بل باب التوبة والرحمة)([38]

وفي حديث آخر قال : (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)([39]

التفت إلي، وقال: اسمح لي.. لقد أطلت عليك في رواية الأحاديث.. لست أدري لعل هذا من آثار بداية حياتي التي كنت فيها مسلما.. لكني أشعر أن تلك المعاني التي ذكرها محمد لا تختلف كثيرا عن المعاني التي جاء العهد القديم يقررها..

فقد قال الرب في (إشعيا: 55 : 7 ): ( ليترك الشرير طريقه والأثيم أفكاره، وليتب إلى الرب فيرحمه، وليرجع إلى إلهنا لأنه يكثر الغفران)

وقال في (حزقيال:33 : 11):( حي أنا يقول السيد الرب، إني لا أبتهج بموت الشرير بل بأن يرتدع عن غيه ويحيا)

وقال في (حزقيال:18 : 21 -22) : ( ولكن إن رجع الشرير عن خطاياه كلها التي ارتكبها، ومارس جميع فرائضي وصنع ما هو عدل وحق فإنه حتما يحيا، لا يموت ولا تذكر له جميع آثامه التي ارتكبها. إنما يحيا ببره الذي عمله)

وورد في (خروج: 40:12) أن الرب غفر لهارون خطأه، وأمر بجعله وذريته كهنة على بني اسرائيل.

وجاء في بداية المزمور الأول قول الرب:(طوبى للإنسان الذي لا يتبع مشورة الأشرار، ولا يقف في طريق الخاطئين، ولا يجالس المستهزئين.. بل في شريعة الرب بهجته، يتأمل فيها نهارا وليلا.. فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه، تعطي ثمرها في حينه، وورقها لا يذبل، وكل ما يصنعه يفلح)

انظر.. لقد أخبر الرب ـ على لسان داود ـ أن الاشتغال بأسباب الخير ومفارقة أهل الشر وحدها تكفي للخلاص..

قلت: مع احترامي لما ذكرت.. ولكني أريد أن أنبهك على ناحية مهمة جدا ربما لم تتمكن من معرفتها بعد.

نظر إلي باهتمام، وقال: يسرني أن أعلمها منك.

قال: أرى أنك تهتم كثيرا بالعهد القديم.. وتنسى أن العهد الجديد هو الأساس في المسيحية لا العهد القديم.. فلن تفهم المسيحية حق الفهم.. أو لن تتجلى لك المسيحية بصورتها الرائعة الكاملة إلا عندما تجلس تحت ظلال العهد الجديد.

ابتسم، وقال: بلى.. لقد جلست.. جلست كثيرا.. وقد سمعت المسيح أثناء جلوسي تحت ظلال العهد الجديد يقول ـ كما في (متى:5 : 17 ): ( لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء.. ما جئت لأنقض بل لأكمل)

ووجدت فيه ـ كما في (متى:23: 1) ـ 🙁 حينئذ خاطب يسوع الجموع وتلاميذه قائلا: (على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون)

وسمعته يقول ـ كما في (متى:19 : 16 ):( إن أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا).. أي اتبع تعاليم التوراة واعمل بها.

6 ـ صلب المسيح

قلت: لا بأس.. دعنا من هذا.. وهيا نتحدث عن العقيدة السادسة المرتبطة بهذا.. عقيدة صلب المسيح.. ألديك تساؤلات حولها؟

قال: اذكر لي ما تنص عليه هذه العقيدة.. وسأذكر لم ما عرض لي من وساوس بسببها.

قلت: يعتقد المسيحيون أن المسيح صلب.

قال: فبم يستدلون على ذلك؟

قلت: إن هذا لا يحتاج إلى استدلال.. فقد ورد النص على الصلب في الأناجيل..

ألم تقرأ ما ورد في الأناجيل من الإصحاحات المطولة لصلب المسيح، ذاكرةً الكثير من تفاصيل القبض عليه، ومحاكمته، وصلبه، ثم دفنه، ثم قيامته، فصعوده إلى السماء؟

ألم تعرف أن هذه العقيدة هي عصب المسيحية ومحورها.. لقد قال الكاردينال الإنجليزي (منينغ) يصور أهمية حادثة الصلب في كتابه (كهنوت الأبدية) بقوله:( لا تخفى أهمية هذا البحث الموجب للحيرة، فإنه إذا لم تكن وفاة المسيح صلباً حقيقية، فحينئذ يكون بناء عقيدة الكنيسة قد هدم من الأساس، لأنه إذا لم يمت المسيح على الصليب، لا توجد الذبيحة، ولا النجاة، ولا التثليث.. فبولس والحواريون وجميع الكنائس كلهم يدعون هذا، أي أنه إذا لم يمت المسيح لا تكون قيامة أيضاً)؟

وقال : (جوردن مولتمان) في كتابه (الإله المصلوب) : (إن وفاة يسوع علي الصليب هي عصب كل العقيدة المسيحية)

بل قال قبلهم ( بولس) يؤكد هذا ويؤسس له : ( إن لم يكن المسيح قد قام، فباطل كرازتنا، وباطل أيضاً إيمانكم) ( كورنثوس (1) 15/14)

قال: بلى.. قرأت ذلك.. ولكن لدي بعض الشبهات ملأت قلبي بالظلمات..

لست أدري ربما كان سبب ذلك هو أني كنت مسلما قبل أن أصير مسيحيا..

لقد قرأت في القرآن ـ إبان إسلامي ـ أن الله أنجى المسيح من مؤامرات الأعداء.. ففيه – عند ذكر تعداد نعم الله على المسيح ـ :{ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إلا سِحْرٌ مُبِينٌ)(المائدة:110)

وفيه :{ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (آل عمران:54)، أي أنهم كادوا ليقتلوه، ولكن كيد الله أعظم من كيدهم.

وفيه عند ذكر بعض ملامح المؤامرة التي حاكها اليهود ضده :{ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)} (النساء)

وفيه :{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (آل عمران:55)

إن هذه الآيات جميعا تنص صراحة أو تلميحا على نجاة المسيح من مكر الماكرين، وعلى رفعه إلى السماء، وأن أعداءه الذين أرادوا صلبه وقعوا في الشك.. وتنص على أن المسيح يعود قبيل الساعة، فيكون علامة على قرب انقضاء الدنيا.

قلت: دعنا مما يقول القرآن.. فالعقائد المسيحية لا نستنبطها إلا من كتابنا المقدس.

قال: صدقت.. وأنا لم أذكر ما ورد في القرآن لأستدل به على إنكار هذه الحادثة.. وإنما ذكرتها باعتبارها دعوى تحتاج إلى تحقيق.. أليس القاضي العادل هو الذي يقبل جميع الدعاوى، ثم يتعامل معها بعد ذلك بما يقتضيه التحقيق والتحري؟

قلت: بلى.. ذلك صحيح..

قال: فلنعتبر ما ورد في القرآن مجرد دعوى.. وهلم نناقشها بما يقتضيه البحث العلمي.

قلت: لك ذلك.. فناقشها بما تشاء.

قال: أنت ترى كما يرى كل آباء الكنيسة وقديسوها أن حادثة صلب المسيح هي محور المسيحية وقطبها الذي تدور عليه.. أليس كذلك؟

قلت: لقد ذكرت لك ذلك.. وذكرت لك النصوص الدالة عليه.

قال: أليس الأصل في مثل هذا أن ينقل بالتواتر.. أو ينقل نقلا لا تعتريه أي شبهة؟

قلت: بلى.. فلا يمكن أن نعتمد في الأحداث الخطيرة إلا على الأدلة القطعية.. وقد قال القرآن الذي أراك ترجع إليه كل حين يقرر هذا :{ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الاسراء:36).. وفيه :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات:6)

قال: إن هذا يستدعي البحث في الشهود الذين حضروا الحادثة.. أجبني.. من هم الشهود الذين وصفوا الحادثة عن رؤية؟

لم أدر بما أجيبه، لكني قلت، كما تعود رجال ديننا أن يقولوا: إن الكتاب المقدس.. وفي أكثر من 500 لغة إنسانية يتحدث عن صلب المسيح.. أفلا يكفي هذا دليلا؟

ابتسم، وقال: ما أجمل هذا الدليل.. وما أقواه.. إنه ينسف كل الأدلة.. ولكنه في نفس الوقت يمكنه أن يخرج جميع المجرمين من جميع السجون.. ويحكم على جميع الأبرياء بالإعدام.

قلت: كيف تقول ذلك؟

قال:  لو سلمنا بالمنهج الذي يعتمده هذا الدليل.. فسيتحول كل المجرمين إلى مترجمين.. ليترجموا دعاواهم إلى جميع لغات العالم، ثم يرموا بها في وجوه القضاة.

قلت: لم أفهم ما ترمي إليه.

قال: الكذبة ـ سعادة الحبر ـ تبقى كذبة، ولو ترجمتها لجميع لغات العالم..

قلت: إذا لم تقبل هذا.. فهناك أربعة شهود.. وهم كتبة الأناجيل..

قال: أول ملاحظة يمكن أن تخرق بها هذه الشهادة هي أن كتبة الأناجيل الأربعة مشكوك في علاقتهم بالمسيح([40]).

والملاحظة الثانية.. هي أن شهود الإثبات جميعاً لم يحضروا الواقعة التي يشهدون فيها، كما قال مرقس: (فتركه الجميع وهربوا) ( مرقس: 14/50)

قلت: ولكن هذه الشهادة مسجلة على أكثر من 5000 مخطوط..

ابتسم، وقال: ما يقال في المخطوطات قيل قبله في الترجمات.. بل إن شأن المخطوطات أيسر.. فهو لا يحتاج إلا القدرة على الكتابة..

ومع ذلك.. فقد بحثت في هذا، ووجدت أنه لا توجد من هذه النسخ جميعا مخطوطتان متطابقتان.. ولو تطابقت جميعها، فإن أياً منها لم يسجَّل بخط مؤلفه، وإن نُسب إليه.

لم أبحث أنا وحدي.. بل بحث الكثيرون قبلي.. منهم (اينوك باول) الذي قال في كتابه (تطور الأناجيل): (قصة صلب الرومان للمسيح لم تكن موجودة في النص الأصلي للأناجيل).. وقد استند في ذلك إلى إعادته ترجمة نسخة متى اليونانية، فتبين له أن هناك أجزاء وردت مكررة في هذا الإنجيل، مما يوحي بأنه أعيدت كتابتها في مرحلة تالية.

ومنهم (نينهام) مفسر إنجيل مرقس الذي علق على ما ورد في ( مرقس 14/12 – 16 ) ـ من أنه (في اليوم الأول من الفطير، حين كانوا يذبحون الفصح، قال له تلاميذه: أين تريد أن نمضي ونعد لتأكل الفصح؟ فأرسل اثنين من تلاميذه، وقال لهما: اذهبا إلى المدينة فيلاقيكما إنسان حامل جرة ماء اتبعاه..) ـ بقوله : ( إن أغلب المفسرين يعتقدون أن هذه الفقرات أضيفت فيما بعد لرواية مرقس ).. واستند هؤلاء لهذه الدعوى لأمرين:

أما أولهما.. فهو أنه وصف اليوم الذي قيلت فيه القصة بأسلوب لا يستخدمه يهودي معاصر للمسيح.

وأما الثاني، فهو أن كاتب العدد 17 قال : ( ولما كان المساء جاء مع الاثني عشر..) ( مرقس 14/17 )، وهو يتحدث عن جلوس المسيح مع تلاميذه الاثني عشر، وهو لا يعلم شيئاً عن رحلة اثنين منهم لإعداد الفصح.

ومنهم (جورج كيرد) شارح إنجيل لوقا.. فقد علق على ما ورد في ( لوقا 23/33 – 34 ) من أن المسيح قال على الصليب: (يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون) بقوله : (لقد قيل إن هذه الصلاة ربما تكون قد محيت من إحدى النسخ الأولى للإنجيل بواسطة أحد كتبة القرن الثاني، الذي ظن أنه شيء لا يمكن تصديقه أن يغفر الله لليهود، وبملاحظة ما حدث من تدمير مزدوج لأورشليم في عامي 70م و 135م صار من المؤكد أن الله لم يغفر لهم)

بالإضافة إلى هذا، فإن هذه العبارة المهمة لم يذكرها سوى لوقا.. كما أغفلتها بعض المخطوطات الهامة للوقا.

التفت إلي، وقال: هذه بعض الشهادات المسيحية الدالة على هذا..

قلت: أنا لا يكفيني إلا شهادات الأناجيل نفسها.

ابتسم، وقال: كأنك تستفزني لأذكر لك تناقضات روايات الصلب في الأناجيل.

قلت: أهناك تناقضات في روايات الصلب؟

قال: أجل.. لقد رأيت الأناجيل الأربعة تتحدث عن تفاصيل كثيرة في رواية الصلب، والمفروض أنه لو كانت هذه الروايات وحياً كما ندعي أن تتكامل روايات الإنجيليين الأربعة وتتطابق.

قلت: فاضرب لي مثالا على هذه التناقضات.

قال: سأضرب لك أمثلة عنها.. أجبني.. مَن الذي ذهب للقبض على يسوع؟

قلت: لقد ذكر متى ذلك، فقال : (جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب) (متى 26/52 )

قال: ولكن مرقس زاد على ذلك بأن ذكر من الجمع الكتبةَ والشيوخ ( انظر مرقس: 14/43 ).. وذكر يوحنا أن الآتين هم جند الرومان وخدم من عند رؤساءَ الكهنة ( انظر: يوحنا 18/3 ).. ولم يذكر أي من الثلاثة مجيء رؤساء الكهنة، لكن لوقا ذكر أن رؤساء الكهنة جاءوا بأنفسهم للقبض على المسيح إذ يقول: (قال يسوع لرؤساء الكهنة وقواد جند الهيكل والشيوخ المقبلين عليه) ( لوقا 22/52 ).. ألا ترى التناقض بين لوقا والباقين؟

سكت، فقال: أجبني.. متى حوكم المسيح؟

قلت: لقد ذكر لوقا أن ذلك كان صباح الليلة التي قبض عليه فيها.. لقد قال في ذلك : (ولما كان النهار اجتمعت مشيخة الشعب رؤساء الكهنة والكتبة، وأَصعدوه إلى مجمعهم قائلين: إن كنت أنت المسيح فقل لنا؟) ( لوقا 22/66 – 67)

قال: هذا ما يقوله لوقا.. لكن الثلاثة يجعلون المحاكمة في ليلة القبض عليه، قال مرقس: (فمضوا بيسوع إلى رئيس الكهنة، فاجتمع معه جميع رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة) ( مرقس: 14/53 ) ( وانظر : متى 26/57، ويوحنا 18/3 ).. ألا ترى أن هناك فرقا بينها؟

سكت، فقال: لقد تبع بطرس المسيح ليرى محاكمته، وقد أخبره المسيح بأنه سينكره في تلك الليلة قبل أن يصيح الديك.. أجبني كم مرة أخبر المسيح بطرس بصياح الديك؟

قلت:  لقد ذكر مرقس مرتين.. ففيه : ( قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات) (مرقس 14/72 )

قال: ولكن الشهود الثلاثة الآخرين ذكروا مرة واحده، ففي لوقا: (قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات) (لوقا 22/60) وهكذا في (متى 26/74).. وهكذا في (يوحنا 18/27 ).. لقد ذكر الثلاثة خلال القصة صياحاً واحداً فقط، خلافاً لما زعمه مرقس.

التفت إلي، وقال: ألا ترى فرقا بينهما.

سكت، فقال: أجبني أين تعرفت عليه الجارية أول مرة؟

قلت: لقد ذكر متى ويوحنا أنه كان حينذاك خارج الدار ففي ( متى 26/69، 75 ): (وأما بطرس فكان جالساً خارجاً في الدار.فجاءت إليه جارية قائلة: وأنت كنت مع يسوع الجليلي).. وهذا ما ويؤكده يوحنا، ففيه (يوحنا 8/16):( وأما بطرس فكان واقفاً عند الباب خارجاً)

قال: ولكن مرقس ولوقا ذكرا أنه كان داخل الدار يستدفئ من البرد.. قال مرقس: (بينما كان بطرس في الدار أسفل جاءت إحدى جواري رئيس الكهنة. فلما رأت بطرس يستدفئ نظرت إليه وقالت: وأنت كنت مع يسوع الناصري)(مرقس 14/ 66 )، وفي لوقا: (ولما أضرموا ناراً في وسط الدار وجلسوا معاً جلس بطرس بينهم. فرأته جارية جالساً عند النار فتفرست فيه وقالت: وهذا كان معه..) (لوقا 22/55-56 )

التفت إلي، وقال: ألا ترى فرقا بينهما؟

سكت، فقال: أجبني.. من الذي تعرف على المسيح في المرة الثانية ؟

قلت: لقد ذكر متى أنها جارية أخرى.. ففيه ( متى 26/71 ): ( ثم إذ خرج إلى الدهليز رأته أخرى فقالت للذين هناك: وهذا كان مع يسوع الناصري)

قال: لكن مرقس ذكر أنه رأته نفس الجارية، ففيه (مرقس 14/69): ( فرأته الجارية أيضاً، وابتدأت تقول للحاضرين: إن هذا منهم)

وحسب لوقا، فإن الذي رآه هذه المرة رجل من الحضور وليس جارية.. ففيه (لوقا 22/58): (وبعد قليل رآه آخر وقال: وأنت منهم، فقال بطرس: يا إنسان لست أنا)

وذكر يوحنا أن هذا الرجل أحد عبيد رئيس الكهنة.. ففيه (يوحنا 18/26): ( قال واحد من عبيد رئيس الكهنة، وهو نسيب الذي قطع بطرس أذنه أما رأيتك أنا معه في البستان. فأنكر بطرس أيضاً)

التفت إلي، وقال: ألا ترى فرقا بينهما؟

سكت، فقال: أجبني.. لماذا حبس بارباس ؟

قلت: لقد ذكر يوحنا أنه كان لصاً.. ففيه (يوحنا 18/40): ( وكان باراباس لصاً)

قال: ولكن مرقس ولوقا اتفقا على أنه كان صاحب فتنة، وأنه قتل فيها فاستوجب حبسه.. ففي، يقول (لوقا 23/19): (أطلق لنا باراباس، وذاك كان قد طرح في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتل).. ومثل ذلك في (مرقس 15/7 )

التفت إلي، وقال: ألا ترى فرقا بينهما؟

سكت، فقال: أجبني.. من الذي حمل الصليب المسيح أم سمعان؟

قلت: لقد ذكر يوحنا أنه المسيح.. ففيه( يوحنا 19/17):( فأخذوا يسوع ومضوا به، فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يقال له الجمجمة)

قال: ولكن الثلاثة يخالفونه في هذا.. فقد ذكروا أنه سمعان القيرواني، بينما لم يذكر يوحنا شيئاً عنه.. ففي (مرقس 15/20 – 22):( ثم خرجوا لصلبه، فسخروا رجلا ممتازاً كان آتياً من الحقل، وهو سمعان القيرواني أبو الكسندروس وروفس ليحمل صليبه).. وهكذا في (متى 27/32).. وهكذا في ( لوقا 23/26)

التفت إلي، وقال: ألا ترى فرقا بينهما؟

سكت، فقال: أجبني.. ما نهاية يهوذا؟

قلت: لقد ذكر متى ذلك، فقال : ( فأوثقوه ومضوا به، ودفعوه إلى بيلاطس البنطي الوالي، حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم وردّ الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ، قائلاً: قد أخطأت، إذ سلمت دماً بريئاً. فقالوا: ماذا علينا. أنت أبصر. فطرح الفضة في الهيكل وانصرف. ثم مضى وخنق نفسه. فأخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا: لا يحل أن نلقيها في الخزانة لأنها ثمن دم. فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء. لهذا سمي ذلك الحقل حقل الدم إلى هذا اليوم) (متى 27/2-5)

قال: لكن سفر أعمال الرسل يحكي نهاية أخرى ليهوذا.. فقد ورد في سياق خطبة بطرس: ( أيها الرجال الأخوة كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود عن يهوذا الذي صار دليلاً للذين قبضوا على يسوع. إذ كان معدوداً بيننا، وصار له نصيب في هذه الخدمة. فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم، وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها. وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم حتى دعي ذلك الحقل في لغتهم حقل دما أي حقل دم) (أعمال 1/16-20).

التفت إلي، وقال: ألا ترى فرقا بينهما؟

سكت، فقال: بلى.. لقد اختلفا في جملة أمور..

منها كيفية موت يهوذا.. فهل مات بخنق نفسه.. أو مات بسقوطه، حيث انشقت بطنه وانسكبت أحشاؤه.. أنت ترى أنه لا يمكن أن يموت يهوذا مرتين، كما لا يمكن أن يكون قد مات بالطريقتين معاً.

ومنها ذكر – من الذي اشترى الحقل.. هل هو يهوذا حسب قوله: (فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم)، أم الكهنة الذين أخذوا منه المال حسب قوله : (فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري)

ومنها ندم يهوذا حسب قوله : ( لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم…قد أخطأت، إذ سلمت دماً بريئاً)..  أم مات معاقباً بذنبه كما يظهر من كلام بطرس.

ومنها رد يهوذا المال للكهنة حسب قوله : ( وردّ الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ)، أم أنه أخذه واشترى به حقلاً حسب قوله : ( فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم)

ومنها تاريخ موت يهوذا.. هل كان قبل صلب المسيح وبعد المحاكمة حسب قوله : (ودفعوه إلى بيلاطس البنطي الوالي، حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم… فطرح الفضة في الهيكل وانصرف ثم مضى وخنق نفسه).. أم أن ذلك كان فيما بعد، حيث مضى واشترى حقلاً ثم مات في وقت لا ندريه.

التفت إلي، وقال: ألا ترى بعد كل هذا فرقا بينهما؟

سكت، فقال: لقد تحدثت الأناجيل عن تعليق المسيح على الصليب، وأنه صلب بين لصين أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره.. وأخبرت عن الاستهزاء به.. فمن استهزأ أكلاهما أم أحدهما؟

قلت: لقد ذكر متى ومرقس أن اللصين استهزأ كلاهما به، يقول متى:( بذلك أيضاً كان اللصّان اللذان صلبا معه يعيّرانه) (متى 27/44).. ومثله في (مرقس 15/32)

قال: لكن لوقا ذكر أن أحدهما فقط استهزأ به، بينما انتهر الآخر، يقول لوقا: (وكان واحد من المذنبين المعلقين يجدف عليه قائلاً: إن كنت أنت المسيح فخلّص نفسك وإيانا.. فأجاب الآخر وانتهره قائلاً: أو لا تخاف الله،.. فقال له يسوع: الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس) ( لوقا 23/39 – 43)

التفت إلي، وقال: ألا ترى فرقا بينهما؟

سكت، فقال: أجبني.. ما آخر ما قاله المصلوب قبل موته، وكيف كان حاله؟

قلت: لقد صور متى ومرقس حاله بحال اليائس القانط.. فيقول ويصرخ : (إلهي إلهي لماذا تركتني)، ثم يُسلم الروح ( متى 27/46 – 50 ومرقس 15/34 – 37 )

قال: ولكن لوقا لا يرتضي هذه النهاية المؤلمة.. فلذلك يصوره بحال القوي الراضي بقضاء الله حيث قال: (يا أبتاه في يديك أستودع روحي) ( لوقا 23/46 ).

التفت إلي، وقال: ألا ترى فرقا بينهما؟

سكت، فقال: ليس حادثة الصلب وحدها هي التي حصل فيها التناقض والاختلاف.. حتى حادثة القيامة حصل فيها ذلك.. أجبني.. هل أسرت الزائرات الخبر، أم أشاعته؟

قلت: لقد ذكر مرقس أن النسوة لم يخبرن أحداً بما رأين.. فهو يقول : (ولم يقلن لأحد شيئاً، لأنهن كن خائفات)( مرقس 16/8 )

قال: ولكن لوقا خالفه في ذلك.. فقد قال : ( ورجعن من القبر، وأخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا كله) (لوقا 24/9)

التفت إلي، وقال: ألا ترى فرقا بينهما؟

سكت، فقال: أجبني.. لمن ظهر المسيح أول مرة؟

قلت: لقد ذكر مرقس ويوحنا أن الظهور الأول كان لمريم المجدلية كما في (مرقس 16/9)، وكما في  (يوحنا 20/14)

قال: ولكن متى أضاف مريم الأخرى (متى 28/9).. واعتبر لوقا أن أول من ظهر له المسيح هما التلميذان المنطلقان لعمواس (لوقا 24/13)

التفت إلي، وقال: ألا ترى فرقا بينهم جميعا؟

سكت، فقال: أجبني.. كم مرة ظهر المسيح ؟.. وأين؟

قلت: لقد عد يوحنا لظهور المسيح للتلاميذ مجتمعين ثلاث مرات (يوحنا 20/19، 26 )

قال: لكن الشهود الثلاثة الباقين يعدون للمسيح ظهوراً واحداً، كما في (متى 28/16)، و(مرقس 16/14)، و(لوقا 24/36)

ويرى لوقا أنه قد تم في أورشليم، فيقول: (ورجعا إلى أورشليم، ووجدا الأحد عشر مجتمعين هم والذين معهم، وهم يقولون: إن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان، وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم سلام لكم) (لوقا: 24/33 – 36)

بينما يذكر صاحباه أن ذلك كان في الجليل كما ورد في (متى 28/10): ( أما الأحد عشر تلميذاً فانطلقوا إلى الجليل إلى الجبل حيث أمرهم يسوع. ولما رأوه سجدوا له)، ومثله في (مرقس 16/7 )

التفت إلي، وقال: ألا ترى فرقا بينهما؟

سكت، فقال: أجبني.. كم بقي المسيح قبل رفعه؟

قلت: لقد ذكر متى ومرقس ولوقا أن صعوده كان في نفس يوم قيامه كما في (متى 28/8 – 20)، و(مرقس 16/9 – 19)، و(لوقا 24/1 – 53)

قال: لكن يوحنا في إنجيله جعل صعوده في اليوم التاسع من القيامة، كما في (يوحنا 20/26، 21/4 )

أما مؤلف أعمال الرسل – والمفترض أنه لوقا – فقد جعل صعود المسيح للسماء بعد أربعين يوماً من القيامة، كما في (أعمال 1/13)

بعد أن ذكر هذه التناقضات التفت إلي، وقال: أرأيت لو أن شهودا وقفوا أمام قاض عادل.. ثم اختلفوا كل هذه الاختلافات.. أكان للقاضي أن يقبل شهادتهم؟

7 ـ الفداء بالصلب

لم أجد ما أرد به عليه، فقلت: لا بأس.. دعنا من هذا.. وهيا نتحدث عن العقيدة السابعة المرتبطة بهذا.. عقيدة الفداء بالصلب.. ألديك تساؤلات حولها؟

قال: اذكر لي ما تنص عليه هذه العقيدة.. وسأذكر لك ما عرض لي من وساوس بسببها.

قلت: يعتقد المسيحيون أن المسيح صلب لأجل أن يفدى الناس، ويخلصهم من خطاياهم.

قال: فبم يستدلون على ذلك؟

قلت: من النصوص الصريحة الواضحة الدالة على ذلك ما ورد في في إنجيل (يوحنا:10/11): (أنا هو الراعي الصالح، الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف)

وفيه (يوحنا:3/16):( لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكيلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية)

وفي إنجيل (مرقس:10/45): (أن ابن الإنسان لم يأت ليخُدَم بل ليخدُم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين)

قال: دعني مما تذكره النصوص المقدسة.. فهي تحمل ألف وجه ووجه.. وحدثني عن فهوم قومك لها.

قلت: لقد ذكر قومنا أن الله أراد برحمته أن يخلص الأرض من اللعنة التي أصابتها بسبب معصية آدم، لكن عدله رفض ذلك، بل أبى إلا أن يعاقب أصحاب الذنب.

ولذلك التمس هذا المخرج للتوفيق بين العدل والرحمة.. 

لقد لخص (أوغسطينوس) المسألة بأن الله رحيم، ولكنه لا يريد أن يغير قوانين المحكمة التي تنص على أن الموت عقوبة عادلة لهذه الخطيئة الأصلية، فاتخذ حيلة ينجي بها عباده، فيموتون ثم يحيون من جديد، فتعود إليهم حريتهم بعد حياتهم الجديدة.

ولما كانت إماتة الناس جميعاً تتعارض مع قانون الطبيعة وسنن الكون، كان لابد من شخص معصوم من الذنب الأصلي يعاقبه الله بموته، ثم يبعثه، فيكون موته بمثابة موت البشرية وعقوبتها، وقد اختار الله ابنه لهذه المهمة.

يقول القس لبيب ميخائيل: ( إن الله الرحيم هو أيضاً إله عادل، وإن الله المحب هو أيضاً إله قدوس يكره الخطيئة، وإذا تركزت هذه الصورة في أذهاننا، سندرك على الفور أن صفات الله الأدبية الكاملة لا يمكن أن تسمح بغفران الخطية دون أن تنال قصاصها.. فإن الصليب يبدو أمامنا ضرورة حتمية للتوفيق بين عدل الله ورحمته )

ويؤكد هذه المعاني عوض سمعان في كتابه (فلسفة الغفران) بقوله: (لو كان في الجائز أن تقل عدالة الله وقداسته عن رحمته ومحبته اللتين لا حد لهما، فإن من مستلزمات الكمال الذي يتصف به، ألا يتساهل في شيء من مطالب عدالته وقداسته، وبما أنه لا يستطيع سواه إيفاء مطالب هذه وتلك، إذن لا سبيل للخلاص من الخطيئة ونتائجها إلا بقيامه بافتدائنا بنفسه)

ويقول حبيب جرجس في كتابه (خلاصة الأصول الإيمانية): (ولما فسد الجنس البشري، وصار الناس مستعبدين للخطيئة، وأبناء للمعصية والغضب لم يتركهم الله يهلكون بإنغماسهم فيها، بل شاء بمجرد رحمته أن ينقذنا من الهلاك بواسطة فادٍ يفدينا من حكم الموت، وهذا الفادي ليس إنساناً ولا ملاكاً ولا خليقة أخرى، بل هو مخلصنا وفادينا ابن الله الوحيد ربنا يسوع المسيح الذي له المجد إلى أبد الآبدين)

ويؤكد القس جولد ساك على أهمية القصاص فيقول: ( لابد أن يكون واضحاً وضوح الشمس في ضحاها لأي إنسان بأن الله لا يمكنه أن ينقض ناموسه، لأنه إذا فعل ذلك من الذي يدعوه عادلاً ومنصفاً)

إذن لابد من العقوبة حتى تحصل المغفرة.. وفي ذلك يقول بولس: ( وكل شيء تقريباً يتطهر حسب الناموس بالدم، وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة ) ( عبرانيين 9/22 )

ويقول: ( لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجدوا الله في أجسادكم، وفي أرواحكم التي هي لله ) (كورنثوس (1) 6/20 )

ويقول: ( أجرة الخطية هي موت ) ( رومية 6/23 )

ويقول: ( لأنه وإن كنا ونحن أعداء فقد صولحنا مع الله بموت ابنه ) ( رومية 5/10 )

ويقول بطرس: ( عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى: بفضة أو ذهب، من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حَمَلٍ بِلاَ عيْب، ولا دنس دم: المسيح ) ( بطرس (1) 1/18 – 19)

ويعتبر قومنا فداء المسيح للبشرية العمل الحقيقي للمسيح والذي من أجله تجسد وتأنس، يقول الأنبا أثناسيوس: (فالمسيح هو الله غير المنظور، وقد صار منظوراً، ولماذا صار منظوراً، لينجز مهمة الفداء والخلاص، التي ما كان يمكن لغير الله أن يقوم بها، فالله قد تجسد في المسيح من أجل الفداء والخلاص، فالفداء كان هو الغاية، والتجسد كان هو الوسيلة)

التفت إليه، وقلت: هذه عقيدة قومنا في الفداء.. ألديك إشكالات وتساؤلات ترتبط بهذا؟

ابتسم، وقال: لست أدري لم ينفتح عقلي على كل الحقائق.. لكنه ينغلق على هذه الحقيقة..

لست أدري كيف تنتشر الغشاوة على عين قلبي، وأنا أحاول أن أدخلها إليه..

لست أدري كيف يتمرد لساني عني، فيمنعني من التعبير عنها..

قلت: لم؟

قال: أشعر أن فيها إساءة أدب عظيمة مع الله.. بل هي تظهر أن البشر بقصورهم أعظم من الله..

قلت: كيف تقول هذا على عقيدة هي لب المسيحية وركنها الركين؟

قال: تأمل جيدا فيها لترى كيف يبدو الله من خلالها ضعيفا عاجزاً عن أبسط شيء.. عن العفو عن آدم وذنبه.. حائراً في الطريقة التي ينبغي أن يعاقبه بها بعد أن قرر عقوبته.

إن قرار العقوبة يظهر من خلالها، وكأنه قرار متسرع يبحث له عن مخرج.. وقد امتد البحث عن هذا المخرج قروناً عديدة، ثم اهتدى إليه، فكان المخرج الوحيد هو ظلم المسيح وتعذيبه على الصليب كفارة عن ذنب لم يرتكبه.

إن المسيحيين بهذا يشبهون (الله) ـ حاشاه ـ بصورة مستقذرة.. هي صورة المرابي وهو يريد عوضاً على كل شيء، ونسى هؤلاء أن الله حين يعاقب لا يعاقب للمعاوضة، أو لإرضاء نفسه، بل لكبح الشر وتطهير الذنب..

لقد نسي هؤلاء أن العفو من الصفات الإلهية التي اتصف بها الرب وطلبها في عباده، وهو أولى بها لما فيها من كمال وحُسن.. وقد ذكر الكتاب المقدس أن الله عفا عن بني إسرائيل (رضيت يا رب على أرضك. أرجعت سبي يعقوب. غفرت إثم شعبك. سترت كل خطيتهم. سلاه حجزت كل رجزك.رجعت عن حمو غضبك) (مزمور 85/1-3)

وقال بولس: ( طوبى للذين غفرت آثامهم وسترت خطاياهم. طوبى للرجل الذي لا يحسب له الرب خطية) (رومية 4/7-8)

وكان بطرس قد سأل المسيح: ( يا رب كم مرة يخطئ إلى أخي وأنا أغفر له؟ هل إلى سبع مرات؟ قال له يسوع: بل إلى سبعين مرة ) ( متى 18/21 – 22 )

ومرة أخرى قال لهم: ( أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه تشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين ) ( متى 5/44 – 45 )

سكت قليلا، ثم قال: لقد فات هؤلاء أن هناك بدائل كثيرة مقبولة ومتوافقة مع سنن الله الماضية في البشر.. وهي جميعاً أولى من اللجوء إلى صلب المسيح تكفيراً للخطيئة ووفاءً بسنة الانتقام والعدل.. ومن أهم هذه البدائل ما تعرضه مصادرنا المقدسة من التوبة، والمغفرة، والعفو، وصكوك الغفران، والاكتفاء بعقوبة الأبوين على جريمتهما.. وكل ذلك من السنن التي يقرها الكتاب المقدس.

لست أدري ما الذي دعا بولس لأن يقول:( بدون سفك دم لا تحصل مغفرة) ( عبرانيين 9/22 )

هل غفل المسكين عن نصوص الكتاب المقدس الكثيرة.. التي تتحدث بإسهاب عن التوبة وقصصها وقبول الله لها؟

ألم يسمع أخبار المسيح.. وكيف كان يجلس مع العشارين والخطاة، فيتذمر الفريسيون والكتبة لذلك قائلين: (هذا يقبل خطاة ويأكل معهم) ( لوقا 15/2) لكن المسيح كان يعلمهم حرصه على توبتهم؟

ألم يسمع بما أخبر به لوقا من كلام المسيح.. فقد ورد فيه ( لوقا 15/3-7): (وكلمهم بهذا المثل قائلاً: أي إنسان منكم له مائة خروف وأضاع واحداً منها، ألا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال حتى يجده، وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحاً ويأتي إلى بيته، ويدعو الأصدقاء والجيران قائلاً لهم: افرحوا معي، لأني وجدت خروفي الضال.. أقول لكم: إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب)؟

ألم يسمع بالمثلين اللذين ضربهما بالابن الضال والدرهم الضائع (لوقا 15/8 – 32 )؟

ألم يسمع بوعد الله التائبين بالقبول كما في (حزقيال 18/21-23): ( فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحفظ كل فرائضي وفعل حقاً وعدلاً، فحياة يحيا، لا يموت، كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه، بره الذي عمل يحيا، هل مسرة أسر بموت الشرير)؟

ألم يسمع بما قال يوحنا المعمدان مخاطباً اليهود مذكراً إياهم بأهمية التوبة.. لقد قال لهم ـ كما في (متى 3/7 -9) ـ: ( يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي، فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة، ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أباً) فالتوبة هي الطريق، وليس النسب كما ليس الفداء؟

ألم يسمع بما قال الرب ـ كما في (الأيام (2) 7/14) ـ : (فإذا تواضع شعبي الذين دعي اسمي عليهم وصلّوا وطلبوا وجهي ورجعوا عن طرقهم الردية فإنني أسمع من السماء)؟

ضرب كفيه بعضهما ببعض، ثم قال: رغم كل هذه النصوص المقدسة وغيرها.. يقول عوض سمعان: ( فالتوبة مهما كان شأنها ليست بكافية للصفح عما مضى من خطايانا)

ثم يرفع صوته، وكأنه يخاطب عوض سمعان قائلا : لماذا إذن ـ يا سيد عوض ـ أكدت النبوات على التوبة، وعلى فضلها ومحبة الله لها.. ولم أغلق هذا الباب في وجه آدم بالذات.. مع أنه أولى الناس بها لمعرفته بالله العظيم وجزاءه ورحمته.

جلس إلى مكتبه، ثم قال، وكأنه يستجوبني: أنت حبر كبير.. ولا شك أنك تعلم مراد المسيحيين بالعدل.. فما يريدون به؟

قلت: هم يريدون به عدم نقص شيء من أجر المحسنين، وعدم الزيادة في عقاب المسيء عما يستحق.. أي أنه توفية الناس حقهم بلا نقص في الأجر، ولا زيادة في العقاب.

قال: لقد ذكر سفر التكوين أن الله توعد آدم بالموت إن هو أكل من الشجرة.. ثم بعد الموت عاقبه بقوله: ( ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكاً وحسكاً تنبت لك، وتأكل عشب الحقل بعرق وجهك تأكل خبزاً، حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود ) فطرد آدم من الجنة ليعيش في الأرض ويكد فيها.

ومثل هذا عوقبت زوجته: (تكثيراً أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولاداً، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك) ( التكوين 3/16-19)

انظر.. لقد توعد آدم بعقوبة الموت، لكنه بدلاً عن أن يموت وزوجه جزاء خطيئتهما وتنطفىء الفتنة والفساد والشر في المهد، بدلاً من ذلك كثّر نسلهما، فكان ذلك حياة لهما لا موتاً، وكان سبباً في زيادة الشر والفساد.

لقد عوقب آدم وحواء إذاً، ونلحظ في العقوبة شدة متمثلة في لعن الأرض كلها والأتعاب الطويلة للرجال والنساء، ونلحظ أن ليس ثمة تناسباً بين الذنب والعقوبة، فقد كان يكفيهم الإخراج من الجنة.

التف إلي، وقال: لقد بقيت هذه القصاصات من لدن آدم حتى جاء المسيح الفادي.. ثم ماذا؟.. هل رفعت هذه العقوبات بموت المسيح؟.. هل رفعت عن المؤمنين فقط أم أن شيئاً لم يتغير؟

لم أجد ما أجيبه به، فقال: أنت ترى الموت لا يزال يلتهم الناس من لدن المسيح.. يموت أبرارهم وفجارهم.. أليس كذلك؟

سكت، فقال: فأين ما قال بولس إذن: (مخلصنا يسوع الذي أبطل الموت، وأنار الحياة والخلود) (تيموثاوس (2) 1/10)؟.. وأين قوله: (بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع ) ( رومية 5/12 )؟

إن المسيح لم يبطل بصلبه ولا بدعوته أي موت سواء كان موتاً حقيقياً أو موتاً مجازياً، إذ مازال الناس في الخطيئة يتسربلون.

وأما الموت الحقيقي فليس في باب العقوبة في شيء، بل هو أمر قد كتب على بني آدم برهم وفاجرهم على السواء، قبل المسيح وبعده وإلى قيام الساعة، كما كتب الموت على الحيوان والنبات فما بالهم يموتون؟ وهل موتهم لخطأ جدهم وأصلهم الأول أم ماذا !؟

ثم إن هناك من لا يملك المسيحيون دليلاً على موتهم، فنجوا من الموت من غير فداء المسيح، وذلك مثل أخنوخ وإيليا اللذين رفعا إلى السماء وهم أحياء كما في الأسفار المقدسة (تكوين 5/24، وملوك (2) 2/11، وعبرانيين 11/5 )

إذن.. ليس هناك علاقة بين الموت وخطيئة آدم.

وكذلك فإن القصاصات الأخرى ما تزال قائمة فما زال الرجال يكدون ويتعبون، وما تزال النساء تتوجع في الولادة.. يستوي في ذلك المسيحيون وغيرهم.

لست أدري كيف قلت له: إن قومنا يذكرون أن بقاء هذه الأمور لم يعد من باب العقوبة.. فقد افتدانا المسيح من لعنة الموت مثلاً، وليس من الموت.. وهكذا العقوبات؟

قال: من السهل لقومنا أن يقولوا ما شاء أن يقولوا.. أو يتهربوا بما شاءت لهم أهواؤهم أن يتهربوا..

قام من مكتبه على هيئة المستعجل، وقال: حتى لو أجبتك عن هذا.. فسيحولون من جوابي زوابع أخرى.. هكذا علمهم بولس.. وهكذا علمهم القديسون.. وهكذا علمهم قبل ذلك كله كتبة الكتاب المقدس.

***

ما إن وصل هذا السجان العجيب من حديثه إلى هذا الموضع حتى رأيت جموعا كثيرة.. كلها ترتدي ثياب رجال الدين المسيحي.. وهي تقصد السجن.. فامتلأت بالعجب.. وسألت السجان عن سرهم، فقال: كل هؤلاء الذين تراهم سمعوا من السجين ما سمعت، وحدثتهم بما حدثتك بك.. وكلهم حصل له ما حصل لك.. هذا ظاهرهم أما باطنهم، فلا شك أنه لا يختلف عن باطنك.


([1]) أشير به إلى القديس أوغسطين (354 – 430).. وهو أحد أهم الشخصيات المؤثرة في المسيحية الغربية.. بل تعتبره الكنيستان الكاثوليكية والأنغليكانية قديسا، وأحد آباء الكنيسة البارزين، وشفيع المسلك الرهباني الأوغسطيني.. كما يعتبره العديد من البروتستانت، وخاصة الكالفنيون أحد المنابع اللاهوتية لتعاليم الإصلاح البروتستانتي حول النعمة والخلاص.. وتعتبره بعض الكنائس الأورثوذكسية مثل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية قديسا.. وقد اخترناه هنا باعتباره في مقدمة النصارى الذين قدموا تفسيراً متكاملاً لفكرة الكفارة، ويعتبره العثماني في كتابه: (ما هي النصرانية؟) الوحيد الذي استوعب قضية الكفارة.

([2])  رواه البخاري ومسلم.

([3])  رواه البخاري ومسلم.

([4])  من الجوب وهو القطع.

([5])  جمع نمرة وهي كساء من صوف مخطط – أو العباء.

([6])  أي كأنه ورقة مطلية بذهب، وهو كناية عن ظهور البشر والإشراق من شدة السرور.

([7])  رواه مسلم وغيره.

([8])  رواه ابن ماجه وغيره بسند فيه لين.

([9])  رواه مسلم والنسائي.

([10])  رواه مسلم.

([11])  رواه الترمذي في حديث البيهقي واللفظ له وقال الترمذي حديث حسن صحيح.

([12])  رواه أبو يعلى والطبراني بإسناد جيد.

([13])  رواه ابن ماجه بإسناد جيد.

([14])  رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد.

([15])  معنى واه مذنب وراقع يعني تائب مستغفر.

([16])  رواه البزار والطبراني في الصغير والأوسط.

([17])  الآخية : هي حبل يدفن في الأرض مثنيا ويبرز منه كالعروة تشد إليها الدابة.. وقيل هو عود يعرض في الحائط تشد إليه الدابة.

([18])  رواه ابن حبان في صحيحه.

([19])  رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم كلهم من رواية علي بن مسعدة وقال الترمذي حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة وقال الحاكم صحيح الإسناد.

([20])  رواه البخاري ومسلم.

([21])  رواه الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم.

([22])  رواه الطبراني.

([23])  يغرغر: ما لم تبلغ روحه حلقومه فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به.

([24])  رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن.

([25])  رواه الأصبهاني.

([26])  رواه الأصبهاني.

([27])  رواه ابن ماجه والطبراني.

([28])  رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال صحيح الإسناد.

([29])  رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد.

([30])  رواه مسلم.

([31])  رواه مسلم وغيره.

([32])  رواه مسلم واللفظ له والبخاري بنحوه.

([33])  رواه أحمد والطبراني وإسنادهما حسن.

([34])  رواه أحمد بإسناد صحيح.

([35])  رواه الطبراني بإسناد حسن.

([36])  رواه أحمد والطبراني بإسنادين رواة أحدهما رواة الصحيح.

([37])  رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد.

([38])  رواه الطبراني ورواته رواة الصحيح.

([39])  رواه الترمذي وقال حديث حسن.

([40])  انظر التفاصيل المرتبة بكتبة الأناجيل في رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *