الهداية

الهداية

بعد أن انتهت الأيام العشرة، وانتهت أحاديث أصحابي العشرة، وفي الليلة التي ينفذ في صباحها حكم إعدامنا حصلت أشياء عجيبة.. سأقصها عليك باختصار:

لقد كان في حراستنا في ذلك الغار رجل صلب شديد، لم نكن نعرف منه إلا الطعام البسيط الذي كان يحضره لنا في الصباح والمساء.. وكان بينهما، وفي الوقت الذي نشتغل فيه بما قصصته لك من الأحاديث يتصنت علينا باهتمام كبير، وكان أحيانا يهتز لما يسمع، وكأننا نخاطبه به.

هذا الرجل الذي لم نتشرف بمعرفة اسمه، كان هو سبب نجاتنا..

في تلك الليلة.. جاءنا متخفيا ملثما كعادته، ثم طلب منا أن نسير خلفه، وأن لا ننحرف نحو أي جهة، كل ذلك وهو مشهر سلاحه نحونا.

ظننا في البدء أن حكم الإعدام سينفذ علينا في تلك الليلة، فسرنا، وقد ملأتنا مشاعر من وقف بين الموت والحياة..

في تلك اللحظات كدت أصيح من كل قلبي، وبكل مشاعري (لا إله إلا الله محمد رسول الله).. ولكن جبالا من الحديد والزنك والرصاص وقفت في حنجرتي، ومنعتني من أن أنطق بما ظللت طول عمري أحلم بأن أنطق به.

سرنا خلف الحارس.. وقد تعجبنا إذ أنه سلك بنا مسالك كثيرة.. كل ذلك، وهو يشهر سلاحه في وجوهنا، ويصيح فينا بكل قوة بأن نسرع..

بعد مسيرة أكثر من ساعتين وجدنا مغارة لا تختلف عن المغارة التي كنا فيه، فأشار إلينا أن ندخل إليها، فدخلنا.. بعدها نظر فيما حوله، ثم دخل خلفنا، وأماط اللثام عن وجهه، فإذا به وجه لا يختلف عن وجوه قومنا لولا تلك اللحية الطويلة التي تميز بها الكل في تلك الجبال.

ثم نطق بلغة إنجليزية فصيحة.. وكأنه من غير تلك البلاد، وقال لنا: اسمحوا لي أن أعرفكم بنفسي.

قال أحدنا ـ مقاطعا له ـ : لا شك أنك من المخابرات الـ (..؟).. ولا شك أن قومنا قد أرسلوك لإنقاذنا.

قال الرجل: أما الأول.. فقد أصبت فيه.. فأنا من المخابرات التي ذكرت.. بل أنا ذو منصب مهم في تلك المخابرات.. وأما الثاني، فقد أخطأت فيه.

تعجبنا من جوابه هذا، وقلنا: فما الذي جعلك تخرج من ذلك المحل؟

قال: نعم أنا أردت أن أنقذكم.. لكن لا تنفيذا لما طلبت من المخابرات.. بل تنفيذ لما طلبه مني قلبي وعقلي وروحي، وربي بعد ذلك كله وقبله.. 

قلنا: فأنت مسيحي متدين إذن.. لهذا جئت لتنقذنا؟

قال: قبل ساعات كنت مسيحيا.. لكني الآن.. والآن فقط أصرح بأعظم شهادة كتب الله لي أن أشهدها.

قلنا: أي شهادة؟

قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

قلنا: أأسلمت؟

قال: إن أحاديثكم التي تحدثتم بها هي التي جعلتني أسلم.

قلنا: كيف تسلم، وأنت ترى من المسلمين ما ترى.. إن حكم الإعدام كان سينفذ فينا هذا الصباح لولا أن أرسلك الله لنا؟

نظر إلى خارج المغارة، وكأنه يتهيب مما سيذكره، ثم قال: أتدرون من كان سينفذ فيكم حكم الإعدام؟

قلنا بصوت واحد: أولئك المسلمون.

قال: نعم.. أولئك المسلمون.. ولكن بوحي ممن؟

قلنا: بوحي من نفوسهم التي امتلأت بالصراع.

قال: النفوس وحدها لا تكفي لصناعة الشر.. كل شر يحتاج إلى ركنين: النفس والشيطان..

قلنا: نعرف الشيطان.. ولكنا لا نستطيع أن ننسب الأمر إليه.. فالشيطان غيب لا شهادة.

قال: لا أقصد شيطان الغيب.. بل أقصد شيطان الشهادة.

قلنا: وهل في الشهادة شياطين؟

قال: أنتم أدرى مني بهم.

قلنا: فمن هؤلاء الشياطين الذين أوحوا للمسلمين ما أوحوا؟

سقطت دموع حارة من عينيه، وقال: لقد كنت قبل ساعة أحدهم.

قلنا: أنت؟

قال: أجل.. ألم أذكر لكم أني من مخابرات (…؟)؟

قلنا: لا نعرف المخابرات إلا أنها الجهة التي تتنصت للأحداث لتتعرف من خلالها على صانعي الأحداث.

قال: أخطر المخابرات هي الجهة التي تصنع الأحداث.

قلنا: لم نفهم.

قال: لاشك أنكم لن تفهموا.. فمثل هذه الأسرار لا يعرفها إلا من وصل إلى الدرجات العليا في سلم المراتب الشيطانية.

قلنا: فقد كان لك حظ من هذه المراتب إذن.

قال: أجل.. ولذلك انتدبت مع أفراد كثيرين لهذه الرسالة..

قلنا: أي رسالة؟

أخرج كاميرا متطورة من جيبه، وقال: إن كل ما مر بكم من أحداث مسجل هنا.

قلت: أسجلت كلامنا؟

قال: لا.. سجلت كل ما حصل معكم من خطف وعنف ومحاكمة.

قلنا: لم؟

قال: لنشوه الشمس التي لا يمكن لأحد في الدنيا أن يطمع في تشويهها.. لقد أرسلني قومي.. لأسجل كل ما يحصل.. حتى ساعة الإعدام نفسها.. ليعرض ذلك كله على العالم كله.. لتمتلئ قلوب العالم أحقادا على محمد ودين محمد.

قلنا: أهان على قومنا أن تراق دمائنا في سبيل هذا؟

قال: إنهم يريدون أن يحولوكم إلى قديسين.. ثم يحولوا بعدكم، وبسببكم، هذه الأرض إلى أطلال.

قلنا: لكن كيف استطعت أن تقنع أولئك الغلاظ بأنك أحدهم؟

قال: وهل يصعب على الراعي الخبير أن يقتاد قطيع ماشيته.

قلنا: ولكن الراعي منهم..  أفلم يكن له من العقل ما يميز به الماشية من الذئاب.

قال: بل الراعي منا.. إن القائد الأعلى لكل المجموعات التي ترونها في هذه الجبال منا وبنا.. إنه على وجه التحديد المسؤول الأكبر الذي لست سوى ضابط من ضباط كتيبته.

قلنا: فهو الذي أرسلك إذن.

قال: أجل.. لقد أرسلني لذلك القطيع.. بعد أن أمرهم بأن ينفذوا كل ما أطلبه.

قلنا: ولكنك خرجت بنا خائفا.. كان في إمكانك أن تخرج بنا ونحن في غاية الأمن.

قال: أنت لا تعرف القائد الكبير.. إنه لا يثق في أحد من الناس.. فلذلك ينصب على كل خبير من المخبرين ما يضمن به نجاح جميع مخططاته.. إنه لا يحب الفشل، ولا يرضى به.

قلنا: فسيعلم القائد الكبير بفرارنا إذن.

قال: أجل.. ولذلك جمعتكم هنا لأخبركم بهذا.

قلنا: فسيكافئونك على إنقاذك لنا إذن.

قال: سيكافئونني بالقتل.. سيقتلونني قبل أن يسمع بي أحد من الناس.. ثم يرتبوا سيناريو خاصا لينفذوا به خططهم.

قلنا: لم نفهم.

قال: في البدء كانت خطتهم.. والتي وكلت مع بعض الناس لتنفيذها.. أن تعدموا.. ثم تنشر صور إعدامكم إلى العالم أجمع.. ليصبح كل واحد منكم قديسا ومسيحا.. ثم يرمى على المسلمين الذين صلبوكم من اللعنات ما رمي على اليهود.

قلنا: لقد أفشلت هذه الخطة.. فما الخطة الأخرى؟

قال: سيقتلونني.. ثم يزعمون أنهم استطاعوا بقوتهم وحيلتهم إنقاذكم.. وهنا أيضا سيظفرون بكل أنواع الإكبار.. ولكن مع ذلك دون ما كانوا يطلبون.

قلنا: فما الذي دعاك إلى هذه التضحية؟

قال: ما سمعته منكم هو الذي دعاني إلى هذا.. أنا الإنسان الذي بلي بكل ما ابتليتم به.. ولم أجد منقذا، فهرعت إلى الصراع أبحث فيه عن المنقذ.. وقد دلني ما حدثتموني به عن المنقذ.

قلنا: ولكنك ستموت.

قال: لا يهمني أن أموت بعد أن عرفت المنقذ.. إنني سأموت مطمئنا بعد أن وضعت رجلي في الطريق الصحيح الذي تبدأ به ولادتي الثانية.

قلنا: ألا يمكن أن تفر بنفسك وتدعنا.. فلعل الله أن يقدر لك النجاة؟

قال: ليت ذلك كان ممكنا.. لا يمكن أن يخرج أحد من هذه الجبال إلا من كان له من الخبرة ما ظللنا طول عمرنا نتدرب عليه.

قلنا: فلم لا ترجع إلى أصحابك بعد أن تنقذنا، ثم تخبرهم بفرارنا.. وأنك ظللت تلاحقنا.

قال: أنتم لا تعلمون قانون هذه الوظيفة.. إن هذه الوظيفة لا تطلب من المخطئ أن يعتذر، وإنما تطلب منه أن يقدم رأسه.

قلنا: يعز علينا أن تموت بسببنا.

قال: ويعز علي أن أترك من كان سببا في حياتي يذوق الموت قبل أن يضع رجله في بلاد السلام التي وضعت رجلي فيها.

قال لنا ذلك.. ثم أعطانا خطة الفرار.. فسرنا خلفه نقطع المسالك والمهالك إلى أن وصلنا إلى أرض عراء كانت قريبة من قاعدة من قواعد البلاد التي تنشر الصراع، وتحشر أنفها في كل شيء.

هناك.. قال لنا: اذهبوا الآن.. فلن تتعرضوا هنا لأي سوء..

فجأة.. رأينا جنودا كثيرين.. لسنا ندري هل كانوا من الإنس أم من الجن.. أحاطوا بنا، ثم طلبوا منا أن نرفع أيدينا.. ففعلنا.

تقدم قائدهم منا، وسألنا عنا، فأخبرناه، فقال: من المفروض أن تكونوا هذه الساعة في تلك المغارة، وأن ينفذ فيكم الإعدام في الصباح، فكيف جئتم؟

قلنا: لقد أنقذنا هذا الضابط الباسل.

اقترب منه، ثم نظر إليه مليا والحقد يبدو على عينيه، وقال له بصوت أقرب إلى الهمس منه إلى الجهر: ما الذي فعلته أيها المجنون؟.. لقد أحبطت كل شيء..

قال ذلك، ثم أشار إلى بعض الجنود إشارة خفية بأن يطلق عليه النار، ففعل، فصحنا: إن هذا هو الذي أنقذنا، فكيف تقتلونه؟

لم يلتفت إلينا.. بل أخذنا إلى داخل القاعدة، وهناك التقينا بمن عرفنا ماذا نفعل، وما ينبغي قوله، وأخبرنا في نفس الوقت بأن أي تجاوز منا لما طلب منا لن يعرضنا إلا للموت.

عندما صحنا: إن ما تفعلونه جريمة، قالوا لنا: إن الأمن القومي يقتضي هذا.. وليس في الحرب أخلاق.. فإما أن تتعهدوا أمامنا بما طلبنا، وإما أن تقدموا رؤوسكم لمن يحصدها.

لم نجد إلا أن نخضع لهم..

في ذلك المساء.. رأينا على شاشات التلفزيون مشاهد البطولة التي تم بها إنقاذنا من بين أسنان أكلة لحوم البشر.. ورأينا في نفس الوقت كيف يكرم ذلك القائد الذي أهاننا والذي قتل من أنقذنا.

ورأينا بعد أيام جحافل الطائرات، وهي تدك تلك المغارة، ومن كان يسكن تلك المغارة.

***

قلت: فما فعل أصحابك؟

قال: لقد قدر الله لي أن أزورهم جميعا.

قلت: فحدثني حديثهم.

قال: عمن تريد أن أحدثك؟

قلت: حدثني عن أولهم.. ذلك الذي راح يبحث عن (الأنا)

قال: لقد وجدته مع أستاذه وصديقه  الذي جعله الله سببا لهدايته.. وجدتهما معا في مرعى من المراعي الطاهرة.. كانا يتناجيان، وتشرق بتناجيهما الشموس، وتتفتح الأزهار، وتقبل الأغنام على مرعاها الخصيب.

قلنا: فهل تحدثت إليهما؟

قال:  لقد اقتربت منهما، لأتحدث إليهما، لكني سمعتهما يتحدثان عن معان راقية وحقائق عالية ومواجيد رفيعة، فلم أشأ أن أقطع حديثهما.. اكتفيت بالسماع.. ثم اكتفيت بالانصراف، وأنا أحمل في قلبي غبطة عظيمة لذلك الذي استطاع أن يقهر جميع ما لقنه أساتذته، ويقهر جميع ذلك الجاه الذي تمتلئ به قاعات المحاضرات.. ثم يرضى بتلك المراعي.. وبصحبة ذلك الراعي. 

قلت: حدثني عن ثانيهم.. ذلك الذي راح يبحث عن سلام (القلب)

قال:  وجدته مع صديقه سمنون المحب.. وجدتهما يتحدثان في عوالم من الجمال لم يطق عقلي أن يفهمها.

قلت: حدثني عن ثالثهم.. ذلك الذي راح يبحث عن سلام (العقل)

قال:  وجدته مع صديقه المدرسي.. وجدتهما يتحدثان في مدارك العقول.. وعلى حقائق كان لها من قوة الدليل وعظمة الحجة ما كان عقلي معقولا عن إدراكه.

قلت: حدثني عن رابعهم.. ذلك الذي راح يبحث عن سلام (النفس) وأسرار تهذيبها وترقيتها.

قال: وجدته مع صديقه المحاسبي.. وجدتهما يتحدثان في عوالم التطهير والترقي التي كنت قد حدثتك عن بعضها.. وسأحدثك عن الباقي في باقي رحلتي.

قلت: حدثني عن خامسهم.. ذلك الذي راح يبحث عن سلام (الأسرة)

قال: لقد التقيت به.. وقد رأيته كون أسرة صالحة ممتلئة بعطر الإيمان.

قلت: حدثني عن سادسهم.. ذلك الذي راح يبحث عن سلام (المجتمع)

قال: لقد التقيت به.. وقد رأيته يسعى مع إخوانه لتكوين المجتمع الصالح بالمواصفات التي وضعها الإسلام.

قلت: حدثني عن سابعهم.. ذلك الذي راح يبحث عن سلام (العالم)

قال: لقد التقيت به.. وقد شهدت في الأخير تلك اللحظات الأليمة التي قتل فيها.

قلت: من قتله؟ ولم قتله؟

قال: لقد أفشى بعض الأسرار التي نهينا أن ننشرها.. فقدم دمه قربانا لها.

قلت: أتلك التي ذكرتها لي من قصة إنقاذكم؟

قال: لا.. لقد رأى صاحبي ما هو أخطر من ذلك.. لقد ذكره لي عند زيارتي له.

قلت: وما رأى؟

قال: في تلك القاعدة شد انتباهنا صورة لجبال ومغارات لا تختلف عن الجبال والمغارات التي كنا فيها..

قلت: وما سرها؟

قال: لقد بحث صاحبي هذا عن سرها، وكانت معرفته لسرها سبب قتله.

قلت: فقد ذكر لك هذا السر؟

قال: أجل.. لقد رأى صاحبي رجلا ذا لحية طويلة يتردد على تلك القاعدة ليرسل كل الحين من البيانات السرية ما تتنافس جميع أجهزة الإعلام على نشره.

قلت: أتقصد..!؟

قال: أجل..

قلت: لقد كنا ضحايا مؤامرة محكمة إذن؟

قال: ولا زلتم.. ولا زلتم.

قلت: فحدثني عن تاسعهم (الأمازوني) ذلك الذي عشق أكوان الله.

قال:  لقد شاء الله أن أذهب إلى غابة الأمازون.. وهناك التقيت به مع صاحبه.. ومعهما نفر كثير من الناس.. وقد رأيتهم يزمعون على تأسيس جمعية كبيرة تضم أهل السلام من أهل الملل والنحل ليحفظوا للأرض سلامها وحياتها.. ويحفظوا لأكوان الله ما أودعها الله من أسرار إبداعه وقدرته.

قلت: فحدثني عن عاشرهم.. ذلك الذي راح يبحث عن الله.

قال: لقد وجدته في صحبة الله.. ممتلئا بأنوار من الإيمان.. ملأته سكينة وسلاما.

قلت: فما أخبار الفتنة التي أرادت أن تستأصل المسلمين؟

قال: لقد أطفأ الله ظلماتها بنور الحكمة.

قلت: كيف كان ذلك؟

قال: لذلك حكاية طويلة.. ستسمعها من أهلها.. فلم أكلف بحكاية حكايتها لك.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *