تاسعا ـ التربية

تاسعا ـ التربية

في اليوم التاسع.. كلفني أخي بالذهاب إلى مدرسة من المدارس التابعة للكنيسة، وقد كانت هذه المدرسة في ضاحية من ضواحي الإسكندرية، وكانت تحتل موقعا رائعا، تحيط بها الأشجار، وتغمر ساحتها بساتين الورود بأشكالها.. ليعطي كل ذلك توافقا بين التعاليم التي تدرس، والجو الذي يدرس فيه.

زرت بعض الأقسام، فبهرت بمدى نظامها، وجمالها، ومدى انضباط طلبتها، لقد شجعني كل ذلك تشجيعا عظيما.. اكتفيت به لأعود إلى أخي لأبشره بما رأيت.

لكني لم أسر إلا قليلا في ساحة المدرسة حتى استوقفني رجل يظهر من شكله أنه معلم بالمدرسة.

وقفت، ورحبت به، وقلت: لا شك أنك معلم بهذه المدرسة المحترمة.

قال: أجل.. وأنت ضيفنا العزيز الذي قدم من بلاده البعيدة ليشرفنا بزيارته.

قلت: أجل.. لقد تعمدت أن تكون زيارة قصيرة لئلا أشغلكم عن وظائفكم النبيلة التي تقدمونها للبشرية.. أنتم ـ معشر المعلمين ـ خلفاء رسل المسيح، وحفظة الكتاب المقدس.. ولا ينبغي أن تضيع دقيقة من حياتكم في غير الرسالة التي وكلت لكم.

قال: شكرا على هذا التقدير.. وإن سمحت لي أن أجلس معك لأحدثك عن بعض العقبات التي تعترضنا من أجل الأداء الأمثل لوظيفتنا أكون لك شاكرا.

قلت: ما جئت إلا لأجل هذا.. لكني لم أسمع من زملائك من المعلمين إلا الثناء العطر على البرامج وعلى الإدارة وعلى الكنيسة الراعية.

قال: لقد منعهم حرصهم على مناصبهم من البوح بما أريد أن أبوح لك به.

قلت: حدثني.. ولا تتحرج من شيء.. فلا ينبغي أن يحول بيننا وبين مصالح متعلمينا أي حائل.

دعاني للجلوس على كرسي من كراسي الساحة المليئة بأنوع الزهور، وقال: أنت تعلم أن الوظيفة التربوية الكاملة تستدعي تحديد الغاية التي نريد أن نشكل بها شخصية من نربيه.

قلت: أجل ذلك صحيح..

قال: لقد وضعنا في صلب أهداف هذه المدرسة تشكيل شخصية تتوافق مع تعاليم الكتاب المقدس.

قلت: كل مدارس الكنيسة تضع هذا الهدف النبيل.

قال: هو هدف نعم.. ولكني ـ للأسف ـ أشك في نبله.

قلت: ما تقول؟.. أتشكك في الحقائق القطعية؟

قال: أنا لم أجلس إليك لأبوح لك بما أريد أن أبوح إلا لعلمي بعقلك ونزاهتك وحرصك على الحق الذي يهدي إليه المنطق السليم.

قلت: أجل.. أنا أحرص الناس على المنطق العقلي السليم.. فهل لديك أي إثباتات على ما تقول؟

قال: لو لم أتثبت من كل كلمة أقولها لما جلست معك هذا المجلس.

قلت: فحدثني عن زبدة ما جعلك تذهب إلى ما ذهبت إليه.

قال: لقد عرفت من خلال استقراء حاجات المتعلمين أنهم يحتاجون ـ لتشكيل شخصية سوية ـ إلى تحقيق ثلاثة أبعاد: البعد الإيماني، والبعد الأخلاقي، والبعد الاجتماعي.

البعد الإيماني:

قلت: فما تريد بالبعد الإيماني؟

قال: جميع المعارف الإيمانية العميقة التي تشكل قناعات المؤمن العقلية والروحية، والتي تبرمجه بعد ذلك ليسير في الحياة وفق ما تمليه حقيقة الكون والإنسان والحياة.

قلت: فقد جاء الكتاب المقدس ليقرر هذه المعارف الكبرى التي تنبني عليها القناعات.

قال: أجل.. وأنا لا أشك في ذلك.. لكني لا أرى للكتاب المقدس كبير اهتمام بهذه الناحية.

قلت: ما تقول؟

قال: مع أن القضايا الإيمانية هي المحور الأساسي للدين إلا أني أجد الكتاب المقدس يكاد يعتبرها قضايا ثانوية.. بل هو أحيانا يسيء إليها من خلال أشياء كثيرة.

قلت: هذا كلام مجمل.. هات تفاصيله.

قال: لو جمعنا جميع ما تحدث به الكتاب المقدس عن الله وصفات الله لم يشكل جميع ما جمعناه إصحاحا واحدا ذا صفحات محدودة.. إن ما ذكره الكتاب المقدس عن صفة الهيكل أو صفة التابوت أو وكلاء داود أكثر بكثير من حديثه عن الله وعن صفات الله وعن قضايا الإيمان.

فكيف تريد من هذه القضايا أن تتقرر في نفوس طلبة الكتاب المقدس، وهم يرون هذا الاحتقار للإيمان في كتابهم الذي ينهلون منه؟

سكت قليلا، وكأنه يريد أن يقول شيئا، ولكنه يتردد في قوله، فأردت أن أزيح تردده، فقلت: كلامك صحيح.. أنا ـ شخصيا ـ أشعر بهذا.. أفتح الكتاب المقدس لأتعرف على الله.. فأجدني أتيه عن الله بأنساب بني إسرائيل.

شعر ببعض الشجاعة، فراح يقول: أجل.. أحيانا يخيل إلي ـ أنا كذلك ـ أنه كتاب تاريخ.. بل تاريخ أسرة من الأسر البشرية..

والقصور ليس في هذه الناحية فقط.. حتى الأسفار التي تتحدث عن قضايا الإيمان تتحدث عنها بنوع من الإلغاز لا يفهمها إلا خاصتنا، ولا يفكونه إلا بضروب من التأويل المتكلف.

قلت: كل ما تقوله صحيح.. ولكن ما الحل؟

قال: لست أدري..

ولكني وجدت في كتاب المسلمين المقدس نموذجا صالحا للكتاب الذي يقرر قضايا الإيمان تقريرا منسجما مع الأهداف التربوية.

لم أكن أتصور أن يحدثني أحد في هذه المدرسة عن القرآن.. ولكن الله شاء أن أسمع هذا.. وأسمع معه مقارنة جديدة بين القرآن والكتاب المقدس لأتعرض لبصيص جديد يقربني إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

فتح الرجل شهيتي للحديث، فقلت: وهل تتصور أن كتاب المسلمين كتاب ينسجم مع القواعد التربوية في تشكيل الشخصية السوية؟

قال: أجل.. لقد رأيته يركز على الإيمان.. بل ليس هناك كتاب في الدنيا يتحدث عن الإيمان كما يتحدث عنه القرآن.. إن كل صفحة من صفحاته، بل كل آية من آياته تعرف بالله، وتحبب العباد فيه.. حتى ما ارتبط منها بالقصص المحض، أو الأحكام المحضة:

اسمع في القصص مثلا، وقارن بين قصة يوسف كما هي في كتابنا المقدس، وبين قصة يوسف في القرآن، ولنقتصر منها على الفترة التي سجن فيها يوسف.

لقد وضع الكتاب المقدس إصحاحا كاملا لذلك.. فاسمع له لتقارن بينه وبين ما ورد في القرآن من نفس القصة..

أخرج الكتاب المقدس من محفظته، وراح يقرأ (تكوين: 40/1-23):( وحدث بعد هذه الامور أن ساقي ملك مصر والخباز اذنبا الى سيدهما ملك مصر. فسخط فرعون على خصيّيه رئيس السقاة ورئيس الخبازين. فوضعهما في حبس بيت رئيس الشرط في بيت السجن المكان الذي كان يوسف محبوسا فيه. فاقام رئيس الشرط يوسف عندهما فخدمهما. وكانا اياما في الحبس  وحلما كلاهما حلما في ليلة واحدة كل واحد حلمه كل واحد بحسب تعبير حلمه. ساقي ملك مصر وخبازه المحبوسان في بيت السجن. فدخل يوسف اليهما في الصباح ونظرهما واذا هما مغتمّان. فسأل خصيّي فرعون اللذين معه في حبس بيت سيده قائلا لماذا وجهاكما مكمّدان اليوم. فقالا له حلمنا حلما وليس من يعبره. فقال لهما يوسف أليست لله التعابير. قصا عليّ فقصّ رئيس السقاة حلمه على يوسف وقال له كنت في حلمي واذا كرمة امامي. وفي الكرمة ثلاثة قضبان. وهي اذ أفرخت طلع زهرها وانضجت عناقيدها عنبا.. ) إلى آخر ما ورد.

أغلق الكتاب المقدس، وقال: القرآن يتناول نفس المشهد، ولكنه يتناوله بصورة مغايرة تماما.. فبينما يركز المشهد التوراة على الأحداث في حد ذاتها، فيفصل في ذكر الأحلام وأخبار الحالمين، وفي النتيجة النهائية التي تتوافق مع تعبير يوسف، ولا يذكر في كل هذا الزخم الله، وكأن القصة ليس لها من هدف إلا الأحداث التي تحملها.

بينما القرآن يخالف ذلك، فيملأ القصة بذكر الله، ليقرب القلوب منه، ويبني الشخصية السوية على التعرف عليه.. اسمع لما يقول القرآن.. أخرج مصحفا من محفظته، وراح يقرأ:{ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ }(يوسف:36)

نظر إلي، وقال: لقد اكتفى القرآن بهذا الموجز المختصر من ذكر الحلم ليترك الحصة الأكبر للإيمان.. اسمع ما ذكره يوسف إجابة لهما:{ قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)(يوسف)

أرأيت.. أربع آيات تتحدث عن الله والتعريف به وتحبيب القلوب فيه، ليعود بعدها ليفسر الحلم في آية واحدة، ويكتفي بها عن كل تلك التفاصيل التي ساقها الكتاب المقدس.. اسمع:{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} (يوسف:41)

سكت قليلا، ثم قال: في جميع قصص القرآن نجد هذا الأسلوب.. القرآن لا يقصص القصص لأجل القصص، وإنما لأجل تثبيت قضايا الإيمان.. هو يتخذ من القص الذي تشتهيه النفوس وسيلة لجذبها إلى الإيمان.

وفي الأحكام نجد نفس الأسلوب.. وتستطيع أن تجري مقارنة بسيطة بين النصوص التي وردت في أحكام الطلاق في الكتاب المقدس، وبين مثيلتها في القرآن.

ففي الكتاب المقدس، وفي (تثنية: 24/1-5):( 1 اذا اخذ رجل امرأة وتزوج بها فان لم تجد نعمة في عينيه لانه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه الى يدها واطلقها من بيته ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر  فان ابغضها الرجل الاخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه الى يدها واطلقها من بيته او اذا مات الرجل الاخير الذي اتخذها له زوجة  لا يقدر زوجها الاول الذي طلقها ان يعود ياخذها لتصير له زوجة بعد ان تنجست. لان ذلك رجس لدى الرب. فلا تجلب خطية على الارض التي يعطيك الرب الهك نصيبا اذا اتخذ رجل امرأة جديدة فلا يخرج في الجند ولا يحمل عليه امر ما. حرا يكون في بيته سنة واحدة ويسرّ امرأته التي اخذها )

أرأيت.. الكتاب المقدس ينص على الأحكام كما تنص عليها جميع قوانين الدنيا.. وإذا ذكر الله ذكره بعنصرية مقيتة:( لان ذلك رجس لدى الرب. فلا تجلب خطية على الارض التي يعطيك الرب إلهك نصيبا )

بينما القرآن يتناول مسائل الطلاق بتفصيل كثير، ويربطها بالإيمان ربطا وثيقا.. اسمع:{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)}(البقرة)

هل رأيت الفرق.. لا يكاد يمر سطر من سطور هذه الآيات إلا وهو يذكر الله، ويذكر به، وهو يذكر بإله العالمين لا إله إسرائيل، وهو يصف الله بالأوصاف التي تحبب القلوب فيه، وتربط الشخصية به.

وهكذا في جميع أحكام القرآن.. وهكذا في جميع أحكام الكتاب المقدس.

القرآن يستغل كل مناسبة ليعرف بالله، ويكون الشخصية السوية على أساسه، بينما يتيه الكتاب المقدس في جزئيات الأحكام وتفاصيلها.

البعد الأخلاقي:

قلت: عرفت ما تريد من البعد الإيماني.. فما تريد من البعد الأخلاقي؟

قال: أنت تعلم أن الأخلاق هي تنظيم سلوك النفس بحيث تنسجم مع نفسها ومع العلاقات التي ترتبط بها.

قلت: أجل.. وقد أحسنت في ذكرك لانسجام النفس مع نفسها.. فأول الخلق يبدأ من النفس ومع النفس.. ومن لم يتخلق مع نفسه لم يتخلق مع غيرها.

قال: أجل.. ولكن الشأن ليس في تعريف الخلق، وإنما في تربية النفس عليه.

قلت: ألا ترى في الكتاب المقدس ما يكفي لهذه الناحية؟

قال: أصدقك في هذا البعد كما صدقتك في ذلك البعد.. لست أدري أي شخصية أخلاقية يمكن للكتاب المقدس أن يؤسسها؟

قلت: ما الذي تقصد؟

قال: في الكتاب المقدس نماذج متناقضة.. ولست أدري أيها يصلح لأن يكون محل قدوة.. فهناك العفيف الذي لا يمد حتى بصره، وهناك المنحرف الذي لا ينجو منه حتى محارمه.. وهناك المسالم.. وهناك المحارب الظالم..

قلت: هذه نماذج الناس.. ولا بد أن يتحدث الكتاب المقدس عنها جميعا.

قال: ليس العيب في أن يتحدث عنها.. ولكن العيب في أن يثني عليها.. بل يدعو لها.

سكت قليلا، وقال: إذا درسنا للطالب نموذج شمشون.. فما تراه يخرج لنا؟

لم أدر بما أجيبه، فقال: سيخرج لنا طلبة يمارسون ما يمارسه الفتوة.

قلت: فدرسوهم نماذج أخرى.

قال: كل نموذج ندرسه نجد فيه من العيوب ما يحول بيننا وبين اعتباره نموذجا مثاليا لصاحب الخلق الرفيع.. بالإضافة إلى ذلك لا نجد في الكتاب المقدس احتراما للأخلاق، ولا تعظيما لها، ولا تبينا لسبيل تحصيلها، ولا ذكرا لآحاد أفرادها مما يملأ النفس بها.

قلت: هذه الأمور مما يجتهد فيه العقل.. ولا علاقة للكتاب المقدس بمثل هذا.

قال: ولكني رأيت كتاب المسلمين.. القرآن.. وكأنه مدرسة متكاملة في الأخلاق.. فهو يعظمها، ويحترمها، ويصف بها المقربين الصالحين.

وهو لا يكتفي بذلك، بل يضم إليها التعريف بآحاد الأخلاق، وتبيين كيفية تحصيلها.

لقد قرأت القرآن من أوله إلى آخره، وأعدت قراءته مرات عديدة، فلم أجد فيه إلا تعليم الكمال الخلقي، بل تمرين النفس عليه.

لست أدري كيف قلت له من غير أن أشعر: حدثني عن الأخلاق في القرآن كما حدثتني عن الإيمان في القرآن.

قال: أول ما يشدك في القرآن من تعظيمه للخلق هو ما ورد فيه من الثناء على محمد بحسن الخلق.. إنك تجد فيه هذه الآية العظيمة التي تجعل من كل قلب متلهفا لتحصيل معناها:{ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ( (القلم:4)

ولهذا صار مقياس الكمال عند المسلمين هو حسن الخلق.. فنبيهم يقول لهم:(  خياركم  أحاسنكم أخلاقا )([1])، ويقول لهم:( إن من أكمل المؤمنين إيمانا  أحسنهم خلقا، وخياركم  خياركم لنسائهم )([2])، ويقول لهم:( إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة  أحاسنكم أخلاقا وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون ) قالوا:( يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون ) قال:( المتكبرون )([3])

ويجعل الدرجات العليا والأجور العظيمة من نصيب من حسن خلقه، فيقول:( ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء )([4])، ويقول:( أنا زعيم ببيت في ربض الجنة  لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، ويبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه )([5])، بل أخبر محمد أن (  المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم )([6])

قلت: طلبت منك أن تحدثني عن القرآن لا عن أقوال محمد.

قال: أقوال محمد تفسير للقرآن وبيان له.. بل كان محمد بسلوكه ينهج نهج القرآن، ويحاول أن يكون النموذج المثالي الذي تطبق به تعاليم القرآن.

ومع ذلك سأذكر لك من القرآن ما تقر به عينك:

إن القرآن لا يتعامل مع الأخلاق كما يتعامل معها الفلاسفة وعلماء النفس ممن يهتمون بتأصيلها.. القرآن لا يهتم بالتأصيل بقدر ما يهتم بغرس بذور الأخلاق لتنمو بعد ذلك طيبة يانعة.. اسمع هذا النص الذي يريد أن يربي نموذج الإنسان المثالي الذي يفي بنذره وعهوده، والذي يبذل ماله في سبيل معونة غيره من غير أن ينتظر منهم جزاء ولا شكورا..

إن القرآن يلتف حول رغبات النفس ورهباتها ليربي فيها هذه الأخلاق الرفيعة.. اسمع الآيات وحاول أن تتخيلها، وتعيش معانيها:{ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)(الإنسان)

لقد اكتنف تلك الأخلاق الرفيعة التي ذكرها القرآن ترغيب وترهيب لتنطلق النفس من نفسها، ومن قناعاتها الإيمانية لتمارس الخلق من غير أن تنتظر من أحد جزاء ولا شكورا.

واسمع هذا النص الذي يحتل فيه الباذلون المضحون المؤثرون قمم الكمال الإنساني بالنظرة القرآن.. { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}(الحشر)

فالصدق والفلاح ـ حسب هذه الآيات ـ محصور في أولئك الباذلين المضحين الذين ضحو برغباتهم الشخصية من أجل القيم التي يؤمنون بها.

وهكذا في كل القرآن..لا نجد الثناء إلا على النماذج الرفيعة التي تمثلت فيها الأخلاق بأكمل مظاهرها.. اسمع هذه الآية:{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (الأحزاب:35)

بل إن القرآن لا يكتفي بذلك الثناء على أصحاب الأخلاق الرفيعة، ولا بتلك الأجور التي يدخرها لهم.. بل يخبر أن محبة الله قاصرة على هؤلاء.

ففي القرآن الآيات الكثيرة الدالة على حب الله لعباده الصالحين، وذكر الأوصاف التي استحقوا بها تلك المحبة الشريفة، وفي ذلك أعظم ترغيب في تلك الأخلاق.

ويتربع عرش هذه الأوصاف صفة الإحسان الجامعة لجميع مجامع الخير.. {  وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195).. {  الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134)..{  فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:148)..{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة: 13)..{  لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة:93)

والسر في هذه المحبة ما وضحه محمد بقوله:( إن الله جميل يحب الجمال)([7])، والمحسن هو الذي اكتمل جمال روحه حتى صار مجلاة للحق، وصار بذلك أهلا لمحبة الحق، كما ورد في القرآن:{ هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ) (الرحمن:60)، وفيه:{ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (يونس:26)

ومن أوصاف المحبوبين التوبة والطهارة، لقد جاء في القرآن:{  إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة: 222).. {  لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة:108)

ومن أوصاف المحبوبين صفة التقوى الحاجزة عن المعصية.. { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران:76)..{  إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4)..{  كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:7)

ومن أوصاف المحبوبين الصبر:{  وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:146)

ومن أوصاف المحبوبين التوكل على الله:{  فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159)

ومن أوصاف المحبوبين القسط::{  وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(المائدة: 42)..{  لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8)

ومثل ذلك ما ورد من النصوص التي تبين الأمور التي لا يحبها الله:{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة:190)..  {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة:205).. { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (البقرة:276).. { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران:32).. { وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران:57).. {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ  مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) (النساء:36).. {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً) (النساء:107).. { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) (النساء:148).. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة:87).. { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (لأعراف:31).. { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (لأعراف:55)

والقرآن لا يكتفي بكل ذلك، بل يضع أصول الأخلاق التي تجمع فروعها، وأول ما يفاجئنا في القرآن من هذه الأصول هو هذه الآية التي تجتمع فيها جميع مكارم الأخلاق:{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ( (لأعراف:199)

وقد حاول علماء المسلمين انطلاقا من هذا أن يبينوا وجه انحصار الأخلاق في هذه الأصول، فقال القرطبي:( هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات. فقوله:{ خُذِ الْعَفْوَ } دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ودخل في قوله:{ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار. وفي قوله:{ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ  } الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة )([8])

ومن الآيات الجامعة أصول الأخلاق ما جاء في القرآن في ذكر أوصاف المؤمنين:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ( (الحجرات:15)

وقد انطلق الغزالي.. وهو عالم الأخلاق المسلم.. من هذه الآية ليبين الأصول التي تجتمع فيها الأخلاق، فقال:( فالإيمان بالله وبرسوله من غير ارتياب هو قوّة اليقين، وهو ثمرة العقل ومنتهى الحكمة، والمجاهدة بالمال هو السخاء الذي يرجع إلى ضبط قوة الشهوة، والمجاهدة بالنفس هي الشجاعة التي ترجع إلى استعمال قوّة الغضب على شرط العقل وحدّ الاعتدال ) 

وبما أن الأخلاق تعني التوازن بين لطائف النفس وطاقاتها، فإنا نرى القرآن يحض على الاعتدال.. وكمثال قرآني على ذلك موقف القرآن من أكل الشهوات أو استعمالها، والذي تنشأ عنه الأخلاق الخاصة بهذه القوة من قوى الإنسان، فقد ورد ذكره في القرآن الكريم مقيدا بما يمنعه من الطغيان:{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ( (الأنعام:141)

ففي هذه الآية دعوة للأكل تنافي ما يدعو إليه الرهبان من الجوع، ولكنها لا تنسجم كذلك مع ما يدعوا إليه أهل الشهوات من الاقتصار على الأكل المجرد، بل تضم إليه أمرين: الأول عدم الإسراف، حتى لا ينمي هذا الأكل في الإنسان أخلاق اليهيمية التي لا تبالي ما تأكل، ولا كيف تأكل، وهذا ما نص عليه القرآن:{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ( (لأعراف:31)

والثاني البذل، وعدم نسيان المحتاجين، لأن الشهوة قد تولد الحرص المولد للبخل، فلذلك تعارض الشهوة بالبذل.

ومن الأمثلة ـ كذلك ـ ما ورد في القرآن من الحض في وقت واحد على الإنفاق والتقتير:{ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً( (الاسراء:29)، فغل اليد إلى العنق يولد صفة البخل، وهي من شر الصفات، وبسط اليد كل البسط، قد يولد الفاقة والفقر، وهو كذلك منبع من منابع الانحراف.

وبما أن الأخلاق تحتاج إلى ضوابط تحميها من من طرفي الإفراط والتفريط، وتجعلها متناسقة مع بعضها البعض، فلا يطغى فيها جانب على جانب بحيث يؤثر ذلك في جماله وكماله، فقد عبر القرآن عن هذه الضوابط التي تحمي الأخلاق بمصطلح ( الاستقامة)، الذي ورد في مواضع متعددة من القرآن:{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ( (فصلت:30)،{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ( (الاحقاف:13)،{ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً( (الجـن:16)

البعد الاجتماعي:

قلت: فما تريد بالبعد الاجتماعي في التربية؟

قال: هو البعد الذي يهيء الفرد للتعايش الإيجابي مع المجتمع.. وهو يقتضي السلوك الأمثل الذي يجعل الفرد إلفا مألوفا، محبا محبوبا، وهو ما يطلق عليه ( آداب العلاقات الاجتماعية )

ويقتضي التأثير الإيجابي في المجتمع بخدمته وإفادته، ومحاولة الاستغناء عنه، وهو ما يطلق عليه ( المساهمة في التنمية الاجتماعية )

قلت: هل ترى الكتاب المقدس اهتم بهاتين الناحيتين؟

قال: يؤسفني أن أذكر لك بأنه يناقض ما تتطلبه هاتين الناحيتين.. فالسلوك الذي يظهر به من يعتبرهم قدوة يتنافى مع السلوك الاجتماعي السليم..

فالمسيح الذي هو الرمز والمثال والنموذج الأمثل.. يقوله الكتاب المقدس أقوالا كثيرة تتنافى مع السلوك الاجتماعي السليم:

فهو يهين أمه وسط الحضور، ويقول لها:( مالي ولك يا إمرأة ) (يوحنا:2: 4)؟

وهو يهين معلمي الشريعة بقوله لهم:( يا أولاد الأفاعي)(متى:3: 7)؟.. وبقوله لهم:( أيها الجهال العميان )(متى:23: 17)؟

وهو يهين تلاميذه، ويشتمهم، إذ قال لبطرس كبير الحواريين:( يا شيطان ) (متى:16: 23)، وشتم آخرين منهم بقوله:( أيها الغبيان، والبطيئا القلوب في الإيمان ) (لوقا 24: 25).. مع أنه هو نفسه الذي قال لهم:( قد أعطى لكم أن تفهموا أسرار ملكوت الله )(لوقا: 8: 10)؟

وهو الذي يشتم أحد الذين استضافوه ليتغدى عنده، وجعلتموه يشتمه في بيته:( سأله فريسي أن يتغذى عنده، فدخل يسوع واتكأ، وأما الفريسي فلما رأى ذلك تعجب أنه لم يغتسل أولاً قبل الغداء، فقال له الرب:( أنتم الآن أيها الفريسيون تنقون خارج الكأس، وأما باطنكم فمملوء اختطافاً وخبثاً يا أغبياء، ويل لكم أيها الفريسيون )، فأجاب واحد من الناموسيين، وقال له: يا معلم، حين تقول هذا تشتمنا نحن أيضاً، فقال:( وويل لكم أنتم أيها الناموسيون ) (إنجيل لوقا:11: 39)؟

وهو الذي يطلب من تلاميذه عدم إفشاء السلام في الطريق(لوقا: 10: 4 )؟

وهو الذي يقول:( لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير )( متى:7: 6)؟

وهو الذي يكذب على إخوته، كما في إنجيل يوحنا(7: 3 ) أن إخوة المسيح طلبوا منه أن يصعد إلي عيد المظال عند اليهود، فرد عليهم قائلاً:( اصعدوا انتم إلي العيد، فأنا لا أصعد إلي هذا العيد.. ولما صعد إخوته إلي العيد، صعد بعدهم في الخفية لا في العلانية )؟

قلت: ولكن المسيح أوصانا بمحبة أعدائنا.

قال: نعم.. هو أوصانا بذلك.. ولكنه قال في نفس الوقت بكل قسوة:( أما أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحـوهم قدامي ) (لوقا: 19: 27)

نعم.. نحن نروي وصيته لنا بأعدائنا، ولكنا في نفس الوقت نجعله يأمرنا بكل قسوة ببغض أقرب الناس إلينا.. لقد جاء في (لوقا:14: 26):( إن جاء إلي أحد، ولم يبغض أباه وأمه وزوجته وأولاده وإخوته وأخواته، بل نفسه أيضا، فلا يمكنه أن يكون تلميذا لي )؟

بل إنه يقول:( لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما، بل سيفا.فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها، والكنة مع حماتها) (متى: 10: 34)

بل جعله الكتاب المقدس يقول:( جئت لألقي على الأرض نارا، فلكم أود أن تكون قد اشتعلت؟ ) (لوقا 12: 49)

الكتاب المقدس لم يكتف بكل ذلك، بل إنه جعلت المسيح يتجرد من أبسط مظاهر الرحمة ليلعن شجرة مسكينة لا ذنب لها سوى أنها لم تثمر.. ولم تثمر من عندها، بل لأنه لم يكن وقت الثمر.. لقد جاء في (مرقس:11: 12):( وفي الغد، بعدما غادروا بيت عنيا، جاع. وإذ رأى من بعيد شجرة تين مورقة، توجه إليها لعله يجد فيها بعض الثمر. فلما وصل إليها لم يجد فيها إلا الورق، لأنه ليس أوان التين. فتكلم وقال لها: ( لا يأكلن أحد ثمرا منك بعد إلى الأبد)؟

ولم يكتف بالشجر، بل راح يلحق الأذى بالحيوانات البريئة.. بل يتسبب بمقتل ألفي حيوان في وقت واحد.. كما في (مرقس: 5: 11):( وكان هناك قطيع كبير من الخنازير يرعى عند الجبل، فتوسلت الأرواح النجسة إلى يسوع قائلة: أرسلنا إلى الخنازير لندخل فيها، فأذن لها بذلك، فخرجت الأرواح النجسة ودخلت في الخنازير، فاندفع قطيع الخنازير من على حافة الجبل إلى البحيرة، فغرق فيها، وكان عدده نحو ألفين)؟

أذكر أني درست النص على طلابي، فقال لي أحدهم بكل جرأة ما ذنب الخنازير وصاحب الخنازير، حين أراد إخراج الشياطين من المجنون؟

وقال لي آخر: ألم يكن من الأجدى إخراج الشياطين دون الإضرار بالخنازير؟!

أما سائر الطلاب، فضحكوا..

لقد شوه هذا النص وغيره كل ما نقوله لهم عن سماحة المسيح وسلام المسيح.

هذا بعض ما في كتب البشارات..

أما العهد القديم.. فحدث ولا حرج..

قلت: أعرف هذا وغيره.. فهل ترى القرآن خاليا من مثل هذا؟

قال: ليس خاليا فقط.. بل في القرآن نظام اجتماعي متكامل يخدم كلام الجانبين: السلوك الاجتماعي، والمساهمة الاجتماعية.

قلت: فحدثني عن السلوك الاجتماعي في القرآن.

قال: ذلك طويل.. ولكني سأقرأ لك فقط بعض الآيات التي تبين اهتمام القرآن بالآداب الاجتماعية.. لقد ورد في موعظة لقمان:{ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ( (لقمان:18)

وورد في القرآن التنبيه إلى كثير من أصول الآداب الاجتماعية، كآداب الاستئذان، كما في هذه الآية:{ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( (النور:59)

أو آداب الزيارة كما في هذه الآية:{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ( (النور:61)

أو آداب المجالس، كما في هذه الآية:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( (المجادلة:11)

أو آداب الكلام، كما في هذه الآيات:{ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ( (لقمان:19)..{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ( (الحجرات:2)

أو آداب التحية، كما في هذه الآية:{ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً( (النساء:86)

أو آداب المشي، كما ورد في موعظة لقمان:{ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ( (لقمان:18)، وكما في هذه الآية:{ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً( (الاسراء:37) 

أو آداب التعامل مع مختلف أصناف الناس بما يناسبهم، كما في هذه الآية:{ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ( (النور: 63)

وهكذا في آيات قرآنية كثيرة.. وهذه الأوصول تدعم كل واحد منها أحاديث كثيرة، ومباحث فقهية واسعة تخدمها وتخدم الطريقة المثلى لتنفيذها.

أما المساهمة الاجتماعية فنجدها واضحة في القرآن.. واضحة المعالم، واضحة الأصول:

وتبدأ هذه المساهمة بالتناصح بين المؤمنين، والتواصي بينهم على الحق..:{ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ( (البلد:17)..{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ( (العصر:3)

وإلى هذا الإشارة بقول لقمان في وصيته لابنه:{ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ( (لقمان:17)

وقد اعتبر القرآن هذا التناصح خاصة من خصائص أمة محمد، فقال:{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ( (آل عمران: 110)

بل اعتبر أداء هذا الركن من علامات المؤمنين الصادقين، فقال:{ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ( (آل عمران:114)، وقال:{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( (التوبة:71)، وقال:{ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ_ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ( (التوبة:112)

بل اعتبره من صفات الرسول الأساسية:{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( (لأعراف:157)

واعتبره بعد ذلك من علامات صحة التمكين في الأرض:{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ( (الحج:41)

والقرآن لا يكتفي بهذه المساهمة مع أهميتها بل يضم إليها رعاية جميع الحاجات.. ابتداء من الحاجة إلى الطعام، وانتهاء بالحاجة إلى الأمن:

فالقرآن يحض على رعاية هذه الحاجات، فيقول:{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ( (المدثر:38 ـ 48)

فقد اعتبرت هذه الآيات عدم إطعام المساكين من الجرائم التي تسبب الدخول في جهنم، بل تقرن هذه الجريمة بترك الصلاة، ثم تقدم على التكذيب بالدين، ثم يتوعدون بعدم نفع الشافعين فيهم.

بل لم يعف القرآن الكريم من هذا الواجب حتى العامة من الناس الذين لا يملكون ما يطعمون غيرهم، لأنه لم يأمر بالإطعام فقط، بل أمر بالحض على الإطعام، ليشمل هذا الأمر الجميع:{ كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً( (الفجر:17 ـ 20)

ويذكر القرآن موقفا من مواقف القيامة الشديدة، فيقول:{ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ( (الحاقة:30 ـ 37)

بل نجد هذا في سورة كاملة تكاد تكون خاصة بهذا الجانب يعتبر من لا يحض على طعام المسكين مكذبا بالدين:{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ }(الماعون:1 ـ 7)

أما المساهمة في الأمن الاجتماعي، فقد برر القرآن  الأمر بالجهاد مع كونه إزهاقا للأرواح التي جاءت الشريعة لحفظها بكونه وسيلة لحفظ أرواح المستضعفين:{ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً( (النساء:75)

***

ما إن وصل من حديثه إلى هذا الموضع حتى رأينا مدير المدرسة وهو قادم نحونا، فصافحني الأستاذ وانصرف.. وهو يقول: اكتم عني ما ذكرته لك.. فلم أذكره في جميع حياتي لغيرك.

قلت: لا حرج عليك.. وأنت لم تقل إلا خيرا.. لم تقل إلا ما هداك إليه عقلك.

انصرف شاكرا.. وقد بدت عليه أنوار كثيرة يمنعها الخوف من الظهور.. ولكنها يوشك أن تتمرد على خوفها لتتمتع بأشعة شمس محمد.

مددت يدي إلى محفظتي لأستخرج بعض ما أحتاجه منها، فامتدت يدي إلى الورقة التي سلمها لي صاحبك، فعدت أقرأ فيها..

لقد أيقنت حينها أن السور التاسع من أسوار الكلمات المقدسة لم يتحقق به أي كتاب في الدنيا غير القرآن الكريم.


([1])    رواه أحمد.

([2])    رواه الترمذي.     

([3])    رواه الترمذي.

([4])    رواه الترمذي.  

([5])    رواه الطبراني.

([6])    رواه أبو داود.

([7])   رواه مسلم.

([8])    القرطبي: 7/344.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *